إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

السلفية صمام أمان للأمة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • السلفية صمام أمان للأمة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
    فسلف الرجل لغة: آباؤه المتقدمون ممن هم فوقه في السن والفضل، والمفرد: سالف، ومن الناحية التاريخية؛ فالمراد بالسلف: أئمةُ الصحابةِ -رضي الله عنهم-، والتابعين، وتابعيهم؛ ممن عُرفوا بالإمامة والفضل دون من اشتهر أو رُمي ببدعة.
    واصطلاحًا: مذهب "السلف" -أو السلفية- والمراد به ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، ومَن تَبِعَهم وشُهِدَ له بالإمامة في الدين، وعُرِفَ فضلُه وعَظُم شأنه فيه، وتلقى الناس كلامه بالقبول؛ كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والنخعي، والبخاري، ومسلم، وأصحاب السنن.
    فكل مَن التزم بمنهج وعقائد هؤلاء الأئمة من السلف نُسِبَ إليهم وإن باعدت بينه وبينهم الأزمان، وكل مَن خالفهم في المنهج أو العقيدة فلا يُنسَب إليهم وإن عاش بين أظهرهم وخالطهم.
    فالسلفية هي المدرسة التي حافظت على ما كان عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنهج والاعتقاد؛ خاصة بعد أن ظهر الافتراق العقائدي في الأمة، وكثرت الفرق المختلفة التي خالفت -وخرجت- عن منهج الصحابة وما اعتقدوه، وقد تعددت مسميات هذا المذهب -أو قل: ترادفت- مع ثبات المضمون؛ فلما كان علماء الحديث في زمن التابعين هم ورثة علم الصحابة -رضي الله عنهم- وفهمِهم للكتاب والسنة؛ تَسَمَّى السائرون على منهج وعقيدة الصحابة بـ"أهل الحديث".
    ولما تفاقمت البدع وشذ أهل الأهواء عن الجماعة في المنهج والاعتقاد؛ تسمى المتمسكون بمنهج وعقائد الصحابة وأهلِ الحديث في عهد تابعي التابعين بـ"أهل السنة والجماعة" في مقابلة "أهل البدعة" من المعتزلة، والخوارج، والمرجئة، والرافضة، ونحوِهم، ولما حاول الخَلَفُ من الأشاعرة نصرةَ عقائد سلف الأمة بالمنهج العقلي -كطريقة المبتدعة من المتكلمين-؛ سـُمِّيَ المتمسكون بمنهج السلف بـ"السلفيين"؛ فظهور مصطلح "السلفية" من الناحية التاريخية ارتبط بظهور "مذهب الخلف" من الأشاعرة الذين زعموا نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين، ونزيد هذا الأمر وضوحًا؛ فنقول:
    كمال الدين في عهد الصحابة مُجتمِعِينَ:
    بلغ الدين كماله في عهد صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ لم يمت النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد أن بلـَّغ الرسالة كاملة؛ قال -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3)؛ فما من شيء يقربنا إلى الجنة إلا وأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وبينه لنا، واجتمع علم ذلك في صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- مُجتمِعِينَ، ولم يكن مطلوبًا من المسلمين إلا أن يحافظوا على هذا الدين كاملاً -علمًا وعملاً- كما تلقاه الصحابة وطبَّقوه في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتميز جيل الصحابة -رضي الله عنهم- بأنهم كانوا على منهج وعقيدة واحدة لا يختلفون فيها، وما وقع بينهم -وهو قليل- من منازعات وخلافات؛ فلم تكن ذات طابع عقائدي، ولا شك أن اجتماعهم على المنهج وفي الاعتقاد حجةٌ في الدين؛ إذ إجماعهم أَوْلَى من أي إجماع؛ خاصة وهو ثابت عنهم معروف.
    يقول ابن تيمية -رحمه الله- في منهاج السنة: "ويَعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا يَنتصِر لشخص انتصارًا مطلقـًا عامًّا إلا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا لطائفة انتصارًا مطلقـًا إلا للصحابة -رضي الله عنهم أجمعين-"(1).
    ودليل ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- في الفرقة الناجية عندما سئل عنها: (مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، قال ابن تيمية: "هو حديث صحيح مشهور"، وجاء في وصيته -صلى الله عليه وسلم- للأمة أن تتمسك بهدي أئمة الصحابة وسنتِهم؛ فقال -صلى الله عليه وسلم- في بيان العلاج عند وقوع الافتراق والاختلاف: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني)؛ فجمع النبي -صلى الله عليه وسلم- سنتَه وسنتَهم في ضمير واحد بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عَضُّوا عَلَيْهَا)، ولم يقل: "عضوا عليهما"؛ فسنتهم هي سنته؛ فهم لم يخرجوا عنها -وحاشاهم-، بل نقلوها وطبَّقوها كما عَلَّمها لهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان هَديُهم ومنهجُهم -رضي الله عنهم- تقديمَ الكتاب والسنة والاحتجاجَ بهما.
    يقول د/ مصطفى حلمي -حفظه الله-: "ونفهم من استقراء أقوالهم وسلوكهم في جميع أصول الدين أنهم كانوا يتقيدون بهذا المنهج -أي تقديم الشرع على العقل- لا عن قصور في الفهم؛ ولكن لمعرفتهم بمكانة الشرع وضرورة تقديمه على الاستنباطات العقلية التي لا تستند إلى دليل"(2).
    وما وقع في الأمة بعد ذلك من اختلافٍ في العقائد عمَّا كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، وتقديمِ العقل على الأدلة الشرعية؛ هو من نقصان الدين والخروجِ عليه.
    يقول د/ مصطفى حلمي -حفظه الله-: "لم يكن الكلام في الدين إذن تطورًا من البسيط إلى المركب، أو من الأدنى إلى الأعلى، بل كان نكوصًا من الكمال إلى النقصان، وعصيانـًا للأوامر، وانشقاقـًا عن الجماعة"(3).
    حفاظ الأمة على الدين في عهد التابعين وتابعي التابعين:
    كان حال علماء الأمة من التابعين وتابعي التابعين -وهم الآخذون بعلم الصحابة وفهمِهم، والناقلون لما كانوا عليه؛ إذ كانوا أهل حديث- هو الامتدادَ التلقائيَّ لمنهج وفهمِ الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانوا هم ومَن وافقهم جمهورَ الأمة وجماعتَهم؛ لذا كان مَن يأتي بما يخالفهم يواجَه بالإنكار ويوصَف بالشذوذ؛ لأنه خرج عن جماعة المسلمين، وامتد دور أهل الحديث من التابعين وتابعيهم مِن عصر الصحابة إلى عصر بني أمية وفترة من حكم الدولة العباسية، ورغم ظهور الخوارج والشيعة الرافضة ومَن بعدهم من المبتدعة؛ فإن هذا لم يُؤَثِّر في القاعدة العريضة من المسلمين؛ لذا لم يتميزوا خلال تلك الفترة باسم خاص؛ فهم "أهل الحديث" وكفى، وإنما تَسَمَّى مَن خرج عنهم؛ ليُعرَف ببدعته وانشقاقه؛ خاصة وإنهم قلة بجانب الكثرة المتمسكة بمنهج ومعتقد الصحابة -رضي الله عنهم- وأئمة التابعين وتابعي التابعين؛ لذا لما سُئل الإمام مالك عن تعريف أهل السنة والجماعة؛ قال: "الذين ليس لهم لقب يُعرَفون به؛ لا جَهْمِيٌّ، ولا رافِضِيٌّ، ولا قَدَرِيٌّ"(4).
    لقب أهل السنة في مقابلة لقب المُعتَزِلة:
    لما كثر خوض أهل البدع بمنهجهم العقلي في عقائد المسلمين، وظهر واستفحل علم الكلام والفلسفة على يد المعتزلة، خاصة في عهد الخليفة العباس المأمون؛ تَسَمَّى المتمسكون بمنهج الصحابة والتابعين وتابعيهم بـ"أهل السنة" في مقابلة أصحاب المنهج العقلي من المعتزلة؛ فصار لقب "السني" في مقابلة لقب "المعتزلي"، ولما تصدى الإمام أحمد بمنهجه المبنيِّ على الاحتجاج بالكتاب والسنة في مواجهة أئمة المعتزلة -المُدَعَّمِينَ بتأييد بعض الخلفاء العباسيين- وانتصر عليهم؛ الْتَفَّتِ الأمةُ حول إمامها؛ فسُمِّيَ بـ"إمام أهل السنة والجماعة" حتى صار اسم "الحنبلي" يُطلَق على "السني" عند البعض في تلك الفترة الزمنية.
    يقول الإمام أحمد مبينـًا منهجه في مقابلة المعتزلة في زمانه: "لست أتكلم إلا ما كان من كتاب أو سنة أو عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، وأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود"(5).
    محاولة الأشاعرة نصرة عقائد السلف بمنهج المتكلمين:
    ولد أبو الحسن الأشعري بالبصرة عام 260هـ، ودرس علم الكلام على مذهب المعتزلة على يد علي الجبائي، ولما تبين له فساد مذهب المعتزلة؛ قام بالرد عليهم، ومال إلى نصرة عقائد أهل السنة على منهج المعتزلة في الاستدلال، وقد تبين له في أواخر حياته صحة مذهب السلف منهجًا واعتقادًا؛ فالتزمه؛ يشهد لذلك آخر كتبه التي أَلَّفَها وهو "الإبانة عن أصول الديانة"، ولكنَّ أتباعَه ومَن وافقهم تمسكوا باستخدام المنهج الكلامي في الدفاع عن عقائد أهل السنة والجماعة في مواجهة المعتزلة، بل واعتبروا علمَ الكلام من جملة العلوم الشرعية المشروعة إذا أراد به مُتعلِّمُه نصرةَ عقائد أهل السنة!!
    ورأوا أن طريقتَهم -طريقة الخلف- في الرد على المخالفين لأهل السنة بعلم الكلام أعلمُ وأحكمُ، وأن طريقةَ السلف في الاقتصار على الكتاب والسنة في الاستدلال أسلمُ وأحوطُ، وزعموا أنهم بمثابة امتداد للسلف، وأطلقوا على أنفسهم لقب "الخلف"، كما زعموا أنهم جمعوا بين العقل والنقل معًا، ولكنَّ طريقة الأشاعرة لم تلقَ تأييد "أهل الحديث" وأتباعِ الإمام أحمد -"أهل السنة والجماعة"- ورأوا أن منهج الأشاعرة في الرد على المعتزلة هو خروج عن منهج السلف ومذهبهم، خاصة وأن للأشاعرة مخالفاتٍ عقائديةً تظهر في قولهم بـ"نظرية الكسب" في تفسير أفعال العباد، وقولِهم: إن الإيمان هو المعرفة ولا يلزم النطق بالشهادة، ولا العملُ كغلاة المرجئة، وقولِهم: إن كلام الله كلامٌ نَفْسِيٌّ، وإن القرآن عبارةٌ عن كلام الله، واقتصارِهم في إثبات الصفات على صفات سبعة، والتكلمِ في صفات الأفعال بالتأويل(6).
    والمذهبُ السَّلَفِيُّ يرفض علم الكلام؛ سواء على طريقة المعتزلة أو على طريقة الأشاعرة، والأشاعرةُ وإن أَيَّدُوا أهلَ السنة في عدة مسائلَ إلا أنهم ليسوا بسلفيين، وهم وإنْ يُذكَر لهم دورُهم في الرد على المعتزلة وبيانِ فساد ما هم عليه إلا أنهم ليسوا على منهج أهل السنة والجماعة في الاستدلال، والحقُّ أَحَقُّ أن يُتَّبَعَ.
    يتبين من هذا العرض التاريخي المختصَرِ أنه لما كان جمهور الأمة على ما كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لم يحتج الأمر أن يتسموا باسم، وإنما كان يُسَمَّى مَن خرج عنهم؛ ليُعرَف ببدعته، ولكنْ لما تَفَشَّت البدع وكثر الخروج عما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم-، وقَلَّ مَن منهجُهم التمسكُ بما ورد في الشرع، وكثرت الفرق وتعددت؛ كان لزامًا أن يكون لأهل الحق اسمٌ يميزهم عن غيرهم، ويشير إليهم، ويدل عليهم، ويكون عنوانـًا لِمَا هم عليه، ولا يوجد مانعٌ شرعًا من التسمي باسم أو الاشتهار بلقب إذا كان المضمون موافقـًا للشرع، ولقد ظل التمسك بمنهج الصحابة -رضي الله عنهم- ومعتقدِهم ثابتًا لا يتغير، ولكن لما حَمَل منهجَهم ومعتقدَهم أهلُ الحديث وعلماؤه؛ سُمِّيَ أهلُ الحق بـ"أهل الحديث"، ولما وقع الانشقاق في الأمة وكثرت البدع في مقابلة السنة؛ سُمِّيَ أهلُ الحق بـ"أهل السنة والجماعة"، ولما جاء الخلف مِن الأشاعرة وقالوا عن طريقتهم أنها أحكمُ وأعلمُ وخالفوا منهج السلف؛ كان اسم "السلفية" هو العنوانَ على ما كان عليه صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- من منهج ومعتقد؛ فتغيرت الأسماء ولم يتغير المضمون؛ فصارت هذه الأسماء بمثابة مترادفات لمضمون واحد.
    ولا يخفى أن الأشاعرة لما زعموا أن طريقتهم في الاستدلال بمنهج المتكلمين أعلم وأحكم، وأن طريقة السلف أسلم وأحوط؛ كان ذلك مدعاةٌ أن يقال: طريقة الخلف وطريقة السلف، ومنهج الخلف ومنهج السلف، وظهور مصطلح السلفية والمذهب السلفي من كلام الأشاعرة أنفُسِهم؛ ولم يحتج الأمر إلى رفض أهل الحق لتلك المُسَمَّيَات، إنما كان رَدُّهم على ذلك أن طريقة السلف ومنهجَهم هي الأعلمُ والأحكمُ كما أنها الأسلمُ والأحوطُ.
    ولقد تَسَمَّى البعض في زمن النبوة بـ"المهاجرين"، والبعضُ بـ"الأنصار"؛ فلم يُنكَر عليهم التَّسَمِّي بذلك؛ بل ربما كان للمهاجرين في القتال رايةٌ، وللأنصار رايةٌ، وكلاهما تحت لواء المسلمين، ولكن لما تنازع بعض المهاجرين مع بعض الأنصار، وصاح صائحهم: يا للمهاجرين، والآخرُ: يا للأنصار؛ قال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه)؛ فأنكر عليهم العصبية للمسميات، ولم يُنكِر عليهم التسميَّ بها قبلَ ذلك أو بعدَه؛ فلا مانع شرعًا من التسمي بأسماء؛ إنما النظر للمضمون: ألاَّ يكون فيه مخالفةٌ للشرع، وألاَّ يكون هنالك التعصبُ للمسميات دون النظر للمضمون.
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-(7): "لا عيب على مَن أظهر مذهب السلف وانتسب إليه، واعتزى إليه، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق؛ فإن مذهب السلف لا يكون إلا حقـًّا، فإن كان موافقـًا له باطنـًا وظاهرًا؛ فهو بمنزلة المؤمن الذي هو على الحق باطنـًا وظاهرًا، وإن كان موافقـًا له في الظاهر فقط دون الباطن؛ فهو بمنزلة المنافق؛ فتُقبَل منه عَلانِيَتُه، وتُوكَل سَرِيرَتُه إلى الله؛ فإنَّا لم نـُؤمَر أن ننقُبَ عن قلوب الناس ولا نشقَّ بطونَهم" اهـ.

