حسن الظن بالناس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار, ويصطفي للشرف من شاء من الأخيار ، شرّف رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم على كل البرية ، وجعل ذريته أشرف ذريّة .
أحمد ربي تعالى وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نتقرب إلى الله تعالى بمحبة رسوله وعترته الطاهرة الزكية صلى الله وسلم وبارك عليهم وعلى الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،
ان الإسلام دين يدعو إلى حسن الظن بالناس والابتعاد كل البعد عن سوء الظن بهم ؛ لأن سرائر الناس ودواخلهم لا يعلمها إلا الله تعالى وحده , قال تعالى : \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) سورة الحجرات .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله علية وسلم ، قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا.
أخرجه أحمد 2/312(8103) و\"البُخاري\" 6064 وفي \"الأدب المفرد\" 410.
فسوء الظن يؤدي إلى الخصومات والعداوات , وتقطع الصلات , قال تعالى : \" وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) سورة النجم .
وليس أريح لقلب العبد في هذه الحياة ولا أسعد لنفسه من حسن الظن، فبه يسلم من أذى الخواطر المقلقة التي تؤذي النفس، وتكدر البال، وتتعب الجسد.
قال تعالى : \" وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) سورة الأنعام .
والمراد بالنهي عن ظن السوء كما قال الخطابي هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يملك .
قال النووي ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر فإن هذا لا يكلف به ومعناه احذروا إتباع الظن واحذروا سوء الظن بمن لا يساء الظن به من العدول ، والظن تهمة تقع في القلب بلا دليل . انظر : شرح النووي على مسلم 8/357.
فإن المسلم بناء على ذلك مأمور بأن يحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محمل حسن ما لم يتحول الظن إلى يقين جازم، فالله عز وجل أمرنا بالتثبت فيما يصدر من الغير نحونا ونحو إخواننا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6] فكم أوقع سوء الظن السيئ من فراق بين المتحابين، وقطيعة بين المتواصلين، ولو لم يكن الظن على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في الكتاب والسنة.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله علية وسلم قَالَ:إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ : هَلَكَ النَّاسُ ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لاَ أَدْرِى أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ ، أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ. أخرجه \"أحمد\" 2/272(7671) و\"البُخاري\" في \"الأدب المفرد\" 759 و\"مسلم\" 6776.
وقد قسم الزمخشري الظن إلى واجب ومندوب وحرام ومباح:
فالواجب: حسن الظن بالله، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله علية وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ ، يَقُولُ : لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ.أخرجه أحمد 3/293(14171) و\"مسلم\" 8/165 (7331).
والحرام: سوء الظن به تعالى وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: \"إياكم والظن\" الحديث،
قال الشاعر :
فلا تظنن بربك ظن سوء *** فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيرا *** وكيف بظالم جبان جهول
وقل يا نفس مأوى كل س*** أيرجى الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوآى تجدها *** كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير*** فتلك مواهب الرب الجليل
وليس بها ولا منها ولكن *** من الرحمن فاشكر للدليل
والمندوب: حسن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين.
قال الشافعي رحمه الله :
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ ** فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَـينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيكَ مَعَـايِباً ** فَصُنْهَا وَقُلْ يَاعَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ
والجائز: مثل قول أبي بكر لعائشة: إنما هو أخواك أو أختاك، لما وقع في قلبه أن الذي في بطن امرأته اثنان. ومن ذلك سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم سوء الظن به، لأنه قد دل على نفسه، ومن ستر على نفسه لم يظن به إلا خير، ومن دخل في مداخل السوء اتهم، ومن هتك نفسه ظننا به السوء .انظر : الصنعاني : سبل السلام 4/189 بتصرف.
