أسمار- دُعَاباتُ أبي الغُصْنِ!.
(قال أبو عَمْرو بن العلاء: اكتُبُوا الحِكْمَةَ وارْووها ولو عَنْ مَعْتُوه)
حمداً لله؛ وبعدُ:
فأحسبُ أن هذا العُنْوانَ سَيُثِيرُ التَّساؤُلَ في أّذهانِ بعضِ القراءِ على الأقل، ورُبّما كانَ من المُسْتَغْربِ عِنْدَ آخَرينَ عَقْدُ مُسامَرةٍ (للدُعَابَةِ) في وَقْتٍ زَاحَمَ الجِدُّ فيهِ الجِدَّ؛ ولَمْ تُبْقِ تَكالِيفُ الحَياةِ وقْتاً (لِحَكِّ الرأسِ!) كما تَقُولُ العامَّةُ في المثَل!وأصْبَحَتِ اللحَظَاتُ والأَعْمَارُ تُقَدَّرُ عِنْدَ مُهَنْدِسي الحياةِ (بالدينارِ والدولار)!!، وأغْرَبُ من ذلكَ أن كثيرينَ من القُرَّاءِ سَيُفَاجِئُهُم ما حَظِيَ به أبو الغُصْنِ مِنَ الشهْرَةِ الواسِعَةِ والمَحْدِ المُؤَثّلِ العَريقِ بِدُعابَاتِهِ تِلك؛ وبِما تَحْويهِ مِنْ حِكَمِ الطَّرائفِ وطَرَائفِ الحِكَمِ!.
وأينَ مَحَلُّ (أَبي الغُصْنِ) بما حازَهُ مِنْ شُهْرَةٍ ملأَتْ ما بَينَ الخافِقَينِ مِمّا يَقَعُ لأهْلِناَ مَثَلاً في بِيتِ المَقدِسِ وأكنافِ بيتِ المَقْدِسِ من الأرضِ المُبارَكَةِ الطيبَةِ ولِسانُ حالِهمْ يُتَرْجِمُ عنهمْ فيقول:
خَرَجْنا إلى المَوْتِ شُمَّ الأُنُوفِ كما تَخْرُجُ الأُسْدُ مِنْ غابِها
نَسيرُ على شَفَراتِ السـيُوفِ ونَأتِي المَنِيَّةَ من بابـــها
سَيَعْلَـسـمُ أَعْـداؤُنا أنـَّنا رَكِبْنا المَنايا حَنانـاً بِــها
ولولا أَنَّنِي أَتَّقِي بِحُلُمِ السادَةِ القُرَّاءِ أن تُصِيبَنِيِ سِهامٌ منَ اللوْمِ لا تُخْطِئُ لكانَ لي معَ هذه التسْمِيَةِ شَأْنٌ آخرُ.
سَمِيرٌ وابْنَاهُ:
وأَنا أََحِبُّ - كان الله لي ولكَ – أنْ تَجْنِيَ مِنْ حَدائقِ هذه الأسْمارِ قُطُوفاً دَانِيَةً، أما الكَلامُ فإنَّهُ - وللهِ الحمدُ - يَسْنَحُ لي سَهْلُهُ؛ ولا يَجْمَحُ علَيَّ وعْرُهُ، وأنا أتَخَيَّرُ مِنهُ إنْ شاءَ اللهُ ما رَقَّتْ حَوَاشِيهِ؛ وراقَتْ مَقاصِدُهُ ومَعانِيهِ، وَإِنَّما اخْتَرْتُ تَسْمِيَةَ حَديثِي إلَيكَ بِهذا الاسمِ لأنَّهم ذَكَرُوا أنَّ السمَرَ حَدِيثُ الليلِ خاصَّةً؛ وذلكَ حِينَ يَلْبَسُ الكَوْنُ ثِيابَ الراحَةِ والدَّعَةِ، وتَسْكُنُ الخلائقُ إلاّ ما شاءَ اللهُ تَعالَى!، (وقيلَ: بلْ أَصلُ السمَرِ: ضَوْءُ القَمَر؛ لأنّهم كانُوا يَتَحَدَّثُونَ فيه!)، ورأَيْتُ أنَّ ذلكَ أَدْعَى لِقُبُولكِ؛ وأَرْوَحُ لِنَفْسك، وأَرْجَى لِفَوْزِك!؛ فإنّنِي لا أُعْلَمُ عَنكَ إلا أَنكَ وابْنا سَمِيرٍ (وسميرٌ هو الدهرُ؛ وابْناهُ هما الليلُ والنهار) كفَرَسَيْ رِهانٍ، فإما لكَ وإما عَليك!.
ومِن مَقاصِدِ هذه (المُسامَرات) ما يتَعَلَّقُ بإفهامِ الناسِ كثيراً من الحَقائقِ التي أفلَ نَجْمُها مِنْ حَياتِ كَثِيرينَ، ولَعَلَّها - ولو بَعْدَ مُحاوَلاتٍ عديدةٍ – تُشْرِقُ شَمْسُها عَلَيْهم مِن جديد؛ بعْدَ أن احتَجَبَتْ عَنْهمْ بِعَساكِرِ الأَهْواءِ وَالْفِتَنِ والنفُوسِ الأمَّاراتِ بالسوء والجُنْدِ المُرْصَدِينَ مِنْ شياطينِ الثَّقَلَينِ!؛ ولا سَبِيلَ لِخَرْقِ هذهِ الحُجُبِ إلا بِالتّحَيُّلِ المَشْرُوعِ في إبْلاغِ الحقِّ للخَلْقِ؛ و(الحَرْبُ خَدْعَةٌ) كما تَواتَرَ به النقلُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فإنْ طالَتْ بِنا الحَياةُ - والأيامُ دُوَلٌ – شافَهْتُكَ والسامِرَةَ (وهم جَماعَةُ السُّمَّار) بِهَذه الأسْمارِ - إنْ شاءَ الله تَعالَى - هُناكَ في بَيْتِ المَقْدِسِ زَادَهُ الله شَرَفاً؛ وقدْ أشْرَقَت الشمْسُ مِنْ مَطْلَعِها؛ وعادَتْ الأُمُورُ إلى مَنْزَعِها؛ وأَخَذَ القَوْسَ بارِيها؛ وسَكنَ الدارَ بَانِيها.
واعْلَمْ بأنَّ (السامِرَةَ) لَفْظَةٌ تَطْلَقُ أَيْضاً على غيرِ المَعْنى الذي أَشَرْتُ إليه؛ وهُوَ مَعْنَىً لا أَقْصِدُهُ قَطْعاً؛ فَيُرادُ بِها قَوْمٌ من اليَهُودِ مِن قَبائلِ بني إسرائيلَ، يُخالِفُونَهمْ (أي اليهودَ) في بعضِ أحْكامِهم؛ كإنْكارِهم نُبُوَّةَ مَنْ جاءَ بعدَ مُوسَى عليه السلامُ!؛ وزَعْمِهمْ أن نابُلْسَ هي بيتُ المَقْدِس!، وهم صِنْفانِ: الكوشانُ والدُّوشان؛ وإليهم يُنْسَبُ السامِريُّ الذي عَبَدَ العِجْلَ!.
وذكرَ العلامَةُ المُرْتَضى الزبِيدِيُّ مُصنفُ تاجِ العَروس المُتَوفَّى سنةَ (1205) للهجْرة قال: وأكثرهم في جَبَل نابُلُس؛ وقد رأيتُ منهم جماعةً أيام زِيَارَتِي للبَيْت المُقَدس؛ ومنهم الكاتِبُ الماهر المُنْشِئ البليغ : غَزَالٌ السّامِرِي ذاكَرَنِي في المَقَامَاتِ الحَرِيرِية وغيرها وعَزَمَنِي إلى بُسْتَان له بثَغْرِ يافا؛ وأَسلَم وَلَدُه وسُمِّيَ مُحَمَّداً الصادق وهو حي الآنَ.
وقد ذكرَ الإمامُ ابنُ حجَرٍ العَسْقَلانِيُّ في بَعْضِ كُتُبِهِ مِمّنْ أَسْلَمَ من اليَهُودِ السامِرَةِ شِهابَ الدينِ السامِرِيَّ رَئيسَ الأطِباءِ بِمِصْرَ؛ أسلمَ على يَدِ الملكِ الناصرِ؛ وكانَ فيه فَضيلَة. انتهى.
واللهُ أَضْحَكَ وَأَبْكى:
وذلكَ سِرٌّ مِن الأسرارِ التي يَنْطَوي عليْها خَلْقُ الإنسان؛ وقَدْ قِيلَ إنَّ الله تعالى مَيزّ الإنسانَ بالضحكِ والبُكاءِ مِنْ بينِ سائرِ المَخْلُوقات!؛ وقيل: إنَّ القِرْدَ يَضْحَكُ ولا يَبْكي!؛ والإبلَ تَبْكي ولا تَضْحك!، ولمْ يَجْتَمِعا إلاّ في ابنِ آدمَ!.
هكذا قيل؛ لكنّني وجَدْتُ في الموسوعاتِ العِلْمِيَّةِ ذِكْراً لطائرٍ سَمِينٍ رَمادِيِّ اللونِ؛ يَبْلغُ طُولُهُ نَحْو (46) سَنتيمِتْراً؛ يُدْعَى (الحَمارَ الضاحِك)!؛ وذَكَرُوا أنَّهُ سُمِّيَ بذلكَ لأن صَيْحاتِهِ تُشْبِهُ الضحك!؛ ويُطْلَقُ عليه في الإنجِليزيَّةِ اسمُ (Kookaburra)؛ وهو اسمٌ مَشْتَركٌ لأربَعَةِ أنواعٍ من الطيورِ تَعِيشُ في اسْتُراليا وغِينْيا الجديدة.
قالوا: وَمِنَ العَجَبِ أنه لا يَعْلَمُ أحدٌ قَبْلَ وقتِ الضحِكِ أو البُكاءِ أنه يَضْحكُ أو يَبْكي!؛ ولا أنهُ يأتيهِ ما يُعْجِبُهُ أو يُحْزِنُهُ؛ ولو قيل لهُ حالةَ الضحكِ أنّهُ بعْدَ ساعَةٍ يَبْكي لأنكرَ ذلك!؛ وربما أَدْرَكَهُ ما أبْكاهُ في وقتِ الضحكِ؛ أو أَضْحَكَهُ في وَقْتِ البُكاء!.
وأعجبُ من هذا أن الإنسانَ يضحكُ غَداً مما أَبْكاهُ اليوم، ويَبْكِي اليومَ مما أَضْحَكَهُ بالأَمْسِ في غَيْرِ جُنُونٍ ولا ذُهُول!.
وقالُوا أيْضاً: تَعْليلُ الضحكِ بَقُوةِ التَّعَجُّبِ غَيرُ صَحيح، لأنَ الإنسانَ رُبَّما بُهِتَ عندَ رُؤْيَةِ الأمُورِ العَجِيبَةِ ولم يَضْحَك!. وكذلك التعْليلُ بِقُوة الفَرَحِ لأنّهُ قدْ يَبْكي!.
حُلْوٌ ومَالِحٌ:
ولا ضَيْرَ فهكذا هو شَأْنُ الحياةِ!؛ شأْنٌ لا يَنْقَضِي مَعَهُ العَجَب!، لا مُغَيِّرَ لِنافِذِ القَضاءِ والحُكْمِ؛ ولا مُبَدِّلَ لسابقِ العِلِمِ، يَخْتَلطُ فيها الفرحُ والحُزْنُ؛ والأمَلٌ والألمُ؛ والسعادَةُ والبُؤْسُ؛ والغِنَى والفَقْرُ؛ والرّخاءُ والشدَّة، كما يختلطُ فيها العِلمُ والجَهلُ؛ والحياةُ والمَوْتُ، وكما يختلطُ فيها الأبْيَضُ والأسْودُ؛ واللَّيِّنُ واليابِسُ؛ والحُلْوُ والمالِحُ؛ وأمْثالُ ذلكَ، وكما يَخْتَلِطُ فيها الجِدُّ والهَزْلُ ولا فَرْقَ.
وتَجِدُ هذا في طَبائِعِ الناسِ كما تَجِدُهُ في المَعَانِي التي حَوْلَكَ؛ لأنَّ الناسَ أشْبَهُوا في ذلكَ أُمَّهُمُ الأَرْضَ التي خُلِقُوا مِنْها!، وفي الأرْضِ السهلُ والحَزْنُ؛ والفَسيحُ والضيِّقُ؛ والمُرْتِفِعُ والمُنْخَفِضُ؛ والأبْيَضُ والأسْوَدُ، وعلى هذهِ الجَدِيلَةِ اخْتِلافُ الألْسِنَةِ والأَلْوانِ؛ وكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدورا.