    (1 ) مناهج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية
    (2) "منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين" د/ مصطفى حلمي ط. دار الدعوة الثانية، ص:42.
    (3) المصدر السابق، ص:59.
    (4) نقلاً عن "الإمام مالك": لأبي زهرة، ص:18.
    (5) من ترجمة الإمام أحمد للحافظ الذهبي، ص:23.
    (6) راجع في ذلك "منهج علماء الحديث" د/ مصطفى حلمي، ص:172-176.
    (7) نقض المنطق لابن تيمية، ص:123.

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ

    السلفيون..والعقيدة الصافية

    مما لاشك فيه أن العقيدة الصحيحة من أهم الأمور لأنها رأس الأمر وبصلاحها يصلح أمر العبد وبفسادها يفسد أمره أو كمال أمره على حسب ما أحدث من خلل وأن المتأمل لأحوال الناس اليوم يجد أن كثيراً منهم صارت عندهم أخطاء في العقيدة ما بين قول أو فعل وهذا ناتج من التساهل الواضح عندهم في تعلم العقيدة الصحيحة وما يضادها.
    حتى إنك تري كثيراً ممن تظن بهم الخير والصلاح عندهم تساهل في هذا الجانب، بل كثير ممن يقوم بأمر الدعوة إلى الله، ولهذا تميزت الشخصية السلفية عن غيرها باهتمامها بأمر التوحيد علماً وعملاً، قولاً واعتقاداً، بل يجعل السلفي قضية التوحيد هي القضية الأولي في حياته وهي التي يعيش لتحقيقها لقول الله -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56) قال قتادة: أي يوحدون. فإذا كان الله -تعالى- خلق الإنسان لهذه القضية فجدير به أن يعيش بها وأن يعيش لها وأن يبذل كل ما في وسعه لتحقيقها فإن العمل بها سبب في دخول الجنة لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من مات وهولا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) وكذلك ترك التوحيد سبب في دخول النار لقوله -تعالى-: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72) وتميز السلفي بأن جعل قضية التوحيد هي قضية الدعوة الأولي وذلك سيراً على درب الأنبياء والمرسلين فإن كل نبي كان أول ما يقرع به أسماع قومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وقد بعث الله بذلك المرسلين (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل: من الآية36) وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:25).
    وقد جعل الله سبحانه و-تعالى- التوحيد سبب وشرط لقبول العمل والشرك سبب لحبوطه قال -تعالى-: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وقال -تعالى-: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأنعام: من الآية88) ولذلك فإن العبادة بلا توحيد أو مع شرك لا تنفع صاحبها ولو كثرت ، وكذلك فإن التوحيد يملأ القلب حباً لله سبحانه و-تعالى- فأكثر الناس حباً لله هم من حقق التوحيد الكامل قال -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ)(البقرة: من الآية165) ومعلوم أن القلب كلما أزداد حباً لله أزداد له عبودية وكلما أزداد له عبودية أزداد له حباً وحرية عما سواه والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين من جهة العبادة ومن جهة الاستعانة والتوكل فالقلب لا يصلح ولا يتلذذ ولا يسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلي ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه.
    والتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور قال -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ للإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)(الزمر: من الآية22) وقال -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)(الأنعام: من الآية125)
    فالتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر.
    والسلفي يعتقد أن التوحيد أول واجب فلا يدخل العبد الإسلام إلا به وهو آخر واجب فإنه يطلب من المرء أن لا يخرج من الدنيا إلا به لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)، ولأجل ذلك حافظت السلفية علي العقيدة نقية خالصة من أي شائبة وحصنتها من الأفكار المحدثة التي جاءت بها الفرق التي نشأت بعد العصر النبوي بما فيها من انحراف عن العقيدة كما كان عند الخوارج من تكفير أهل القبلة والحكم عليهم بالخلود في النار لمجرد المعصية وما كان عند الشيعة الغلاة من تأليه عليّ -رضي الله عنه-، وما عند بقية فرق الشيعة من المخالفات العقيدية كإدعاء العصمة في الأئمة وعبادة القبور والأضرحة وغير ذلك وما كان عند القدرية من إنكار القدر وما جاءت به الفرق الكلامية بمحاولة التوفيق بين الفلسفة الإغريقية والعقيدة الإسلامية مع ما بينهما من الفروق فالعقيدة الإغريقية مبنية على الوثنية وتعدد الآلهة والعقيدة الإسلامية مبناها التوحيد فقامت السلفية بالدفاع عن العقيدة وتحريرها من الفلسفة وعلم الكلام كما تصدي المنهج السلفي للمعتزلة والجهمية في إنكار صفات الله -تعالى- أو في تشبيه الله بخلقه كما تصدت لمناهج التأويل غير المعتبر لأسماء الله وصفاته لدى الأشاعرة والماتريدية وبهذا بقيت السلفية على عقيدة السلف الصالح من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما تصدت السلفية للمدرسة العقلية التي جعلت العقل البشري نداً للوحي وحاكماً مهيمناً عليه وسعوا إلى تأويل النصوص لموافقة العقل وهو مبدأ خطر لأنه ينتهي بالأمر إلي فوضي لأنه ليس هناك عقل مطلق لا يتناوبه النقص والهوى والشهوة والجهل . فخلص من ذلك إلي أن السلفي سعي سعياً دءوباً لتحقيق التوحيد في نفسه وفي أمته . حقق التوحيد في كل أقسامه سواء في الربوبية أو الألوهية أو في الأسماء والصفات وعاش في رياض التوحيد ينعم بثماره على قلبه وعلى لسانه وفي جوارحه يهنأ بالسعادة والأمن والاهتداء الذي يحققه توحيد الله -عز وجل-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(الأنعام:82).