ولقد علم النبي صلى الله علية وسلم الصحابة رضوان الله حسن الظن بالناس ونهاهم عن سوء الظن , وطبق لهم ذلك عملياً , فعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ ، وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيٍّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله علية وسلم أَنَا ، وَالزُّبَيْرَ ، وَالْمِقْدَادَ ، فَقَالَ : ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً ، مَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا ، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ ، فَقُلْنَا : أَخْرِجِي الْكِتَابَ ، فَقَالَتْ : مَا مَعِي كِتَابٌ ، فَقُلْنَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ ، أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله علية وسلم ، فَإِذَا فِيهِ : مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبي بَلْتَعَةَ ، إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله علية وسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله علية وسلم : يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا ؟ قَالَ : لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ - قَالَ سُفْيَانُ : كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي ، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا ، وَلاَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم : صَدَقَ ، فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ ، أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ : \"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ\". - في رواية عَبْد الجَبَّار بن العَلاَء : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله علية وسلم ، وَالزُّبَيْرُ ، وَطَلْحَةُ ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ. أخرجه أحمد 1/79(600) والبُخَارِي 4/72(3007 و\"مسلم\" 7/167 (6485) و\"أبو داود\" 2650 و\"التِّرمِذي\" 3305 و\"النَّسَائي\" في \"الكبرى\" 11521 .
وعَنْ أَسْلَمَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله علية وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله علية وسلم ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم : لاَ تَلْعَنُوهُ ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. أخرجه البُخَاري 8/197(6780) شعب الإيمان - (2 / 48) (498 ).
طلب أعرابي يوماً من النبي صلى الله علية وسلم شيئاً فأعطاه ، ثم قال له : ( أأحسنت إليك ؟ فقال الأعرابي : لا ، لا أحنت ولا أجملت فغضب المسلمون وقاموا إليه ، فأشار إليهم الرسول صلى الله علية وسلم بأن كفوا ، ثم دخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً ثم قال : أأحنت إليك ؟ قال نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له الرسول صلى الله علية وسلم : إنك قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك ، قال نعم ، فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي صلى الله علية وسلم : إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه فزعم أنه رضي ، أكذلك يا أعرابي ؟ فقال الأعرابي نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فتهلل وجه الرسول صلى الله علية وسلم بشراً وقال : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق وأعلم ، فتوجه لهل صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها هوناً هوناً حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ) \" رواه ابن حبان. وانظر الشفا للقاضي عياض 1/ 253 ومناهل الصفا للحمزاوي 2.
لذا فقد سار السلف الصالح على هذا النهج القويم وطبقوه في حياتهم منهجاً وسلوكاً , يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: \"لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً \".
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي، وَفِيَّ ثَلاثُ خِصَالٍ: إِنِّي لآتِي عَلَى الآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَوَدِدْتُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ مِنْهَا، وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلِعَلِّي لا أُقاضِي إِلَيْهِ أَبَدًا، وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ، وَمَا لِي بِهِ مِنِ سَائِمَةٍ.المعجم الكبير للطبراني 9/131.
وهذا أبو دجانة رضي الله عنه :دخلوا عليه في مرضه ووجهه يتهلل! فقالوا له: ما لوجهك يتهلل؟فقال: (ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا).
لذا فإنه لا ينبغي للمسلم أن يلتفت كثيرا إلى أفعال الناس ، يراقب هذا ، ويتابع ذاك ، ويفتش عن أمر تلك ، بل الواجب عليه أن يُقبل على نفسه فيصلحَ شأنها ، ويُقوِّمَ خطأها ،
ويرتقي بها إلى مراتب الآداب والأخلاق العالية ، فإذا شغل نفسه بذلك ، لم يجد وقتا ولا فكرا يشغله في الناس وظن السوء بهم .
قال الشاعر :
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * * * مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * * * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ولقد نهى النبيصلى الله علية وسلم بسم الله الرحمن الرحيم عن تتبع أمور الناس وعوراتهم ،حرصا منه صلى الله علية وسلم على شغل المسلم نفسه بالخير ، وعدم الوقوع فيما لا يغني من الله شيئا ، فقال : يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِع اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ . رواه أبو داود (4880) ، قال العراقي في \"تخريج الإحياء\" (2/250): إسناده جيد . وصححه الألباني في \"صحيح أبي داود\" ..
إن إحسان الظن بالناس يحتاج إلى كثير من مجاهدة النفس لحملها على ذلك خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ولا يكاد يفتر عن التفريق بين المؤمنين والتحريش بينهم وأعظم أسباب قطع الطريق على الشيطان هو إحسان الظن بالمسلمين .