وأَعْقَلُ الناسِ مَنْ عَاشَ الحياةَ عَلَى ما خَلَقَها الله تَعالَى عَلَيْهِ؛ فَعَرَفَ حُلْوَها ومُرَّها؛ وحَسَنَها وقَبِيحَها؛ وأَعْطَى كُلَّ مَعْنَىً مِن مَعانِيها حَقَّهُ الذي أَعْطاهُ لَهُ رَبُّهُ وخالِقُه؛ لا يَزِيدُ عَلَيْهِ ولا يَنْقُصُ مِنْه، ولَمْ يَطْلُبْ مِنَ الدنْيا حالاً واحِداً لا تَحُولُ عَنْه؛ وإلاّ كانَ الإنْسانُ إذْ يُكَلِّفُ الأشْياءَ ضِدَّ طِباعِها كَمَنْ يَطْلُبُ في المَاءَ جَذْوَةَ نار!؛ وفَهْمُ هذا النامُوسِ الكَوْنِيِّ مِنْ أعْظَمِ أسْبابِ السعادَةِ التي ضلَّ عَنْها كَثِيرٌ مِن الناسِ!.
وَوَرَاءَ الدُّعابات أسْرارٌ دَفينَة:
فليْسَتْ هي – ما دَامَتْ تَسلُكُ سَبيلَ الأدَبِ - للتَرْويحِ عن النفسِ من كَبْتِ الحَياةِ وأثقالِها فَحَسْبُ.
بل تَحْمِلُ في أطْوائِها (أنْحائِها) الحِكْمَةَ العِلْمِيَّةَ والعَمَليَّةَ؛ وخُلاصَةَ دَرْسٍ مِن دُروسِ الحياةِ!.
وقَبْلَ هذا وذاك فَهِيَ تَعْبِيرٌ عَمَّا تُكِنُّهُ ضَمائرُ الأُمَمِ والشعُوبِ مِنَ المَشاعِرِ والأَحَاسيسِ؛ وما تَصُوغُهُ في دَوَاخِلِها مِنَ المَبادئِ والأفكارِ، على وَجْهِ يَتَجَرَّدُ عن الزّمانِ والمَكان؛ بِعِيداً عَن سِحْرِ الدِّعايَةِ وبَريقِ التلفيقِ والتّزْوير.
وشأْنُها في ذلك شأنُ ما يَرُوجُ في الأُمَمِ مِن الرُّؤى المَنامِيَّةِ والأقاصيصِ والأمْثالِ؛ حتى قيل: ألْسِنَةُ الخَلْقِ أقلامُ الحقِّ!.
والحقُّ أن كثيراً منها يَجْري مَجرى الأمْثالِ التي قِيلَ فيها: هيَ حِكْمَةُ الشعبِ وتاريخهُ وَوِجْدانُه؛ وهي الوجْهُ الصادقُ لِحياةِ الأُمم والشعوبِ، تَحْوِي خُلاصَةَ التجارِبِ العَميقَةِ التي تَمَرّسَتْ بها خِلالَ تاريخِها، وهِيَ خُلاصَةُ مُعاناتِها وشقائها؛ وسَعادَتِها وغَضَبِها ورِضاها.
ويُقالُ - على سَبيلِ الإحاطَةِ بأطرافِ ما نَكْتُبُ فيه – إِنَّ (الكُومِيدْيا) التي نَشأَتْ في (أثينا اليونان) في القَرْنِ الخامِسِ قَبْلَ الميلادِ وُجِدَتْ للتّعْبِيرِ عَنْ مَكْنُوناتِ الضمائرِ كما ذكَرْنا في الدعَابات؛ وكانَتْ تَدُورُ في بدَاياتِها حَوْلَ معاني الحياةِ والمُعْضِلاتِ المُتَعَلِّقَةِ بالوجُودِ الإنساني، ثم انتقلتْ إلى (الكُوميدْيا) الجديدةِ التي تَعْتَمِدُ النقْدَ القاسِيَ الصريحَ في القرنِ الرابعِ قَبْلَ المِيلاد، ثم إلى (الكوميديا) الصامِتَةِ في القرنِ الثانِي قَبْلَ الميلاد، وفي العصُورِ الأورُوبِيَّةِ الوسْطى أُدْخِلَتْ فَواصِلُ هَزَلِيَّةٌ إلى القصصِ التوراتِيَّةِ مِمّا شَوّشَ على كثيرٍ مِنَ المَفاهيمِ في الديانَةِ النصرانِيَّة!، إلى أن جاء (Ben jonson) في القَرْنَينِ السادس عَشرَ والسابعِ عَشرَ - وكان مُعاصِراً ل(شَكْسْبير) - وقدّمَ نَظَريَّةً حَوْلَها مُشْتَقَّةً مِنْ عِلْمِ وَظائِف الأعْضاء الإنسانيِّ وعِلْمِ النفْسِ؛ اسْتَنَدَ فِيها إِلَى ما كانَ سائِداً في وَقْتِهِ مِنْ أَنَّ الجِسْمَ يَحْوي سَوائِلَ أَرْبَعَةً يَتَحَكَّمُ تَوازُنُها ونِسْبَتُها في الأدَاءِ المِثالِيِّ للجِسْمِ والعَقْلِ فِي الإنْسانِ، وفي القَرْنِ الثامِنِ عَشر نَشأتْ في بريطانيا (كومِيديا الأساليب) وأَصْبَحَتْ باباً لِنَقْدِ كَثِيرٍ مِنَ المَظاهِرِ المَرْفُوضَةِ في الحَياةِ المُعَاصِرَة!!، ثم حَصلَتْ تَطَوُّراتٌ لها في القَرْنَيْنِ الأخِيرَيْنِ ضَرَبْتُ عَنهُ الذِّكْرَ صَفْحاً.
وَوَجَدْتُ في بَعْضِ الكُتُبِ؛ وأَظُنُّهُ عن هارونَ الرشيدِ أنه قال: النوادِرُ تَشْحَذُ الأَذْهانَ؛ وتَفْتِقُ الآذان!.
وقال حمادُ بنُ سَلَمَةَ: لا يُحِبُّ المُلَحَ إلاَّ ذُكْرانُ الرِّجالِ؛ ولا يَكْرَهُها إلاَّ إناثُهُم!!.
وما عَلَيكَ لَوْ جَمَعْتَ إلى الترْويحِ عَنِ النفْسِ خُلاصَةَ الحِكْمَةِ ولُبابَها؛ وأنْتَ تَرى الزارِعَ يُمَتِّعُ ناظِرَيْهِ بِحُقُولِ القَمْحِ وَسنابِلِهِ الذهَبِيَّةِ ولَيْسَ يُغْنِيهِ ذلكَ عنْ جَنْيِهِ وحصادِهِ!.
فَخْذْ إذنْ مِنَ الطرائِفِ ما تُرْشِدُكَ إلى التَّعَلُّمِ مِنْ نَظَائِرِها؛ حتّى إذا ما مَلَكْتَ زِمامَ الدُرْبَةِ والمِراسِ؛ ورُزِقْتَ حَصافَةَ الرأيِ وَوَفْرَةَ الحِجَى؛ وذكاءَ القَلْبِ؛ ونَفاذَ البَصيرَةِ!؛ صَنَعَتْ مِنْكَ - بإذنِ الله - في مَيْدَانِ الحِكْمَةِ سَبَّاقَ غاياتٍ وَمُدْرِكَ نِهَايات.
طُرْفَةُ المَلِكِ والهَنادِكَة:
وقدْ حُكِيَ أنّ بَعْضَ الظَلَمَةِ من المُلُوكِ لَمَّا ماتَ حَضَرَ جَنازَتَهُ جَمْعٌ كبيرٌ مِنَ المُلُوكِ والأعْيانِ؛ فَرَوَّجَ شَعْبُهُ المَظْلُومُ قِصَّةً في جَنازَتِهِ جاءَ فيها أنّ بَعْضَ أعْيانِ الهَنادِكَةِ حَضَرَ مَراسِمَ الدفْنِ، وكانَ الهِنْديُّ يَنْتِظرُ حَرْقَ الجُثَّةِ كَما جَرَتْ بِهِ العادَةُ عِنْدَ كَفَرَةِ الهِنْدِ في جَنائِزِهم!؛ فَلَمَّا صِيرَ بالجُثَّةِ إلى القَبْرِ ولم يَرَ الهِنْديُّ مِنْ ذلكَ شَيْئاً؛ سَألَ بَعْضَ الحُضُورِ مِنْ أَعْوانِ المَلكِ عن ذلكَ؟!؛ فقالَ له: الأَمْرُ عِنْدَنا على خِلافِ ما هُوَ عِنْدَكُمْ؛ فالحَرْقُ عِنْدَكُمْ أولاً والدفنُ ثانياً، أما عِنْدَنا فالدفنُ أوّلاً؛ ثمّ الحرْقُ في القَبْرِ ثانِياً!!.
وأَمْرانِ سِيَّانِ عَلى لِدَةٍ واحِدَةٍ أنْ تَكونَ القِصَّةُ صحيحَةً في نَفْسِ الأمرِ أم رَوَّجَ الناسُ لها تَفَكُّهاً وتَنَدُّراً، فذلك مِن الأُمَّةِ نَفْثَةُ مَصْدُورٍ وصَرْخَةُ مَكْلُومٍ، عُبِّرَ عَنْها في صُورَةِ الدُّعابَةِ؛ وهو الشُّعُورُ الجَمْعِيُّ الذي لا يَقْبَلُ التحريفَ والتبْديلَ.
كُلُّنا حَمَامِيزُ الله!!.
كذلكَ ما يُحْكى في الطرائِفِ مَثَلاً أنّ رَجُلاً صَحبَ وَلَداً لهُ إلى السوقِ، فلَمّا كانا هُناكَ سَمِعا رَجُلاً يُنادِي صَبِياً يَقولُ: يا عَبْدَ الله!؛ فأجابَهُ الصبِيُّ بِقَوْلِهِ: يا عَمُّ؛ كُلُّنا عَبِيدُ الله فأيَّ عَبْدٍ تُريدُ؟!، فقالَ الرجلُ مُنَبِّهاً ولَدَهُ ومُعَلِّما: انظُرْ يا بُنَيَّ إلى ما يَقُولُ الغُلامُ المُباركُ!.
فَلَما كانا مِنَ اليَوْمِ التالي وهما في ناحِيَةٍ مِنَ السوقِ سَمِعَ الصبِيُّ رَجُلاً يُناديهِ؛ يا حَمْزَةُ!؛ فبادَرَهُ بِقَوْلِهِ: يا عَمُّ كُلُّنا
حَمامِيزُ اللهِ؛ فأيَّ حَمْزَةٍ تُريدُ؟!!، فقالَ أبُوهُ: أُسْكُتْ يا مَنْ أَخْمَدَ اللهُ بهِ ذِكْرَ أبِيهِ!.
فتأَمَّلْ فيما انْطَوَتْ عَليهِ هذه الحِكايَةُ مِنَ:
1- الإشارَةِ إلى النِّعْمَةِ بالولد...
2- وإلى التَّفاوُتِ في مَراتِبِ هذه النِّعْمَةِ...
3- وأنَّ العُقُولَ مَراتِبٌ مُتَفاوِتَةٌ أَيْضاً...
3- وأَنَّ الأَخْلاقَ مِنها ما هُوَ جِبِلِّيٌّ فِطْرِيُّ؛ ومِنْها ما هُوَ كَسْبِيٌّ تَحْصِيلِيٌّ كما هُوَ مَذهَبُ المُحَقِّقِينَ مِنَ العُلَماء، وخِلافاً لِما قِيلَ مِنْ أنَها كَسْبِيَّةٌ فَقط كما ذهبَ إليه جَمْعٌ منَ الفَلاسِفَةِ المُتَقَدِّمِينَ مِنْ أمْثالِ الفارابِيِّ وابْنِ سينا؛ ومِنَ المُتأخّرين مِنْ أمثالِ (مانْدِفِي؛ ت:1733)؛ و(تُومَاسْ هويز؛ ت:1796).