    السلفيون والولاء والبراء

    إن الأخوة منحة من الله -عز وجل- يعطيها الله للمخلصين من عباده والأصفياء والأتقياء من أوليائه وجنده وحزبه، قال -تعالى-: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ . وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(الأنفال: 63)، وهي قوة إيمانية تورث شعورًا عميقًا بعاطفة صادقة ومحبة وود واحترام وثقة متبادلة مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد ومنهج الإسلام الخالد، يتبعها ويلزم منها تعاون وإيثار ورحمة وعفو وتسامح وتكافل وتآزر، وهي ملازمة للإيمان، قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(الحجرات: 10).
    ولا يذوق حلاوة الإيمان إلا من أُشرب هذه الأخوة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)(رواه البخاري).
    وهم مع ما هم فيه من التواد والتراحم يدٌ على من سواهم، أشداء على الكفار، قال -تعالى-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)(الفتح: 29)، فالأخوة في الله من أهم الأسباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن التي تنزل بالمسلمين، كما أن الفهم المتبادل والكامل للأخوة في الله من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم ومن أسباب شموخهم، والتمكين لهم.
    فأي دولة لا يمكن أن تنهض إلا على أساس وحدة الأمة وتماسكها، ولا يمكن للوحدة أن تتم بغير التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تآلف بينها ولا تآخ ٍ لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة في الأمة والجماعة فلا يمكن أن تتآلف منها الدولة، فالحب بين المسلمين والحرص على روابط الأخوة المستمدة من الإيمان والعقيدة سر قوة الأمة، ومفتاح نجاحها ونصرها، قال -تعالى-: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر: 8-9).
    فعُلِمَ أن من أبرز صفات المسلم الصادق حبه لإخوانه حبًا ساميًا مجردًا عن كل منفعة، بريئًا من أي غرض، نقيًا من كل شائبة، إنه الحب الأخوي الصادق الذي استمد صفاءه وشفافيته من مشكاة الوحي وهدي النبوة، فالرابطة التي تربط المسلم بأخيه مهما كانت جنسيته أو جنسه أو لونه أو لغته أو قوميته هي رابطة الإيمان بالله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).
    وأخوة الإيمان أوثق روابط النفوس وأمتن عرى القلوب، وأسمى صلات العقول والأرواح، فلا عجب أن تثمر تلك الأخوة الفريدة نمطًا من الحب عجيبًا في سموه ونقائه وعمقه وديمومته يسميه الإسلام الحب في الله، ويجد المسلم الصادق فيه حلاوة الإيمان، فالحب في الله يجعل العبد في زمرة السبعة الذين يظلهم الله في ظله، ويشملهم برحمته وبره.
    قال -صلى الله عليه وسلم-: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)(متفق عليه).
    وحسب المتحابين في الله شرفـًا أن رب العزة يحفل بهم في ساحة الحشر يوم القيامة، فيقول: (أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)(رواه مسلم)، وقال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: (المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
    وهذا الحب في الله هو الذي يرفع الإنسان إلى الدرجة التي يحبه الله -عز وجل- فيها ويرضى عنه، فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمة تربها عليه؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه).
    وهذه المحبة بين المؤمنين شرط من شروط الإيمان الذي يدخل صاحبه الجنة، فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم). وبهذه المحبة الناصعة الصادقة العجيبة بنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيل الإسلام الأول الذي بلـَّغّ رسالة السماء إلى الأرض، وكان القاعدة الصلبة التي حملت صرح الإسلام الشامخ إلى الناس.
    وبدون هذه المحبة الصافية التي تفرد بزرعها الإسلام في القلوب ما كان المسلمون الأوائل ليستطيعوا التماسك والصمود في تحمل تبعات الجهاد وتقديم التضحيات الجسيمة في بناء دولة الإسلام ونشر أعلامه في الخافقين، وبهذه المحبة الصادقة استطاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينشئ مجتمع المؤمنين الأمثل في تاريخ الإنسانية الذي صور الله -سبحانه و-تعالى- تماسكه العجيب أروع تصوير بقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)(الصف: 4)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)(رواه البخاري)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)(متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (المسلمون كرجل واحد إن اشتكت عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه اشتكى كله)(رواه مسلم).

    مفهوم الولاء وصلته بالمحبة:


    إن قضية الولاء في الإسلام هي من أهم القضايا في حياة الفرد المسلم، ولابد أن تكون هذه القضية واضحة كل الوضوح أمامه، لأنها قضية مهمة وهي التي تميز الفرد المسلم والصف المسلم، فمن كان من المسلمين بظاهره وباطنه فهو منهم، ومن كان مع أعداء الله في ظاهره أو باطنه فهو منهم، ولذلك ورد النهي الشديد عن اتخاذ الكافرين والمنافقين، ومن والاهم أولياء.
    قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)(النساء: 144).
    وقال -تعالى-: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران: 28).
    وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ)(الممتحنة: 1).
    كما بيـَّن القرآن أن الكفار صف واحد يوالي بعضهم بعضًا ويجمعهم جميعًا، أنهم أعداء لدين الله -تعالى-، قال -تعالى-: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)(التوبة: 67)، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(الأنفال: 73)، وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(المائدة: 51).
    فإذا كان أعداء الله بعضهم أولياء بعض، فلابد أن يكون المؤمنون بعضهم أولياء بعض، ولابد أن يكون هذا الولاء متميزًا كل التميز، والله -تعالى- ولي المؤمنين جميعًا، قال -تعالى-: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا)(البقرة: 257).
    وقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(التوبة: 71).
    وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(الأنفال: 72).
    وبين الله -سبحانه و-تعالى- أن من يتولى الكافرين أو المنافقين فإنه منهم، قال -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)(المائدة: 51)، وقال -تعالى-: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ)(آل عمران: 28).
    فالقرآن الكريم يطلب من المسلم أن يقطع كل ولاء للكافرين، وأن يكون ولاؤه لله ورسوله والمؤمنين فقط، قال -تعالى-: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(المجادلة: 22).

    السلفيون والدعوة إلى الله
    مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله -عز وجل- من أجلِّ العبادات التي يتقرب بها المرء إلى ربه -سبحانه وتعالى-؛ لأنها نشر دين الله والمحافظة عليه، والذب عنه؛ ولأنها إبلاغ رسالة الله إلى عباده؛ ولأن الدعاة واسطة بين الحق والخلق في إبلاغ الرسالة التي جاء بها الأنبياء.
    والدعاة هم الذين يبينون عن الله مراده، وهم الذين يفتح الله بهم الأذان الصم والقلوب الغلف، ويزيل الله بهم الغشاوة عن أعين الناس، وبهم يتحول الظلام إلى نور، والضلال إلى هدى، وبهم يكشف الطريق السوي المستقيم، فهم دعاة إلى فضل الله ورحمته وإلى جنته، وإلى النجاة في الدنيا والآخرة، وهم القائمون بوظائف الأنبياء، قال الله -تعالى-: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(يوسف:108).
    والدعوة عبادة أمر الله -تعالى- بها فقال -تعالى-: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران:104)، وعلق الله -سبحانه وتعالى- الفلاح عليها فقال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران:110).
    فجعل الله -سبحانه وتعالى- الخير في الأمة حال كونها قائمة بهذه الدعوة، وقال -تعالى-: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)(آل عمران:114)، فوصف الله القائمين بالدعوة بالصلاح، وقال الله -تعالى-: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:114)، فجعل الله خير الكلام ما كان أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر.
    ولقد لعن الله -تعالى- بنى إسرائيل لتركهم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، فقال -تعالى-: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ)(المائدة:78)،قال -تعالى-: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)(المائدة:79).
    ولقد بيَّن الله -تعالى- أنه يكتب النجاة في الدنيا والآخرة للقائمين بهذا الواجب، فقال -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)(لأعراف:165).
    كما جعل الله فضله ورحمته للقائمين بهذا الأمر فقال -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:71).
    كما بيَّن ربنا -سبحانه وتعالى- أنه سيجعل التمكين في الأرض للقائمين بهذا الواجب فقال -تعالى-: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ)(الحج:41).
    ولقد ورد بيان فضل الدعوة والدعاة في مواطن كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(فصلت:33)، ومن ذلك ما رواه مسلم أيضا عن النبي –صلى الله عليه وسلم-: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئاً)،وروى البخاري ومسلم عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعلي -رضي الله عنه-: (فو الله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وروى الترمذي من حديث أبى أمامة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضه حتى النملة في جحرها والحيتان في البحر ليصلون على معلم الناس الخير).
    وقد حذر الله -سبحانه- من التقصير في أمر الدعوة فقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(البقرة:174)، وقال -تعالى-:(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ)(البقرة:159)، وقال -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)(آل عمران:187)، فقال قتادة هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ممن علم شيئاً فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة! وقال -صلى الله عليه وسلم-: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار).
    والدعوة إلى الله هي تعريف الناس بربهم بأسمائه وصفاته، وكيفية الوصول إليه -سبحانه- وما لهم، وما عليهم إذا رجعوا إليه. أو هي حداء بالناس لمعرفة الله والإيمان به وتوحيده رباً خالقاً ومالكاً وإلها معبوداً وحاكماً فرداً، فلا منازع له في ربوبيته، ولا شريك له في المحبة، ولا مضاد له في حاكميته، واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل أمر به، واجتناب ما نهى عنه.
    والدعوة أيضاً هي قيام المسلم ذي الأهلية في العلم والدين بتبصير الناس بأمور دينهم، وحثهم على الخير، وإنقاذهم من شر واقع، وتحذيرهم من سوء متوقع على قدر الطاقة؛ ليفوز بسعادة العاجل والأجل.
    وتتميز الدعوة السلفية بأنها دعوة ربانية؛ لأنها تعتمد على أصلين أساسين هما: التوحيد والاتباع.
    وهذا ما يجعلها دعوة ربانية في الغاية والوجهة وربانية في المنهج والمصدر، فأما:
    1- ربانية الغاية والوجهة: فإن الغاية والهدف هو حسن الصلة بالله والحصول على مرضاته، وهذه هي غاية الإنسان ووجهته ومنتهى أمله وسعيه، فهذا هدف الأهداف وغاية الغايات، وإن كان هناك أهداف أخرى الا أنها تابعة لهذا الهدف الأكبر، والقرآن يقرر هذه الحقيقة بوضوح حين يذكر الغاية من خلق الجن والأنس قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ)(الذاريات:57) وقد أمر الله -تعالى- نبيه أن يعلنها للناس واضحة جلية(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)(الأنعام:162)، والغاية إذا من وجود الإنسان أن يعبد الله فينبغي أن يحقق الإنسان الغاية من وجوده بأن يجعل الله غايته فلا يعبد ألا الله ولا يشرك به شيئاً.
    ومن ثمرات ربانية الغاية والوجهة: أن يعرف الإنسان لوجوده غاية، ويعرف لسيرته وجهة، ويعرف لحياته رسالة، وبهذا يحس أن لحياته قيمة ومعنى ولعيشه طعماً ومذاقاً، فلا يعيش في عمايته ولا يمشى إلى غير غايته، بل يسير على هدى من ربه وبينة من أمره واستبانة لمصيره بعد أن عرف الله وأقر له بالوحدانية.
    ومن فوائدها أن يهتدي الإنسان إلى فطرته التي فطره الله عليها والتي تتطلب الإيمان بالله، ومن فوائدها حصول الأمن والاهتداء، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(الأنعام:82).
    ومن فوائدها أنها تؤمن النفس من التمزق والصراع والتوزع والانقسام بين مختلف الغايات وشتى الاتجاهات، لأن الإسلام جعل غاية الإنسان غاية واحدة وهي إرضاء الله -تعالى- وجعل همومه هماً واحداً وهو العمل على ما يرضيه -سبحانه-، ولا يريح النفس شيء مثل وحدة الغاية والوجهة، ولا يشقي الإنسان شئ مثل تناقض غاياته وتباين اتجاهاته وتضارب نزعاته، قال -تعالى- عن نبيه يوسف -عليه السلام-: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)(يوسف:39)
    2- ربانية المنهج والمصدر:
    هو أن يكون المنهج من عند الله -سبحانه وتعالى-، فلا تصدر عن شئ إلا جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع والقياس الذى لا يتعارض مع نص أو أجماع، وهذا يقتضي إلا نعارض القرآن والسنة بعقل أو رأي أو قياس أو ذوق أو وجد أو مكاشفات، وكذلك يقتضي رفض التأويل الكلامي الذي يصرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، كما يقتضي أن نأخذ بظاهر النصوص وما يتبادر منها من المعاني بحسب ما تضاف إليه وما يحف بها من القرائن، وهو إجراء للنصوص على ظاهرها بدون تحريف.
    كما أن هذا المنهج الرباني يقوم على فهم الكتاب والسنة بفهم أعلم الناس بالكتاب والسنة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
    كما تقتضي هذه الربانية أن لا يكون هناك معصوم إلا من عصم الله من الأنبياء والمرسلين والكتب المنزلة عليهم.
    كما تقتضي هذه الربانية رفض البدع ومحدثات الأمور في كل صورها وأشكالها، سواء كانت في العبادة أو العقيدة أو كانت أصلية أو إضافية، كما تقتضي ذم التقليد والتعصب المذهبي.
    وهذه الدعوة تتسم بأنها دعوة عامة لجميع البشر على اختلاف أشكالهم وأجناسهم وألوانهم، ولغاتهم وعاداتهم وآرائهم، وليست خاصة بأمة دون أمة، كما أن منهجها منهج لكل العصور من بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا يقبل النسخ ولا الإلغاء ولا التغيير ولا التعديل ولا الإيقاف، ولا التعطيل لظرف من الظروف.
    كما أنها دعوة شاملة لكل مناحي الحياة، منظمة لعلاقة الإنسان ربه من الناحيتين العلمية والعملية، وهى دعوة شاملة لقضايا العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والقيم والمثل العليا، وأسس التعاون والاجتماع على البر والتقوى، كما أنها شاملة لقواعد التربية القويمة، وتنمية روح المراقبة للنفس، وهو منهج يتميز بآلية رفع الحرج.
    وينطلق هذا المنهج من كون الدعوة عبادة لله لا بد من تحقيقها والصبر عليها والمثابرة، وبذل الجهد الممكن والمستطاع، وهي تسعى إلى تحقيق أهداف في الأمة والمجتمعات، وهي:
    1- تحقيق مرضات الله -عز وجل-.
    2- تعبيد الناس لله -عز وجل-.
    3- إبلاغ الحق إلى الخلق.
    4- حماية الدين.
    5- إقامة الحجة على الخلق، وقطع العذر على المخالفين.
    6- الإعذار إلى الله -عز وجل- بأداء الأمانة.
    7- إصلاح البلاد والعباد.
    8- نشر السنة، ومحاربة البدع

