هذا ديننا
ماأنصفناه
صور من سماحة الاسلام
الحمد لله وحده و الصلاة والسلام على من لا نبى بعده
أما بعد
فإن الناظر إلى أحوال الناس حيال الأزمات التى تفوح منها رائحة الطائفية خصوصا الأزمة الأخيرة بالاسكندرية , ليدهش و يعجب من تعاطيهم لتلك الأزمات وتعاملهم معها لا سيما الإعلاميين منهم أصحاب الصوت المسموع في زمن الفضائيات والانترنت و ليقف مشدوها امام هذا الكم من التعصب الأعمى .
تعصب لا يمكن أن يقال أبدا أنه رد فعل لأحداث مؤسفة وأن دافعه الوحيد هو الإشفاق و الحزن علي ما حل بالأبرياء الذين قتلوا في تلك الجريمة البشعة .
إن الهجوم علي كل ماهو إسلامي خاصة وديني عامة أثناء تلكم الأزمات لا يستطيع المراقب أن يفسره إلا أنه شىء كان مكبوتا في الصدور ثم سنحت له الفرصه أخيرا لينطلق بلا هوادة وبلا أدني درجة من تعقل أوتروي أو نظر ثاقب لمآل هذا الهجوم ونتيجة هذا التعاطي الفاسد لهذه الأزمات
مثلهم كخفافيش تعيش في ظلام الكهوف تنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض علي جراح الأمة دمائها النازفة، لتقتات علي تلك الدماء .
فكلما وقعت في هذا البلد أزمة انطلقت خفافيش الظلام والظلم العلمانى لتنكأ جراحها وتزيدها عمقاً، ونزفاً وكلما ازداد النزف ازدادت المنافع و طابت المطاعم و كثرت الغنائم، فهى أولاً وأخيراً خفافيش لا تسعي إلا للدماء ولا تعرف لها قوتا غيرها , أعنى دماء الملة التى طالما أبقتهم فى كهوفهم المظلمة دهورا فما استطاعوا بفضل مُنزلها وموحيها أن يتسربوا إلى قلوب وعقول أتباعها اللهم إلا النذر اليسير ممن اتخذ إلاهه هواه من المنتسبين إليها .
وكأنما تُسقط الأزمات هذا البدن القوى ذو البنيان السامق فيظن أولائك أن أركانه قد ضعضعت و أن رؤوسه قد أينعت و حان وقت قطافها وأن ذلكم الصرح المنيع قد صار كلأاً مستباحا ووجبت جنوب أتباعه فسارعوا إلى التهامها والإقتيات على دمائها دون بكاء على ضريحها ظنا من هؤلاء أنها أمة لا بواكى لها و إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا.
هل ما سمعناه صباحا ومساءا في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في تلكم الأيام الأخيرة إلا أبلغ دليل علي بغضاء قد بدت من أفواه بني علمان وما تخفي صدورهم أكبر؟
ولو أردنا أن نضرب الأمثلة على هذه العداة والبغضاء والتسفيه و الحط من قدر الدين التى صُدعت بها رؤوسنا فى الأيام الأخيرة لما وسعها مقال أو مقالات لا سيما و قد سخَّر العلمانيون كل إمكاناتهم ومنابرهم – وما أكثرها اليوم- لشحن الرأى العام المصرى ضد الدين والمتدينين ووصمهم بكل ما جادت به قرائحهم المريضة من اتهامات أساسها الذى تدور حوله أن الإسلاميين وخطابهم الطائفى السبب الرئيسى بل الوحيد لكارثة الإسكندرية فى تسرع مريب وسطحية مزرية لا يحسدون عليها.
- وهل هناك ما هو اكثر سطحية مع أزمة _ كان الأولي في تناولها تحليلها وشرح أبعادها وآثارها ودوافعها وحكم الدين بأدلة واضحة صريحة صحيحة عليها _ من وقوف مجموعة مقدمى برامج التوك شو على أعتاب الكاتدرائية المرقصية ليرتجلوا الزجل الرخيص لتأصيل عقيدة علمانية باطلة في نفوس المستمعين مع الإعتذار المفرط عن ذنب وجريمة يوقفوا الاسلام متهما_و ما أنآه عن ذلك_ بارتكابه هذه الجريمة أو بدفع أتباعه إلي التلبس بها
- فيخرج أحدهم (وهو إعلامى معروف بمعاداته للمتدينين وتحريش الدولة على قنواتهم منذ أسابيع ليست بالبعيدة حتى أُغلق أكثرها بعد تحريشه وا ستثارة الرأى العام ضدها) فيخرج مستغيثا بافتعال واضح وتكلف ملحوظ : أنقذوا ولدى أنا خايف على ولدى الوحيد الذى خرجت به من الدنيا , النيران ستأكل ولدى , وصيتكم ولدى كأن الإرهابيين المسلمين قد حاصروا ولده المسكين و كادوا يأكلونه حيا !!!!!
- و إعلامية أخرى فى ذات اللقاء الساهر تستدل بمقطع من أغنية لسيد درويش "اللي أوطانهم تجمعهم، عمر الأديان ماتفرقهم". لبيان مقام الدين عند هؤلاء (وكأنما صار الدين ولابد له أن يصير فى نظرهم بمرتبة ثانية او ثالثة او أخيرة و أنه هو الذى يفرق ولايجمع و لذا علينا جميعا أن ننبذه ونواجه تمزيقه للوطن السعيد بوضعه فى تلك المنزلة المتدنية وتركه فى آخر ترتيب الأولويات الوطنية لدى أولئك الأشاوس)
- و ما أحقر استدلال أحدهم بأبيات الهالك بن عربى التى لو سمعها الماسونيون والقائلون بوحدة الأديان لجعلوها دستورا لهم:
كنت قبل اليوم انكر صاحبي
ان لم يكن دينه الى ديني دان
قد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان و دير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
و الواح توراه و مصحف قرآن
ادين بدين الحب انى توجهت ركائبه
فالحب ديني و ايماني
و الأبيات كما نرى لاتحتاج لنجاستها تعليقا يزيدها انتقاصا ودناءة
إلى غير ذلك مما تقيأه علينا نجوم التوك شو فى تلك اللقاءات التى لا تحصى
و بدلا من أن يعني الاعلام بدور علمي محترم يتصدي فيه للحدث بشرح أبعاده و دوافعه وأسبابه وآثاره وأن ينشغل باستضافة العلماء والخبراء والمحللين ليضعوا أيديهم علي حقيقة المشكلة أسباب الإحتقان الطائفى عند الطرفين ويبرزوا حلولا سليمة لا تتعارض أبدا وأحكام الشرع الحنيف انشغلوا بهذا التناول الركيك واستبقوا فيما بينهم أيهم الأشد بكاءا وعويلا ولطما للخدود وشقا للجيوب
صار التنافس في إلقاء المشاريع والاقتراحات التي مبناها كلها علي تقديم فروض الإعتذار وإبداء الندم وتقبيل القدم علي خطيئة الإسلام والمسلمين والمسارعة بالتبرؤ من هذا الدين المتطرف _كما يحلو لهم إظهاره_ والذي تسببت أحكامه وخطاب أتباعه في تلك الكارثة , في مظاهرة متكلفة مفتعلة علي أعتاب الأديرة والكنائس لطلب العفو والسماح وكأنما قد انتهت التحقيقات وثبتت التهمة علي المسلمين بالذات المتدينين منهم أو من يسمونهم بالأصوليين.
وبدلا من إبراز أهل الخبرة والدراية لتوعية الناس وتحصينهم من الفتن تفرغوا للقاءات الممثلين و المطربين الذين صدعوا رؤوسنا برؤاهم التافهة التي ليس فيها أثارة من علم أو فقه أو حتي دراية بواقع الأمة وكأنما صار الواجب المفروض علي الناس أن يتلقوا دينهم وفكرهم من هذه الحفنه من الراقصين والراقصات والفنانين والفنانات الذين هم فى الحقيقة أجهل من دوابهم بهذه الامور السامية .
ثم يبدأ تحليل هذه الثلة من الجهابذة لأسباب هذا التطرف عند مرتكب الجريمة و دائما ما تكون نتيجة هذه التحاليل واحدة ليس لها إلا وجهة ثابتة وهى توجيه أصابع الإتهام إلى اهل العلم والدعاة وقنوات الفتنة كما يسمونها ومنابر الزوايا التى لا يعتليها إلا الجهلة فى نظرهم والتي طالب زعيم الكوميديا إياه بإغلاقها أومنع خطباء الفتنة منها لأن زميل نجله النصرانى يقول "أنا خايف أنزل الشارع أحسن المسلمين يذبحونى " وكأن المساجد بلارقيب وكأن أجهزة الأمن غافلة عما يقال فيها بينما المستمعون مجموعة من القتلة والمرتزقة ينتظرون من الإمام تحريكهم لإحراق الأخضر و اليابس مما تبقى من أوطانهم.
ويخرج زميله الكوميدى النصرانى ( ولا أدرى ما علا قة الكوميديين والمضحكين فى هذه الأيام بالذات بالفكر والتحليل) فيتحف الناس فى حوار دام لأكثر من ساعتين لم نخرج منها إلا بطلب رئيسى وحل جوهرى توصل إليه بحنكة مدهشة وهو: وجوب الإقلاع الفورى والعاجل عن تلك العادة المستحدثة على المجتمع من استعمال كلمة مسلم ومسيحى و ما ينفك عن الصراخ طوال الحلقة مطالبا بمنع استعمال هاتين الكلمتين ومحوهما تماما من قاموس الألفاظ المستعملة فى الشوارع والمدارس والبيوت والمقاهى والأدهى المساجد والكنائس ( ولا ندرى طوال الحلقة أين إذا تستعمل هذه الكلمات فى رأيه؟ وما أن سألت نفسى هذا السؤال إلا وقفزت إلا ذهنى صورة هزلية تجيب عنه لرجل يصرخ فى المكان الوحيد عند هذا النجم العبقرى الذى تركه لنا مشكورا مسموحا أن يقال فيه أنا مسلم ألا و هو الخلاء !!!)
فتطور الامر عند العلمانيين من مطالبة بحبس الدين ببيوت العبادة إلى ماهو أكثر فوصلوا إلى المطالبة بمحوه تماما وعدم التجؤ بالتلفظ حتى بعنوانه
و ليس بخافٍ على أحد السعى الحثيث والعمل الدؤوب من هؤلاء لإلغاء خانة الديانة من بطاقة الهوية ومن مناهج التعليم و القنوات الفضائية حتى لم يتبق إلا أن يصرحوا برغبتهم الحقيقية التى لم تعد دفينة بإلغاء الدين كله وطمس كل ما يمت له بصلة.
كل ذلك في تعجل مريب واستباق مزرٍ للأحداث والبدء باتهام الدين و أهله مع تجاهل متعمد لنظريات ورؤي استراتيجية تشير بقوة إلى تنظيمات خارجية لها علاقة بالموساد أو غيره من أصحاب المصالح الحقيقية والمنتفعين بتفريق هذه الأمة و الذين آخرهم بلاشك هم المتدينون الذين يعلمون جيدا أنهم سيكونون كبش الفداء والقربان الأوحد في هذه الازمة كما كان وسيكون دائما إلا ان يقضي الله امرا من عنده ويجعل بعد عسر يسرا .