4- وأنَّ الوَلدَ الصالحَ الفَطِنَ مِنْ أعظم نِعْمِ الله على العَبد؛ وفي تَرْجَمَةِ الإمامِ الكَبيرِ ابنِ الجَزَريِّ الشافِعِيِّ مِنْ طَبقاتِ الحُفاظِ للسيوطي (ص:467) أنَّ والِدَ الجَزريِّ كانَ تاجِراً ومَكثَ أرْبَعينَ سَنَةً لا يُولَدُ له؛ فلما حجَّ شربَ من ماءِ زَمْزَمَ ونَوَى حُصُولَ الوَلدِ؛ فأعْطاهُ الله ما تَمَناهُ في هذا الابنِ السعيد!.
5- وما جَعَلَ الله تَعَالَى في الوالِدِ مِن المَحَبَّةِ لِوَلدِهِ والشفقَةِ عليهِ حَتَّى إنَّهُ يُحِبُّ أنْ يَكَونَ فَوقَهُ وأَعْلَى مِنْهُ مَنْزِلَةً وفِطْنَةً وذَكاءً؛ ولا يُحبُّ ذلكَ لأحَدٍ سِواهُ!؛ مِمَّا يَدُلُّكَ على سِرٍّ مِنْ أَسرارِ الحياةِ وبَقاءِ النوعِ الإنسانيِّ فيها إلى ما شاءَ الله تعالى.
حكايَةُ الوزيرِ والخَدَمِ:
ومِمّا رُوِيَ من الطرائِفِ الحِكَمِيَّةِ أنّ سُلَيمانَ بنَ عبدِ المَلكِ الخليفَةَ الأُمَوِيَّ كَتَبَ إلى أحَدِ وُلاَتِهِ يُقالُ لهُ ابْنُ حَزم يسْأَلُهُ عَنْ عَددِ منْ عِنْدَهُ من الخَدَمِ، فأَمْلَى على كاتِبِهِ يَقُولُ له: أَحْصِ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الخَدَمِ، بالحاءِ المُهْمَلَةِ سادِسَةِ الحروفِ؛ غيرَ أن الكاتِبَ أَخْطأَ فكتَبَها بالخاءِ المُعْجَمَةِ (أخْصِ!)؛ مِنَ الخِصاءِ الذي هُوَ رَضُّ الخُصيَتَينِ لِتَذْهبَ شَهوةُ النكاح؛ ويقالُ له في العَربِيَّةِ: الثَّرْدُ؛ أيضاً!، فما كانَ مِنَ الوالِي إلا أنْ جَمَعَ العَبيدَ وكانُوا أرْبَعَةَ آلافٍ؛ فجَبَّ مَذاكيرَهُم أَجْمَعين!!، وكانَ الدلاّلُ واحِداً ممَّنْ خُصِيَ!.
فَتَعَلَّمْ مِنْ هَذا - الذي يَذكُرُهُ المُحَدِّثُونَ مِثالاً لمَساوئِ التصْحيفِ سِوى الفُكاهَةِ - أمانَةَ الكَلَمَةِ وأثَرَها في الأُمَّةِ والمُجْتَمعِ!، وتَذكرْ بأنّ ما فعلَهُ الوالِي ظُلْمٌ وعُدْوانٌ لا يَجوزُ حتى وإن أمَرَ به الخليفة؛ لأنّهُ لا طاعَةَ لمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخالق، وقد قيلَ في قوله تعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ}: المُرادُ به الخِصاءُ، وهكذا قيلَ فيما رُوِيَ عنِ النبيِّ صلى الله عليهِ وسلّم أنه (نَهى عن صَبْرِ ذي الروح).
أمَّا أبو الغصنِ مَلكُ الدعاباتِ وسلطانُ الفُكاهات:
وما أدْراكَ ما أبو الغُصْنِ؟!.
- فَلَمْ تَعْرْفه الأمَمُ العَربِيَّةُ وَحْدَها!.
- بل شاعَ ذِكْرُهُ في كلِّ عَصْرٍ ومِصْر، وجَرى خَبَرُهُ على الألْسِنَةِ بِلا فَرْقٍ بينَ ساكِنِ خَيْمَةٍ وقَطينِ قَصْر!.
- عَرَفَتْهُ شُعُوبُ الأرْضِ قاطِبَةً؛ وتَمَدَّحُوا بِنِسْبَتِهِ إليهم وَزَعْمِ أنهُ مِنهم، كما هُوَ شأنُهم معَ لقمان الحكيم!.
- ونَشَرتْ صَحيفَةُ الحياةِ البَيْرُوتِيَّةِ عَنْهُ مَقالاً بِتاريخِ (9/1/1971)؛ وفيهِ نَقْلٌ عنْ إحْدى الصحُفِ الأجْنَبِيَّة!.
- وذكَرت الصحيفَةُ أن الشعُوبَ عَرَفَتْهُ بأسماءٍ مُتَشابِهة!.
- فقيلَ هُوَ في آسيا الوُسْطَى (هُودْجا)!.
- وفي مالطَةَ عُرِفَ باسْمِ (جَيْهان)!.
- وفي بلادِ االسكْسون باسم (جُوكا)؛ هذا ما في الصحِيفَة.
- ولعلّ كلِمَةَ (JOKE) في الإنجليزية وتعْني الطُّرْفَةَ أو المِزاحَ مأخُوذةٌ من ذلك.
- وأزيدُكَ بأَنَّهُ عُرِفَ عِندَ أُممِ الفُرسِ وأَصْنافِ التُّركِ باسْمِ (مُلاَّ نَصْرِ الدين!)؛ مَعَ سِرٍّ في هذه التسمية!.
- وعُرِفَ عِندَ أَمَمِ الهِنْدِ باسم (شَيخ جلِّي) بالجيم الفارسيةِ المُثلثة؛ وتُلْفَظُ كما تُلْفَظُ (CH) الإنجليزية!.
- وأمَّا عِندَ العربِ فأولُ مَنْ ذكرهُ هو الجاحظُ في تَآليفِهِ؛ في رِسالَةِ عليٍّ والحكمين؛ وكتابِ البِغال!، هكذا في الأعْلامِ للزرِكْلِيِّ عن (شارْل بلا).
- وله ذِكرٌ عِندَ ابنِ النديمِ في (الفِهْرِسْتِ)؛ وأن بعضَ العلماءِ ألفَ كتاباً خاصاً في نَوادِره!.
- وذكرَ الذهَبِيُّ في (سِيَرِ الأَعْلامِ) أنَّ أبا الغُصْنِ صاحبَ النوادرِ هُوَ دُجَيْنُ بنُ ثابِتٍ اليَرْبُوعِيُّ، وحكى عَن مَكِّيِّ ابنِ إبراهيمَ أنهُ قال: الذي يُقالُ فيه مَكْذُوبٌ عليه؛ وكانَ فَتىً ظريفاَ؛ وكانَ له جيرانٌ مُخَنَّثُونَ يُمازِحُونَهُ ويزيدُونَ عليْه!.
- وهكذا زَعَمَ الدُّمَيْرِيُّ في حَياةِ الحَيَوَانِ؛ وأيَّدَه بالنَّقْلِ عَنْ عَبْدِ الرحْمنِ بنِ مَهْدي الإمام!.
- كما ذكرَ الذهَبِيُّ رجلاً آخَرَ يقالُ له: أبو الغُصْنِ ثابتُ بنُ قيس، وحكى أنه من صِغارِ التابِعينَ، وخَطّأَ منْ زَعَمَ أنه صاحبُ النوادر. فهما إذن اثنانِ رُبما اشتَبَها؛ فتنَبَّه.
- لكنْ نَفَى ما قَدَّمْناهُ عن السِّيَرِ جمعٌ من العُلماء؛ مِنهم ابنُ حِبانَ الإمام، وابْنُ الصلاح؛ وابنُ حجرٍ العسقلاني؛ وبُرْهانُ الدينِ الأبناسيُّ في كتابِهِ (الشذا الفَيَّاح)!.
- وذكرَ الجاحِظُ أن اسْمَهُ (نوح)، وأنّهُ أربى على المئةِ عامٍ؛ وأدركَ المَنْصورَ الخَليفَةَ؛ وكان يَسكنُ الكوفة، وقيلَ: بل اسْمُهُ: اسحاق!.
- وقدْ عَمِلَ الناسُ على لِسانِهِ كثيراً من النوادِرِ؛ حتى أَلَّفَ في ذلك أَبو اليُمْنِ الغِفاريُّ كتاباً في ألفِ ورقة!.
- وقالَ الزمَخْشَريُّ: والحكاياتُ لا تَضْبَطُ عنه كثْرَةً!.
- وقيلَ إنَّ أمَّ أبي الغُصْنِ كانتْ خادِمَةً لأنَسِ بنِ مالك صاحبِ رسُولِ الله صلى الله عليهِ وسلم!.
- وقيلَ أيضاً إنه أدركَ أبا مُسلم الخُراسانِيَّ صاحبَ الدعْوَةِ العباسِيَّةِ، ودَخَلَ عليهِ في الكوفَةِ، أدْخَلَهُ عليه أبو يَقْطين مَولَى أبي مُسلم، فقال أبو الغُصْنِ: يا يقْطينُ!؛ أيُّكُما أبو مُسلم؟!.
- ومِنْ نَوادرهِ أنه لما دَخَلَ على أبي مُسلمْ قالَ له: لَقدْ نَذرْتُ إن رَأيتُكَ أن آخذّ مِنكَ ألفَ دِرْهم!؛ فضحكَ أبو مُسلمْ وقالَ له: مَنْ نَذَر شَيْئاً فَإنَّما يُعْطي ولا يَأْخُذُ!؛ ثم أعطاه.
- وقيلَ: إنَّ عُمَرَ بنَ أبي رَبيعَةَ ذكرهُ في شِعْرِهِ؛ فإنْ صحَّ دلَّ على اشتِهارِ أمْرِهِ قبلَ أبي مُسلمْ بأكثرَ مِنْ أرْبَعِينَ سنة!، ومَقْتلُ أبي مسلمٍ كانَ على يَدِ أبي جَعْفَر المَنْصورِ سنةَ (137).
- وفي أعلامِ الزرِكْلِيِّ أَيْضاً عن مَخْطُوطَةٍ سُمِّيَتْ (قِطْعَةٌ من تَراجِمِ أَعْيانِ الدنْيا الحِسان) أنَّ أبا الغُصْنِ بَغداديُّ تُوفِّيَ في خلافَةِ المَهْديِّ العَباسِيِّ.
- وفيه أيضاً أن التُّرْكَ نَحَلُوا أخبارَ أبي الغُصْنِ لصاحِبِهم (مُلاّ أو خُوجَةَ نَصْرِ الدين) وزادُوا فيها أضعافَ أضعافِها!، ويُظَنُّ أنه صاحبُ الضريحِ الكبيرِ في بَلْدَةِ (آق شَهْر)، وأن مُؤَلِّفَ رِحْلَةِ الشتاءِ والصيْفِ قدْ مَرَّ به.ُ
- ولما كَتَبَ جَلالُ الدينِ الرُّومِيُّ مُؤَسِّسُ الطريقَةِ المَوْلَوِيَّةِ المُبْتَدَعَةِ في تُركيا كِتابَهُ المَثْنَوِيّ ضَمنَهُ بعْضَ نوادِره!.
- وبِسَبَبِ اخْتِلاطِ الحِكاياتِ بينِ أبي الغُصْنِ العَرَبيِّ والآخرِ الرُّومِيِّ ذهبَ بعضُ الكُتابِ إلى أنهُ أُسْطُورَةٌ خيالِيَّةٌ لا حَقيقَةَ لها، كما في مَقالٍ لِمُحَمد فريد أبي حديد في مَجَلَّةِ العَرَبي في العدد (41/66)!.
- وأخيراً فقدْ كتبَ (عَليُّ المِصْراتيُّ) كتاباً عن نَوادِرِهِ في (ليبيا)!.
- وللأديبِ عَباسِ بنِ مَحْمُودٍ العقَّادِ كتابُ عَنْهُ وصَفَهُ فيه بالضاحِكِ المُضْحِك!.
- وكَتبَ عن حِكاياتِ (أَبي الغُصْنِ العَرَبِيِّ) محمدُ بنُ رَجَبٍ النجارُ كتاباً خَاصاً.