    السلفيون ومراعاة المصالح والمفاسد

    فالمصلحة مطلب شرعي لأن شرع الله مصلحة كله، وهي هدف أسمى في المنهج السلفي إلا أن المصلحة مسألة نسبية، وليست مطلقة، وهي تختلف من حالة إلى حالة، ومن شيء إلى شيء، ومن زمان إلى زمان، وما من شيء فيه مصلحة إلا فيه في الغالب مضرة إلى جانب تلك المصلحة.
    قال -تعالى-: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة:219).
    فلابد لمعرفة المصلحة والمفسدة من الرجوع إلى الشرع الحنيف حتى نعمل بما فيه مصلحة غالبة، ونبتعد عما فيه مضرة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً بها وبدلالاتها على الأحكام"، ولذلك ينبغي العناية بالتفقه في قضية المصالح والمفاسد.
    والأمر في الجملة كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: "وجماع ذلك داخل في القاعدة فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي -وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته" (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشيخ الإسلام ابن تيمية ص11-19).
    فاعلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، قال -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون) ففعله ابن الزبير. رواه البخاري
    قال الحافظ ابن حجر: "ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه صلاحهم، ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً" فتح الباري1/225.
    وقال النووي في شرح الحديث: "وفي الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها إذا تعارضت المصالح أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدأ بالأهم؛ لأن نقْضَ الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم -عليه السلام- مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدون من فضل الكعبة فيرون تغييرها فتركها -صلى الله عليه وسلم-" شرح النووي على صحيح مسلم9/89.
    واعلم أن النهي عن المنكر وسيلة إلى دفع مفسدة ذلك المنكر المنهي عنه، ورتبته في الثواب والفضل مبنية على رتبة درء مفسدة الفعل المنهي عنه في باب المفاسد إلى أن تنتهي إلى أصغر الصغائر، فالنهي عن الكفر بالله أفضل من كل نهي في باب النهي عن المنكر، ومن استطاع الجمع بين درء أعظم المفسدتين ودرء أدناهما جمع بينهما؛ لأنه متى كان قادراً على دفع المنكر دفعة واحدة لزمه ذلك، وإن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد.
    وإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يفيدان شيئاً أو غلب على ظنه سقط الواجب، ويبقى الاستحباب؛ لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل في المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان، ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه، وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين أنكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الظلمة والفسقة كلما رأوهم لعلمهم أنه لا يجدي إنكارهم، وقد يكون من الفسقة من إذا قلت له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فيزداد في فسوقه وفجوره.
    وعلى هذا فإذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً، ولم يجز أن يُؤْمَروا بمعروف ولا يُنْهوا عن منكر، بل ينظر إذا كان المعروف أكثر أمروا به، وإن استلزم ما دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وزوال فعل الحسنات.
    وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم فوات ما دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمراً بمنكر وسعياً في معصية الله ورسوله.
    وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح أمر ولا نهي، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة.
    وعلى هذا فالضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، وإذا كان لابد من ارتكاب أحد الضررين فيرتكب أخف الضررين وأهون الشرين، ويحتمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأكبر، ويحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
    وكذلك تقدم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة، وتقدم مصلحة الأمة على مصلحة الفرد، وتقدم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو المتوهمة، وتقدم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة، وكذلك فإن المفسدة الصغيرة تغتفر من المصلحة الكبيرة، ولا تترك مصلحة متحققة من أجل مفسدة متوهمة.
    قال العز بن عبد السلام -رحمه الله-: "إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله -تعالى- لقوله -سبحانه وتعالى-: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن:16)، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة قال الله -تعالى-: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)(البقرة:219)، حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استويت المصالحة والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما".
    إذا فدعوة الإسلام تقوم على تحقيق المصلحة، قال ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها العدل، وتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمه كلها، ومصالح وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشرعية وإن أدخلت فيها بالتأويل".


    السلفيون وتحقيق التوازن
    ن السلفية منهج عدل ووسط، ولذلك فالسلفيون يحافظون على تحقيق التوازن في كل شيء كما هو منهج الإسلام الذي جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهم يحققون التوازن بين العقل والقلب والبدن، فيلبون احتياجات كل واحد على حدة، دون المساس باحتياجات الآخر.
    فتحقيق حاجة العقل إنما يكون بتغذيته بما يكون فيه صلاحه، حتى يُرْزَق فهماً صحيحاً للأمور، ويكون ميزاناً صحيحاً للإنسان في تقسيم ما يمر به من أحداث، وما يعرض له من أمور، وهذا الغذاء العقلي إنما يكون بتعلم العلم الصحيح النافع الذي جاء به سيد المرسلين -صلى الله عليه وسلم-، والمنزَّل من عند رب العالمين من الكتاب والسنة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من يرد به خيراً يفقه في الدين) متفق عليه.
    فالعلم يحفظ الشريعة من تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين، وهو طب العقول ودواؤها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فإنما شفاء العي السؤال) رواه أبو داود، وحسنه الألباني.
    والعلم يقود الإنسان إلى القول الصحيح والعمل الصحيح، قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(محمد:19)، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، فالعلم مقدَّم على القول والعمل، فلا عمل دون علم.
    وأول ما ينبغي تعلمه توحيد الله، فالعلم يبصر الله به من العمى، قال -تعالى-: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ)(الرعد:19)، ولذلك ينبغي أن يكون الإنسان دائماً في استزادة من العلم، (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(طـه:114).
    وتحقيق حاجة القلب إنما تكون بالاعتقاد الصحيح والعمل الصالح، فإن هذا يؤدي إلى انشراح الصدر وحصول السعادة، قال -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ)(الأنعام:125)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) رواه النسائي، وحسنه الألباني، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها) رواه أبو داود، وصححه الألباني، وقال -تعالى-: (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد:28)، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)(الأنفال:2).
    وكذلك من غذاء القلب البُعد عن المعاصي؛ فإنها تنقص الإيمان، كما يزيد العمل الصالح من الإيمان، ومن ذلك التوبة إلى الله -عز وجل-، وكثرة الاستعانة والدعاء، وغير ذلك من العمل الصالح.
    وتحقيق حاجة البدن بالطعام والشراب والراحة والزواج، وغير ذلك من احتياجات جعل الله -عز وجل- للبدن حاجة فيها، قال -صلى الله عليه وسلم-: (فإن لجسدك عليك حقاً) متفق عليه.
    وينبغي عليه أن يدفعَ عنه الآفات التي تضعفه وترهقه وتؤذيه، ويحفظـَه معافى قادراً على تحصيل احتياجاته الدنيوية والأخروية من الصلاة والصيام والحج والجهاد وغير ذلك.
    وكذلك تحقيق التوازن بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، فلا ينقطع العبد للعبادة دون السعي في الأرض، ولا يترك العبادة من أجل السعي في الأرض، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(الجمعة:9-10)، وقال -تعالى-:(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:77).
    وفي حديث حنظلة -رضي الله عنه- وفيه قال: (فقلت نافق حنظلة يا رسول الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما ذاك؟ قلت يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات) رواه مسلم.
    وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً. فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله، إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) متفق عليه.
    وقال -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- لما أراد أن يتصدق بكل ماله: (لا، قلت فثلثي مالي؟ قال: لا. قلت: فالشطر؟ قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير؛ إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) متفق عليه.
    وكذلك تحقيق التوازن بين الحقوق بإعطاء كل ذي حق حقه دون التقصير في حق من الحقوق. فالتوازن إعطاء كل شيء حقه من غير زيادة ولا نقص، فقد روى البخاري عن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: (آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين سلمان وبين أبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال: ما شأنك متبذلة؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. قال: فلما جاء أبو الدرداء قرب إليه طعاماً فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل قال فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم، فقال له سلمان نم، فنام ثم ذهب يقوم فقال له نم فنام، فلما كان عند الصبح قال له سلمان قم الآن، فقاما فصليا فقال: إن لنفسك عليك حقاً ولربك عليك حقاً ولضيفك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه فأتيا النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكرا ذلك فقال له صدق سلمان).
    وعن عبد الله عن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: (دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر الحديث. يعني: إن لزورك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً. فقلت: وما صوم داود قال نصف الدهر) رواه البخاري.
    وروى البخاري في قوله -تعالى-: (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(النور:37)، وقال قتادة: كان القوم يتبايعون ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حق من حقوق الله لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله.
    وروى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع).
    وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: (يا عبد الله ألم أُخبَر أنك تصوم النهار وتقوم الليل فلا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونَفِهَت نفسك فصم وأفطر وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا وإن لعينيك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا...) رواه البخاري.
    قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "(فإن لنفسك عليك حقا): أي تعطيها ما تحتاج إليه ضرورة البشرية مما أباحه الله من الطعام والشراب والراحة التي يقوم بها بدنه؛ ليكون أعوَنَ على عبادة ربه، ومن حقوق النفس قطعها عما سوى الله -تعالى-، لكن ذلك يختص بالتعلقات القلبية.
    قوله: (ولأهلك عليك حقا): أي تنظر لهم فيما لابد لهم منه من أمور الدنيا والآخرة، وقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يقوم وينام، ويصوم ويفطر، فيجمع بين الحقوق، بين حق الله وحق نفسه، وكما جاء في الروايات السابقة يجمع مع ذلك حق الضيف وحق الزوجة".
    وكذلك يراعي التوازن في الواجبات فلا يضخم واجباً، ثم يترك أو يهمل أو يقصر في واجبات آخر، بل عليه أن يوازن بين الواجبات، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) رواه مسلم، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (قال رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانهاقال هي في النار) رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني.
    وكذا تحقيق التوازن في العمل بلا إفراط ولا تفريط، وبغير تشدد ولا تسيب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن هذا الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه) رواه البخاري، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: (هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً) رواه مسلم، وقالت عائشة -رضي الله عنها-: (ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله -تعالى-) متفق عليه.
    وقال -تعالى-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(لأعراف:31)، (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(الإسراء:29)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا) رواه البخاري، وقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)(الفرقان:67)، وقوله -تعالى-: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)(الإسراء:110).
    وقول -صلى الله عليه وسلم-: (لا تشددوا على أنفسكم فإنما هلك من قبلكم بتشديدهم على أنفسهم وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة. وقال -تعالى-: (طه . مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى)(طـه:1-2).
    وإن من التوازن ترتيب الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، و تقديم واجب الوقت على غيره، قال -صلى الله عليه وسلم-: (الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه.
    فلابد من تقديم الواجب الأهم على المهم من شعب الإيمان، وقد بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم فترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوَقَّ كرائم أموال الناس) متفق عليه.
    وعن البراء -رضي الله عنه- قال: (أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل مقنع بالحديد فقال يا رسول الله أقاتل أو أسلم قال أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمل قليلاً وأجر كثيراً) رواه البخاري.
    وهذا يدل عل اهتمام الإسلام بترتيب الأولويات، فينبغي تقديم الفرض على النافلة، وفرض العين على فرض الكفاية، وفرض الكفاية الذي لم يقم به أحد على فرض الكفاية الذي قام به البعض، والفرض الذي له وقت معين على الفرض المطلق؛ لأن أمر المسلم لا يستقيم إلا بذلك.


