بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ)، قال عمر بن الخطاب: "مَا أَحْبَبْتُ الإِمَارَةَ إِلا يَوْمَئِذٍ قَالَ فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا"، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ: (امْشِ وَلاَ تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ)، قَالَ: فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟"، قَالَ: (قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) (متفق عليه).
أخي الحبيب..
- تأمل قول النبي -صلي الله عليه وسلم-: (امْشِ وَلاَ تَلْتَفِتْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ).
فما أحوجنا -أبناء الصحوة- اليوم إلى إدراك هذا المعنى، والذي يُقصد منه الانتباه للأهداف العظيمة، والسعي لتحقيقها، والحذر من كيد الأعداء، وحرصهم على إبعادنا عن سلوك السبيل المؤدية لتحقيق الأهداف، فتمر بنا الأيام ولا نصل إلى شيء، ويحققون هم كل شيء، فما أحوجنا إلى وضوح الأهداف قبل السير، وأثناء السير، حتى نصل إلى أهدافنا.
- (حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ): إن الدعوة التي بدأ بها النبي -صلي الله عليه وسلم- في بطن مكة لم تكن لبناء وطن صغير؛ بل كانت إنشاءً جديدًا لأجيال وأمم تتوارث الحق، وتندفع به في رحاب المعمورة، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا) (رواه مسلم)، فتعبيد الناس لله -عز وجل- وإقامة شرعه مهمة العلماء والدعاة الربانيين.
فالعلماء -مثلاً- وهم الذين يقيسون الأمور، ويضبطونها بالضوابط الشرعية، ويدلوننا على مواطن الخيرات؛ تجدهم حاملين للرسالة وهمها دومًا، سائرين إلى الأمام حتى يفتح الله لهم، ومتى التفت الداعية وتشتت عن هدفه، وانخرط في الأحداث؛ فتَّ ذلك في عضده، وما تأخر مَن تأخر إلا لهذا الالتفات، فسير الداعية بلا التفاف للوراء، فطريقته واضحة، ورسالته عظيمة، قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران:110)، وقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104).
فمهمة الدعاة الي الله واضحة، ومن أبرز أمثلتها ربعي بن عامر في حديثه مع رستم إذ قال له: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
إذن فهمتنا وهدفنا تعبيد الناس لله -عز وجل-، وإيجاد الطائفة المؤمنة التي تعبد الله، وتقيم شرعه حتى تكون خلافة على منهاج النبوة، مهمتنا إيجاد الجيل السلفي الرباني المتميز، (وَلأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ) (رواه البخاري)، وهداية الخلق أحب إلينا مِن قتالهم، ولزوال الدنيا أهون على الله مِن قتل امرئٍ مسلم، ولذا يجب أن لا تستغرقنا الأحداث، ومهما كانت الأمور عظيمة فلابد أن تستمر المسيرة.
فقد قتل الملكُ الظالمُ الراهبَ العابدَ، وحزن الغلام، ومع ذلك استمر الغلام في دعوته، وقُتل جليس الملك، واستمر الغلام في دعوته، وتعرض الغلام لمحاولة القتل مرات ثلاث، وهو مستمر في دعوته، حتى لفظ أنفاسه، وقد آمنت البلدة بأسرها، وحقق هدفه.
فالأحداث لا تصرف عن الأهداف.
ووضع الخليل إبراهيم -عليه السلام- زوجه هاجر وابنه اسماعيل في واد لا زرع فيه ولا أنيس، وانصرف، فنادته هاجر: "يا ابراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي لا أُنس فيه ولا شيء؟"، فلم يرد عليها، ولم يلتفت إليها حتى قالت له: "أَاللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟"، قَالَ: :نَعَمْ"، قَالَتْ: "إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا" (رواه البخاري).
إن إبراهيم -عليه السلام- ينشغل ويهتم بتنفيذ أمر الله -عز وجل-، وهو صاحب القلب الذي ينبض، والمشاعر التي تتأثر، لكنه لا يلتفت عن هدفه الأساسي، ويعطي للحديث حقه، فيتوارى عنهما حيث لا تراه هاجر داعيًا لهما: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم:37).
أخي الحبيب..