و بدلا من هذه الدعوات الجوفاء والرموز والشعارات العشرينيه المندثرة التي لا دلالة فيها ولا تسمن ولاتغني من جوع ناهيك عما تحويه من المناهي الشرعية الواضحة لأدني طالب علم أو مثقف ديني بسيط
كان الأجدر بأصحاب تلك الشعارات ومن تسرعوا بإحيائها من مواتها أن يُصدِّروا أهل العلم الأكفّاء الذين هم ملوك هذه الأمة بغير تيجان وأصحاب التأثير الحقيقي علي قلوب و عقول المسلمين فيُقَدموا لتناول الازمة – لا للإعتذار والدفاع عن ذنب الاسلام ليس متهما فيه ولا نقبل كما سبق و اوضحت في مقال سابق بعنوان (لا ولن يتهم) - ولكن لإبراز الصورة الناصعة والتاريخ المشرق لهذا الدين .
ولو فعلوا ذلك لوصلت الرسالة ولتم المقصد الأسمى الذي يزعمون أنهم يدعون إليه من وأد للفتنة في مهدها وإحكام لترابط هذا الوطن وإرساء لإستقراره.
فالإسلام بقرآنه وسنته وتاريخه الصحيح المعروف زاخر بالأدلة والمواقف التي لاتكاد تملك العين نفسها من أن تذرف الدمع تاثرا وانبهارا بهذا الدين وبسماحة اتباعه وكرمهم الذين لم يري التاريخ ولن يري مثلهم (كنتم خير أمة أخرجت للناس)
وبدلا من الاستدلال كما حدث من أحدهم بفيلم ليوسف شاهين وعبارته المنسوبة لصلاح الدين بلا إسناد واحد معروف (الدين لله والوطن للجميع) كان من الممكن الرجوع لتاريخ صلاح الدين الحقيقى المدون فى كتب التراث وتعامله الراقى مع أهل الذمة الذى سنذكر إن شاء الله طرفا منه فى هذا المبحث.
وكان من الممكن كذلك بدلا من الاستدلال الأعجب لفضيلة المفتي حين سُئل عن حسن معاملة الاسلام لأهل الذمة فاستدل بفيلم حسن ومرقص للزعيم إياه – ذاك الفيلم الذي قال المحللون أنه نقض لكل ما يمت لعقيدة الولاء والبراء بصلة و الذى ساوى فيه زعيم الكوميديا السوداء (هداه الله) بين عقائد المسلمين وغيرهم وارسل رسالة من خلاله مفادها انه لا فارق بين أن يعتلى منبر المسلمين ليعظ ويعلم شيخ مسلم موحد أو من بدأ دروسه ومحاضرته فى الفيلم باسم الآب والابن والروح القدس كما حدث فعلا فى مشهد من الفيلم المستدل به حين جلس القس ليعظ المسلمين على أنه شيخ مسلم و بدأ يعلمهم دينهم الذى لا يعرف عنه شيئا وهم يهتفون طربا كقطيع من الجهال ثم يرفعوا القس على رؤوسهم و يتبركون بولايته التى لمسوها دون أن يجرؤ الفيلم على تقديم نظير ذلك عند الآخر أو حتى ما يقاربه .
كان من الممكن لفضيلة المفتي بدلا من هذه الأدلة السينمائية أن يتعرض مثلا لتعامل النبي المتسامح مع من آذاه من اليهود أو يعرض عهده لنصاري نجران أو تعامل الخلفاء ومن جاء بعدهم مع اهل الذمة أو غير ذلك مما يعرفه جيدا من التاريخ الحق لهذه الملة السمحة.
وكان من الممكن لصاحب المنصب الدينى الأكبر أن يستعمل الألفاظ القرآنية التى لا شك يحفظها من بر و إقساط وسلام لتكون الحل الوحيد للأزمة بدلا من أن يكون حله الذى طرحه تعانق شعار طالما نقده دينه وما سكت عنه كتابه ولا نبيه .
إنني وللحق أقول قد فوجئت بكم الأحاديث والآثار الصحيحة التي فتح الله بها وأنا أجهز لهذا الموضوع عن سماحة الإسلام حتي ان عيني ذرفت الدمع تأثرا لما رأت من عظمة هذا الدين
وتعجبت وصارحت نفسي ان هناك نوعا من التقصير في عرض هذا الجانب المشرق من بعض –لااقول كل- من يتصدي للكلام في قضية الولاء والبراء مع الإعتراف بعلمهم وعظم مقامهم .
نعم للأسف هناك بعض عدم التوازن عند عرض عقيدة الولاء والبراء علي العامة وطلبة العلم عند بعض من تكلموا فيها وشرحوها فتبسط المساحات الواسعه لاظهار فساد عقيدة التثليث وهذا امر موجود لا ننكره تواترت عليه الادلة ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ ))
وتفرد الصفحات لبيان عدم جواز المودة القلبية وهذا أيضا ثابت بالأدلة القرآنية (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))
ثم تعرض الاحاديث التي تنص علي عدم المبادأة بالسلام والتضييق في الطريق وهي احاديث صحيحة ثابتة وان كان هناك بعض التفصيل في تطبيقها اورده العلماء في مطولاتهم الفقهية وقد يتيسر عرضه قريبا إن شاء الله
لكن حينما ناتي إلى قضايا التسامح و البر و الإقساط الذى عليها مدار المعاملة مع الذمى وغير المحارب المعاهد تجد المساحات تقل وكأنما قد قصرت الصفحات عن عرض التطبيق الواقعي لسلفنا الصالح لهذه العقيدة وجمعها مع الأدلة الاخري الكثيرة التي نصت علي حقوق الذميين وحسن معاملتهم وعدم انتقاصهم أو ظلمهم أو التعدى عليهم والوصايا المتعددة من النبي وخلفائه بذلك.
فنجد الاكتفاء بعرض بعض المعاملات الجائزة من بيع وشراء واهداء وغير ذلك من صنوف المعاملات المباحة ودن تفصيل لكيفيتها وآدابها فى كثير من الأحيان
ولذا قد تجد نوعا من الحيرة عند بعض الملتزمين عند التعامل مع اهل الكتاب ناهيك عن تخبط بعض العوام الذين لم يعرفوا شيئا عن اهل الكتاب إلا أنهم كفرة لايستحقون نظرة متسامحة ولا حسن معشر أو جوار.
و البعض نظرا لتغليب ذاك الجانب من الأدلة التي نصت علي كفر المثلثين ومن عبدوا المسيح و أمه علي الجانب الاخر من الأدلة التي تواترت علي حسن معاملة الذمي وبره والإقساط إليه فطغى عليهم النفور والاشمئزاز من اهل ذمتهم فصاروا أقرب في تعاملهم معهم إلى التعالى والاحتقار.
ولااقول أبدا ان هذا يتطور إلى العنف معهم – فهذا إن ثبت وقوعه فمن فعل الجهلة المدعين الذين لم يتنسموا ريح العلم وما انثنت ركبهم تحت أقدام الربانيين من العلماء – لكن مجرد وجود هذا التعامل الفظ و النظرة المستهجنة والهمز واللمز عند بعضهم يعد تغليبا لجانب من الأدلة علي الآخر والقاعدة المعمول بها دائما عند تعدد الادلة فى المسألة" أن إعمال الدليلين أولي من إهمال أحدهما"
ولقد أجاد العلمانيون وأعداء الصحوة المباركة فى تلقف هذه الأخبار و إبرازها على أنها الجانب الوحيد و أن كل ماسيجنيه الناس من العودة لأحكام الدين هو التضييق على النصارى فى الشوارع كأنما لم يقل النبى فى شأن غير المسلمين إلا هذا الحديث (الذى أعود وأكرر هو حديث صحيح لا نبرأ منه)
لذا قررت أن ابدأ فى محاولة عرض هذا الجانب المشرق الذي أهمله البعض _و أؤكد ليس الكل_ لنعرف ونتأكد أن ديننا ومبادئه يمثل الحل لكل أزمة وإظهار شرعتنا وتاريخنا أولي من الإكتفاء بالدفاع المبهم وترديد الكلمة التى بليت من كثرة الاستعمال "الاسلام برىء مما يحدث "
و قد دفعنى للكتابة بتفصيل فى هذا الموضوع ما وجدت من تفاعل عدد كبير من إخوانى حين طرحت هذا الموضوع علي المنبر وأبرزت بعضا من المواقف التي وقفت عليها في باب التسامح مع أهل الذمة وحسن معاملة أهل الكتاب فكان مدار رد الفعل علي المفاجأة مما قيل و لمست دهشة و انبهارا وافقا ما كان عندى حين شرعت فى تحضير الخطبة والاطلاع على كلام أهل العلم سلفا وخلفا فى هذا الموضوع وهو ليس انبهارا بكلام الفقير فلم يآت بشىء من عند نفسه لكن يقينى أنه انبهار بكمِّ الأدلة والمواقف التى تظهر هذا الجانب العظيم من ديننا حتي أن احدهم اقسم لي انه كان يظن قبل هذه الخطبة ان الذمي مجرد كلب لايُحسن إليه الا من باب الاحسان إلى الحيوانات والرفق بها وما كان يعلم أن الإسلام والمسلمين أكرموهم وعنوا بحقوقهم وقاموا عليها لهذه الدرجة.
فاستعنت بالله وقررت ان أُفرد لهذا الموضوع بعضا من المساحة لإظهار هذا الوجه المشرق و النماذج المشرفة لتسامح المسلمين وحسن معاملتهم لغيرهم
اولا : صور من التسامح والانصاف القراني
والآيات تتواتر فى كتاب الله مظهرة معنى السماحة والعدل مع غير المسلمين لا سيما المعاهدين منهم أو المستأمنين أو أهل الذمة و ترغيب القرآن في البر والإقساط إلى المخالفين الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين كما في آية الممتحنة )لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فالبر و الإقساط أصل قرآنى فى معاملة غير المحارب والذمى و المعاهد كما فى قوله(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً(
· ومن أبلغ الأمثلة على رعاية حقوق الذميين فى كتاب الله والإقساط معهم سبب نزول هذه الآيات من سورة النساء من أول قوله تعالى إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُنْ لّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَىَ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً * هَا أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً...... الآيات)
و قد أورد ابن الجوزي في تفسيره (زاد المسير..) أقوالا ثلاثة في سبب نزول الآية:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما}(النساء:105).
أحدها: أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النعمان, وكان الدرع في جراب فيه دقيق, فجعل الدقيق ينتشر من خرق الجراب, حتى انتهى إلى الدار, ثم خبأها عند رجل من اليهود, فالتمست الدرع عند طعمة, فلم توجد عنده, وحلف: ما لي بها علم, فقال: أصحابها, بلى والله, لقد دخل علينا فأخذها, وطلبنا أثره حتى دخل داره, فرأينا أثر الدقيق, فلما حلف تركوه, واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه, فقال: دفعها إليَّ طعمة, فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله, وليجادل عن صاحبنا فانه بريء, فأتوه فكلموه في ذلك, فهم أن يفعل, وأن يعاقب اليهودي فنزلت هذه الآيات كلها, رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أن رجلا من اليهود استودع طعمة بن أُبيرق درعا, فخانها فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليل الأنصاري, فجادل قوم طعمة عنه, وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يبرأه, ويكذب اليهودي, فنزلت الآيات, هذا قول السدي ومقاتل.