    السلفيون... وتحقيق عبادة الوقت

    إن من أعظم التوفيق أن يكون المؤمن مباركاً أينما حل وارتحل، يتقرب إلى الله بعبادة تناسب الوقت أو المكان أو الحال، بقول أو فعل، أو احتساب أو ترك، أو دعوة، أو أمر بمعروف ونهي عن منكر.
    ولما كان الإنسان مأموراً بتحقيق العبودية في كل وقت وآن، ومأمور في كل وقت بعبادة لهذا الوقت فعلى العبد أن يحقق عبادة الوقت، لأنها تكون في هذه الساعة هي أحب إلى الله وأرضى، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سئل: (أَىُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا. قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قَالَ ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) متفق عليه.
    وقد اختلفت أجوبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في أفضل الأعمال، وكان الاختلاف باختلاف الأوقات، فقد يكون العمل في ذلك الوقت أفضل من غيره؛ فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضل الأعمال، لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن منها، وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطر تكون الصدقة أفضل.
    قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مدارج السالكين:
    "إن أفضل الأعمال أحبها إلى الله وأرضاها له -عز وجل- في ذلك الوقت. ثم يفصل قائلاً:
    فالأفضل في وقت حلول الضيف القيام بحقه، والاشتغال به عن الورد المستحب، وكذا في أداء حقوق الزوجة، والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر، والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورد والاشتغال بإجابة المؤذن، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إقامتها والمبادرة إليها، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفته، وإيثار ذلك على أورادك وخلواتك، والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك، والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم".
    ثم يقول -رحمه الله-:
    "ولا يزال العبد متنقلاً بين منازل العبودية، إن رأيت العلماء رأيته معهم، وإن رأيت العُـبَّاد رأيته معهم، وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم، وإن رأيت المتصدقين رأيته معهم، يسير على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه".أ.هـ.
    ومن هذا يتبين أنه لا توجد عبادة أفضل من عبادة مطلقاً؛ فلا يمكن أن نقول: إن قراءة القرآن أفضل من الذكر مطلقاً، أو أن الذكر أفضل من الدعاء، أو أن التسبيح أفضل من الاستغفار، وإنما أفضل عبادة في كل وقت هي الاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته، فالأفضل في وقت الأذان ترديده، والأفضل في وقت الصلاة أداؤها، وفي شهر رمضان الاشتغال بالقرآن، والتهجد في العشر الأواخر، والأفضل في وقت السحر الاستغفار، وعند حاجة الوالدين خدمتهما، وعند حضور الضيف إكرامه، وعند وقوع المنكر إنكاره، وعند إلقاء السلام رده، وعند وقوع القتال الجهاد، وعند انتشار الجهل والمعصية الدعوة، وهكذا...
    فعلى المرء المسلم ألا يغفل عن عبادة الوقت، لأن عبادة الوقت هي الأهم، ومعلوم أن تقديم المهم على الأهم يهدر أوقاتاً كثيرة، يمكن أن تستغل في الأنفع والأصلح، وكلما اشتغل الإنسان في المهم عن الأهم؛ ابتعد عن مدارج الكمال، ولذلك جاء في الحديث: (إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ) رواه مسلم.
    وذلك لأن الانشغال بالنافلة في وقت إقامة الفريضة هو انشغال بالمهم عن الأهم، ولذلك إذا أراد الشيطان إضاعة وقت المسلم يأمره بالأعمال المفضولة من الطاعات، فيحسنها في نظره ويريه من الفضل ليشغله عما هو أفضل، ويشغله بما هو محبوب عند الله بما هو أحب إليه، ولا شك أن أداء العبادة في وقتها أحب إلى الله -تعالى-.
    ومن تحقيق واجب الوقت عدم تسويف التوبة، فلابد للإنسان إذا ما عصى الله -عز وجل- بسبب نزوة أو سقطة؛ أن يبادر إلى التوبة، فإنها عبادة الوقت له، قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(آل عمران:135).
    وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُ أو أُسْلِمُ. قَالَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ. فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ، فَقُتِلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَمِلَ قَلِيلاً وَأُجِرَ كَثِيرًا) رواه البخاري.
    وإن من تحقيق عبادة الوقت المبادرة بالأعمال الصالحة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم.
    فالعبد إن لم يعبد ربه مع قلة الشواغل؛ فيكف يعبد ربه مع كثرة الشواغل وضعف القوى؟!
    ولأن الوقت قد تكون له فضيلة، فتفوت بفواته؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه) متفق عليه.
    وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله فيها خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة) رواه مسلم.
    ولأن تأخير العبادة عن وقتها تشبُّهٌ بأهل النفاق، ودليل على ضعف الإيمان والوازع الديني، وهذا يورث كسلاً قال الله -تعالى-: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا)(النساء:142)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا اصفرت وكانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) رواه مسلم.
    ومن عناية الشرع بتحقيق عبادة الوقت أن شرعت صلاة الخوف، وقد صلاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه في بعض حروبه مع المشركين، مع وجود الخوف من شن الكفار للغارة عليهم، ولم يؤجل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصلاة ولا أخرها عن وقتها، وأداها في جماعة في وقتها المحدد.
    واعلم أن الاهتمام بتحقيق عبادة الوقت يقتضي ترتيب الأولويات من الواجبات والمستحبات، ومع الانشغال بعبادة الوقت -أي التي حل وقتها، أو التي هي مقدمة عن غيرها- ينبغي الاهتمام بقضاء ما فات مما يجوز قضاؤه من العبادات، والاستعداد لما هو آت من الواجبات حتى إذا ما جاء وقت الواجب كان المرء على أهبة الاستعداد، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)(التوبة:46).
    ولا ينبغي أن يشغلنا ما هو آت عما هو واجب علينا الآن، ولا ينبغي أن ننشغل بما ليس في مقدورنا عما هو مقدور لنا، وواقع تحت طاقتنا، بل ينبغي استفراغ الوسع والطاقة في الواجبات والمستحبات، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) متفق عليه.
    فإننا إذا فعلنا ذلك استقامت أمورنا، وحققنا مرضاة ربنا، وسعدنا في الدنيا والآخرة

    ـــــــــــــــــــــــــــــــ

    منقول عن صوت السلف ( بتصرف )