- أما عَليُّ بنُ أحْمدَ باكثير الحَضرَميُّ أُصولاً الأنْدُنُوسِيُّ مَوْلِداً؛ الشاعِرُ القَصصِيُّ المُتوفّى سَنَةَ (1389) فله مَسْرَحِيَّاتٌ نَثْرِيةٌ مَطْبُوعَةٌ مِنْها مَسرحيَّةٌ حِيكَتْ حَولَ أَخبارِهِ!.
- وَوَفاةُ أبي الغُصْنِ على ما قِيلَ كانتْ في سنةِ (130) للهجرَة.
أبُو الغُصْنِ وأعْلى نَوادِرِهِ:
وكُلُّ ما سَبَقِ مِنَ الأخْبارِ التي جَمَعْناها عنهُ مِنْ عَشَراتِ المَصادِرِ - وكَثيرٌ مِنْها مِنْ غَيرِ مَظَانِّهِ - فَإنَّما هِيَ لِمَنْ عُرِفَ بَينَ الناسِ باسمِ (جُحَا)؛ وأَبو الغُصْنِ كُنْيَتُه؛ ودُجَينُ اسْمُهُ؛ والذي يَضْرِبُ الناسُ بهِ المَثَلَ في الغَفْلَةِ والحَماقَةِ تارَةً فيقولونَ: أَحْمَقُ مِنْ جَحا!، ويَجْعَلُونَهُ مِثالاً للدهاءِ والفطْنَةِ تارَةً أُخْرى كما في كَثِيرٍ مِنْ أخباره!.
وأعْلى ما وَجَدْتُ مِنْ ذكرِ (جحا) وَنَوَادِرِهِ ما قرَأْتُهُ في كتابِ كشفِ النِّقابِ لابنِ الجوزي نقلاً عن حاشِيَةِ مَخْطُوطَةِ الكتابِ منْ أنه وُجدَ بخطِّ الحافِظِ ابنِ ناصِرِ الدينِ الدِّمَشْقِيِّ ما يَلي: حَدّثَ اسماعيلُ الصفَّارُ بِسَنَدِهِ إلى قَبيصَةَ بنِ عُقْبَةَ قال: اجْتَزْتُ بِجُحا وهو جالِسٌ على الطريقِ يأكلُ خُبْزاً؛ فقلتُ له: يا أبا الفضلِ تُجالِسُ جَعْفَرَ بنَ مُحمدٍ وتأكلُ في الطريق؟!؛ فقال: حدثني جَعْفَرُ بن محمد عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلمَ قال: مَطلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ - (والمَطْلُ:تأخيرُ الحقِّ عن صاحِبه) - ؛ فطالَبَتْنِي نَفْسي بالمأكولِ؛ وخُبْزي في كُمِّي؛ فلم أُحِبَّ أنْ أَمْنَعَها فأمْطُلَها فَأَلْقَى الله ظالِماً!!.
والعَجَبُ في أنّ أكثرَ النوادِرِ تُنْسَبُ إليهِ مَعَ وُجودِ غَيرهِ مِنْ أصحابِ النوادِر مِنْ أمثالِ: ابنِ أبي عَتيق؛ وأشعَبَ الطمع؛ وأبي العَنْبسِ؛ وابنِ الْجَصّاصِ مَزْيَدَ المَدَنِيِّ، وغيرِهم؛ كما في صبحِ الأعْشى للقَلْقَشَنْدي.
وكذا الحمقى؛ من مِثل: أزهرَ الحمّارِ الأحمقِ، وأبي مُحمَّدٍ الصَّيدَلانِيِّ الأحْمقِ، وغَيرِهم، كما في أخبار الحمقى لابنِ الجَوزي!.
وكُلُّ ذي دُعابَةٍ جُحا:
هكذا رأيْتُ الناسَ يَصْنَعُون!؛ ففي (إنباءِ الغَمْرِ) لابنِ حَجر رحمه الله تَرْجَمةٌ لأحدِ خَواصِّ الأشرافِ والذي ماتَ مسجوناً في قَلْعَةِ (صَفَدٍ) من أرضِ فِلَسطينَ في سَنةِ (847)، وقال عنه السخاوِيُّ في الضوْءِ اللامِعِ: كانَ فيه خِفَّةُ رُوحِ ومُجونٌ ودُعابةٌ؛ فلقَّبَ جُحا!.
ولُقِّبَ به أيضاً: محمدُ بنُ إبراهيمَ الخانكي، ويونسُ بنُ حُسَيْنٍ الواحِيُّ الجَزار، كذا في الضوء اللامعِ المذكور، وفي كَتُبِ التراجِمِ كثيرٌ مِنْ هؤلاءِ لا نَطيلُ بِذِكْرِهم.
ومِنَ الطرائفِ المَنْسُوبَةِ إلى بَعْضِ هؤلاءِ مَثَلاً: ما في الدُّرَرِ الكامِنَةِ لابنِ حجر؛ وأعيانِ العَصْرِ للصَّفديِّ؛ في أخبارِ أحمدَ بنِ محمدٍ بنِ الحريرِيِّ وكانَ شَكِلاً ضَخماً مُفْرِطَ السِّمَنِ له نوادِرُ مُضْحكةٌ من نَمَطِ ما يُحْكَى عن جُحا!.
حكاية:
كان السلطانُ قد عَيَّنَ أحمدَ المذكورَ مُدَرِّساً في المَدْرَسَةِ الصالِحيَّةِ؛ فدَخلَ أَحْمَدُ المدرَسَةَ مَرّةً ورأَى الشيخَ نَجْمَ الدينِ القَحْفازِيَّ خارِجاً مِنْ مَحلِّ الطَّهارَةِ (بيت الخلاء)؛ فقالَ له أحمدُ: يا مَولانا!؛ آنَسْتُمْ مَحَلَّكُم!!، فقالَ له الشيخُ: قَبَّحَكَ الله!.
حِكايَةُ الحكايات:
وأَخالُكُ - كانَ الله لي ولك – فيما أَصْنَعُهُ مِنَ الاسْتِطْرادِ والتطْويلِ في (مُسامَراتِنا) هذه بينَ مُؤَيِّدٍ يَرَاها فُرْصَةً سانِحَةً لاقْتِناصِ ما أَمْكنَ مِن فَرائدِ الفوائدِ!؛ ومُعارِضٍ يُرَجِِّحُ جانِبَ الاخْتِصارِ في زَمَنِ الاخْتِصار!، وبينَ هذا وذاك آراءٌ وآراءٌ!، ولله الحِكْمَةُ البالغة.
أما أنا فأَكْرَهُ الاخْتِصارَ!، وأُشْفِقُ على الفائدَةِ أنْ تَبْقَى حَبِيسَةَ فِكْري وعَوَاناً في صَدْري؛ بَعْدَ أنْ بَذَلتُ في تَحْصِيلِها وجَمْعِها وضَمِّها إلى نَظائِرها رُبُعَ قَرْنٍ من الزمانِ بل أكثر!، وأَرَانِي أتَحاشَى الحَشْوَ فيما أَكْتُبُ ما اسْتَطَعْتُ إلى ذلك سَبيلاً؛ وأتَخَوَّلُ القارِئَ بالفائِدَةِ بعْدَ الفائِدَةِ مَخافَةَ السآمَة.
ولَسْتَ بِمَلُومٍ وإنْ خالَفْتَني في ذلك، فالمَوْطِنُ يَتَّسعُ للخِلافِ ولله الحَمد؛ وذاكَ هُوَ شأْنُ العَقْلِ البَشَرِيِّ، قادِرٌ على مَدْحِ ما يَشاءُ وذمِّ ما يَشاءُ!، مُتَناقِضٌ!؛ قدْ يَمْدَحُ الشيءَ تارَةً ويَذمُّهُ أخرى!؛ وكلُّ ذي رأْيٍّ أو مَذهبٍ أو نِظامٍ أو عَقيدَةٍ يَرَى ما هُوَ عَلَيهِ حَقّا ويَراهُ مُخالِفُوهُ باطِلاً!!.
وقِصَّةُ جُحا معَ حِمارِهِ دليلٌ لهذا!:
فقد حَكى حَمَلةُ الآثارِ ورُواةُ الأخبارِ أنَّ (أبا الغُصْنِ جُحا) قَصدَ السوقَ يَوماً راكِباً على حِمارٍ لهُ وقدْ أرْدفَ وَلدَهُ خَلْفَه، فَمَرّ على نَفَرٍ جُلُوس؛ فقالَ قائلُهم: ألا تَرَوْنَ إلى هذينِ وقدْ نَزَعَ الله الرّحْمَةَ منْ قَلْبَيْهِما؛ فلم يَرْحَما الدابَّةَ ولم يُشْفِقا عَلَيها!، فتَركَ ولدَهُ على ظَهْرها ومَضى يَمْشي؛ حتى أَتى على قَوْمٍ آخَرينَ؛ فَلَما رَأوْهما قالوا: وَلَدٌ لا أَدَبَ عِنْدَهُ!؛ ولم يُحْسنْ أبوهُ تأَدِيبَه!!، فأَمَرَ ولَده بالمَشْيِ ورَكبَ هو؛ فلَما كانا بِبَعْضِ الطريق سَمِعَ من يَقُول: شيخٌ قسا قَلْبُهُ؛ ولا يَرْأفْ بِحالِ صَبِيِّهِ الصغير!، فنزلا عن حِمارِهما يَمْشيانِ وخَلَّياهُ؛ فقيلَ والله أَعْلَمُ بالقائل: ما رأيناَ أَحْمقَ مِن هذينِ!؛ يَمْشِيانِ على أَقْدَامِهِما؛ والحِمارُ وحده؛ وما خَلقَ الله الحميرَ إلاّ لِتُركب!!.
وقيل: فما كانَ مِنْهما إلاّ أنْ حَملا الحِمارَ ومَضَيا به!!!.
و لَعْمْرُ اللهِ إنْ كانَتْ إلاّ مِن بَدائعِ الحِكَم!؛ وهاكَ إن شِئتَ شِعْراً نَظَمْتُهُ في التَعْليقِ عليها؛ والعَنْدمُ في البَيتِ الخامس: الدَّمُ، وجَعْدُ اليَدَينِ في البيتِ السابع: البَخيلُ. (والنظْمُ مِنْ بحرِ المُتقارب)؛ فقلتُ:
وأَحْلِـفُ باللهِ لـنْ يِسْلَمـا وإن مَرَّ دَهْـرٌ ونالاَ الســمَا
فَدَعْكَ فَمنْ في الوَرَى كَجُحَا يُقِـلُّ الحِمارَ ومـا اسْتَسْلَما
خَلِيلََـيَّ دُنْيـا وَجَرّبْتُـهـا تُرِيكَ الثَّرى قَد غَدا أَنْجُمـا!.
وَكُلٌّ يُريكَ بِـها مـا يَـرَى فكمْ مَنْ يَقُولُ؟ ومَنْ؟ وفَما؟!.
فَلَوْ قُلتَ: دِجْلَةُ شَهْداً جَرى!؛ لَقِيلَ: الفُراتُ جَرى عَنْدَمـا!.
وكَمْ مِنْ عَيِيٍّ بِهــا باقِـلٍ يُقالُ: أَبـانَ كَما أَفْهَمــا!.
وَجَعْدِ اليَدَينِ بَــدا حِرْصُهُ!؛ يُقالُ: الجَوَادُ!؛ وغَيْثٌ هَـمى!.
وَهَـذا يَئِنُّ؛ وهـذا يَـرِنُّ!؛ لِحَقٍّ يَضيـعُ؛ ومَـالٍ نَمـا!.
فيارَبُّ ما لي بِـها حِيلَــةٌ؛ وأَنْتَ المُعِيـنُ على كُـلِّ مـا
وصانَ الإلَهُ جُحـا وابْنَــهُ؛ وَدُومـا لَنا طُرْفَـةً واسْلَمـا!.
سَفِينَةُ النَّجاةِ في بَحْرِ المَهالك:
ولأجْلِ هَذا الذي شَرَحتُ لكَ منِ اضطِرابِ العُقُولِ البَشَريَّةِ واصطِلامِها كانَ الإنِسانُ في دُنْياهُ كَمَنْ أشْرَفَ في طَريقِ سَفَرهِ على غابَةٍ كثيرَةٍ الشعابِ والمَخاوِفِ ولا مَناصَ لهُ مِنْ سُلُوكِها؛ فَليسَ يَسلمُ إلا بِدَليلٍ خِرِّيتٍ (ماهرٍ) عالمٍ بِمَخاطِرها وطُرُقِ النجاةِ فيها!.