قال بكر بن عبد الله المزني كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: \" إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظنِّ بأخيك \".
وقال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي كما في الحلية لأبي نعيم (2/285): ( إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك؛ فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعلَّ لأخي عذراً لا أعلمه).
كان معروف الكرخي قاعدا يوم على دجلة ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون فقال له أصحابه:أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ادع عليهم فرفع يديه إلى السماء وقال:الهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له صاحبه:أنما سألناك أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم, فقال:إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم هذا. ابن الملقن : طبقات الأولياء 1/47.
قال سرّي السقطي، وكان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي مرة: الحمد للّه. قيل له: وكيف ذلك ؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني واحد وقال: نجا حانوتُك! فقلت: الحمد للّه! فأنا نادم من ذلك الوقت حيث أردتُ لنفسي خيراً من دون الناس. المناوي : فيض القدير 1/124.
روي عن السري بن مغلس السقطي أن لصاً دخل بيت مالك بن دينار فما وجد شيئاً فجاء ليخرج فناداه مالك: سلام عليكم، فقال: وعليك السلام، قال: ما حصل لكم شيء من الدنيا فترغب في شيء من الآخرة - قال: نعم، قال: توضأ من هذا المركن وصل ركعتين، ففعل ثم قال: يا سيدي أجلس إلى الصبح، قال: فلما خرج مالك إلى المسجد قال أصحابه: من هذا معك - قال: جاء يسرقنا فسرقناه. تاريخ الإسلام للذهبي 2/144.
إن سوء الظن يحمل على التجسس والتحسس والغيبة والتحاسد والتباغض والتدابر ، ويقطع العلاقة بين المتآخين . وَمَنْ حَكَمَ بِشَرٍّ عَلَى غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ حَمَلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى احْتِقَارِهِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَالْتَوَانِي فِي إكْرَامِهِ ، وَإِطَالَةِ اللِّسَانِ فِي عِرْضِهِ وَكُلُّ هَذِهِ مُهْلِكَاتٌ .
وبسبب سوء الظن - إن كان اعتقاداً في أحوال الناس - قد يخسر الإنسان الانتفاع بمن ظنه ضاراً ، أو الاهتداء بمن ظنه ضالاً ، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلاً ونحو ذلك . ولذلك فإن على الإنسان أن يحذر من هذه الآفة الضارة بالدين والدنيا ، وأن يحرص على سلامة صدره على إخوانه ؛ ليعيش هانئ البال ، مرتاح النفس ، بعيدا عن منقصات الحياة ، سالما من عناء البحث عن عورات المسلمين وتتبع عثراتهم.
عن عبد الله بن غنام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال : من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك , فلك الحمد ولك الشكر, فقد أدى شكر يومه ومن قال مثل ذلك حين يمسي , فقد أدى شكر ليلته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار, ويصطفي للشرف من شاء من الأخيار ، شرّف رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم على كل البرية ، وجعل ذريته أشرف ذريّة .
أحمد ربي تعالى وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نتقرب إلى الله تعالى بمحبة رسوله وعترته الطاهرة الزكية صلى الله وسلم وبارك عليهم وعلى الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،
ان الإسلام دين يدعو إلى حسن الظن بالناس والابتعاد كل البعد عن سوء الظن بهم ؛ لأن سرائر الناس ودواخلهم لا يعلمها إلا الله تعالى وحده , قال تعالى : \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) سورة الحجرات .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله علية وسلم ، قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا.
أخرجه أحمد 2/312(8103) و\"البُخاري\" 6064 وفي \"الأدب المفرد\" 410.
فسوء الظن يؤدي إلى الخصومات والعداوات , وتقطع الصلات , قال تعالى : \" وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) سورة النجم .
وليس أريح لقلب العبد في هذه الحياة ولا أسعد لنفسه من حسن الظن، فبه يسلم من أذى الخواطر المقلقة التي تؤذي النفس، وتكدر البال، وتتعب الجسد.