    وكتبه ياسر عبد المحسن الأنصاري

  • #2
    رد: السلفية صمام أمان للأمة

    السلفيون والاجتماع
    لا ريب أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدِعامة الوطيدة لبقاء الأمة ودوام دولتها، ونجاح رسالتها، فإن توحيد الصفوف سر المحافظة على الإسلام والإبقاء على مقوماته، والضمان للقاء الله بوجه متهلل وصفحة مشرقة، والإسلام قد جعل العمل الواحد في صورته، وحقيقته مختلفًاً في الأجر حين يؤديه الإنسان منفردًا، وحين يؤديه مع آخرين؛ فصلاة الجماعة تضعف على صلاة الفرد بضعًا وعشرين درجة، وقال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)(الصف:4).
    وقال -صلى الله عليه وسلم-: (عليكم بالجماعة فإن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية)(رواه أبو داود وحسنه الألباني)، والمسلمون بوحدتهم واجتماعهم كانوا قوة جبارة، وكان لهم صولة وسلطان قاهر، وكانوا حصنًا منيعًا، وقد حدثنا التاريخ أن المسلمين بوحدتهم وتجمع صفوفهم استطاعوا أن يدكوا عروش القياصرة والأكاسرة، وأن يطرحوا بتيجان الجبابرة.
    قال -تعالى-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:92)، ولذلك أمر الله بالوحدة والاجتماع ونهى عن الفرقة، فقال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً)(آل عمران:103)، وقال -تعالى-: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا)(الأنفال:46).
    وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم إخلاص العمل لله ومناصحة أئمة المسلمين ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم)(رواه الترمذي وصححه الألباني).
    قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(ج1/390):
    "وقوله: (وَلا تَفَرَّقُوا) أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت أحاديث متعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع، كما في صحيح مسلم من حديث سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم ثلاثًا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)، وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف".
    وقال الطبري -رحمه الله- في تفسيره(ج4/32):
    "(وَلا تَفَرَّقُوا) ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله والانتهاء إلى أمره، كما حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة (وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) أن الله -عز وجل- كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله".
    وقال الطبري -رحمه الله- في تفسيره(ج10/15):
    "(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا، وتختلف قلوبكم، فتفشلوا، يقول فتضعفوا وتجبنوا وتذهب ريحكم، وهذا مثل يقال للرجل إذا كان مقبلاً عليه ما يحبه ويسر به، الريح مقبلة عليه، يعني بذلك ما يحبه، وإنما يراد به في هذا الموضع، وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل.
    وقال: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال قال ابن زيد في قوله: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) قال الريح: النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قوام" أ.هـ.
    تضمنت هذه الآية النهي عن الاختلاف والتنازع، وبينت أن ذلك يؤدي إلى الفشل وإلى ذهاب الدولة بقوله (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) والمقصود ذهاب ريح النصر التي يبعثها الله مع من ينصره على من يخذله.
    وقال -صلى الله عليه وسلم-: (أوصيكم بأصحابي ثم الذي يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن)(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (البركة في ثلاثة في الجماعة والثريد والسحور)(رواه الطبراني وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله والجماعة بركة والفرقة عذاب)(رواه البيهقي وحسنه الألباني).
    إن من أجل مقاصد الإسلام توحيد كلمة المسلمين وجمع قلوبهم على غاية واحدة، وهي إعلاء كلمة الله وتوحيد صفوفهم من أجل العمل لهذه الغاية، وما قيمة هذه الأمة التي تملأ شرق الأرض وغربها إذا كانت أوزاعًا متفرقة، وأفرادًا مختلفين وبلادًا متفرقة، وأجناسًا مختلفة وأعرافًاً متباينة وطبقات عصبية وحميات جاهلية، إن قوتها حينئذ تنعكس وبالاً عليها وتصب غضبًا وسخطًاً من الله -سبحانه وتعالى- عليها، فتقتتل فيما بينها وتفرق صفوفها وتبدد طاقاتها وتضيع ثرواتها، كما نرى في حال أمتنا اليوم، ولا توجد أمة من الأمم دعيت إلى الوحدة والائتلاف، ونهيت عن الفرقة والاختلاف مثل الأمة الإسلامية؛ لأن النظام الاجتماعي لا يكمل إلا في ظل الوفاق والوئام، وحال الناس لا تصلح إلا مع التعاطف والتآلف، ويدرك العقلاء أن القوة لا تكون إلا مع الوحدة، وأن الذلة تكمن في الفرقة كما قال الشاعر:
    تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرًا وإذا افترقن تكسرت آحادًا
    والعرب تقول: "المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه".
    فتبين من هذا أن وحدة صف الأمة واجتماعها على الحق من أهم أسباب النصر، أما إذا كانت الأمة مفرقة ومشتتة، فإن النصر لن يكون حليفها؛ ولذلك لما أراد صلاح الدين -رحمه الله- قتال الصليبيين وإخراجهم من بيت المقدس، قام بتوحيد أقوى بلدان المسلمين في ذلك الوقت وهي مصر والشام، فلما وحدها نهض لقتال الصليبيين فنصره الله عليهم.
    وكذلك فإن تفرق المسلمين وتشتت أحوالهم من أسباب الهزيمة الماحقة، فإن الفرقة والاختلاف كانت من أهم أسباب سقوط الأندلس؛ ولذلك نهانا الله -سبحانه وتعالى- أن نتفرق ونختلف كما تفرقت واختلفت الأمم السابقة، فأهلكها الله -سبحانه وتعالى-: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)(آل عمران:105)، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(الأنعام:159)، واعلم أن الاجتماع في الدين لا يمكن أن يتحقق إلا بالاعتصام بالكتاب الحكيم، والأخذ بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين والسير على صراط الصحابة والتابعين من خير القرون.
    فإن هذه الأمور الثلاثة يحصل بها الاجتماع في الدين، ومن غيرها لا يمكن أن يحصل الاجتماع، بل غيرها هو الفرقة التي نهى الله -سبحانه وتعالى- عنها وحذر منها رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
    وقد أمر -سبحانه- بالاجتماع في الدين في آيات كثيرة، قال -تعالى-: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى:13).
    هذا هو الذي شرعه الله لهذه الأمة، كما أنه أمر به من تقدم من الرسل، وأمره للرسل أمر للأمم وإقامة الدين لا تتحقق إلا بالأخذ بالكتاب الحكيم وسنة سيد المرسلين؛ فالواجب على الأمة إذا أرادت الاجتماع أن تنبذ ماعدا هذين الوحيين، كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما أجمع عليه العلماء المجتهدون بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن ما أجمع عليه العلماء لابد أن يكون له دليل في الكتاب والسنة.
    والله -عز وجل- يقول في كتابه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)(النساء:115)، فأمر الله -سبحانه- باتباع سبيل المؤمنين من العلماء العاملين، وقال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران:103) وحبله هو شرعه الذي أوحاه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فالأمر بالاجتماع ليس مجرد الاتفاق على أي وجه كان كما يدعو إليه بعض الذين قل نصيبهم من العلم، بل لابد من الاجتماع على الحق، فالحق هو الطريق الموصل إلى الاجتماع.
    واعلم أن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف الإعراض عن الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح -رضي الله عنهم- فبقدر إعراضهم عن الكتاب والسنة يحصل بينهم من الفرقة والاختلاف؛ لأنهم إذا أعرضوا عن الكتاب والسنة فإلى ماذا يرجعون؟ إلى آرائهم وأهوائهم وأذواقهم وإلى ما يشتهون.. وهذا مما لا يتفق عليه الناس، بل يختلفون فيه اختلافًاً عظيمًا.
    فاختلاف الناس في آرائهم أشد من اختلافهم في لغاتهم وأجناسهم وأعرافهم؛ ولذلك فإن المرجع الذي يجتمع عليه الناس ولا يتفرقون فيه هو الكتاب والسنة، وعلى ذلك فمن دعا إليهما فهو يدعو إلى الاجتماع، ومن دعا إلى غيرهما فهو يدعو إلى الافتراق.
    وعلى هذا فإن من أهم أسباب الاجتماع العلم بالكتاب والسنة، وهدي السلف، ونبذ البدع ومحدثات الأمور.
    من أهم أسباب الفرقة: الجهل؛ لأن الجهال إذا تكلموا اتسعت رقعة الخلاف؛ ولأن الجهل يولد معاداة الحق، ويولد البدع والمعاصي والبغي والحسد والكبر، وكل هذا يؤدي إلى زيادة الفرقة ووقوع الاختلاف، ومما يزيد الاجتماع مراعاة حقوق المسلمين والتآخي بينهم وتحقيق الحب في الله، وكونهم في عون بعضهم البعض، ومناصرتهم بعضهم وتفقدهم أحوال بعضهم.
    ولا يمكن أن تقوم وحدة للمسلمين ما لم تجمعهم عقيدة واحدة؛ فالعقيدة تشكل أساسًا مهمًا في البناء الفردي والاجتماعي، وهي القاعدة التي تقوم عليها الأعمال والعلاقات والأخلاق، فإذا كانت العقيدة مشوهة أو مزورة، فإن البناء لا يستقيم ولا يستطيع أن يواجه الأعاصير والفتن حتى ينهار.
    والعقيدة التي تصلح لجمع شتات المسلمين هي ما كان منبعها كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فإن سلامة الاعتقاد وصحته هي الطريق الوحيد لإقامة المجتمع المسلم المترابط المتآلف، ولا سبيل إلى اجتماع الأمة الإسلامية قاطبة ووحدة صفها وعزها وسعادتها في الدنيا والآخرة، إلا بالعودة الصحيحة إلى الإسلام الصافي النقي الخالص من شوائب الشرك والبدع والأهواء والتعصب واتباع العوائد الفاسدة، وهذا يتطلب من كل مسلم أن ينبذ كل المذاهب والمناهج الحادثة المخالفة لما كان عليه سلف الأمة، وأن تكون له عناية فائقة بمذهب السلف الصالح وعقيدتهم ومنهجهم.
    فلكي يتحقق النصر لابد من وحدة الصف الإسلامي، ووحدة الصف ليس لها سبيل إلا الإسلام الصحيح، والإسلام الصحيح مصدره القرآن والسنة، والطريق لفهم القرآن والسنة هو طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسان، ومن سار على نهجهم وطريقتهم إلى يوم الدين.
    والمسلمون لا يكون لهم شأن ولا عز ولا نصر ولا فلاح في الدنيا والآخرة، إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على مستوى الأفراد والأسر والجماعات، فإن حرص كل مسلم على تحكيم شرع الله في نفسه وأسرته ومجتمعه خطوة أصيلة نحو وحدة الأمة والاقتراب من نصر الله -تعالى-.
    فإن لتحكيم شرع الله آثارًا دنيوية، منها: الاستخلاف والتمكين والأمن والاستقرار، والنصر والفتح المبين، والعز والشرف وبركة العيش ورغد الحياة، والهداية والتثبيت، وانتشار الفضائل وانزواء الرذائل.
    السلفيون والعمل الصالح
    العمل الصالح سبب لولاية الله -تعالى- وولاية الله تعني النصرة والتأييد والتثبيت والتمكين والرعاية قال الله -تعالى- في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بأحب إلي مما افترضته عليه وما يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته)رواه البخاري.
    قال الحافظ بن حجر رحمه الله: "المراد بولي الله العالم المواظب على طاعته المخلص في عبادته".
    وقال الطوفي: "لما كان ولي الله من تولى الله بالطاعة والتقوى تولاه الله بالحفظ والنصرة".
    وقال الفاكهاني: "إن محبة الله للعبد تقع بملازمة العبد التقرب بالنوافل بعد الفرائض؛ أي أنه إذا أدى الفرائض ودام على إتيان النوافل من صلاة وصيام وغيرها، أفضى به ذلك إلى محبة الله -تعالى- فالمراد بالنوافل أن تقع ممن أدى الفرائض لا من أخل بها كما قال بعض الأكابر: "من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور".
    وقد دل هذا الحديث على أن الله -سبحانه وتعالى- يدافع عن الذين آمنوا الذين يتقربون إليه بالفرائض ويتبعونها بالنوافل، وأنه -سبحانه وتعالى- يكفيهم عدوهم فيعلن عليه الحرب، ومن حاربه الله أهلكه ففيه وعد بهلاك الظالمين والكافرين والمجرمين.
    ويجيب الله -تعالى- دعاء هؤلاء العباد ويعطيهم مسألتهم ويسددهم في سمعهم وبصرهم وبطشهم ومشيهم، فبالله يسمعون وبه يبصرون وبه يبطشون.
    وبين الله -تعالى- فضل الذين يعملون الصالحات ويتمون العبادات التي أمرهم الله عز وجل بها فقال -تعالى-:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(البقرة:277)
    فإذا عبد الإنسان ربه وأخلص له في العبادة كان ذلك مانعاً من إتباع الشيطان له في المعاصي قال -تعالى-: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً)(الإسراء:65).
    فالشيطان ليس له سلطان على قلوب عباد الله، وهذا من تأييد الله لعباده وحفظه لهم وحراسته لهم، وقال -تعالى- في يوسف -عليه السلام-: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(يوسف: من الآية24)
    فالمخلصون لا سبيل للشيطان عليهم، والمخلصون هم الذين أخلصوا العبادة والمحبة والإجلال والطاعة والمتابعة والانقياد لنصوص الأنبياء، فيجرد عبادة الله من عبادة من سواه، ويجرد متابعة رسول وترك ما خالفه.
    والعبادة كما قال شيخ الإسلام هي: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة"
    فالصلاة والزكاة، والصيام والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتامى والمساكين وابن السبيل، والمملوك من البهائم والآدميين، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة".
    وبهذا التعريف لا يمكن أن يخرج شئ من نشاطات الإنسان وأعماله عن مفهوم العبادات، ومن ذلك يتضح أن الدين كله داخل في مفهوم العبادة، والدين منهاج الله جاء ليسع الحياة كلها، وينظم جميع أمورها حتى أدب الطعام وقضاء الحاجة.
    وهذا الفهم السلفي للعبادة هو الفهم العميق الذي حققت به الأمة في سالف عهدها ما حققته من معجزات في كل اتجاه، في حين كانت تمارس الأمة إيمانها الحق وعبادتها الحقة، وكان الإخلاص في حسها جزأ من العبادة المفروضة على المسلم حدث إنجازات هائلة لم تكرر في التاريخ، ففي السنة الثالثة والتسعين من الهجرة أي في أقل من قرن من الزمان كان المسلمون قد وصلوا بفتوحاتهم المشرق والمغرب، فوقف موسى بن نصير عند نهر اللورا في فرنسا، ودخل قتيبة بن مسلم الصين وضرب عليهم الجزية، وهي سرعة مذهلة لا مثيل لها في التاريخ كله، ولم يكن الكسب هو الأرض التي فتحت وإنما الكسب الأعظم هو القلوب التي اهتدت بنور الله فدخلت في دين الله أفواجاً.
    وما كانت الأمة لتقدر على دك صفوف الشرك واقتلاعها بمثل هذه السهولة وبمثل هذه السرعة، وما كانت لتقدر على إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع من إقامة العدل في الأرض، والوفاء بالمواثيق، وشجاعة النفس والبطولة الفذة في ميدان الحرب والسلم، ولا أن تنشأ هذه الحضارة الضخمة لولا هذا الإحساس العميق من أنها تنطلق من المفهوم السلفي للعبادة.
    والعبادة في المفهوم السلفي لابد فيها من لزوم السنة ليحفظ من شر النفس والشيطان دون الطرق المبتدعة؛ فإن أصحابها لابد أن يقعوا في الآصار والأغلال وإن كانوا متأولين، فلا بد لهم من اتباع الهوى، ولهذا سمي أصحاب البدع أصحاب الأهواء.
    فإن طريق السنة علم وعدل وهدى، وفي البدعة جهل وظلم وفيها إتباع الظن وما تهوى الأنفس.
    السلفيون..و طلب العلم النافع
    لعلم النافع هو العلم الذي يكون سبباً لصلاح العبد في الدنيا والآخرة، وهو العلم المنتقى من كتاب الله وصحيح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو العلم الذي يقوم به الدين ويتحقق به منهج المرسلين، ويرتفع به شأن الآخِرِين كما ارتفع به شأن الأولين.
    العلم الذي هو حياة القلوب من الجهل، ومصباح البصائر في الظُلَم، والذي هو سبب في رقي الأمة وسموها وعلوها، والذي يشكل الأمن والأمان للأمة من أن تتردي في مهاوي الردى.
    العلم الذي يخلِّص الدين مما علق به شوائب البدع ومحدثات الأمور، ويرد به على شبه الزنادقة والمجرمين.
    العلم الذي يورث الخشية كما قال -تعالى-: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:28).
    العلم النافع هو الذي به صلاح القلب بمعرفه الله -سبحانه وتعالى- وأسمائه وصفاته وأفعاله، وعظيم حقه، ومعرفة الحلال والحرام، والأوامر والنواهي، ومعرفة العبادات متى تصح ومتى تبطل، ومعرفة شئون المعاد، وما يكون للإنسان بعد موته من البعث والجزاء والحساب والجنة والنار والصراط والميزان.
    قال ابن القيم:
    والعــلم أقســـام ثــلاثة ما لها من رابع والحق ذو تبيان
    علـم بأوصــاف الإلــه وفعلــه وكذلك الأسمــاء للرحمـن
    والأمر والنهى الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني
    فإن العلم النافع تتوقف الحياة الحقيقية عليه، وهو النور لتوقف الهداية عليه، فلا روح ولا حياة إلا بالعلم النافع المنتقى من الكتاب والسنة، ولا نور ولا هداية إلا بالاستفادة بهما قال -تعالى-: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) (غافر:15)، وقال -تعالى-: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (الشورى:52) وقال -تعالى-: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122)
    والعلم النافع حجاب من الضلال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء وحتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).
    والعلم النافع هو ما جاء في الكتاب والسنة كما قال ابن القيم -رحمه الله-:
    العلم قال الله قال رســـولــــــه قال الصحابة ليس بالتمويه
    ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
    وقال علي -رضي الله عنه-: "لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه".
    وقال الشعبي: "إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس".
    وقال سفيان الثوري: " إنما العلم كله بالآثار".
    وقال الأعرابي: " عليك بالآثار وان رفضك الناس، وإياك وأراء الرجال وإن زخرفوه بالقول! فإن الأمر ينجلي وأنت فيه على طريق مستقيم".
    وقال الأوزاعي: " إذا بلغك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديث، فإياك أن تأخذ بغيره فإنه كان مبلغاً عن الله -عز وجل-!"
    والعلم النافع له أثر على أصحابه فيجعلهم أطوع لله -عز وجل- وأكثر عبادة له:
    بات رجل عند الإمام أحمد فوضع عنده ماء، قال الرجل: فلم أقم بالليل ولم أستعمل الماء. فلما أصبحت قال لي: لم لا تستعمل الماء، فاستحييت منه وسكت، فقال: سبحان الله، سبحان الله، ما سمعت بصاحب حديث لا يقوم بالليل!
    وجرت هذه القصة معه لرجل آخر فقال له: إني مسافر. قال: وان كنت مسافراً، حج مسروق فما نام إلا ساجداً.
    قال الشيخ تقي الدين: " فيه أنه يكره لأهل العلم ترك قيام الليل، وإن كانوا مسافرين".
    وقال سفيان الثوري: "ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس مفطرون، وببكائه إذ الناس يضحكون، وبحزنه إذ الناس يفرحون".
    ولهذا أمر الله -سبحانه- بتعلم العلم قبل القول والعمل، فقال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) (محمد:19)