وتَعَيَّنَ على الإنسانِ بل على البَشريةِ كُلِّها أنْ تَرْجِعَ إلى مِيزانِ قِسطٍ وعَدْلٍ لا يَتَأَثَّرُ بِما تَتَأثَّرُ بهِ الموازِينُ البَشَرِيَّةُ المُخْتَرَعَةُ مِنَ المُيُولاتِ النّفْسيَّةِ والأهواءِ القَلْبِيَّةِ.
ومِنَ العَبَثِ بلا مِرْيَةٍ ولا رَيبٍ أنْ يُفْتَرَضَ مُجْتَمَعٌ بَشَريٌّ يَتَّفِقُ كُلُّهُ على قَانُونِ عَدْلٍ ومِيزانٍ يَفْصِلُ بَيْنَ الحقِّ والباطِلِ؛ ويُعْطِي كُلَّ ذي حَقِّ حَقَّهُ ويُنْزِلُ كُلاًّ مَنْزِلَتَهُ دُونَ أن يَكَونَ إلهِيّاً سَماوِيّا، لأنَّ بِناءَ الإنسانِ عَلى النقْصِ كما قَدْ عَلِمْتَ؛ وتَفَرَّعَ عن هذا اخْتِلافٌ في المَفاهِيمِ وتَفاوتٌ فِي الأذْواقِ والمَشارب؛ وتَعارُضٌ في القِيَمِ والمَبادِئِ، فَكانَ افْتِراضُ ذلكَ يَعْني افْتِراضَ أُمَمٍ مِنَ البَشَرِ الكامِلِينَ لا يَعْتَرِيهم قُصُورٌ ولا نَقْصٌ؛ بل هُمْ على سَجِيَّةٍ واحِدَةٍ لا تَبايُنَ بينَها ولا تَفاوُتَ؛ ولا تتغَيَّرُ ولا تتبَدَّلُ!!، وذلكَ مُخالِفٌ كُلَّ المُخالَفَةِ للأَمْرِ الكَوْنِيِّ القَدَريِّ في خلْقِ الإنسان!، ولهذا صَرحَ بعْضُ خُبَراءِ القانُونِ بأنكَ لو سألْتَ عَشرَةً من القانُونيينَ عنْ تَعْريفِ القانُونِ فإنَّ عَلَيكَ أن تَسْمَعَ أحدَ عَشرَ جَواباً!!.
وكُلُّ دَعْوى على خِلافِ ذلكَ فهيَ وَهْمٌ خادِعٌ وسَرابٌ كاذِب، وما صاحِبُها إلاَّ الذئبَ في ثِيابِ الطبيبّ!.
وإلاّ فَهؤُلاءِ اليهُودُ أَحَطَّ أُمَمِ الأَرْضِ قَدْراً؛ وأخَسُّهمْ طِينَةً؛ المَغْضوبُ عَليهمٍ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ يَدَّعُونَ أرْضَ فِلَسْطينَ وأنَّهمْ أهْلُها وأَحَقُّ بِها!!، فهَلْ يَسْتَقِيمُ اللقَاءُ بَينَ هؤلاءِ المُدَّعِينَ؛ وبَينَ أصحابِ الحَقِّ مِنَ المُسلِمينَ الذين يَعْمُرُونَها بَنُورِ التوحيدِ والإيمان إلا في ذِهْنِ مَنْ يُقالُ فيه: (أَحْمقُ مِنْ جُحا)!.
وهلِ الدَّعْوةُ إلى هذا وأمْثالِهِ إلا مِنْ قَبيلِ الدعْوةِ إلى طَحْنِ الدُّرِّ والبَعْرِ وخَلْطِهما وعَجْنِهِما في كُتْلَةٍ واحِدة!.
شَهادَةُ مُهَنِدِسِي الحَياةِ على حِمارٍ مَقْطُوعِ الذيلِ والأُذُنَيْنِ!.
ولقدْ وَصَفَ كثيرٌ مِنَ الكُتابِ والباحِثينَ دِراسَةَ القانُونِ في القَرْنِ العِشرينَ بأَنَّها الهَنْدَسَةُ الاجْتِماعِيَّةُ!؛ والتي سَيتَمَكَّنُ خَبَراءُ القانُونِ بِزَعْمِهمْ عَنْ طِريِقِها مِنْ وَضْعِ قَوانِينَ ثَابِتَةٍ للحَياةِ الإنسانِيَّةِ كالتي يَضَعُها المُهَنْدِسُ لآلاَتِهِ!؛ غَيرَ أنَّ الجَمَلَ تَمَخَّضَ في هذه المَرَّةِ لا لِِيَلِدَ فَأْراً كما يُقالُ؛ بلْ ولَدَ عُتْعُتاً (وهو ولَدُ الحِمار!؛ ويُقالُ له في اللغَةِ الجَحْشُ و التَّوْلبُ والتِّلْوُ والعَفْوُ بِتَثْلِيثِ العَيْنِ) مَبْتُورَ الذَّنَبِ مَجْدُوعَ الأنْفِ ذاهِبَ العَيْنَينِ أَسَكَّ الأُذُنينِ!!؛ واعْتَرَفُوا - ويالَهُمْ مِنْ مُهْنْدسِين! – بالعَجْزِ عن التَّوَصُّلِ إلى مِعْيارٍ قَانُونِيٍّ تَتَّفِقُ الأُمُمُ عليه!!.
وكانَ الكِبارُ مِنْ فَلاسِفَتِهِمْ مِنْ أمْثالِ (كَانْتَ الألمانِيِّ؛ المُتوفّى سنَةَ : 1804) الذي أسّسَ المَذهَبَ النقْدِيَّ في الفَلْسَفِةِ الحَدِيثَةِ وحاوَلَ التوْفيقَ بين الاتِّجاهِ العَقْلِيِّ والحِسِّيِّ في الفَلْسَفَةِ قدْ اعْتَرفَ بأن المُشْكِلَةَ الكُبْرَى للنَّوْعِ الإنْسانِيِّ هيَ الوُصُولُ إلى مُجْتَمَعٍ مَدَنِيِّ يَحْكُمُهُ قَانون!!، لكِنَّ مُحَاوَلاتِ المُهندِسينَ! انْتَهتْ إلى الفَشَلِ؛ بل اعْتَرَفَ كِبارُ القانُونِيينَ مِنْ أمْثالِ (فُولَر) L.L.) (Fuller بِأَنّ (القانُونَ لَم يكشفْ عَنْ نفسِهِ بعدُ!)؛ و(فولر) هذا هو الذي وَضَعَ كتاباً أسماهُ: (القانونُ يَبْحَثُ عَنْ نفسه،The Law in Quest of Itself)!.
واعْتَرَفَ القانُونِيُّ (G.W. Paton) بأنّ السبيلَ الوَحِيدَ للوُصُولِ إلى مَعَايِيرَ مُتَّفَقٍ علَيْها للقانُونِ هو الاعْتِرافُ بالوحي السماوِيِّ قانُونا!.
وهذا - والأُمورُ تُذْكَرُ بِنَظائِرها - يُثْبِتُ فَشَلَ نَظَرِيَّةِ التَّطَوُّرِ الذي حَاوَلَ جَمْعٌ مِنَ الفلاسِفَةِ المُتأَخِّرينَ مِنْ أمْثالِ الإنْجِليزِيِّ (هَرْبرتْ سبِنْسَرْ) فَرْضَ سُلْطانِها على الأصولِ والمبادِئِ والأخْلاقِ والقِيَمِ؛ وهُمْ بِذلكَ يُريدُونَ جَرَّ أَذيالِها على الدينِ والعَقِيدَةِ والشريعَةِ؛ تَحْتَ زَعْمِ أنَّ المُجْتَمَعَ الإنْسانِيَّ جَاوَزَ الطُفُولَةَ إلى الرَّشْدِ!!، وأنَّهُ يَسْتَطِيعُ الاسْتِغْناءَ عَنِ خَالِقِهِ وهِدَايَتِهِ وشَرْعِهِ!؛ وهِيَ نِحْلَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ نَظَرِيَّةِ (دَارْوِنَ) الإلْحادِيَّةِ في النَّشوءِ والارْتِقاءِ للكائِنِ الحيِّ؛ جُعِلَتْ قَانُوناً اجْتِماعِيّاً!.
وقدْ عارَضها فلاسِفَةٌ غَربِيونَ آخَرونَ مِثْلُ (الدكتور كريسي موريسون)؛ وقامَتْ براهينُ كثيرَةٌ على بُطْلانِها.
حِكايَةُ الجُمْجُمَتَين!:
وههُنا قِصَّةٌ لا بُدَّ من حكايَتِها، تَدُلُّكَ على قُصُورِ العقْلِ البَشَريِّ بالِغاً ما بلغَ مِنَ البحثِ والتجْرِبَةِ، وأَنَّهُ ما دامَ لا يَهْتَدِي بِهُدَى اللهِ فلا يَزَالُ يَقْرَعُ سِنَّهُ حَيْرَةً؛ وَيَنكُثُ الأرضَ حَسْرَةً؛ ويَعَضُّ على يَدَيْهِ نَدَما!.
فَفي أَوائلِ القرْنِ العِشرينَ حينَ راجَ أمْرُ (نَظَريَّةِ التطَوُّرِ) في الكائنِ الحيِّ التي اخْتَرَعَها (دَارْون) واحْتَدَمَ الصراعُ حَوْلَها؛ قامَتْ طائِفَةٌ من أَنْصارِ هذه النظريَّةِ بِعَمَلِيَّةٍ مِنْ أشْهَرِ عَمَليَّاتِ التَّزْويرِ في حَقْلِ البَحْثِ العِلْمِيِّ!!؛ وتُعْرَفُ باسْمِ عَمَلِيَّةِ (Piltdown man)؛ وتَعْنِي الاكتِشافَ المَزْعُومَ (لإنسانِ ما قَبْلَ التاريخ) قرْبَ مَدينَةِ ( piltdown) الإنجِليزية؛ حيثُ قامَ أنصارُ النظرِيَّةِ المَذكُورُونَ في عامِ (1912) بِتَرْكيبِ جُمْجُمَةٍ مِنْ قَحْفِ إنسانٍ على فكِّ قِردٍ مَعَ إضافَةِ أسنانِ إنسانٍ إلى الفكِّ!، وقُدِّمتْ هذه الجُمْجُمَةُ على أنها الحَلَقَةُ المَفْقُودَةُ فِي تاريخِ التَّطَوُّرِ بَينِ القِردِ والإنسانِ!!؛ والذي يَهُمُّنا هنا أن هذه الجُمْجُمَةَ خَدَعَتْ كِبارَ عُلَماءِ (البَيُولُوجِيا) وأطِباءِ الأسنان الذينَ فَحَصُوا الجُمْجُمَةَ مَدَّةَ أرْبَعينَ عاماً!؛ وألَّفُوا حَوْلَها مِئاتِ الكُتُبِ!؛ وقُدِّمَتْ لدِراسَتِها رَسائلُ (دُكْتُوراه)!؛ وكُتِبَ حَوْلَها نَحْوُ خَمْسمائةِ أَلْفِ مَقالَة!!.
وفي عامِ (1953) أثْبَتَ (كِينيثْ أُوكْلِي) مِنْ خِلالِ التحاليلِ الكيميائِيَّةِ أنَّ الجُمْجَمَةَ ليسَتْ سِوى تَزْويرٍ وخِداعٍ؛ وقدْ تَمَّ ذلكَ بِمَهارَةٍ على أَيدِي أُناسٍ مُحْتَرفينَ، وطُلِيَتْ عِظامُ الجُمْجُمَةِ بالحديدِ والمَنْغَنِيزِ لِتَظْهَرَ عليها آثارُ القِدَم!!.
وفي (24/مايو) منْ عام (1996) أعْلنَ (براين غارْدِينَر)، أستاذُ عِلْمِ الدِّرَاسَاتِ القَدِيمَةِ في كليّةِ الْمَلِك في (لندن/إنْجِلْترا) في إجْتِماعٍ عامٍّ الكشْفَ عَنْ أَسرارِ خَدِيعَةِ إنسانِ ما قَبْلَ التاريخ!.