قال تعالى : \" وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) سورة الأنعام .
والمراد بالنهي عن ظن السوء كما قال الخطابي هو تحقيق الظن وتصديقه دون ما يهجس في النفس فإن ذلك لا يملك .
قال النووي ومراد الخطابي أن المحرم من الظن ما يستمر صاحبه عليه ويستقر في قلبه دون ما يعرض في القلب ولا يستقر فإن هذا لا يكلف به ومعناه احذروا إتباع الظن واحذروا سوء الظن بمن لا يساء الظن به من العدول ، والظن تهمة تقع في القلب بلا دليل . انظر : شرح النووي على مسلم 8/357.
فإن المسلم بناء على ذلك مأمور بأن يحسن الظن بإخوانه، وأن يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على محمل حسن ما لم يتحول الظن إلى يقين جازم، فالله عز وجل أمرنا بالتثبت فيما يصدر من الغير نحونا ونحو إخواننا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات: 6] فكم أوقع سوء الظن السيئ من فراق بين المتحابين، وقطيعة بين المتواصلين، ولو لم يكن الظن على درجة عظيمة من الخطورة والأهمية في إضعاف روح الموالاة بين المؤمنين لما أكد الباري عز وجل على ذلك في الكتاب والسنة.
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله علية وسلم قَالَ:إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ : هَلَكَ النَّاسُ ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ : لاَ أَدْرِى أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ ، أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ. أخرجه \"أحمد\" 2/272(7671) و\"البُخاري\" في \"الأدب المفرد\" 759 و\"مسلم\" 6776.
وقد قسم الزمخشري الظن إلى واجب ومندوب وحرام ومباح:
فالواجب: حسن الظن بالله، عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله علية وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ ، يَقُولُ : لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللهِ الظَّنَّ.أخرجه أحمد 3/293(14171) و\"مسلم\" 8/165 (7331).
والحرام: سوء الظن به تعالى وبكل من ظاهره العدالة من المسلمين، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: \"إياكم والظن\" الحديث،
قال الشاعر :
فلا تظنن بربك ظن سوء *** فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيرا *** وكيف بظالم جبان جهول
وقل يا نفس مأوى كل س*** أيرجى الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوآى تجدها *** كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير*** فتلك مواهب الرب الجليل
وليس بها ولا منها ولكن *** من الرحمن فاشكر للدليل
والمندوب: حسن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين.
قال الشافعي رحمه الله :
لِسَانَكَ لا تَذْكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئ ** فَكلُّكَ عَـوْرَاتٌ وَلِلنَّـاسِ أَلْسُــنُ
وَعَـينكَ إنْ أَبْـدَتْ إَلَيكَ مَعَـايِباً ** فَصُنْهَا وَقُلْ يَاعَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْينُ
والجائز: مثل قول أبي بكر لعائشة: إنما هو أخواك أو أختاك، لما وقع في قلبه أن الذي في بطن امرأته اثنان. ومن ذلك سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم سوء الظن به، لأنه قد دل على نفسه، ومن ستر على نفسه لم يظن به إلا خير، ومن دخل في مداخل السوء اتهم، ومن هتك نفسه ظننا به السوء .انظر : الصنعاني : سبل السلام 4/189 بتصرف.