    وتعلم العلم على نوعين
    :

    النوع الأول:


    فرض على الأعيان لا يعذر أحد بتركه، وهو تعلم ما يستقيم به دينه، وتصلح به عقيدته وصلاته وزكاته وصيامه وحجه وعمرته.

    النوع الثاني:


    ما زاد عما ذكرنا كأحكام المعاملات والمواريث والأنكحة والقضاء، فهذا تعلمه واجب على الكفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، وإن تركه الكل أثموا، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)؛ ولذلك دعا السلف الصالح إلى تعلم هذا العلم.

    فقال معاذ -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على الدين، والصبر على البأساء والضراء، به يرفع الله أقواماً فيجعلهم في الخير قادة سادة هداة يقتدى بهم، أدلة في الخير يقتفى أثارهم، به يبلغ العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، والتفكير فيه يُعدَل بالصيام، ومدارسته بالقيام، به يُعبَد الله -عز وجل-، وبه يوحَد، وبه يمجَد، وبه يُعرَف الحلال والحرام، وبه توصَل الأرحام، وهو إمام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء".

    وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "تعلموا العلم قبل أن يرفع، ورفعه موت رواته، وإن أحداً لم يولد عالماً، وإنما العلم بالتعلم".
    وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "العالم والمتعلم شريكان في الخير، وسائر الناس همج لا خير فيهم".
    وقال على -رضي الله عنه-: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم".
    نسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا.
    السلفيون..وتحقيق الاتباع
    الاتباع هو اتباع ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكتاب والسنة. وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بالتمسك بسنته، وبين لهم أن الاختلاف سيكثر، والأهواء سوف تظهر، والعصمة من ذلك إنما هي في التمسك بالكتاب والسنة. فقال -صلى الله عليه وسلم- (فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة). وبين صلى الله عليه وسلم أن خير الهدي هو هديه عليه الصلاة والسلام وأن كل محدثة بدعة, وقد بين الله سبحانه وتعالى أن الهداية إنما تكون باتباعه -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا).
    وحذر الله -سبحانه وتعالى- من مخالفته -صلى الله عليه وسلم- فقال ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وتوعدهم الله -سبحانه وتعالى- بالعذاب على مخالفة أمره -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا ليتني اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا يَا وَيْلَتِى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً ) وقال تعالى (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ) وهذا تندم المخالفين لهديه -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة.
    وقال صلى الله عليه وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله) وذلك لأن الله جعل طاعة الرسول طاعة له سبحانه فقال تعالى )مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ (وقال صلى الله عليه وسلم (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
    وقد حث أهل العلم على متابعة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الإمام أحمد: "من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أحواله وأقواله" وقال ابن القيم: "فمن صحب الكتاب والسنة وتغرب عن نفسه وعن الخلق وهاجر بقلبه إلى الله فهو الصادق المصيب".
    وقال ابن تيمية: "فكل من اتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالله كافيه وهاديه وناصره ورازقه" وقال أيضاً: "من فارق الدليل ضل السبيل ولا دليل إلا بما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ".
    وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: (عليك بالاستقامة اتبع ولا تبتدع) وقال سهل التستري: "ما أحدث أحد في العلم شيئاً إلا سئل عنه يوم القيامة فإن وافق السنة سلم وإلا فلا".
    وقال الشافعي -رحمه الله-: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس"، وقال ابن خزيمة: "ويحرم على العالم أن يخالف السنة بعد علمه بها" وقال ابن عبد البر: "الحجة عند التنازع السنة؛ فمن أدلى بها فقد أفلح" وقال ابن شهاب: "بلغنا عن رجال من أهل العلم قالوا: الاعتصام بالسنة نجاة" وقال ابن القيم: "ولا يحبك الله إلا إذا اتبعت حبيبه ظاهراً وباطناً وصدقته خبراً وأطعته أمراًَ وأحببته دعوة وآثرته طوعاً عن حكم غيره بحكمه" وقال الجنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول".
    والاتباع ضد الابتداع، فالبدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى أي أن المبتدع ليس على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإنما هو آت بشيء جديد ليس له فيه سلف.
    ومضرة البدع، وهدمها للدين، ومنافاتها له أشد من عامة الفواحش، والظلم، والعدوان، والبدع تؤدي إلى ضياع ثواب الأعمال، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخوارج الذين لم يكونوا على السنة مع عظم عبادتهم (قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ولذلك كان تحذير السلف من البدع، والمبتدعين، قال الحسن البصري: "من وقر صاحب بدعة فقد سعى في هدم الدين" وقال أيضا:ً "لا تجلس إلى صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك ويفسد عليك دينك وخير أمور الدنيا ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع".
    قال الأوزاعي :"ما ابتدع رجل بدعة إلا سلب الورع". وقال سفيان:"البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يثاب منها والبدعة لا يثاب منها".قال ابن عباس:"النظر إلى رجل من أهل السنة يدعو إلى السنة والنهي عن البدعة عبادة".
    وعن ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله تعالى(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قال: تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة. وقال الفضيل بن عياض:"اتبع طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق البدعة ولا تغتر بكثرة الهالكين".
    والاتباع عند السلفيين إنما يقصد به اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح كما قال الإمام أحمد: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير.وقال رحمه الله (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم) وقد قال تعالى (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) فقوله تعالى (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) لا شك أنهم الذين ذكروا في الآية السابقة(مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).
    فلا يجوز للمسلم- باسم اتباع الكتاب والسنة- أن يتبع أراءً أو أقوالاً تخالف ما كان عليه سلفنا الصالح، ذلك لأن ما كانوا عليه تبياناً للكتاب والسنة، فالسنة ليس لنا طريق إلى الوصول إليها والتعرف عليها؛ إلا من طريق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذلك فلا سبيل إلى أن يكون المسلم من أهل السنة ومن الفرقة الناجية إلا بأن يتبع الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح.
    فعدم الرجوع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح، من المفاهيم هو السبب الأصيل الذي جعل المسلمين يتفرقون إلى مذاهب شتى، وطرق قدداً، فمن كان يريد حقاً الرجوع إلى الكتاب والسنة، فيلزمه الرجوع إلى ما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان، فما اتفقوا عليه لا يجوز لنا مخالفته، وما اختلفوا فيه على قولين، فلا يجوز لنا إحداث قول ثالث، فالدين ما دانوا به، والحق ما قاموا عليه، قال تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ)
    أئمة السلفيين – أئمة الاتباع
    إن من أهم ما يتربى عليه المسلم عامة، وطالب العلم خاصة قضية الاتباع وتعظيم الدليل، لأن الأمر دين، ولا يقبل قول بدون دليل، لذلك بيَّن الله ذلك في كتابه في القاعدة الذهبية عند الاختلاف (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)
    فطاعة الله مطلقة، وطاعة رسوله كذلك، أما طاعة أولي الأمر -العلماء والأمراء- فتابعة لطاعة الله وطاعة رسوله، لذلك عطفت بالواو، ثم إن حصل الخلاف بين العلماء أو الأمراء فيجب الرد عند ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله، فهو الفصل عند النزاع، وكذلك بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث العرباض بن سارية (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي).
    وعلى هذا المنهج سار السلف، فكانوا يسألون عن الدليل، ويرون الحجة فيه دون غيره، فهذا زر بن حبيش -رحمه الله- يأتي صفوان بن عسال -رضي الله عنه- يقول إنه قد حك في صدري المسح على الخفين فهل سمعت النبي -صلى لله عليه وسلم- يذكر فيه شيئاً؟
    ولذلك قالوا العلم معرفة الحق بدليله. قال الأمام ابن القيم -رحمه الله-: قال أبو عمر -يعني ابن عبد البر-: أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، وأن العلم معرفة الحق بدليله.
    والخلاف يرد إلى الدليل والسنة، قال الشافعي: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس".
    وهذه أقوال الأئمة في وجوب اتباع السنة وترك الأقوال المخالفة لها




    :