والثالث أن مشربة رفاعة بن زيد نُقبت, وأُخذ طعامه وسلاحه, فاتهم به بني أُبيرق, وكانوا ثلاثة بشير, ومبشر, وبشر, فذهب قتادة بن النعمان إلى النبي, فقال: يا رسول الله إن أهل بيت منا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد, وأخذوا سلاحه وطعامه, فقال: انظر في ذلك, فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي فقالوا: إن قتادة بن النعمان وعمه, عمدوا إلى أهل بيت منا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقتادة: رميتهم بالسرقة على غير بينة فنزلت هذه الآيات, قاله قتادة بن النعمان. وفى هذا الموقف أعظم العبر التى تظهر لنا مدى سماحة هذا الدين فها هو القرآن ينزل بتبرئة يهودى وعلى حساب من؟رجل من الأنصار صحيح أنه تبين بعد ذلك أنه كان منافقا لكن العبرة فى وقتها لم يُعلم ذلك ونزلت الآيات تفضحه وتصف اليهودى بالبراءة {ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً}
و قد أجاد صاحب الظلال رحمه الله حين أجمل القصة مستجمعاً أطرافها من عدة مصادر, وهي تقارب ما أورده ابن الجوزي في القول الثالث غير أنه أضاف أن السارق وهو من بني أبيرق قد ألقى الدرع المسروقة في بيت رجل يهودي (اسمه زيد بن السمين), وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع, وألقيتها في بيت فلان, وستوجد عنده, فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله: إن صاحبنا بريء, وإن الذي سرق الدرع فلان, وقد أحطنا بذلك علما, فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس, وجادل عنه, فانه إن لم يعصمه الله بك يهلك.. ولما عرف رسول الله أن الدرع وجدت في بيت اليهودي وكاد اليهودى أن يحد فى الدرع لولا أن برأته الآيات
و يستخلص صاحب الظلال من هذه القصة جملة من العبر والدلالات فيما يلي إيراد لبعضها:
• إن المسألة لم تكن مجرد تبرئة بريء, تآمرت عليه عصبة لتوقعه في الاتهام، وإن كانت تبرئة بريء أمراً هائلا ثقيلا في ميزان الله، إنما كانت أكبر من ذلك. كانت هي إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى, ولا مع العصبية, ولا يتأرجح مع المودة والشنآن أياً كانت الملابسات والأحوال.
• كانت المسألة هي تطهير هذا المجتمع الجديد, وعلاج عناصر الضعف البشري فيه مع علاج رواسب الجاهلية والعصبية، في كل صورها حتى في صورة العقيدة, إذا تعلق الأمر بإقامة العدل بين الناس، وإقامة هذا المجتمع الجديد, الفريد في تاريخ البشرية على القاعدة الطيبة النظيفة الصلبة المتينة التي لا تدنسها شوائب الهوى والمصلحة والعصبية, والتي لا تترجرج مع الأهواء والميول والشهوات.
لقد كان هناك أكثر من سبب للإغضاء عن الحادث, أو عدم التشديد فيه والتنديد به وكشفه هكذا لجميع الأبصار, بل فضحه بين الناس على هذا النحو العنيف المكشوف. ثم يذكر من تلك الأسباب: أن هذا المتهم “يهودي".. من:"يهود" التي لا تدع سهما مسموما تملكه إلا أطلقته في حرب الإسلام وأهله, وثمة سبب ثان: وهو أن الأمر في الأنصار, الذين آووا ونصروا, والذين قد يوجد هذا الحادث بين بعض بيوتهم ما يوجد من الضغائن, بينما أن اتجاه الاتهام إلى يهودي, يبعد شبح الشقاق, وهنالك سبب ثالث: هو عدم إعطاء اليهود سهما جديدا يوجهونه إلى الأنصار, وهو أن بعضهم يسرق بعضا, ثم يتهمون اليهود, وهم لا يدعون هذه الفرصة تفلت للتشهير بهم والتغرير. ومع ذلك يظهر الحق و يبرأ اليهودى على حسلب المسلم الأنصارى فيالها من سماحة وياله من أقساط بل ياله من دين. (فى ظلا ل القرآن بتصرف و أصل الروية بتمامها عند الترمذى بإسناد حسن)
- وتتجلى هذه السماحة كذلك في قول الله في شأن الوالدين المشركين اللذين يحاولان إخراج ابنهما من التوحيد إلى الشرك: (وصاحبهما في الدنيا معروفًا) (لقمان: 15(
- وفي قوله يصف الأبرار من عباد الله: (ويُطْعِمُون الطعام على حبِّهِ مسكينًا ويتيمًا وأسِيرًا) (الإنسان: 8) ولم يكن الأسير حين نزلت الآية إلا من المشركين أو غير المسلمين أيا كان صنفهم.
- بل و يأمر القرآن بإجارة المشرك إن استجار حتى يسمع دعوة الحق ثم وإن لم يرض الدخول فى الملة يؤمَّن ولا يلقى هملا لعدم إسلامه{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }
- وقوله يجيب سؤال بعض المسلمين عن مشروعية الإنفاق على ذويهم وجيرانهم من غير المسلمين: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تُنْفِقُوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) (البقرة: 272) كما ورد فى بعض أسباب نزول الآية.
وقد عظم القرآن قدر النفس مطلقا كما فى قوله تعالى(من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون).- و جعل الدية على قتلهم من المسلمين خطأ قال تعالى: ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله و تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما) النساء 92
بل وقدم الدية على تحرير الرقبة فى حال المعاهد المقتول ولو كان كافراً فى حين جاء التحرير مقدما على الدية فى حال المؤمن وذلك كما قال العلماء للمسارعة في التأكيد على أن المسلمين ما زالوا على العهد، وأن ما حصل من قتل تلك النفس كان خطأ غير مقصود.
· و لقد ظهر فى كثير من الآيات مبدأ الحرية فى إعتناق الدين واحترام حق الآخر فى الإختلاف وعدم إجبار أى مخلوق على الانتقال إلى الإسلام و أظهر الأدلة على ذلك قوله تعالى: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)، (البقرة: 256) وقوله سبحانه: (أفأنت تُكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين)؟ (يونس: 99).
قال ابن كثير في تفسير ه للآية الأولى : أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.
وسبب نزول الآية يوضح هذا المبدأ بجلاء كما ذكر المفسرون بل يبين جانبًا مهما من إعجاز هذا الدين، فقد رووا عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة -قليلة النسل- فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تُهَوِّدَه (كان يفعل ذلك نساء الأنصار في الجاهلية) فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقال آباؤهم: لا ندع أبناءنا (يعنون: لا ندعهم يعتنقون اليهودية) فأنزل الله عز وجل هذه الآية: (لا إكراه في الدين). (نسبه ابن كثير إلى ابن جرير، قال: "قد رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن حيان في صحيحه وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك . . " تفسير ابن كثير ج ـ 1 ص 310).
فرغم أن محاولات الإكراه كانت من آباء يريدون حماية أبنائهم من التبعية لأعدائهم المحاربين الذين يخالفونهم في دينهم وقوميتهم، ورغم الظروف الخاصة التي دخل بها الأبناء دين اليهودية وهم صغار، ورغم ما كان يسود العالم كله حينذاك من موجات الاضطهاد للمخالفين في المذهب، فضلاً عن الدين، كما كان في مذهب الدولة الرومانية التي خيَّرت رعاياها حينًا بين التنصر والقتل، فلما تبنت المذهب "الملكاني" أقامت المذابح لكل مَن لا يدين به ممن خالفهم المذهب من اليعاقبة وغيرهم.
رغم كل هذا، رفض القرآن الإكراه، بل مَن هداه الله وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بيِّنة، ومَن أعمى الله قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مُكرَهًا مقسورًا ـ كما قال ابن كثيرـ . فالإيمان عند المسلمين ليس مجرد كلمة تُلفظ باللسان أو طقوس تُؤدَّى بالأبدان، بل أساسه إقرار القلب وإذعانه وتسليمه.ولهذا لم يعرف التاريخ شعبًا مسلمًا حاول إجبار أهل الذمة على الإسلام، كما أقر بذلك المؤرخون الغربيون أنفسهم.(سماحة الإسلام للدكتور عمر بن عبد العزيز)
- وكذلك صان الإسلام لغير المسلمين معابدهم ورعى حرمة شعائرهم، بل جعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية هذه الأماكن، وذلك في قوله تعالى: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج: 39 - 40).و المساجد معروفة أما ما قبلها فلا خلاف أنها بيوت العبادة لغير المسلمين التى احترمها الإسلام ونهى عن هدمها.
- وتظهر السماحة كذلك فى إختيار أحسن الأساليب لدعوة المخالف ومناظرته (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وأحسن أسلوب تفضيل فالمأمور به ليس مجرد الحسن و لكن الأحسن
- كما أرشد القرآن إلى أن الاختلاف مع أهل الكتاب لا يمنع من حسن التعامل معهم وتبادل المنافع المادية بينهم قال تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ )
- بل و أذن أن تكون من نسائهم أمهات لأبنائنا ومن رجالهم أخوال لذريتنا (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ {المائدة 5}
- بل و يأمر بالصفح والعفو قدر الوسع إذا ظهرت خيانة (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
- فإذا استحكمت تلك الخيانة وصاروا خطرا محدقا بالأمة لم يأذن القرآن فى الغدر بهم بل يعلنوا و يُؤذنوا بالحرب على سواء ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ )[ سورة الأنفال - الآية 58 ]. فلا يعاملوا كما تعاملوا ولا يغدر بهم كما فعلو ا يعلن لهم أن العهد قد انتهى واننا فى حل منه بسبب هذه الخيانة فما أروع هذه الأخلاق وما أصفى معينها
وللننظر إلى النقد القرآنى لليهود حينما لم يرعوا حقوق غيرهم فنزل فيهم:((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)آل عمران
كل ذلك وغيض من فيض وقليل من كثير من أدلة قرآنية صريحة نصت على العدل و البر و الإقساط مع غير المسلمين مما لا يتسع البحث لذكرها جميعا وأكتفى بهذا القدر اليسير لأنتقل إلى التسامح النبوى مع الخالفين
ثانيا : صور من التسامح النبوي
فإن المتأمل لسيرة الحبيب ليذهل من هذا التعامل الراقى مع مخالفيه بل مع أعدائه ومحاربيه وقد شملت رحمته بالعالمين كل من عاملهم حتى فى مواطن تستباح فيها الدماء و يتخفف فيها من قيود البر و التسامح وهى مواطن الجهاد والحرب لم يفعل هو ذلك بل ظلت الأخلاق النبوية الراقية هى السمة الغالبة على جهاده فما بالنا بسلمه وإن كنا قد سمعنا أوشهدنا جرائم أعداء الإسلام في حق الشعوب المسلمة قديما وحديثا فإننا نجد في المقابل صورا رائعة من سماحة المسلمين حين ملكوا وقادوا مستنين بهدى قائدهم .
ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فلا عجبا هذا التفاوت بيننا فكل إناء بما فيه ينضح
فنبينا هو الذي لم يُبح حتي في حالات الحرب - التي يستباح فيها كما قدمنا مالا يستباح في غيرها - قتل المسالم أو الناسك في صومعتة أو الطفل و المرأة والشيخ وقد كانت وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لجنود الاسلام في القتال تفيض كلماتها بمطلق التسامح وغاية الرحمة الانسانية, فكان كما ذكر بن عبّاس رضي الله عنهما: إذا بعث جيوشه قائلا:" أخرجوا باسم الله تعالى , تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله, لا تغدروا, ولا تغلوا, ولا تمثلوا, ولا تقتلوا الولدان, ولا أصحاب الصوامع". رواه أحمد.
وكما روى أنس رضي الله عنه: أنه عليه الصلاة والسلام قال:" انطلقوا باسم الله, وبالله, وعلى ملّة رسول الله, لا تقتلوا شيخا فانيا, ولا طفلا صغيرا ولا امرأة, ولا تغلّوا, وضمّوا غنائمكم, وأصلحوا, وأحسنوا, ان الله يحب المحسنين".رواه الإمام أحمد، ولأبي داود عن أنس مرفوعاً نحوه،
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان
وعن حنظلة الكاتب قال :
غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمررنا على امرأة مقتولة قد اجتمع عليها الناس، فأفرجوا له فقال: " ما كانت هذه تقاتل فيمن يقاتل !" رواه أبو داود:3/122،121. ح (2666). وابن ماجة، واللفظ له: 3/380. ح(2842) والحديث صحيح. ينظر نصب الراية: الزيلعي: 3/387. والتلخيص الحبير: ابن حجر: 4/102.
ثم قال لرجل : " انطلق إلى خالد بن الوليد فقل له إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمرك يقول: لا تقتلن ذرية ولا عسيفا .." . رواه أحمد في المسند
وقال – ذات يوم في معركة مستنكرًا على بعض أصحابه - :
" ما بال قوم جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية !" .فقال رجل : يا رسول الله :إنما هم أولاد المشركين ! فقال : "ألا إن خياركم أبناء المشركين .." .ثم قال : " ألا لا تقتلوا ذرية ، ألا لا تقتلوا ذرية !! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يهب عنها لسانها فأبواها يهودانها و ينصرانها " . أخرجه أحمد ( 3 / 435 ) و الدارمي ( 2 / 223 ) و الحاكم ( 2 / 123 ) و البيهقي ( 9 / 77 )و صححه الألبانى
نبينا هو من أوصانا بأهل الذمة عامة كما عند أبى داود في السنن عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عن آبائهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه وأحاجه) يوم القيامة
وقال " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة إن ريحها توجد مسيرة اربعين عاما" ونحوه لأحمد من طريق هلال بن يساف عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم " سيكون قوم لهم عهد فمن قتل منهم رجلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما " وعند الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة بلفظ " من مسيرة مائة عام " وفي الطبراني عن أبي بكرة " خمسمائة عام " ووقع في الموطأ في حديث آخر " إن ريحها يوجد من مسيرة خمسمائة عام " وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير من حديث أبي هريرة , وفي حديث لجابر ذكره صاحب الفردوس " إن ريح الجنة يدرك من مسيرة ألف عام "
· وروى أبو داود في السنن عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبِيهِ عن جَدّهِ قال قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدّ مُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرّيهمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ "
· بل حتى الكافر بإطلاق راعى النبى عهد الأمان معه فقال صلى الله عليه وسلم(أيمُّا رجل أمنَ رجلاً على دمه ثم قتله فأنا من القاتل بريء، وإن كان المقتول كافرًا)( رواه ابن حبان رقم 5982 وقال شعيب الأرناؤط إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيحالجامع 6103
أما القبط "و هم أهل مصر لغة " فلهمشأن خاص ومنزلة متميزة، فقد أوصى بهم رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- وصية خاصة،يعيها عقل كل مسلم، ويضعها في السويداء من قلبه.
فقد روت أم المؤمنين أم سلمةرضي الله عنها أن رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل اللّه" (أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/62 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).
وفي حديث آخر عن أبي عبد الرحمن الحبلي ـ عبد الله بن يزيد ـ وعمرو بن حريثأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "... فاستوصوا لهم خيرًا، فإنهم قوة لكم،وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" يعني قبط مصر.(رواه ابن حبان في صحيحه كما في المورد (2315) وقال الهيثمي 10/64: رواه أبو يعلي ورجاله رجال الصحيح).
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضيالله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم ستفتحون أرضًا يذكر فيهاالقيراط، (القيراط: جزء من أجزاء الدرهم والدينار وغيرهما، وكان أهل مصر يكثرون مناستعماله والتكلم به، بل هم لا يزالون كذلك بالنسبة للمساحة وللصاغة وغيرهما، وكلشيء قابل لأن يقسم إلى 24 قيراطًا)، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا"
وفي رواية: "إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما" أو قال : "ذمة وصهرا".(الحديث بروايته فيصحيح مسلم رقم (2543) باب وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- بأهل مصر، وفي مسند أحمد 5/174).
قال العلـماء: الرحم التي لهم: كون هاجر أم إسـماعيل عليه السلاممنـهم، والصهر: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم (ذكرذلك النووي في رياض الصالحين، حديث (334) ط. المكتب الإسلامي).
ولا غرو أن ذكرالإمام النووي هذا الحديث في كتابه: "رياض الصالحين" في باب "بر الوالدين وصلةالأرحام" إشارة إلى هذه الرحم التي أمر الله ورسوله بها أن توصل بين المسلمين وبينأهل مصر، حتى قبل أن يسلموا.
وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا فتحت مصر فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم دمًا ورحما"، وفي رواية: "إن لهم ذمة ورحما" يعني أن أم إسماعيل منهم (أورده الهيثمي 10/62 وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيحوصححه الألباني، كما رواه الحاكم بالرواية الثانية وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2/753 وعند الزهري: الرحم بأن أم إسماعيل منهم).
والرسول يجعل للقبط هنا من الحقوق أكثر مما لغيرهم، فلهمالذمة أي عهد الله وعهد رسوله وعهد جماعة المسلمين، وهو عهد جدير أن يراعى ويصان. ولهم رحم ودم وقرابة ليست لغيرهم، فقد كانت هاجر أم إسماعيل أبي العرب المستعربة منهم، بالإضافة إلى مارية القبطية التي أنجب منها عليه الصلاة والسلام ابنهإبراهيم.
هذا عن كلامه صلوات الله وسلامه عليه
أما عن مواقفه فقد امتلأت كتب السيرة و الحديث بالمواقف الواضحة التى فيها أبلغ الدلالات
فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم التسامح و العفو و الحلم ويتعامل بذلك حتى مع المنافقين
مع أنهم يمثلون أعداء الداخل فلقد عفى رسول اللهصلى الله عليه وسلم عنهم مراراً،
وفي عهده تنوعت خطايا وأخطاء المنافقين في المدينة ومع وضوح ذلك له فقد تجاوز عنهموصفح أملا في هدايتهم, بل إنه صلي الله عليه وسلم كلما هم عمر بن الخطاب بقتلمنافق كان عليه الصلاة والسلام يبادره ناهيا له قائلا : لا يتحدثالناس ان محمدا يقتل أصحابه
وقد استغفر صلي الله عليه وسلم لرأس المنافقين ابن سلولويظهر عمر مرة أخري في هذا الموقف وقد استكثر استغفار النبي لرأس النفاق والقيام عليقبره فيقول عمر لرسول الله صلى الله عليهوسلم: أتصلي عليه وهو الذيفعل وفعل؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ياعمر، إني خُيّرت فاخترت قد قيل لي : "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ َتسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ"، ولو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت) أخرجه البخاري، ثم أعطي ابنه قميصه ليكفن فيه.
فنسخ جواز الصلاة عليهم بقوله تعالى: "وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ"[التوبة:84]، لكنالتسامح لم ينسخ أبداً.التسامح الذى جعله يزورهلما مرض، ويصلى عليه لمامات، وينزل على قبره، ويلبسه قميصه، وهذا الرجل هو الذي آذى رسول الله صلى اللهعليه وسلم في عرضه يوم حادثة الإفك وهو القائل لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منه الأذل وهو الذى انسب بثلث الجيش يوم أحد وهو القائل سمن كلبك يأكلك والمتعاون مع اليهود الخونة ومع ذلك إختار النبى العفو مه والإستغفار له
كما عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي « بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم فقال له : اعدل يا رسول الله ، فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل ؟ قال عمر بن الخطاب : دعني أضرب عنقه ، قال دعه فنزلت فيه { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ }». إنها غاية السماحة إذ لم ينتصر رسول الله صلى الله عليه وسلملنفسه بل عفا عنه و كان قادرا على عقابه .
وكذلك للنبى مواقف كثيرة فى التسامح مع المشركين
· وقد روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ومدون مذهبه: أن النبي -صلى الله عليهوسلم- بعث إلى أهل مكة مالاً لما قحطوا ليوزع على فقرائهم (شرح السير الكبير: 1/144)، هذا على الرغم مما قاساه من أهل مكة من العنت والأذى هو وأصحابه.
· وأثناء صلح الحديبية حين خرج علين المسلمين ثلاثون شابا عليهم السلاح ببطن مكة ، فثاروا في وجوههم ،فدعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الله بأبصارهم ، فقاموا إليهم فأخذوهم أى الصحابة ،فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل جئتم في عهد أحد ، أو هل جعل لكم أحدأمانًا " ، فقالوا : لا ، فخلى سبيلهم ، فأنزل الله عز وجل { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } إلى قوله { بَصِيرًا }» (1) . لقدكان بإمكانه أن يأسرهم أو أن يقتلهم ولكن سماحته تأبى ذلك
بل قال لهم ولغيرهم من أهل مكة حينما فتحها : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
· وقد تجلّت روح التسامحعند النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال لهم: من دخل دار أبيسفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن , ومن ألقى السلاح فهو آمن
· ومن تسامحهمع المشركين أيضًا أنه كان لا يمنع صلة المسلمين بأهلهم المشركين فقد أخرج البخاريبسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : « : يا رسول اله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها ؟! قال : "نعم، صلي أمك"
· و في الصحيحين عن أبي مرة مولى أم هانىء بنت أبي طالب أنه سمع أم هانىء بنت أبي طالب تقول: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره، قالت: فسلمت عليه، فقال: (من هذه). فقلت: أنا أم هانىء بنت أبي طالب، فقال: (مرحبا بأم هانىء). فلما فرغ من غسله. قام فصلى ثماني ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف، قلت: يا رسول الله، زعم ابن أمي، أنه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء). قالت أم هانىء: وذاك ضحى
· ومن مواقف السماحة والعفو في حياته صلى الله عليه وسلم حينما هم أعرابي بقتله حين رآه نائما تحت ظل شجرة وقد علق سيفه عليه فعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه غزا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قبل نجد فلما قفل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قفل معهم فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يدعونا وإذا عنده أعرابي فقال: إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا قال: من يمنعك مني؟ قلت: اللَّه ثلاثا ، ولم يعاقبه وجلس. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
· وفي رواية قال جابر: كنا مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فجاء رجل من المشركين وسيف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم معلق بالشجرة فاخترطه فقال: تخافني؟ قال : لا فقال: فمن يمنعك مني؟ قال اللَّه ، فسقط السيف من يده فأخذ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم السيف فقال: من يمنعك مني؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه؟ قال: لا ولكني أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله، فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس
وتتجلى هذه السماحة كذلك في معاملة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأهل الكتاب يهودًا كانوا أو نـصارى،
فقـد كان يزورهم ويكرمهـم، ويحـسن إليهم، ويعــود مرضــاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم.