والذي يَهُمَّنا هُنا لَيْسَ هُوَ الاكْتِشافَ الفَذَّ لِزَيفِ الجُمْجُمَةِ!!؛ بَلْ تِلْكَ الجُمُوعَ مِنَ العُلَماءِ والباحِثينَ الذينَ انْطَلَتْ عَلَيْهم الحِيلَةُ - مَعَ ما تَوَفَّرَ لَدَيْهِمْ مِنْ وَسائلِ العِلْمِ وأدَواتِ البَحْثِ – طِيلَةَ السنَواتِ الأرْبَعين!؛ والتي تَحْكِي تِيهَ اليَهُودِ في الأرْضِ أَرْبَعِينَ عاماً؛ لِيَكُونَ ذلكَ جَزاءً وِفاقاً لِكُلِّ مَنْ أعْرَضَ عَنْ دينِ الله وهُدَاهُ!.
وأَدلُّ ما تَشِيرُ إلَيهِ هذه الحِكايَةُ؛ والخُلاصَةُ التي نَنْتَهِي إِلَيْها أنّ العَقْلَ البَشَرِيَّ بالغاً ما بلغَ لا يُمْكنُ أن يَكونَ مِيزاناً ومَرجِعاً للحقِّ والباطلِ والصوابِ والخطَأ؛ وأن البَشَريَّةَ لا نَجاةَ لها إلا بالدينِ الذي ارتَضاهُ لها خالقُها الذي يَعْلَمُ السرَّ وأخْفى.
سَنُريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِم:
ولا تَزَالُ بِحَمْدِ اللهِ تَتَوَالَى الشَّوَاهِدُ وتَنْهَضُ البَراهِينُ والحُجَجُ الكُوْنِيَّةُ والآفَاقِيِّةُ عَلَى الدَّلالَةِ علَى طِريقٍ واحِدٍ للخلاصِ؛ وهُوَ الذي لا يُنْكِرُهُ العُقَلاءُ مِنَ الأُمَمِ، وهو (الإسلامُ) الذي جاءَ به مَحمدٌ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليْهِ؛ ولا طريقَ سِواه.
ودُونَكَ شَهادَاتِ أمْثال (الدكتور جرِينِيه) الفَرَنِسيِّ الذي أسلمَ وكانَ عُضْواً سابِقاً في مَجْلِسِ النُّواب؛ حيثُ ذكرَ عن سَببِ إسلامِهِ أنهُ تتبَّعَ كلَّ الآياتِ القرْآنِيَّةِ التي تتحدَّثُ عن العُلومِ الطبيعِيَّةِ والصحِّيَّةِ والكَوْنِيَّةِ فوجَدَها مُطابِقَةً للمَعارِفِ الحدِيثَةِ؛ فأسلم.
وَشَهادَةَ (بثورث سميثْ) في كتابِهِ (حياة مُحمد) الذي شَهِدَ للنبِيِّ صَلى الله عليهِ وسلمَ بأنّهُ مُؤسِّسُ أُمَّةٍ ومَمْلَكَةٍ ودِيانَة!؛ كما شَهْدَ للقُرْآنِ بأنهُ نَقِيُّ العِبارَةِ مِن الألفاظِ المُسْتَهْجَنَةِ؛ باهِرُ الحِكْمَةِ والحقائقِ؛ وأنهُ أعْظَمُ مُعْجِزَةٍ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم.
وَشَهادَةَ المُسْتَشرِقِ الألماني (الدكتور شُوميس) بأنَّ القرْآنَ وحْيٌّ من الله تَعالَى؛ وأنَّ جُمْلةً واحدَةً تُغْنِي عن مُؤَلّفات!!؛ وذلك أكبرُ مُعْجَزَةٍ أتى بها مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ!.
وشَهادَةَ المؤَرِّخِ الإنْجِليزِيِّ (بوسْوُورْثْ سِمِيثْ) في كِتابِهِ (محمد والدينُ المُحمَّدي) بأنَّ القرْآنَ يَحْوي أدَباً وقانوناً؛ وأخلاقاً عامَّةً؛ وكُتُباً مُقَدَّسةً في كِتابٍ واحد؛ وانتَهى إلى القولِ بأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله حَقّا!!.
وشَهادَةَ (سنكس) بأَنَّ تعاليمَ القرْآنِ أكثَرُ انطِباقاً على نَوامِيسِ الطبيعَةِ وقوانِينها والعَقْلِ الإنسانِي!.
وشَهادَةَ (آرْثَرْ ليُونَرْد) بأنَّ محَمداً خَلَّفَ للعالَمِ كِتاباً هوَ آيَةُ البَلاغَةِ وِسِجِلُّ الأخلاقِ!؛ وأنه ليسَ بَينَ المُكْتَشَفاتِ العِلِمِيَّةِ حَديثاً مَسألَةٌ تتعارَضُ مَعَ الأسسِ الإسلامِيَّة، فالانسِجامُ تامٌّ بينَ تعاليمِ القُرْآنِ والقَوانينِ الطبِيعِيَّة!!.
ومِثْلُ هذه الشهادَاتِ كثيرٌ؛ وكُلُّها إمامٌّ لا يَضِلُّ؛ ودَليلٌ لا يَزِلُّ على أّنَّ دينَ الإسلامِ الذي اخْتارَهُ اللهُ للبَشَريَّةِ وَثِيقُ العُرَى؛ وَكِيدُ القُوى؛ حَصينُ العِصْمَةِ؛ مَأْمُونُ الوَصْمَةِ؛ لا يأْتِيهِ الباطِلُ من بَينِ يديهِ ولا مِن خَلْفِهِ.
وكَمْ أَتَمَنَّى لو اضطلعَ بَعْضُ الغَيُورِينَ بِمُهِمَّةِ القِيامِ على عَمَلٍ مَوسُوعِيٍّ يَجْمَعُ أَمْثالَ هذه الشهادَاتِ مِنَ مَشاهِيرِ المُنْصِفِينَ مِنَ الأُممِ الأخرى؛ والذينَ أنْصَفُوا الإسلامَ ونَبِيَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ والقرْآنَ عَبْرَ التاريخ، مُبَوَّباً بِحَسبِ المَواضِيعِ التي وقعَتْ الشهادَةُ عليها، وإذنْ لكانَ تَصْدِيقاً لِقَولِهِ تعالى في سُورَةِ الأَنْبِياء:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.
وَخَاتِمَةُ هذِهِ المُسامُرَة:
أَنِّنِي – وقاكَ اللهُ شَرَّ كُلِّ ذي شَرٍّ – لا زِلْتُ أَعْجَبُ مِمَّنْ اسْتَزَلَّهُ الشيطانُ واسْتَهْواهُ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنا اللاجِئِينَ إلى حِصْنِ الإسلامِ وَحِرْزِهِ؛ والمُتَمَسِّحِينَ بِمُسُوحِهِ (ثِيابِهِ)؛ وهُمْ مِنَ الإسْلامِ وما جاءَ بهِ عَلَى نَقِيضِ ما قَالَهُ أولئكَ المُنْصِفُونَ مِن عُلَماءِ الغَرْبِ الذينَ قَدَّمْنا لكَ أقوالَهم!!، فكانُوا كالشاةِ العائِرَةِ بَينَ الغَنَمَينِ لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاء!.
ونَحنُ بِحاجَةٍ اليَوْمَ إلى تَصْحِيحِ مَفْهُومِ مِيزَانِ الخَيرِ والشرِّ في الأذْهان؛ خاصَّةً بَعْدَ أنْ صَنَعَ البَشَرُ لأَنْفُسِهِمْ مَوازِينَ مِنْ قَبيلِ المَوازِينِ التي سَبَقَتْ في حِكايَةِ أبي الغُصْنِ لا تَنْتَسِبُ إلى العَدْلِ بِحالٍ؛ بلْ هِيَ وَليدَةُ جَهالَةِ الإنسانِ وشَقاوَتِهِ؛ وشَكِّهِ وَحَيْرَتِه!.
إنَّ مَظاهِرَ القُوَّةِ التي يَتَمَتَّعُ بِها العالَمُ المادِّيُ اليَومَ جَعَلَتْ الحَقَّ عِنْدَ الأمَمِ الغَرْبِيَّةِ وَمُقَلِّدِيها للقُوَّةِ!؛ كما قالَ (الفَيلَسوفُ الإنجليزيُّ سبِنْسَرُ) للأسْتاذ مُحَمَّد عَبْده حِينَما لَقِيَهُ في (برايْتُون) من جَنُوبِ (إنجِلْتْرا) في العاشر من شَهرِ (أغسطس) سَنَةَ (1903)، فأجابَهُ الأستاذُ: ومَظاهِرُ القوّةِ هي التي حَمَلَتْ الشرقِيينَ على تَقْليدِ الأورُوبِيينَ فيما لا يُفيدُ مِنْ غَيرِ تَدقيقٍ في مَعْرِفَةِ مَنابِعِها!!. انتَهى.
وقدْ عَرَفْتَ المِيزانَ فالزَمْ!؛ ولا عَلَيْكَ مِما يُتَمْتِمُ بِهِ أُولئكَ هنا وهُناك!، فالدرُّ هو الدرُّ حيثُما كان!.
حمداً لله؛ وبعدُ:
فأحسبُ أن هذا العُنْوانَ سَيُثِيرُ التَّساؤُلَ في أّذهانِ بعضِ القراءِ على الأقل، ورُبّما كانَ من المُسْتَغْربِ عِنْدَ آخَرينَ عَقْدُ مُسامَرةٍ (للدُعَابَةِ) في وَقْتٍ زَاحَمَ الجِدُّ فيهِ الجِدَّ؛ ولَمْ تُبْقِ تَكالِيفُ الحَياةِ وقْتاً (لِحَكِّ الرأسِ!) كما تَقُولُ العامَّةُ في المثَل!وأصْبَحَتِ اللحَظَاتُ والأَعْمَارُ تُقَدَّرُ عِنْدَ مُهَنْدِسي الحياةِ (بالدينارِ والدولار)!!، وأغْرَبُ من ذلكَ أن كثيرينَ من القُرَّاءِ سَيُفَاجِئُهُم ما حَظِيَ به أبو الغُصْنِ مِنَ الشهْرَةِ الواسِعَةِ والمَحْدِ المُؤَثّلِ العَريقِ بِدُعابَاتِهِ تِلك؛ وبِما تَحْويهِ مِنْ حِكَمِ الطَّرائفِ وطَرَائفِ الحِكَمِ!.
وأينَ مَحَلُّ (أَبي الغُصْنِ) بما حازَهُ مِنْ شُهْرَةٍ ملأَتْ ما بَينَ الخافِقَينِ مِمّا يَقَعُ لأهْلِناَ مَثَلاً في بِيتِ المَقدِسِ وأكنافِ بيتِ المَقْدِسِ من الأرضِ المُبارَكَةِ الطيبَةِ ولِسانُ حالِهمْ يُتَرْجِمُ عنهمْ فيقول:
خَرَجْنا إلى المَوْتِ شُمَّ الأُنُوفِ كما تَخْرُجُ الأُسْدُ مِنْ غابِها
نَسيرُ على شَفَراتِ السـيُوفِ ونَأتِي المَنِيَّةَ من بابـــها
سَيَعْلَـسـمُ أَعْـداؤُنا أنـَّنا رَكِبْنا المَنايا حَنانـاً بِــها
ولولا أَنَّنِي أَتَّقِي بِحُلُمِ السادَةِ القُرَّاءِ أن تُصِيبَنِيِ سِهامٌ منَ اللوْمِ لا تُخْطِئُ لكانَ لي معَ هذه التسْمِيَةِ شَأْنٌ آخرُ.
سَمِيرٌ وابْنَاهُ:
وأَنا أََحِبُّ - كان الله لي ولكَ – أنْ تَجْنِيَ مِنْ حَدائقِ هذه الأسْمارِ قُطُوفاً دَانِيَةً، أما الكَلامُ فإنَّهُ - وللهِ الحمدُ - يَسْنَحُ لي سَهْلُهُ؛ ولا يَجْمَحُ علَيَّ وعْرُهُ، وأنا أتَخَيَّرُ مِنهُ إنْ شاءَ اللهُ ما رَقَّتْ حَوَاشِيهِ؛ وراقَتْ مَقاصِدُهُ ومَعانِيهِ، وَإِنَّما اخْتَرْتُ تَسْمِيَةَ حَديثِي إلَيكَ بِهذا الاسمِ لأنَّهم ذَكَرُوا أنَّ السمَرَ حَدِيثُ الليلِ خاصَّةً؛ وذلكَ حِينَ يَلْبَسُ الكَوْنُ ثِيابَ الراحَةِ والدَّعَةِ، وتَسْكُنُ الخلائقُ إلاّ ما شاءَ اللهُ تَعالَى!، (وقيلَ: بلْ أَصلُ السمَرِ: ضَوْءُ القَمَر؛ لأنّهم كانُوا يَتَحَدَّثُونَ فيه!)، ورأَيْتُ أنَّ ذلكَ أَدْعَى لِقُبُولكِ؛ وأَرْوَحُ لِنَفْسك، وأَرْجَى لِفَوْزِك!؛ فإنّنِي لا أُعْلَمُ عَنكَ إلا أَنكَ وابْنا سَمِيرٍ (وسميرٌ هو الدهرُ؛ وابْناهُ هما الليلُ والنهار) كفَرَسَيْ رِهانٍ، فإما لكَ وإما عَليك!.