    قال أبو حنيفة -رحمه الله-:

    1-"إذا صح الحدث فهو مذهبي".
    2-"لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه. وفي رواية: حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم، ونرجع عنه غداً".
    3-وقال: "يحك يا يعقوب -هو أبو يوسف- لا تكتب كل ما تسمع مني، فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غداً، وأرى الرأي غداً، وأتركه بعد غد.
    4-إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله -تعالى- وخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- فاتركوا قولي".
    والإمام مالك بن أنس- رحمه الله- قال:
    1-"إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه".
    2-"0ليس أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-".
    قال ابن وهب: "سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال ليس ذلك على الناس. قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة. فقال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن المستورد بن شداد قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يُسأل فيأمر بتخليل الأصابع".
    الشافعي -رحمه الله- قال:
    1-"ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويعزب عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول لله، وهو قولي".
    2-"إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله فقولوا بسنة رسول الله ودعوا قولي. وفي رواية فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد".
    3-وقال: "إذا صح الحديث فهو مذهبي".
    4-وقال للإمام أحمد:" أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث الصحيح، فأعلموني به أي شيء يكون: كوفياً أو بصرياً أو شامياً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً".
    5-"كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله عند أهل النقل بخلاف ما قلت أنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي".
    والإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- قال:
    1-"لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا".
    وفي رواية "لا تقلد دينك أحداً من هؤلاء، ما جاء عن النبي وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير".
    2-"رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار".
    3-"من رد حديث رسول الله فهو على شفا هلكة".
    ولهم سنة متبعة في رد الأقوال المخالفة في السنة والإنكار على مخالفيها فقد ذكر الإمام الترمذي في سننه بعد أن روى حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في إشعار الهدي. قال والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم يرَوَن الإشعار، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. قال: "سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعاً يقول حين روى هذا الحديث -قال- لا تنظروا إلى قول أهل الرأي في هذا فإن الإِشعار سنة وقولهم بدعة". قال: "وسمعت أبا السائب يقول كنا عند وكيع فقال لرجل عنده ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول الله، ويقول أبو حنيفة هو مُثْله، قال الرجل فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مُثْله. قال: فرأيت وكيعاً غضب غضبا شديداً، وقال: أقول لك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتقول قال إبراهيم؟ ما أحقك بأن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا."
    وذكر الإمام الترمذي أيضاً تحت حديث: (وتحريمها التكبير)
    قال: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم، وبه يقول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق إن تحريم الصلاة التكبير، ولا يكون الرجل داخلاً في الصلاة إلا بالتكبير.
    قال بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي يقول: "لو افتتح الرجل الصلاة بسبعين اسماً من أسماء الله، ولم يكبر لم يجزه، وإن أحدث قبل أن يسلم أمرته أن يتوضأ ثم يرجع إلى مكانه فيسلم، إنما الأمر على وجهه". ا. هـ وفيه الرد على الأحناف في تجويزهم افتتاح الصلاة بغير التكبير.
    فهذه بعض نصوص أهل العمل في وجوب اتباع السنة وتعظيم الدليل، فينبغي على طالب الحق ألا يعدو ذلك، فإن فيه الحق والهدى.
    السلفية والتقدم
    يزعم خصوم الإسلام بعامة والسلفية بخاصة أنها دعوة رجعية




    ، وهو زعم خاطئ من جذوره فلا تتعارض السلفية مع التقدم، لأن التقدم في الإسلام تقدم أخلاقي يمضي قدمًا في تحقيق الرسالة التي نيطت بهذه الأمة مع الأخذ بأسباب العمران المادي في نواحي الحياة كلها.

    والقديم في تاريخ أوربا تعبير يطلق على العصور المظلمة في القرون الوسطى السابقة لعصر النهضة، ورفض أوربا لتاريخها القديم موقف يتلاءم مع رغبتها في التقدم، لأن الماضي يعد سببَا لتخلفها.

    وإذا قارنا الإسلام بمختلف ديانات العالم




    ، عرفنا أن عقائدها منعت معتنقيها من التقدم الحضاري عندما استمسكوا بها، ودارس التاريخ يلاحظ أن أهل أوربا والبوذيين في اليابان على سبيل المثال لما كانوا راسخين في معتقداتهم الدينية كانوا على أسوأ ما يكون من أدوار التخلف، ولما أحرزوا لأنفسهم التقدم والرقي في حياتهم العملية والعقلية والمادية ما عادوا مؤمنين بمعتقداتهم المسيحية والبوذية إلا اسمًا.

    المسلمون فعندما كانوا أقوياء في إيمانهم بمعتقداتهم صاروا أكثر أمم الأرض تقدمًا


    وازدهارًا وقوة ومجدًا، وما إن دب دبيب الضعف في إيمانهم حتى تخلفوا في ميادين العلم، وضعفوا في صراعهم للرقي الدنيوي، وتحكمت فيهم الأهواء، واستولت عليهم أمم أجنبية، وهذا فرق عظيم بين معتقدات الإسلام ومعتقدات الديانات الأخرى في العالم.

    فالأمر عكس بالنسبة لنا تمامًا، فإن تاريخنا يعبر عن تقدم حضاري في كافة المجالات..

    وإذا نحن طالبنا بـ (الترقي) لمستوى السلف




    ، فإننا نعني بذلك التمسك بالمفاهيم الإسلامية الشاملة للعقيدة العبادة الشريعة وسائر الأنشطة الإنسانية، التي فيها بلا شك الحقل العلمي.

    ولكننا في الوقت نفسه لا نزعم ولا نظن أن عاقًلاً يخطر له على بال أن نضع الأمة الإسلامية في متحف التاريخ!! بمعنى أن نطلب إرجاعها للأخذ بوسائل العصور السابقة في الحياة العمرانية بأساليبها في الإنتاج والنقل والتعليم والتطبيب وتشييد المدن وتجهيز الجيوش وبناء المدارس والجامعات والمستشفيات..الخ

    وليتضح لكل دارس للإسلام أن المفهوم الإسلامي للحضارة أرقى بكثير من التصور الغربي




    ، فلا نحن نرضى بتخلف المسلمين الحالي عن تحقيق النموذج الإسلامي، ولا نرضى في الوقت نفسه بتقليد الغرب في فلسفته ومضامينه الفكرية الشاملة.

    أما نبذ السلفية بحجة التسابق مع الزمن


    واللحاق بكل ما هو جديد فمنهج خاطئ قائم على مفاهيم غربية متصلة بفلسفتها.

    فإن ما تراه اليوم جديدًا غدًا سيصبح -وحتمًا- قديمًا فليست الموازنة إذاً بين قديم وجديد موازنة صحيحة، ولكن ينبغي أن تتم المقارنة بين الحق والباطل أيًا كان العصر والزمن، لأن القيم لا تتغير ولا تتبدل، فليس الجديد مقدمًا بالضرورة على سلفه.

    ولعلنا نصدم أصحاب دعوى التجديد المتغربين النابذين للسلفية عندما نضع أمامهم الحديث النبوي: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود وصححه الألباني. والتجديد إنما يكون بعد الدروس، فالتجديد ارتقاء وتقدم بالأمة؛ لتسلك طريقها مرة أخرى كلما بعدت عن صحيح الصحيح الأصيل المتوارث.
    نحن نرفض تقليد الغرب




    ونبحث عن الأصالة، ولا تأتي الأصالة بترقيع الشخصية بل بالارتباط بالعقيدة التي كانت حجر الزاوية في كيان هذه الأمة، وينبغي هنا التمييز بين تقليد مقومات الشخصية والعقائد والتصورات، وبين النتائج العملية، فلا وطن ولا جنسية للاكتشافات والأبحاث الإنسانية في الميادين المختلفة..

    ولكن المشكلة في اختلافنا الأساسي معهم


    على قواعد جوهرية تتناول:عقيدة التوحيد، والإيمان بالله -سبحانه وتعالى-، وإفراده بالألوهية والربوبية، وماهية الإنسان، والغرض من خلقه، وبيان مآله في اليوم الآخر، وما هي وسائله لسلوك أحسن السبل الممكنة في الحياة والارتقاء بها؟

    وتأتي آفة التقليد


    عندما ننسى أصالتنا، ولذا ينبغي التنبيه إلى الحكمة النبوية في الحديث الذي رواه البخاري: (لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون -الأمم- قبلها، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لتبعتموهم. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن غيرهم؟!)متفق عليه.

    إذا عرفنا كل هذا أصبح هدف السلفية واضحًا أمامنا كضوء الشمس، وهو يتلخص في: "تطهير العقيدة من شوائب البدع، وتربية الشخصية الإسلامية، وفتح الذهن البشري لقبول كل جديد في ميادين العلوم التجريبية، وإحياء العقيدة من منابعها بعيدًا عن المذهبية الضيقة بصورتها الأخيرة أو تطويع العقيدة والشريعة في الإسلام لدعاوى التطوير الخاطئة، ورفض فكرة لادينية الدولة".

    المنهج السلفي منهج الانبياء
    لماذا منهج الأنبياء؟؟
    لأن الله ـ عز وجل ـ أمر نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالاقتداء بهم، فقال تعالى بعدما ذكر جملة من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام: 90) وقال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ) (النحل: 123) وأرشد المؤمنين جميعاً إلى التأسي بإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيم وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّه) (الممتحنة: 4).
    كان صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة للشاب المستقيم في شبابه، وللداعية في دعوته، وللزوج والوالد في حنو العاطفة وحسن الخلق، وللمربي في تربية أصحابه، وللمجاهد الشجاع، والقائد المنتصر، والسياسي الناجح، والجار الأمين، والمعاهد الوفي، والحاكم المستقيم، والعالم العامل.........
    وهي صفات لا تجتمع أبداً في أي زعيم أو مصلح، ولهذا أمرنا الله بطاعته مطلقاً، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) (النساء: 64)، وقال تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء: 115)، وقال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْت وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما) (النساء: 65)، وقال تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ُ) (آل عمران: 31)، أما غيره فطاعته مشروطة بطاعة الله تعالى ورسوله ـصلى الله عليه وسلم ـ.
    -لأن الأنبياء معصومون من الشرك والإضلال والزيغ والأهواء والفسق والعصيان، وهم أشرف الناس نسباً، وأفضلهم خلقاً، وأعظم أمانة، وأقواهم حجة، قال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (الأنعام: 124)، قال تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه: 41).
    -جميع الأنبياء دعاة إلي الإسلام، قال تعالى: (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ) (آل عمران: 19)، قال تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْه وَهُوَ ُفِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ) (آل عمران: 65)، جميع الأنبياء دعاة إلى حزب الله المفلحين، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّه) (آل عمران: 81)، وقال عن نوح: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ) (الصافات: 83).
    -إنه المنهج الوحيد الكفيل بإعادة الخلافة، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).



    المنهج = السبيل = الصراط المستقيم -قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) (يوسف: 108)، وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) (الأنعام: 153).

    -


    بعض الناس ينظرون إلى بذل المال والنفس على أنها أعلى المراتب دون مراعاة ما يجعل بذل المال والنفس مجدياً...

    -إذ ليس الأمر مجرد بذل وكفى، إذ البذل لا يعطي نتائجه إلا بشروطه.

    -الوعي والعلم هما الوقود الذي يجعل الاستمرار ممكناً، كيلا ينقطع في بدايته، كما ينطفئ المصباح حين يفقد وقوده.
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
    منقول عن صوت السلف ((بتصرف))
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    كتبه / ياسرعبد المحسن الأنصاري

    تعليق

    يعمل...
    X