وذكر ابن إسحاق في السيرة: أن وفد نجران ـ وهم من النصارى ــ لما قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، دخلوا عليه مسجده بعد العصر، فكانت صلاتهم، فقاموا يصلون في مسجده، فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دعوهم" فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم.
وعقب ابن القيم على هذه القصة في "الهدي النبوي" فذكر مما فيها من الفقه: (جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين .. وتمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين، وفي مساجدهم أيضًا، إذا كان ذلك عارضًا، ولا يمكنون من اعتياد ذلك). (زاد المعاد جـ3، ط مطبعة السنة المحمدية و إسناده فيه كلام ،
ثم حاوروا الرسول e و حاورهم بسعة صدر ورحابة فكر و جادلهم بالتي هي أحسن ومع أنه أقام الحجة عليهم إلا أنه لم يكرههم على الدخول في الإسلام بل ترك لهم الحرية في الاختيار ، وقد أسلم بعضهم بعدما رجعوا إلى نجران
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران أعظم مبادىء التسامح و الرقى كما روى أبو يوسف في "الخراج" ما جاء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل نجران: "ولنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أموالهم وملتهم وبِيَعهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير... ". (الخراج ص 72).
وفى رواية "بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد النبي، إلى الأسقف أبي الحارث، وأساقفة نجران، وكهنتهم، ومن تبعهم، ورهبانهم : إن لهم ما تحت أيديهم، من قليل أو كثير من بيَعهم وصلواتهم، ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله، لا يُغيّر أُسقف من أُسقفيتّه، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته. ولا يُغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه . [على ذلك جوار الله ورسوله أبدًا ]، ما نصحوا واصطلحوا فيما عليهم، غير مثقَلين بظلم ولا ظالمين"
وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم الى المدينة كان بعض اليهود قد استوطنوا المدينة لانهم كانوا على علم بان هناك نبي سوف يبعث ويهاجر الى المدينة ، وكان اعتقادهم انه لا نبي الا من بني اسرائيل، وبه كانوا يهددون العرب {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} (89) سورة البقرة
و رغم الجحود والنكران ورغم المكائد والعداوت الظاهرة؛ فقد عاملهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه رضي الله عنهم والحكومات الإسلامية المتعاقبة من بعدهم بلطف و سماحة لم ير اليهود مثلها
والنماذج في اطار العلاقات الاجتماعية والتعامل التجاري مع مخالفيه من غير المسلمين في البيع والشراء والأخذ والعطاء يصعب حصرها وسنكتفي ببعضها للاشارة والتذكير فحسب كما في الروايات الصحيحة عند البخاري ومسلم وغيرهم
· وقد بدأت هذه العلاقة بإعلان العهد بين المسلمين و اليهود الذي اشتمل على سبع وأربعين فقرة منها مايخص موادعة اليهود كما يأتي :
1. إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموامحاربين .
2. وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم ، فإنهلا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته .
3. وإن على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم،
4. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وإن بينهم النصح والنصيحةوالبر دون الإثم .
5. وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصلحونهويلبسونه ، وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك ، فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب فيالدين .
6. وإن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البرالمحض من أهل هذه الصحيفة ، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب الا على نفسه
7. وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره .
- وإنه لا يحول هذا الكتاب دونظالم أو آثم ، وإنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة ، إلا من ظلم وأثم
- وروى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم يَعُودُهُ فَقَعَدَعِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ أَسْلِمْ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ لَهُ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وآله وسلّم فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلّم وَهُوَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ
- وروى البخاري أيضا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُعَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ . وانه صلى الله عليه وآله وسلّم قبض وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وقد كان في وسعه أن يستقرض من أصحابه،وما كانوا ليضنوا عليه بشيء، ولكنه أراد أن يعلم أمته.
وروى أبو عبيد في "الأموال" عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- تصدق بصدقة على أهل بيت من اليهود، فهي تجري عليهم (الأموال ص 613).
· و لما رأي جنازة يهودي قام فقيل له إنها ليهودي فقال أليست نفسا؟ رواه البخارى
· ومن المواقف الدالة على سماحته صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين هذا الموقف مع يهودي يدعى زيد بن سعنة أراد أن يختبر حلمه صلى الله عليه وسلم :
قال زيد لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما قال فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله فذكر قصة إسلافه للنبي صلى الله عليه وسلم مالا في ثمرة قال فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت يا محمد ألا تقضيني حقي فوالله ما علمتكم بني عبدالمطلب لمطل قال فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير ثم قال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل ما أرى فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم ثم قال أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر فأسلم زيد بن سعية رضي الله عنه وشهد بقية المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي عام تبوك رحمه
- حتي في حال الاذي المباشر حين تتجلى خسة اليهود و غدرهم نجد سماحته معهم كما حدث مع لبيد بن الأعصم الذي سحرالنبي في مشط ومشاطة وجف طلع نخل ذكر في بئر روان، وحينما أخبر عائشة بذلك قالت له: أفلا استخرجته ؟ قال: { قد عافاني، فكرهت أن أثير على الناس فيه شرا، فأمر بها فدفنت }البخاري الطب (5430) ،و رواه مسلم باب السلام
· وفى موقف اليهودية التى أهدته الشاة المسمومة فلما زعمت تأولها وأنها ظنت أنه لو كان نبيا لم تضره عفا عنها و لم يأمر بعقابها
وغير ذلك كثير مما يُسطر بمداد من نور أجمل كله فى قول ربنا وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
ثالثا : صور من تسامح الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أمراء المسلمين في القرون الفاضلة ومن تبعهم بإحسان من الحكام و الولاة
1. صور من تسامح الصديق رضى الله عنه
يسطر التاريخ بحروف من ذهب دستور الخليفة الأول وميثاقه الذى أوصى به جيش أسامة و كل من خرج بعده من جيوش المسلمين و هو ميثاق خرج من مشكاة النبوة التى استضاء الصديق من نوره وا ستقى كلماته من معينها فقال: (يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له(فى رواية :" وستمرون على قوم في الصوامع رهبانا يزعمون أنهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم". وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم اللّه عليها) الى آخر ما ذكره رضي الله عنه رواه مالك في الموطأ - كتاب الجهاد باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو رقم (10). ورواه البيهقي في السنن الكبرى (9/89)
وفي خلافة أبي بكر أيضاكتب خالد بن الوليد في عقد الذمة لأهل الحيرة بالعراق- وكانوا من النصارى - : " وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل ، أو أصابته آفة من الآفات أوكان غنيا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله".
ويعد اجماع للصحابة واقرار من ابي بكر لوجودهم زمان كتابته وعد ظهور مخالف لما ورد فيه
2. صور من تسامح الفاروق رضى الله عنه
من الملحوظ و المشاهد دائما حينما يأتى الكلام عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يُبرز فيه جانب الشدة وتُظهر فى الغالب المواقف التي تدل علي قوته في الحق وما أكثرها لكن العجيب أن الباحث إذا مابدأ فى التنقيب فى تلك السيرة العطرة لابد له أن يفاجأ بكم المواقف التى تمتلىء بالسماحة والرفق مع الضعفاء مسلمين وغير مسلمين فالحقيقة ان لعمر رضى الله عنه بالذات له النصيب الاوفر من مواقف التسامح والرفق باهل الذمة التى وردت وصحت فى كتب السير والتراجم منها علي سبيل المثال
1) احترام رغبتهم في استلامه لمفاتيح القدس بنفسه فذهب قاطعا الصحارى والوديان هو وخادهمه يقتسمان الظهر متناوبين عليه ويدخل فى قمة التواضع الذى مازاده إلى رفعة وعزة
ويصف الحدث المستشرق الفرنسي الكبير "جوستاف لوبون""(Gustave Le Bon)
فيصفدخول عمر بن الخطاب بيت المقدس فاتحًا فيقول: "فلما دخل القدس أبدى من التسامحالعظيم نحو أهلها ما أمنوا به على دينهم وأموالهم وعاداتهم، ولم يفرض سوى جزيةزهيدة عليهم، وأبدى المسلمون تسامحاً مثل هذا تجاه المدن السورية الأخرى كلها، ولميلبث جميع سكانها أن رضوا بسيادة المسلمين، واعتنق أكثر أولئك السكان الإسلام بدلاً منالنصرانية، وأقبلوا على تعلم اللغة العربية".[
2) وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حُريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: "هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . " كما رواه الطبري . (تاريخ الطبري ط . دار المعارف بمصر ج ـ 3 ص 609).
3) وفي عهد عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما أن: "امنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحلها".
4) و قد كان عمر رضي الله عنه يسأل الوافدين عليه من الأقاليم عن حال أهل الذمة، خشية أن يكون أحد من المسلمين قد أفضى إليهم بأذى، فيقولون له: " ما نعلم إلا وفاءً" (تاريخ الطبري ج ـ 4 ص 218) أي بمقتضى العهد والعقد الذي بينهم وبين المسلمين، وهذا يقتضي أن كلاً من الطرفين وفَّى بما عليه.
5) ومنه ما جاء فيكتاب الخراج لأبى يوسف أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل : شيخ كبير ضرير البصر ، وبعد ان علم انه من أهل الكتاب قال : فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال : أسأل للجزية والحاجة والسن ، قال : فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله رضي الله عنه فرضخ له بشيء من المنزل ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال : انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) والفقراء هم المسلمون ، وهذا من المساكين من أهل الكتاب ، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه ثم أجرى عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه
6) وعند مقدمهِ "الجابية" من أرض دمشق مَرَّ في طريقه بقوم مجذومين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجرى عليهم القوت (البلاذري في فتوح البلدان ص 177 ط . بيروت) . ـ أي تتولى الدولة القيام بطعامهم ومؤونتهم بصفة منتظمة.