ومِن مَقاصِدِ هذه (المُسامَرات) ما يتَعَلَّقُ بإفهامِ الناسِ كثيراً من الحَقائقِ التي أفلَ نَجْمُها مِنْ حَياتِ كَثِيرينَ، ولَعَلَّها - ولو بَعْدَ مُحاوَلاتٍ عديدةٍ – تُشْرِقُ شَمْسُها عَلَيْهم مِن جديد؛ بعْدَ أن احتَجَبَتْ عَنْهمْ بِعَساكِرِ الأَهْواءِ وَالْفِتَنِ والنفُوسِ الأمَّاراتِ بالسوء والجُنْدِ المُرْصَدِينَ مِنْ شياطينِ الثَّقَلَينِ!؛ ولا سَبِيلَ لِخَرْقِ هذهِ الحُجُبِ إلا بِالتّحَيُّلِ المَشْرُوعِ في إبْلاغِ الحقِّ للخَلْقِ؛ و(الحَرْبُ خَدْعَةٌ) كما تَواتَرَ به النقلُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فإنْ طالَتْ بِنا الحَياةُ - والأيامُ دُوَلٌ – شافَهْتُكَ والسامِرَةَ (وهم جَماعَةُ السُّمَّار) بِهَذه الأسْمارِ - إنْ شاءَ الله تَعالَى - هُناكَ في بَيْتِ المَقْدِسِ زَادَهُ الله شَرَفاً؛ وقدْ أشْرَقَت الشمْسُ مِنْ مَطْلَعِها؛ وعادَتْ الأُمُورُ إلى مَنْزَعِها؛ وأَخَذَ القَوْسَ بارِيها؛ وسَكنَ الدارَ بَانِيها.
واعْلَمْ بأنَّ (السامِرَةَ) لَفْظَةٌ تَطْلَقُ أَيْضاً على غيرِ المَعْنى الذي أَشَرْتُ إليه؛ وهُوَ مَعْنَىً لا أَقْصِدُهُ قَطْعاً؛ فَيُرادُ بِها قَوْمٌ من اليَهُودِ مِن قَبائلِ بني إسرائيلَ، يُخالِفُونَهمْ (أي اليهودَ) في بعضِ أحْكامِهم؛ كإنْكارِهم نُبُوَّةَ مَنْ جاءَ بعدَ مُوسَى عليه السلامُ!؛ وزَعْمِهمْ أن نابُلْسَ هي بيتُ المَقْدِس!، وهم صِنْفانِ: الكوشانُ والدُّوشان؛ وإليهم يُنْسَبُ السامِريُّ الذي عَبَدَ العِجْلَ!.
وذكرَ العلامَةُ المُرْتَضى الزبِيدِيُّ مُصنفُ تاجِ العَروس المُتَوفَّى سنةَ (1205) للهجْرة قال: وأكثرهم في جَبَل نابُلُس؛ وقد رأيتُ منهم جماعةً أيام زِيَارَتِي للبَيْت المُقَدس؛ ومنهم الكاتِبُ الماهر المُنْشِئ البليغ : غَزَالٌ السّامِرِي ذاكَرَنِي في المَقَامَاتِ الحَرِيرِية وغيرها وعَزَمَنِي إلى بُسْتَان له بثَغْرِ يافا؛ وأَسلَم وَلَدُه وسُمِّيَ مُحَمَّداً الصادق وهو حي الآنَ.
وقد ذكرَ الإمامُ ابنُ حجَرٍ العَسْقَلانِيُّ في بَعْضِ كُتُبِهِ مِمّنْ أَسْلَمَ من اليَهُودِ السامِرَةِ شِهابَ الدينِ السامِرِيَّ رَئيسَ الأطِباءِ بِمِصْرَ؛ أسلمَ على يَدِ الملكِ الناصرِ؛ وكانَ فيه فَضيلَة. انتهى.
واللهُ أَضْحَكَ وَأَبْكى:
وذلكَ سِرٌّ مِن الأسرارِ التي يَنْطَوي عليْها خَلْقُ الإنسان؛ وقَدْ قِيلَ إنَّ الله تعالى مَيزّ الإنسانَ بالضحكِ والبُكاءِ مِنْ بينِ سائرِ المَخْلُوقات!؛ وقيل: إنَّ القِرْدَ يَضْحَكُ ولا يَبْكي!؛ والإبلَ تَبْكي ولا تَضْحك!، ولمْ يَجْتَمِعا إلاّ في ابنِ آدمَ!.
هكذا قيل؛ لكنّني وجَدْتُ في الموسوعاتِ العِلْمِيَّةِ ذِكْراً لطائرٍ سَمِينٍ رَمادِيِّ اللونِ؛ يَبْلغُ طُولُهُ نَحْو (46) سَنتيمِتْراً؛ يُدْعَى (الحَمارَ الضاحِك)!؛ وذَكَرُوا أنَّهُ سُمِّيَ بذلكَ لأن صَيْحاتِهِ تُشْبِهُ الضحك!؛ ويُطْلَقُ عليه في الإنجِليزيَّةِ اسمُ (Kookaburra)؛ وهو اسمٌ مَشْتَركٌ لأربَعَةِ أنواعٍ من الطيورِ تَعِيشُ في اسْتُراليا وغِينْيا الجديدة.
قالوا: وَمِنَ العَجَبِ أنه لا يَعْلَمُ أحدٌ قَبْلَ وقتِ الضحِكِ أو البُكاءِ أنه يَضْحكُ أو يَبْكي!؛ ولا أنهُ يأتيهِ ما يُعْجِبُهُ أو يُحْزِنُهُ؛ ولو قيل لهُ حالةَ الضحكِ أنّهُ بعْدَ ساعَةٍ يَبْكي لأنكرَ ذلك!؛ وربما أَدْرَكَهُ ما أبْكاهُ في وقتِ الضحكِ؛ أو أَضْحَكَهُ في وَقْتِ البُكاء!.
وأعجبُ من هذا أن الإنسانَ يضحكُ غَداً مما أَبْكاهُ اليوم، ويَبْكِي اليومَ مما أَضْحَكَهُ بالأَمْسِ في غَيْرِ جُنُونٍ ولا ذُهُول!.
وقالُوا أيْضاً: تَعْليلُ الضحكِ بَقُوةِ التَّعَجُّبِ غَيرُ صَحيح، لأنَ الإنسانَ رُبَّما بُهِتَ عندَ رُؤْيَةِ الأمُورِ العَجِيبَةِ ولم يَضْحَك!. وكذلك التعْليلُ بِقُوة الفَرَحِ لأنّهُ قدْ يَبْكي!.
حُلْوٌ ومَالِحٌ:
ولا ضَيْرَ فهكذا هو شَأْنُ الحياةِ!؛ شأْنٌ لا يَنْقَضِي مَعَهُ العَجَب!، لا مُغَيِّرَ لِنافِذِ القَضاءِ والحُكْمِ؛ ولا مُبَدِّلَ لسابقِ العِلِمِ، يَخْتَلطُ فيها الفرحُ والحُزْنُ؛ والأمَلٌ والألمُ؛ والسعادَةُ والبُؤْسُ؛ والغِنَى والفَقْرُ؛ والرّخاءُ والشدَّة، كما يختلطُ فيها العِلمُ والجَهلُ؛ والحياةُ والمَوْتُ، وكما يختلطُ فيها الأبْيَضُ والأسْودُ؛ واللَّيِّنُ واليابِسُ؛ والحُلْوُ والمالِحُ؛ وأمْثالُ ذلكَ، وكما يَخْتَلِطُ فيها الجِدُّ والهَزْلُ ولا فَرْقَ.
وتَجِدُ هذا في طَبائِعِ الناسِ كما تَجِدُهُ في المَعَانِي التي حَوْلَكَ؛ لأنَّ الناسَ أشْبَهُوا في ذلكَ أُمَّهُمُ الأَرْضَ التي خُلِقُوا مِنْها!، وفي الأرْضِ السهلُ والحَزْنُ؛ والفَسيحُ والضيِّقُ؛ والمُرْتِفِعُ والمُنْخَفِضُ؛ والأبْيَضُ والأسْوَدُ، وعلى هذهِ الجَدِيلَةِ اخْتِلافُ الألْسِنَةِ والأَلْوانِ؛ وكانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَقْدورا.
وأَعْقَلُ الناسِ مَنْ عَاشَ الحياةَ عَلَى ما خَلَقَها الله تَعالَى عَلَيْهِ؛ فَعَرَفَ حُلْوَها ومُرَّها؛ وحَسَنَها وقَبِيحَها؛ وأَعْطَى كُلَّ مَعْنَىً مِن مَعانِيها حَقَّهُ الذي أَعْطاهُ لَهُ رَبُّهُ وخالِقُه؛ لا يَزِيدُ عَلَيْهِ ولا يَنْقُصُ مِنْه، ولَمْ يَطْلُبْ مِنَ الدنْيا حالاً واحِداً لا تَحُولُ عَنْه؛ وإلاّ كانَ الإنْسانُ إذْ يُكَلِّفُ الأشْياءَ ضِدَّ طِباعِها كَمَنْ يَطْلُبُ في المَاءَ جَذْوَةَ نار!؛ وفَهْمُ هذا النامُوسِ الكَوْنِيِّ مِنْ أعْظَمِ أسْبابِ السعادَةِ التي ضلَّ عَنْها كَثِيرٌ مِن الناسِ!.
وَوَرَاءَ الدُّعابات أسْرارٌ دَفينَة:
فليْسَتْ هي – ما دَامَتْ تَسلُكُ سَبيلَ الأدَبِ - للتَرْويحِ عن النفسِ من كَبْتِ الحَياةِ وأثقالِها فَحَسْبُ.
بل تَحْمِلُ في أطْوائِها (أنْحائِها) الحِكْمَةَ العِلْمِيَّةَ والعَمَليَّةَ؛ وخُلاصَةَ دَرْسٍ مِن دُروسِ الحياةِ!.
وقَبْلَ هذا وذاك فَهِيَ تَعْبِيرٌ عَمَّا تُكِنُّهُ ضَمائرُ الأُمَمِ والشعُوبِ مِنَ المَشاعِرِ والأَحَاسيسِ؛ وما تَصُوغُهُ في دَوَاخِلِها مِنَ المَبادئِ والأفكارِ، على وَجْهِ يَتَجَرَّدُ عن الزّمانِ والمَكان؛ بِعِيداً عَن سِحْرِ الدِّعايَةِ وبَريقِ التلفيقِ والتّزْوير.
وشأْنُها في ذلك شأنُ ما يَرُوجُ في الأُمَمِ مِن الرُّؤى المَنامِيَّةِ والأقاصيصِ والأمْثالِ؛ حتى قيل: ألْسِنَةُ الخَلْقِ أقلامُ الحقِّ!.
والحقُّ أن كثيراً منها يَجْري مَجرى الأمْثالِ التي قِيلَ فيها: هيَ حِكْمَةُ الشعبِ وتاريخهُ وَوِجْدانُه؛ وهي الوجْهُ الصادقُ لِحياةِ الأُمم والشعوبِ، تَحْوِي خُلاصَةَ التجارِبِ العَميقَةِ التي تَمَرّسَتْ بها خِلالَ تاريخِها، وهِيَ خُلاصَةُ مُعاناتِها وشقائها؛ وسَعادَتِها وغَضَبِها ورِضاها.