ولقد علم النبي صلى الله علية وسلم الصحابة رضوان الله حسن الظن بالناس ونهاهم عن سوء الظن , وطبق لهم ذلك عملياً , فعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ ، وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيٍّ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَلِيًّا ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله علية وسلم أَنَا ، وَالزُّبَيْرَ ، وَالْمِقْدَادَ ، فَقَالَ : ائْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً ، مَعَهَا كِتَابٌ ، فَخُذُوهُ مِنْهَا ، فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا ، فَإِذَا نَحْنُ بِالْمَرْأَةِ ، فَقُلْنَا : أَخْرِجِي الْكِتَابَ ، فَقَالَتْ : مَا مَعِي كِتَابٌ ، فَقُلْنَا : لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ ، أَوْ لَتُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا ، فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله علية وسلم ، فَإِذَا فِيهِ : مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبي بَلْتَعَةَ ، إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله علية وسلم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله علية وسلم : يَا حَاطِبُ ، مَا هَذَا ؟ قَالَ : لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ - قَالَ سُفْيَانُ : كَانَ حَلِيفًا لَهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا - وَكَانَ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ ، أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي ، وَلَمْ أَفْعَلْهُ كُفْرًا ، وَلاَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي ، وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم : صَدَقَ ، فَقَالَ عُمَرُ : دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ ، أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ : إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَمَا يُدْرِيكَ ، لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ ، فَقَالَ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ، عَزَّ وَجَلَّ : \"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ\". - في رواية عَبْد الجَبَّار بن العَلاَء : بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله علية وسلم ، وَالزُّبَيْرُ ، وَطَلْحَةُ ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ. أخرجه أحمد 1/79(600) والبُخَارِي 4/72(3007 و\"مسلم\" 7/167 (6485) و\"أبو داود\" 2650 و\"التِّرمِذي\" 3305 و\"النَّسَائي\" في \"الكبرى\" 11521 .
وعَنْ أَسْلَمَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ؛أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله علية وسلم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللهِ صلى الله علية وسلم ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله علية وسلم : لاَ تَلْعَنُوهُ ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. أخرجه البُخَاري 8/197(6780) شعب الإيمان - (2 / 48) (498 ).
طلب أعرابي يوماً من النبي صلى الله علية وسلم شيئاً فأعطاه ، ثم قال له : ( أأحسنت إليك ؟ فقال الأعرابي : لا ، لا أحنت ولا أجملت فغضب المسلمون وقاموا إليه ، فأشار إليهم الرسول صلى الله علية وسلم بأن كفوا ، ثم دخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً ثم قال : أأحنت إليك ؟ قال نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فقال له الرسول صلى الله علية وسلم : إنك قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك ، قال نعم ، فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي صلى الله علية وسلم : إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه فزعم أنه رضي ، أكذلك يا أعرابي ؟ فقال الأعرابي نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً ، فتهلل وجه الرسول صلى الله علية وسلم بشراً وقال : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق وأعلم ، فتوجه لهل صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها هوناً هوناً حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها ، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار ) \" رواه ابن حبان. وانظر الشفا للقاضي عياض 1/ 253 ومناهل الصفا للحمزاوي 2.
لذا فقد سار السلف الصالح على هذا النهج القويم وطبقوه في حياتهم منهجاً وسلوكاً , يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: \"لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً \".
عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: شَتَمَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:إِنَّكَ لَتَشْتُمُنِي، وَفِيَّ ثَلاثُ خِصَالٍ: إِنِّي لآتِي عَلَى الآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَوَدِدْتُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ مِنْهَا، وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ يَعْدِلُ فِي حُكْمِهِ فَأَفْرَحُ بِهِ، وَلِعَلِّي لا أُقاضِي إِلَيْهِ أَبَدًا، وَإِنِّي لأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ قَدْ أَصَابَ الْبَلَدَ مِنْ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ، وَمَا لِي بِهِ مِنِ سَائِمَةٍ.المعجم الكبير للطبراني 9/131.
وهذا أبو دجانة رضي الله عنه :دخلوا عليه في مرضه ووجهه يتهلل! فقالوا له: ما لوجهك يتهلل؟فقال: (ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنتين: كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا).
لذا فإنه لا ينبغي للمسلم أن يلتفت كثيرا إلى أفعال الناس ، يراقب هذا ، ويتابع ذاك ، ويفتش عن أمر تلك ، بل الواجب عليه أن يُقبل على نفسه فيصلحَ شأنها ، ويُقوِّمَ خطأها ،
ويرتقي بها إلى مراتب الآداب والأخلاق العالية ، فإذا شغل نفسه بذلك ، لم يجد وقتا ولا فكرا يشغله في الناس وظن السوء بهم .