7) ولننظر كذلك لعهده إلى قائد جيشه فى حرب فارس : ( وإذا لاعب أحدكم أحد العلوج _أى جندى من الفرس_ فظن هذا أنَّ المسلم يعطيه بذلك أمانا فأنْفِذْهُ له ! يا لله ! ويا لروعة المرتقى ! إنه لا عهد في الحقيقة ! ولكنه مجرد توهم من جانب الفارس أنَّ الجندي المسلم قد أعطاه أماناً ! فيقول عمر لقائده : فأنفذه له ! , إنه ليس فقط إنفاذ العهد الذي لم يصدر في الواقع من الجندي , ولكنه كذلك إلزام القائد بعهد توهم العدو أنَّ واحداً من المسلمين قد أعطاه ! هل سمع أحد بمثل ذلك في التاريخ ؟ ! ضع مقابل ذلك ما فعله الصليبيون أيام صلاح الدين .كان المسلمون معهم في هدنة حقيقية وليس مجرد وهم , ولكنهم غدروا وأخذوا المسلمين على غرة , فانحاز المسلمون إلى المسجد الأقصى , فاقتحموه عليهم , وأعملوا فيهم السيف حتى غاصت الخيل في الدم إلى ركبها , كما تروي مراجع الصليبيين أنفسهم!
8) وعن يحيى بن سعيد الأنصاري؛ قال: حدثني محمد بن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: اختصم يهودي ومسلم إلى عمر؛فرأى عمر الحق لليهودي، فقضى على المسلم؛ فقال اليهودي: واللهإن الملكين جبريل وميكائيل لينطقان على لسانه.
9) ولقد طلبت قبيلة تغلب العربيةالكبيرةمن أميرالمؤمنين عمرأن يسقط عنهم كلمة الجزية فإنهم قوم عرب يأنفون من قبول هذه الكلمة وليأخذ منهم ما يشاء باسما لزكاة أوالصدقة،وقد تردد في أول الأمر،ثم قَبِل ذلك بعدها لأن المقصود أن يدفعوا للدولة مايثبت ولاءهم ومشاركتهم لها في الأعباء. ومن هنا رأى أن العبرة بالمضامين و ليس بالمسميات فقبل منهم ذلك
10) وحين اشتكت إليه امرأة قبطية من عمرو بن العاص الذي ضم بيتها إلى المسجد أرسل إليه عمرو وسأله عن ذلك فقال إن المسجد ضاق بالمسلمين ولم أجد بدا من ضم البيوت المحيطة بالمسجد وعرضت على هذه المرأة ثمنا باهظا فأبت أن تأخذه فادخرته لها في بيت المال وانتزعت ملكيتها مراعاة للمصلحة العامة لكن الفاروق عمر أمره بأن يهدم هذا الجزء الذي للمسجد ويعيد بناءه كما كان لصاحبته . من روائع حضارتنا للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ص 85 بتصرف
11) وأشهر الأمثلة على ذلك وان كان فى اسنادها ضعفا الا اننا نذكرها استئناسا قصة القبطي مع عمرو بن العاص والي مصر ؛ حيث ضرب ابن عمرو ابن القبطي بالسوط وقال له: أنا ابن الأكرمين! فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في المدينة وشكا إليه، فاستدعى الخليفة عمرو بن العاص وابنه، وأعطى السوط لابن القبطي وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدرها على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطانه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني . ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: "يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟.ومما يستحق التسجيل في هذه القصة: أن الناس قد شعروا بكرامتهم وإنسانيتهم في ظل الإسلام، حتى إن لطمة يُلطَمها أحدهم بغير حق، يستنكرها ويستقبحها، وقد كانت تقع آلاف مثل هذه الحادثة وما هو أكبر منها في عهد الرومان وغيرهم، فلا يحرك بها أحد رأسًا، ولكن شعور الفرد بحقه وكرامته في كنف الدولة الإسلامية جعل المظلوم يركب المشاق، ويتجشم وعثاء السفر الطويل من مصر إلى المدينة المنوَّرة، واثقاً بأن حقه لن يضيع، وأن شكاته ستجد أذنًا صاغية.
12) وأصيب عمر فى نهاية تلك الرحلة العظيمة بضربة من رجل من أهل الذمة ــ أبي لؤلؤة المجوسي ــ فلم يمنعه ذلك أن يوصي الخليفة من بعده وهو على فراش الموت فيقول: "أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، أن يوفي بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وألا يكلفهم فوق طاقتهم" (أخرجه البخاري في الصحيح، ويحيى بن آدم فيالخراج ص 74، والبيهقي في السنن 9/206 باب الوصاة بأهل الكتاب)
وهذا لعمرى مالا يتصوره عقل يلفظ أنفاسه الأخيرة وينازع السكرات ولا ينسى ذمة المسلمين وعهدهم حتى وهو فى آخر لحظاته ولا عجب فى ذلك لم يعرف هذا التسامح ولم يتنسم عبير أخلاق هذا الدين
3)صور من تسامح علي بن ابي طالب رضى الله عنه وعدله معهم
• فما أعظم موقفه عند التحاكم لشريح القاضى بعد ان سرق اليهودي درعهكما فى كتاب تاريخ القضاةلوكيع يروي : مقاضاة علي ابن ابي طالب رضي الله عنه يهودي عند شريح القاضي فيدرع ، قال علي : هذه الدرع درعي، لم أبع، ولم أهب، فقال لليهودي: ما تقول ؟ قال: درعي وفي يدي، وقال شريح: يا أمير المؤمنين هل من بينة ؟ قال: نعم الحسن ابني،وقنبر يشهدان أن الدرع ردعي، قال شريح: يا أمير المؤمنين شهادة الابن للأب لا تجوز،فقال علي: سبحان الله! رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، سمعت رسول الله صلى اللهعليه وسلم يقول: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة(وفى رواية فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بيِّنة ). وقضى شريح ليهودى بالدرع، لأنه صاحب اليد عليها، ولم تقم بينة عليّ بخلاف ذلك . فأخذها هذا الرجل ومضى، ولم يمش خطوات، حتى عاد يقول: أما إني أشهد أن هذه أحكام أنبياء! أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه فيقضي لي عليه! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، الدرع درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين، فخرجت من بعيرك الأورق فقال علي رضي الله عنه: أما إذ أسلمت فهي لك! وتوجه مع علي يقاتل معه بالنهروانفقتل.(البداية والنهاية لابن كثير ج ـ 8 ص 4 - 5).
وهي واقعة تغني عن كل تعليق.
• و كذلك ما روي أن عليًّا أُتي برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة قاصدا ، فقامت عليه البيِّنة، فأمر بقتله، فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت، قال: فلعلهم هددوك وفرقوك، قال: لا، ولكن قتله لا يرد علَيَّ أخي، وعوَّضوا لي ورضيتُ . قال: أنت أعلم؛ من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا، وديته كديتنا. (أخرجه الطبراني والبيهقي) .(السنن الكبرى ج ـ 8 ص 34). وفيه كلام
• و قد روى عنه فى هذا المقام قوله : "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا"(المغني ج ـ 8 ص 445، البدائع ج ـ 7 ص 111 نقلاً عن أحكام الذميين والمستأمنين ص 89).
• وفي رواية أنه قال: "إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا".
• وكتب عليٌّ رضي الله عنه إلى بعض ولاته على الخراج: "إذا قدمتَ عليهم فلا تأخذن منهم كسوة شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابة يعملون عليها، ولا تضربن أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهم، ولا تقمه على رجله في طلب درهم، ولا تبع لأحد منهم عَرضًا (متاعًا) في شيء من الخراج، فإنما أُمِرنا أن نأخذ منهم العفو، فإن أنت خالفتَ ما أمرتك به، يأخذك الله به دوني، وإن بلغني عنك خلاف ذلك عزلتك" . قال الوالي: إذن أرجع إليك كما خرجت من عندك! (يعني أن الناس لا يُدفعون إلا بالشدة) قال: وإن رجعتَ كما خرجتَ" . (الخراج لأبي يوسف ص 15 - 16، وانظر: السنن الكبرى أيضًا ج ـ 9 ص )
فياله من تجرد و وما أعظمه من عدل حتى لو أدى ذلك إلى نقص فى مصدر مهم من مصادر دخل الدولة إلا أنه لم يتردد فى التضحية به لإحقاق العدل و إرساء مبادىء السماحة الإسلامية.
4)صور من تسامح معاوية رضى الله عنه
وهذا أنموذج آخر في زمن معاوية رضى الله عنه فإنه لما نما إلى علمه إعداد الروم المعاهدين للغدر بالمسلمين والإغارة على دولته أراد أن يبدأ هو بمفاجأتهم و الهجوم عليهم وكسر شوكتم و استشار أعوانه من أهل العلم ممن بقى من الصحابة والتابعين فانكروا ذلك وأبوا أن يتم الهجوم إلا بإعلان و تلوا عليه قوله تعالى وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ )[ سورة الأنفال - الآية 58 ] ورضخ معاوية رضى الله عنه لرأيهم و قيل ساعتها تلك المقولة الشهيرة "وفاء بغدر خيرٌ من غدر بعذر"
5)صور من تسامح عمرو بن العاص رضى الله عنه
إن من أبلغ الأدلة على تسامح عمرو وجود النصارى الآن فى مصر آمنين مكرمين وعلى ملتهم التى كانوا عليها فلولا فضل الله أن قيد لهم هذا الفتح الإسلامى العظيم على يد المسلمين لكانوا من الهالكين على يد نصارى الروم الكاثوليك الذين ساموهم سوء العذاب على مدار عقود من الزمان و أجبروهم على الفرار للصحارى والإعتزال فى الأديرة وما رجعوا آمنين إلى الحضر إلا بتأمين عمرو لهم وإذنه لقائدهم بالرجوع وذلك بعد أن نصر الله المسلمين وفتحوا مصر وخلوا بين الناس وربهم فمن شاء دخل الإسلام ومن شاء بقى على دينه وقبلت منه الجزية .
و قد كانت وثيقة الصلح التي عقدها عمرو بن العاص t مع أهل مصر إحدى مظاهر التسامح الديني، فقد تمتع المصريون من خلالها بحرية دينية كاملة لم يعهدوها من قبل ، وهذا نص الوثيقة:"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر، الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم ، وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص، ولا يساكنهم النوب، وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف(يقصد الفيضان)، وعليهم ما جنى لُصوتُهم (جمع لِصْت، وهو اللص)، فإن أبى أحد منهم أن يجيب رُفِعَ عنهم الجزاء بقدرهم، وذمتنا ممن أبى بريئة، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى، رفع عنهم بقدر ذلك، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه، أو يخرج من سلطاننا، عليهم ما عليهم أثلاثًا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم، على ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمته وذمة رسوله، وذمة الخليفة أمير المؤمنين، وذمم المؤمنين، وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسًا، وكذا وكذا فرسًا، على ألا يُغْزَوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة. شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه، وكتب وردان وحضر".
وعلى نفس نهج التسامح والعدل سار من جاء بعدهم من خلفاء و ولاة الدول الإسلامية المتعاقبة و هذه نماذج من ذلك:
صور من تسامح الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله
ولهذا الخليفة الأموى العادل نصيب وافر من المواقف السامية التى يفوح منه العبق العمرى (نسبة لجده الفاروق) و التى ظهر فيها عدله وبدا من خلالها تسامحه
• و منها ما كتبه رحمه الله إلى عدي بن أرطأة : وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.