لقد سجد الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في مكة، وأُلقي عليه الشقيُّ سلا الجزور، وصناديد قريش يضحكون، وظل الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ساجدًا لا يرفع رأسه، ولما رفع رأسه قال: (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ) (متفق عليه)، فلم ينصرف -صلى الله عليه وسلم- عن عبادته وصلاته لأذى المشركين، ولما أراد أن ينصرف دعا على قريش، فلا تحركه الأحداث ولا توجهه؛ وإنما يتحرك عندما تكون الحركة هي طاعة الوقت، وبالطريقة التي يراها، فلما رأت قريش أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يصرفه عن دعوته شيء؛ فكروا مرة أخرى لقمع الدعوة بأساليب جديدة؛ منها تشويه تعاليمه، وإثارة الشبهات، وبث الدعايات الكاذبة، والتعذيب والإيذاء، والمقاطعة والحصار، والمساومة.
ولكن هذا كله لم يفت في عضده؛ إذا كان هدفه واضحًا: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر؛ ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" كما روي في السير.
ولما يأتيه خباب متألمًا من شدة العذاب قائلاً: "أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟"، فلا يدعو لهم؛ بل يوضح له طبيعة الطريق قائلاً: (كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ) ، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: (وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
وتأمل في (وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ)، لا يلتفت عن هدفه وطريقه وعبادته وواجبه مهما اشتد العذاب، أو تعالت الأصوات الناعقة، فلا يضرنا نباح الكلاب.
لو كل كلب عوى ألقمته حجرًا لأصبح الصخـر مثقالاً بـديـنار
يجب علينا أن ننشغل بتعبيد الخلق للخالق، وتعليمهم، وتربيتهم، وإرشادهم إلى الحق، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، والحفاظ على عقيدتنا ومنهجنا وثوابت ديننا، فزلزلة الثوابت أخطر على المسلمين مما عداها من البلايا، ولذا يجب أن نفوِّت على أعدائنا محاولة إقحامنا في أمور بعيدة عن أهدافنا وغاياتنا.
ولنتذكر.. قوله -تعالى- لنبيه لوط -عليه السلام-: (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (الحجر:65).
أخي الحبيب.. إن الطحالب العائمة لا توقف السفن الماخرة..
سنتفاعل مع الأحداث، ونتألم لمصاب المسلمين في كل مكان في بلادنا وفي غيرها، ومن سقط منا نرجو أن يكون شهيدًا، ونهتم ونغتم، ولكننا لن نتوقف، ولن ننحرف عن طريقنا وهدفنا إن شاء الله، وشعارنا دومًا: (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ).
لقد كان مصاب الأمة في نبيها أعظم مصاب، لقد أذهل عمر، وأخرس عثمان، واضطرب الأمر حتى جاء الصِّدِّيق، فأسكت عمر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أيها الناس، مَن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومَن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، وتلا قوله -تعالى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144).
إن الحدث جلل، والأمر عظيم، ولكن فقدان الدين أعظم، فشمَّر الصديق لتحمل المسئولية قبل دفن الحبيب -صلى الله عليه وسلم-؛ لتستمر المسيرة، فهذه الدعوة لا تموت بموت رائدها.
(وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ).
أخي الحبيب..
أنت بحمد الله صاحب المنهج السديد، والمسلمون هم الذين يملكون المنهج الوحيد لإنقاذ البشرية وإحداث التغيير، ولذا فالعالم بأسره يشعر بخطر انقراض الباطل وانتشار الحق وسرعة زحفه، فلا تدع المعوِّقات المصطنعة تلفتك عن هدفك الأسمى أو تفت في عضدك؛ فالعالم بأسره ينتظرك (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ).
عارٌ على الدعاة والمعلمين أن يسبقهم ملحدٌ أو زنديق أو مشرك أو كافر أو منفذ للخطط الصهيونية، فاللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة.
أخي الحبيب..
لا تقنع بالدون؛ فالقانع قابع والتوَّاق سباق، و(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) (الأعراف:128)، وابنِ قلاعًا ولا تحفر قبورًا، وحافظ على لحوم العلماء، والزم غرزهم، وانشغل بطاعة ربك بكل حماس؛ فكلما شُغل العبد بالطاعة والعبادة؛ تكفل الله له برزقه.
أخي الحبيب..
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ . فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ . وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (الحجر:97-99).
ولا تظن -أخي الحبيب- أن طريقك سهلة ممهدة؛ بل هي وعرة مخضبة.
أخي فامضٍ لا تلتفت للـوراء طريقك قـد خضبتـه الدمـاء
ولا تـلـتـفــت هـنـا أو هـنـاك ولا تـتـطلـع لغيـر السـمـاء
وصلِّ اللهم على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
" امش ............ولا تلتفت "
تعليق