قال الشاعر :
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا * * * مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * * * وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا ولقد نهى النبيصلى الله علية وسلم بسم الله الرحمن الرحيم عن تتبع أمور الناس وعوراتهم ،حرصا منه صلى الله علية وسلم على شغل المسلم نفسه بالخير ، وعدم الوقوع فيما لا يغني من الله شيئا ، فقال : يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ ! لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِع اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ . رواه أبو داود (4880) ، قال العراقي في \"تخريج الإحياء\" (2/250): إسناده جيد . وصححه الألباني في \"صحيح أبي داود\" ..
إن إحسان الظن بالناس يحتاج إلى كثير من مجاهدة النفس لحملها على ذلك خاصة وأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ولا يكاد يفتر عن التفريق بين المؤمنين والتحريش بينهم وأعظم أسباب قطع الطريق على الشيطان هو إحسان الظن بالمسلمين .
قال بكر بن عبد الله المزني كما في ترجمته من تهذيب التهذيب: \" إيَّاك من الكلام ما إن أصبتَ فيه لَم تُؤجَر، وإن أخطأت فيه أثمت، وهو سوء الظنِّ بأخيك \".
وقال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي كما في الحلية لأبي نعيم (2/285): ( إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جهدك؛ فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعلَّ لأخي عذراً لا أعلمه).
كان معروف الكرخي قاعدا يوم على دجلة ببغداد فمر به صبيان في زورق يضربون بالملاهي ويشربون فقال له أصحابه:أما ترى هؤلاء يعصون الله تعالى على هذا الماء؟ادع عليهم فرفع يديه إلى السماء وقال:الهي وسيدي كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة. فقال له صاحبه:أنما سألناك أن تدعو عليهم ولم نقل ادع لهم, فقال:إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم هذا. ابن الملقن : طبقات الأولياء 1/47.
قال سرّي السقطي، وكان أوحد زمانه في الورع وعلوم التوحيد: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي مرة: الحمد للّه. قيل له: وكيف ذلك ؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني واحد وقال: نجا حانوتُك! فقلت: الحمد للّه! فأنا نادم من ذلك الوقت حيث أردتُ لنفسي خيراً من دون الناس. المناوي : فيض القدير 1/124.
روي عن السري بن مغلس السقطي أن لصاً دخل بيت مالك بن دينار فما وجد شيئاً فجاء ليخرج فناداه مالك: سلام عليكم، فقال: وعليك السلام، قال: ما حصل لكم شيء من الدنيا فترغب في شيء من الآخرة - قال: نعم، قال: توضأ من هذا المركن وصل ركعتين، ففعل ثم قال: يا سيدي أجلس إلى الصبح، قال: فلما خرج مالك إلى المسجد قال أصحابه: من هذا معك - قال: جاء يسرقنا فسرقناه. تاريخ الإسلام للذهبي 2/144.
إن سوء الظن يحمل على التجسس والتحسس والغيبة والتحاسد والتباغض والتدابر ، ويقطع العلاقة بين المتآخين . وَمَنْ حَكَمَ بِشَرٍّ عَلَى غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ حَمَلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى احْتِقَارِهِ وَعَدَمِ الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَالْتَوَانِي فِي إكْرَامِهِ ، وَإِطَالَةِ اللِّسَانِ فِي عِرْضِهِ وَكُلُّ هَذِهِ مُهْلِكَاتٌ .
وبسبب سوء الظن - إن كان اعتقاداً في أحوال الناس - قد يخسر الإنسان الانتفاع بمن ظنه ضاراً ، أو الاهتداء بمن ظنه ضالاً ، أو تحصيل العلم ممن ظنه جاهلاً ونحو ذلك . ولذلك فإن على الإنسان أن يحذر من هذه الآفة الضارة بالدين والدنيا ، وأن يحرص على سلامة صدره على إخوانه ؛ ليعيش هانئ البال ، مرتاح النفس ، بعيدا عن منقصات الحياة ، سالما من عناء البحث عن عورات المسلمين وتتبع عثراتهم.
عن عبد الله بن غنام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله علية وسلم قال : من قال حين يصبح : اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك , فلك الحمد ولك الشكر, فقد أدى شكر يومه ومن قال مثل ذلك حين يمسي , فقد أدى شكر ليلته
تعليق