• وعندما أمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله مناديه لينادى فى الناس : ألا من كانت له مظلمة فليرفعها ، قام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال : يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال : وما ذاك ؟ قال : العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي . والعباس جالس ، فقال له عمر : يا عباس ما تقول ؟ قال : نعم أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلا ، فقال عمر : ما تقول يا ذمي ؟ قال : يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى ، فقال عمر : نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد قم فاردد عليه ضيعته فردها عليه. كما في كتاب البداية والنهاية لابن كثير
• و قبل إمارته للمؤمنين أثناء إمارة الوليد بن عبد الملك كان قد أخذ الوليد كنيسة "يوحنا" من النصارى، وأدخلها في المسجد . فلما اسْتُخْلِفَ عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم، فكتب إلى عامله برد ما زاده في المسجد عليهم، لولا أنهم تراضوا مع الوالي على أساس أن يُعوَّضوا بما يرضيهم . (فتوح البلدان ص 171 172 . وقصة هذه الكنيسة كما يحكيها البلاذري أن خلفاء بني أمية منذ عهد معاوية، ثم عبد الملك، حاولوا أن يسترضوا النصارى ليزيدوا مساحة المسجد الأموي، واسترضوهم عنها، فرفضوا، وفي أيام الوليد، جمعهم وبذل لهم مالاً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا، فقال: لئن لم تفعلوا لأهدمنها فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين، إن مَن هدم كنيسة جُنَّ وأصابته عاهة! فأغضبه قولهم، ودعا بمعول وجعل يهدم بعض حيطانها بيده، ثم جمع الفعلة والنقاضين، فهدموها . وأدخلها في المسجد، فلما اسْتُخْلِف عمر بن عبد العزيز شكا إليه النصارى ما فعل بهم الوليد في كنيستهم . فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم! (أي بهدمه وإعادته كنيسة) فكره أهل دمشق ذلك وقالوا: نهدم مسجدنا بعد أن أذَّنَّا فيه وصلينا د وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء وأقبلوا على النصارى يسترضونهم . فسألوهم أن يعطوا جميع كنائس الغوطة التي أُخذت عنوة (أي عند الفتح) وصارت في أيدي المسلمين، على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا، ويمسكوا عن المطالبة بها، فرضوا بذلك وأعجبهم . فكتب بذلك إلى عمر فسره وأمضاه).
• وما أعظم موقف فتح سمرقند الذى يملأ النفس بالعزة و الفرحة لإنتماء المرء لهذا الدين و انتسابه لهذه الأمة التى لم يشهد التاريخ مثلها
ففي عهد عمر بن عبد العزيز فتح الله على الجيش الإسلامي مدينة سمرقند (إحدى دولالاتحاد السوفيتي السابق)... ولم يمهل قائد الجيوش الإسلامية العظيم قتيبة ابنمسلم رحمه الله أهل المدينة ثلاثة أيام.. كما هى شروط الحروب الإسلامية من إمهال أهلالأمصار التي يريد أن يفتحها المسلمون ثلاثة أيام يخير فيها أهلها إما الإسلاموإما أن يدفعوا الجزية وإما أن يقاتلوا ... فدخل الجيش الإسلامي مدينة سمرقند بدونأن يمهل أهلها ثلاثاً ...
فقام أهل سمرقند بإرسال رسول يحمل شكواهم إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز .. فقال هذا الرسول واسمعوا لما قال :
فذهبتأقطع الطرق والبلاد حتى وصلت إلى دمشق عاصمة الخلافة ودخلت أعظم بناء في المدينةفوجدت أناس يركعون ويقومون ويسجدون فسألت أحدهم أهذه دار الوالي ... فقال لي لا هذاالمسجد أما صليت .. قلت له ما صليت قط إنني على دين أهل سمرقند .. فأخذ يحدثني عنالإسلام حتى اعتقنته .. ثم قال لي أسلك ذلك الطريق في نهايته بيت تلك دار الأمير .. فذهبت فإذا بي أجد رجل قد ارتقى سلماً بأعلى الدار ووجدت امرأة على الأرض تناولهالطين ليسد فتحة في الدار .. فرجعت إلى الذي دلني وقلت له أسألك عن دار الأمير فتدلني على بيت رجل طيان..؟؟؟ فقال لي تلك دار الوالي ..
فرجعت فوجدت الرجلفقلت له إني رسول لك من أهل سمرقند وسلمته الرسالة فقرأها ثم قلبها وكتب عليها منالخلف ..
من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله على سمرقند .. أن نصب قاضياًينظر في شكوى كهنتها .. ثم ختمها و أعطاني الرسالة .. فانطلقت من عنده وأنا أحدثنفسي بأن أرمي هذه الورقة .. فماذا ستفعل هذه الورقة في إخراج الجيش العرمرمالجرار الذى فتح مدينة سمرقند ... ولولا أني قد خشيت ألا يصدقني كهنة سمرقند لكنتألقيتها .. يقول - وما زال الحديث للرسول - فرجعت وكلما وجدت مسجداً نزلت فصليت بهبين المسلمين حتى وصلت إلى سمرقند وسلمت كهنتها الرسالة وحينما قرأوها ضاقت عليهمالأرض بما رحبت .. وقالوا ماذا تفيد هذه الورقة .. ثم ذهبوا إلى الوالي المسلم وسلموه الرسالة .. فما كان منه إلا أن نصب قاضياً في الحال ... وجاء القاضي بأطرافالنزاع كهنة سمرقند فسألهم (ما دعواكم يا أهل سمرقند؟) فقالوا اجتاحنا قتيبة بن مسلمولم يمهلنا ثلاثة كعادة المسلمين ... فقال القاضي لنائب قتيبة وقد مات قتيبه عليهرحمة الله ما ردك فقال : لقد كانت أرضهم خصبة وقد خشي قتيبة عليه رحمة الله أنيتحصنوا ويتمنعوا داخل مدينتهم فباغتهم ودخل عليهم ... فقال القاضي كلمات تحتاج منا أن نعيها ونتأملها :
لقد خرجنا ندعو إلى الله ولم نخرج لأخذ الأرض أشراً وبطراً
ثم حكمبأن يخرج الجيش الإسلامي من المدينة.. ولم يصدق أهل مدينة سمرقند وظنوا أن الأمرمجرد كلام .. وما غربت شمس ذلك اليوم إلا وقد خرجت جيوش المسلمين جميعاً .. وبعثوابرسالة إلى أهل سمرقند يمهلونهم بمدة كافية إما أن يدفعوا الجزية أو أنيعتنقوا الإسلام أو الحرب .... فغلب الانبهار على أهل سمرقند و أيقنوا بأن هذا دين رحمة وعدلففتحوا أسوار مدينتهم وأسلم منهم من أسلم وهادن من هادن .... وانضمت أراضي سمرقند إلىالخلافة الإسلاميةطوعا
فهل رأينا في التاريخ كله أن يُحكَّم قاض من دولةالمنتصرة على جيشها وأميرها ويحكم بأن يخرج قومه من مدينة قد فتحوها بالحرب إلا فى تاريخ المسلمين الوضىء؟
صور من تسامح صلاح الدين رحمه الله
ونستطيع أن نجمع ما يظهر الفارق الجلى بين تسامح المسلمين وقسوة غيرهم فى عهد صلاح الدين فى أحداث يومين و وهما بالمناسبة جمعتان
أما الأول فكان يوم الجمعة الموافق 15 يونية من سنة 1099م (492هـ)، يومًا من الأيام السوداء في تاريخ القدس إن لم يكن الأكثر سوادا.
كان يوم المأتم بحقٍّ كما سمى بعدها، أو يوم (الجنائز الجماعية).
فلعدة أيام سابقة كانت جيوش الصليبيين (الباسلة) التي كانت امتدادًا لما عرف بحملة الأمراء قد اقتحمت أسوار القدس، ودخلتها وقتلت معظم من فيها من السكان، لدرجة أنهم في ساحة المسجد الأقصى قتلوا أكثر من سبعين ألفًًا (كما يذكر المؤرخ المسلم ابن الأثير)!! وذلك في يوم الجمعة 15 يونية 1099م (492هـ).
وربما اتُهم ابن الأثير بالمبالغًة لأنه مسلم، لذا فلنترك الحديث للمؤرخ الصليبي (وليم الصوري).. يقول وليم:
"لقد اندفعوا -أي جيوش الصليبيين- خلال شوارع المدينة مستلِّين سيوفهم، وقتلوا جميع من صادفوا من الأعداء، بصرف النظر عن العمر أو الحالة ودون تمييز... وقد انتشرت المذابح المخيفة في كل مكان، وتكدست الرءوس المقطوعة في كل ناحية، بحيث تعذَّر الانتقال إلاّ على جثث المقتولين" (!!!).
ويقول وليم:"وكان القادة -أي الأمراء!!- قد شقوا في وقت سابق طريقًا لهم، وأحدثوا عندما تقدموا قتلاً لا يوصف... وتبع موكبَهم حشدٌ من الناس؛ متعطش للدماء، ومصمِّم على الإبادة".
ويقول (وليم) حاكيًا المزيد من الأمجاد الأوربية ا-:
"لقد كانت المجزرة التي ارتكبت في كل مكان من المدينة مخيفة جدًّا، وكان سفك الدماء رهيبًا جدًَّا، لدرجة عانى فيها حتى المنتصرون من أحاسيس الرعب والاشمئزاز" (!!).
ويقول: "وعَلِم القادة الآخرون بعد أن كانوا قد قتلوا من واجهوا في الأجزاء المختلفة من المدينة، أن الكثير قد هربوا للالتجاء في الأروقة المقدسة للهيكل (يعنى بالهيكل الأقصى كما يزعمون )؛ ولذلك اندفعوا بالإجماع إلى هناك, ودخلت مجموعة كبيرة من الفرسان والرَّجَّالة قتلتْ جميع الذين كانوا قد التجئوا إلى هناك، ولم تظهر أي شفقة لأي واحد منهم، وغمر المكان كله بدم الضحايا".
ويكمل (وليم الصوري) وصف المجزرة البشعة ، قائلاً: "وطاف بقية الجنود خلال المدينة بحثًا عن التعساء الباقين على قيد الحياة، والذين يمكن أن يكونوا مختبئين في مداخل ضيِّقة وطرق فرعية للنجاة من الموت، وسُحب هؤلاء على مرأى الجميع وذُبحوا كالأغنام، وتشكل البعض في زُمَرٍ واقتحموا المنازل، حتى قبضوا على أرباب الأسر وزوجاتهم وأطفالهم، وجميع أسرهم وقُتلت هذه الضحايا، أو قُذفت من مكان مرتفع حيث هلكت بشكل مأساويٍّ، وادَّعى كل واحد من المغيرين ملكية دائمة للمنزل الذي كان قد اقتحمه، وذلك إضافةً إلى تملُّك كل ما كان موجودًا فيه"(!!!).
وينبري لرصد نهاية الملحمة كاتب صليبي آخر (أنتوني برج)، فيرسمها بتعبير من أعجب ما قرأت فيقول: "وعندما لم يبقَ من يقتلونه سار المنتصرون خلال شوارع المدينة التي لا تزال مفروشة بالجثث وتفوح منها رائحة الموت، إلى كنيسة القيامة لتقديم الشكر للرب لرحمته العظيمة المتنوعة" (!!!).
ثم نعبر نحو تسعين سنة، إلى يوم جمعة آخر!!
ففي يوم الجمعة 27 رجب سنة 583هـ (12-10-1187م) فتح الله القدس لصلاح الدين، أي بعد ثمانٍ وثمانين سنة ميلادية تقريبا. وعندما بدأت المفاوضات على تسليم البلد أشار "صلاح الدين" مجرد إشارة إلى ما فعله الصليبيون بالمسلمين منذ تسعين سنة؛ فخشي الصليبيون أن يُقتلوا كلهم كما فعلوا بالمسلمين، عند ذلك هددوا بحرق المدينة، وقتْل من عندهم من أسرى المسلمين، وتخريب الصخرة وما بقي من المسجد الأقصى، وقتل أهلهم، والخروج على المسلمين مستميتين للقتال. فاستشار "صلاح الدين" العلماء والقوّاد، فأشاروا عليه بتأمين الناس على أن يدفع كل واحد منهم مقدارًا محددًا من المال، ويسمح له بالخروج، ويعطي الناس مهلة أربعين يومًا لمن أراد الخروج منهم بهذه الشروط.
وهكذا كان مجرَّد تذكير الصليبيين المحاصَرين بما فعله آباؤهم بالمسلمين سابقًا في القدس.. أَجَلْ، "مجرد تذكير".. لكن "مجرد التذكير" جعلهم يهددون بالانتحار انتحارًا جماعيًّا؛ لأنهم كانوا يعرفون جيدًا الأمجاد الدموية لآبائهم !!
وبعد اشتداد الحصار على النصارى؛ طلبوا الأمان ونزل ملك بيت المقدس يترفق السلطانوذل ذلًا عظيمًا، فأجابهم صلاح الدين، ودخل المسلمون القدس ووفوا بالصلح المضروب معالنصارى، وشرعوا في تنظيف المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والخنازير، وأعيد إلى ما كان عليه زمن المسلمين، وغسلت الصخرة بالماء الطهور، وأعيدغسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عنالزائرين، ووضع الصليب عن قبتها وعادت إلى حرمتها، وامتن السلطان صلاح الدين علىبنات الملوك ومن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهموشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر،ولم يأخذ منه شيئًا مما يُقتنى ويدخر، وكان رحمه الله كريمًا مقدامًا شجاعًاحليمًا.
ثم عقد معاهدة مع النصارى، وكانت بنود الصلح التي تمت بين صلاحالدين والنصارى: "أن يسمح لهم بالخروج لمدة أربعين يومًا، يدفع الرجل منهم عشرةدنانير، والمرأة خمسة، والولد اثنين، ومن لم يستطع ذلك فهو أسير".
إلا أنالسلطان صلاح الدين تجاوز بند المعاهدة وعامل الصليبيين معاملة عطف ورحمة وإحسان،ليعطي للبغاة المعتدين، والملوك المستبدين الظالمين والصليبية الحاقدة على الإسلاموالمسلمين النموذج الطيب، والقدوة الصالحة في السماحة والعدل والعفو عند المقدرة.
فأعطى للنصارى العاجزين الذين تركهم أمراؤهم ولم يجدوا من يعينهم أعطاهمأموالًا ودوابا لتحمل أثقالهم إلى ما يريدون. لقد وفَّى المسلمون للنصارى بكل عهودهم بعد دخولهم القدس، فأخرجوا من أراد الخروج بالمبلغ المتفق عليه، وبقيت كنائسهم على ما هي عليه سوى ما أخذوه من مساجد المسلمين، وقد خرج كثير من كُبرائهم بأموالهم ولم يدفعوا عن ضعفائهم، وعلى رأسهم "بطريرك القدس" وجمعٌ كبير من رجال الدين النصارى والأمراء والقُوَّاد، فبذل بعض المسلمين من أموالهم فدية عن النصارى!
وأذن السلطان صلاح الدين لرجالالدين والناس كافة أن يحملوا معهم ما شاءوا من المتاع والأموال، فأخذوا ما شاءوادون أن يعترضهم معترض، تاركين ما لا قِبل لهم بحمله، فابتاعه المسلمون منهم (يراجع: البداية والنهاية ابن كثير، والروضتين في أخبار النوريةوالصلاحية، أبو شامة المقدسي، والدولة الفاطمية، علي محمد الصلابي).
وقد كان صلاح الدين -رحمه الله- رحيمًا بالضعفاء والأرامل، وأعِزَّة القوم الذين ذُلُّواو كان قد بقي في القدس بعض الفقراء من الفرنجة الذين لايجدون مايُفدون به أنفسهم فقام رحمه الله تعالى بفدائهم من ماله الخاص ولم يجعلهم مماليك كمانص عليه الاتفاق.وهكذا كانت أخلاق صلاح الدين جديرة بحضارة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
• ويصف جوستاف لوبون دخول صلاح الدين بيت المقدس ظافرًا؛ فيقول: "ولم يشأ صلاح الدين أن يفعل في الصليبيين مثل ما فعله الصليبيون الأولون من ضروب التوحش فيبيد النصارى عن بَكْرَةأبيهم، فقد اكتفى بفرض جزية طفيفة عليهم مانعًا سلب شيء منهم"[
• و تقول المستشرقة الألمانية الشهيرة سيجريد هونكه وحين تمكن صلاح الدين الأيوبي من استرداد بيت المقدس (583هـ / 1187م) التي كان الصليبيون قد انتزعوها من قبل (492هـ / 1099م) بعد أن سفكوا دماء أهلها في مذبحة لاتدانيها مذبحةٌ وحشيةً وقسوةً، فإنه لم يسفك دم سكانها من النصارى انتقامًا لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جُودِه ورحمته، ضاربًا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية، وعلى العكس من المسلمين، لم تعرف الفروسية النصرانيةأي التزام خلقي تجاه كلمة الشرف أو الأسرى.. فالملك ريتشارد قلب الأسد (1157 - 1199م) الذي أقسم بشرفه لثلاثة آلاف أسير عربي أن حياتهم آمنة، إذ هو فجأة متقلب المزاج فيأمر بذبحهم جميعًا.."سيجريد هونكة: "الله ليس كذلك" ص20، 55
• وللمؤرخ ابن شداد الذي شاهد معاملة صلاح الدين للصليبيين رواية سجلها في كتابه “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية” تمثل قمة التسامح في الحضارة الإسلامية، وما اتسم به هذا التسامح من إنسانية سامية المقاصد والأهداف.. فيقول: إن سيدة من نساء الصليبيين فقدت رضيعها من الفوضى والاضطراب الذي حل بالصليبيين بعد هزيمتهم في معركة حطين، فتعالى صراخها حتى وصل خبرها إلى ملوكهم فقالوا لها: إن صلاح الدين رجل رحيم القلب، وقد أذن لك في الخروج إليه فاخرجي واطلبيه منه، فإنه يرده عليك، فخرجت تستغيث إلى “اليزك” (العسكر) السلطاني فأخبرتهم بواقعها من خلال ترجمان فأخذوها إلى السلطان فأتته وأنا في خدمته وفي خدمته خلق عظيم، فبكت بكاء شديداً ومرغت وجهها في التراب، فسأل عن قضيتها فأخبروه بما حدث لها فرق قلبه ودمعت عيناه، وأمر بإحضار الرضيع فوراً ولما بحثوا عنه وجدوه قد بيع في السوق، فأمر بدفع ثمنه إلى المشتري وأخذه منه، ولم يزل واقفاً حتى أحضر الطفل وسلمه إليها، فأخذته وبكت بكاء شديداً وضمته إلى صدرها والناس ينظرون إليها ويبكون، وأنا واقف في جملتهم، فأرضعته ساعة ثم أمر بها فحملت على فرس وألحقت بعسكرهم مع طفلها.))
• ويقول الدكتور عبدالمقصود باشا أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر: لم تكن فكرة الانتقام تسيطر أبداً على صلاح الدين الأيوبي وقواته كما كان الأمر في القوات المعادية، بل كان يقدم للصليبيين كل ألوان السمو في التسامح، خاصة حين سار بعد انتصاره في حطين إلى بيت المقدس لاستردادها، إذ أكرم كل من استسلم له من كبار الصليبيين الذين كانوا يمتلكون مدن الساحل الفلسطيني ومن بين هؤلاء “كونتيسة طرابلس”، فقد سلمت له مدينة طبرية وعاملها صلاح الدين بما يليق بها من الحفاوة والتشريف، حيث أذن لها ولحاشيتها بالتوجه إلى طرابلس. وتحرك صلاح الدين بعد ذلك إلى مدينة عسقلان، وكانت تقف عقبة في طريق مصر والشام، وهناك اجتمع مع أخيه الملك العادل، ومن معه من عسكر مصر، وحاصروا المدينة، وكان ملك بيت المقدس أسيراً عند السلطان منذ موقعة حطين، فأرسل إلى السلطان في أن يطلقه مقابل نصحه للصليبيين الموجودين في عسقلان بترك المقاومة وتسليم المدينة، فوافق صلاح الدين على ذلك وقد استجاب الصليبيون للنصح بعدما تأكدوا من حرج موقفهم وطلبوا الأمان وتسليم المدينة، فأجابهم صلاح الدين وخرجوا بنسائهم وأولادهم وأموالهم إلى بيت المقدس آمنين، وتسلم صلاح الدين المدينة بعد احتلال صليبي لها مدته خمسة وثلاثون عاماً.
وتسجل صفحات التاريخ أن صلاح الدين أوفى بوعده مع ملك بيت المقدس، إذ أطلق سراحه في أثناء حصاره لحصن الأكراد، وشرط عليه ألا يشهر في وجه السلطان سلاحاً أبداً، فوافق على ذلك، لكنه ما إن بلغ مأمنه في صور حتى نسي العهد وانضم هناك إلى الصليبيين في قتال صلاح الدين. وسمح صلاح الدين لأهل عسقلان بعد استسلامهم بأن يغادروها وأن يحملوا معهم أمتعتهم، وتولى عساكر صلاح الدين حراستهم إلى مصر حيث جرى توفير أسباب الراحة لهم في أثناء مقامهم بالإسكندرية حتى يتم ترحيلهم إلى بلادهم في أوروبا.
ولكم تعددت مواقف صلاح الدين في رحلته الباهرة لتحرير الأقصى ليؤكد عملياً أن الإسلام قد وفر كل الحماية لأسرى الحرب، وتعامل مع الجميع حتى الحربيين منه و المعتدين بكل رحمة وسمو.
صورة من تسامح يزيد بن الوليد رحمه الله
أجلى الوليد بن يزيد مَن كان بقبرص من الذميين، وأرسلهم إلى الشام مخافة حملة الروم، ورغم أنه لم يفعل ذلك إلا حماية للدولة، واحتياطًا لها في نظره، فقد غضب عليه الفقهاء وعامة المسلمين واستعظموا ذلك منه . فلما جاء يزيد بن الوليد وردَّهم إلى قبرص، استحسنه المسلمون، وعدوه من العدل وذكروه في مناقبه . كما يروي ذلك المؤرخ البلاذري فى فتوح البلدان.
تعليق