ويُقالُ - على سَبيلِ الإحاطَةِ بأطرافِ ما نَكْتُبُ فيه – إِنَّ (الكُومِيدْيا) التي نَشأَتْ في (أثينا اليونان) في القَرْنِ الخامِسِ قَبْلَ الميلادِ وُجِدَتْ للتّعْبِيرِ عَنْ مَكْنُوناتِ الضمائرِ كما ذكَرْنا في الدعَابات؛ وكانَتْ تَدُورُ في بدَاياتِها حَوْلَ معاني الحياةِ والمُعْضِلاتِ المُتَعَلِّقَةِ بالوجُودِ الإنساني، ثم انتقلتْ إلى (الكُوميدْيا) الجديدةِ التي تَعْتَمِدُ النقْدَ القاسِيَ الصريحَ في القرنِ الرابعِ قَبْلَ المِيلاد، ثم إلى (الكوميديا) الصامِتَةِ في القرنِ الثانِي قَبْلَ الميلاد، وفي العصُورِ الأورُوبِيَّةِ الوسْطى أُدْخِلَتْ فَواصِلُ هَزَلِيَّةٌ إلى القصصِ التوراتِيَّةِ مِمّا شَوّشَ على كثيرٍ مِنَ المَفاهيمِ في الديانَةِ النصرانِيَّة!، إلى أن جاء (Ben jonson) في القَرْنَينِ السادس عَشرَ والسابعِ عَشرَ - وكان مُعاصِراً ل(شَكْسْبير) - وقدّمَ نَظَريَّةً حَوْلَها مُشْتَقَّةً مِنْ عِلْمِ وَظائِف الأعْضاء الإنسانيِّ وعِلْمِ النفْسِ؛ اسْتَنَدَ فِيها إِلَى ما كانَ سائِداً في وَقْتِهِ مِنْ أَنَّ الجِسْمَ يَحْوي سَوائِلَ أَرْبَعَةً يَتَحَكَّمُ تَوازُنُها ونِسْبَتُها في الأدَاءِ المِثالِيِّ للجِسْمِ والعَقْلِ فِي الإنْسانِ، وفي القَرْنِ الثامِنِ عَشر نَشأتْ في بريطانيا (كومِيديا الأساليب) وأَصْبَحَتْ باباً لِنَقْدِ كَثِيرٍ مِنَ المَظاهِرِ المَرْفُوضَةِ في الحَياةِ المُعَاصِرَة!!، ثم حَصلَتْ تَطَوُّراتٌ لها في القَرْنَيْنِ الأخِيرَيْنِ ضَرَبْتُ عَنهُ الذِّكْرَ صَفْحاً.
وَوَجَدْتُ في بَعْضِ الكُتُبِ؛ وأَظُنُّهُ عن هارونَ الرشيدِ أنه قال: النوادِرُ تَشْحَذُ الأَذْهانَ؛ وتَفْتِقُ الآذان!.
وقال حمادُ بنُ سَلَمَةَ: لا يُحِبُّ المُلَحَ إلاَّ ذُكْرانُ الرِّجالِ؛ ولا يَكْرَهُها إلاَّ إناثُهُم!!.
وما عَلَيكَ لَوْ جَمَعْتَ إلى الترْويحِ عَنِ النفْسِ خُلاصَةَ الحِكْمَةِ ولُبابَها؛ وأنْتَ تَرى الزارِعَ يُمَتِّعُ ناظِرَيْهِ بِحُقُولِ القَمْحِ وَسنابِلِهِ الذهَبِيَّةِ ولَيْسَ يُغْنِيهِ ذلكَ عنْ جَنْيِهِ وحصادِهِ!.
فَخْذْ إذنْ مِنَ الطرائِفِ ما تُرْشِدُكَ إلى التَّعَلُّمِ مِنْ نَظَائِرِها؛ حتّى إذا ما مَلَكْتَ زِمامَ الدُرْبَةِ والمِراسِ؛ ورُزِقْتَ حَصافَةَ الرأيِ وَوَفْرَةَ الحِجَى؛ وذكاءَ القَلْبِ؛ ونَفاذَ البَصيرَةِ!؛ صَنَعَتْ مِنْكَ - بإذنِ الله - في مَيْدَانِ الحِكْمَةِ سَبَّاقَ غاياتٍ وَمُدْرِكَ نِهَايات.
طُرْفَةُ المَلِكِ والهَنادِكَة:
وقدْ حُكِيَ أنّ بَعْضَ الظَلَمَةِ من المُلُوكِ لَمَّا ماتَ حَضَرَ جَنازَتَهُ جَمْعٌ كبيرٌ مِنَ المُلُوكِ والأعْيانِ؛ فَرَوَّجَ شَعْبُهُ المَظْلُومُ قِصَّةً في جَنازَتِهِ جاءَ فيها أنّ بَعْضَ أعْيانِ الهَنادِكَةِ حَضَرَ مَراسِمَ الدفْنِ، وكانَ الهِنْديُّ يَنْتِظرُ حَرْقَ الجُثَّةِ كَما جَرَتْ بِهِ العادَةُ عِنْدَ كَفَرَةِ الهِنْدِ في جَنائِزِهم!؛ فَلَمَّا صِيرَ بالجُثَّةِ إلى القَبْرِ ولم يَرَ الهِنْديُّ مِنْ ذلكَ شَيْئاً؛ سَألَ بَعْضَ الحُضُورِ مِنْ أَعْوانِ المَلكِ عن ذلكَ؟!؛ فقالَ له: الأَمْرُ عِنْدَنا على خِلافِ ما هُوَ عِنْدَكُمْ؛ فالحَرْقُ عِنْدَكُمْ أولاً والدفنُ ثانياً، أما عِنْدَنا فالدفنُ أوّلاً؛ ثمّ الحرْقُ في القَبْرِ ثانِياً!!.
وأَمْرانِ سِيَّانِ عَلى لِدَةٍ واحِدَةٍ أنْ تَكونَ القِصَّةُ صحيحَةً في نَفْسِ الأمرِ أم رَوَّجَ الناسُ لها تَفَكُّهاً وتَنَدُّراً، فذلك مِن الأُمَّةِ نَفْثَةُ مَصْدُورٍ وصَرْخَةُ مَكْلُومٍ، عُبِّرَ عَنْها في صُورَةِ الدُّعابَةِ؛ وهو الشُّعُورُ الجَمْعِيُّ الذي لا يَقْبَلُ التحريفَ والتبْديلَ.
كُلُّنا حَمَامِيزُ الله!!.
كذلكَ ما يُحْكى في الطرائِفِ مَثَلاً أنّ رَجُلاً صَحبَ وَلَداً لهُ إلى السوقِ، فلَمّا كانا هُناكَ سَمِعا رَجُلاً يُنادِي صَبِياً يَقولُ: يا عَبْدَ الله!؛ فأجابَهُ الصبِيُّ بِقَوْلِهِ: يا عَمُّ؛ كُلُّنا عَبِيدُ الله فأيَّ عَبْدٍ تُريدُ؟!، فقالَ الرجلُ مُنَبِّهاً ولَدَهُ ومُعَلِّما: انظُرْ يا بُنَيَّ إلى ما يَقُولُ الغُلامُ المُباركُ!.
فَلَما كانا مِنَ اليَوْمِ التالي وهما في ناحِيَةٍ مِنَ السوقِ سَمِعَ الصبِيُّ رَجُلاً يُناديهِ؛ يا حَمْزَةُ!؛ فبادَرَهُ بِقَوْلِهِ: يا عَمُّ كُلُّنا
حَمامِيزُ اللهِ؛ فأيَّ حَمْزَةٍ تُريدُ؟!!، فقالَ أبُوهُ: أُسْكُتْ يا مَنْ أَخْمَدَ اللهُ بهِ ذِكْرَ أبِيهِ!.
فتأَمَّلْ فيما انْطَوَتْ عَليهِ هذه الحِكايَةُ مِنَ:
1- الإشارَةِ إلى النِّعْمَةِ بالولد...
2- وإلى التَّفاوُتِ في مَراتِبِ هذه النِّعْمَةِ...
3- وأنَّ العُقُولَ مَراتِبٌ مُتَفاوِتَةٌ أَيْضاً...
3- وأَنَّ الأَخْلاقَ مِنها ما هُوَ جِبِلِّيٌّ فِطْرِيُّ؛ ومِنْها ما هُوَ كَسْبِيٌّ تَحْصِيلِيٌّ كما هُوَ مَذهَبُ المُحَقِّقِينَ مِنَ العُلَماء، وخِلافاً لِما قِيلَ مِنْ أنَها كَسْبِيَّةٌ فَقط كما ذهبَ إليه جَمْعٌ منَ الفَلاسِفَةِ المُتَقَدِّمِينَ مِنْ أمْثالِ الفارابِيِّ وابْنِ سينا؛ ومِنَ المُتأخّرين مِنْ أمثالِ (مانْدِفِي؛ ت:1733)؛ و(تُومَاسْ هويز؛ ت:1796).
4- وأنَّ الوَلدَ الصالحَ الفَطِنَ مِنْ أعظم نِعْمِ الله على العَبد؛ وفي تَرْجَمَةِ الإمامِ الكَبيرِ ابنِ الجَزَريِّ الشافِعِيِّ مِنْ طَبقاتِ الحُفاظِ للسيوطي (ص:467) أنَّ والِدَ الجَزريِّ كانَ تاجِراً ومَكثَ أرْبَعينَ سَنَةً لا يُولَدُ له؛ فلما حجَّ شربَ من ماءِ زَمْزَمَ ونَوَى حُصُولَ الوَلدِ؛ فأعْطاهُ الله ما تَمَناهُ في هذا الابنِ السعيد!.
5- وما جَعَلَ الله تَعَالَى في الوالِدِ مِن المَحَبَّةِ لِوَلدِهِ والشفقَةِ عليهِ حَتَّى إنَّهُ يُحِبُّ أنْ يَكَونَ فَوقَهُ وأَعْلَى مِنْهُ مَنْزِلَةً وفِطْنَةً وذَكاءً؛ ولا يُحبُّ ذلكَ لأحَدٍ سِواهُ!؛ مِمَّا يَدُلُّكَ على سِرٍّ مِنْ أَسرارِ الحياةِ وبَقاءِ النوعِ الإنسانيِّ فيها إلى ما شاءَ الله تعالى.
حكايَةُ الوزيرِ والخَدَمِ:
ومِمّا رُوِيَ من الطرائِفِ الحِكَمِيَّةِ أنّ سُلَيمانَ بنَ عبدِ المَلكِ الخليفَةَ الأُمَوِيَّ كَتَبَ إلى أحَدِ وُلاَتِهِ يُقالُ لهُ ابْنُ حَزم يسْأَلُهُ عَنْ عَددِ منْ عِنْدَهُ من الخَدَمِ، فأَمْلَى على كاتِبِهِ يَقُولُ له: أَحْصِ مَنْ قِبَلَكَ مِنَ الخَدَمِ، بالحاءِ المُهْمَلَةِ سادِسَةِ الحروفِ؛ غيرَ أن الكاتِبَ أَخْطأَ فكتَبَها بالخاءِ المُعْجَمَةِ (أخْصِ!)؛ مِنَ الخِصاءِ الذي هُوَ رَضُّ الخُصيَتَينِ لِتَذْهبَ شَهوةُ النكاح؛ ويقالُ له في العَربِيَّةِ: الثَّرْدُ؛ أيضاً!، فما كانَ مِنَ الوالِي إلا أنْ جَمَعَ العَبيدَ وكانُوا أرْبَعَةَ آلافٍ؛ فجَبَّ مَذاكيرَهُم أَجْمَعين!!، وكانَ الدلاّلُ واحِداً ممَّنْ خُصِيَ!.
فَتَعَلَّمْ مِنْ هَذا - الذي يَذكُرُهُ المُحَدِّثُونَ مِثالاً لمَساوئِ التصْحيفِ سِوى الفُكاهَةِ - أمانَةَ الكَلَمَةِ وأثَرَها في الأُمَّةِ والمُجْتَمعِ!، وتَذكرْ بأنّ ما فعلَهُ الوالِي ظُلْمٌ وعُدْوانٌ لا يَجوزُ حتى وإن أمَرَ به الخليفة؛ لأنّهُ لا طاعَةَ لمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخالق، وقد قيلَ في قوله تعالى: {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ}: المُرادُ به الخِصاءُ، وهكذا قيلَ فيما رُوِيَ عنِ النبيِّ صلى الله عليهِ وسلّم أنه (نَهى عن صَبْرِ ذي الروح).
أمَّا أبو الغصنِ مَلكُ الدعاباتِ وسلطانُ الفُكاهات:
وما أدْراكَ ما أبو الغُصْنِ؟!.
- فَلَمْ تَعْرْفه الأمَمُ العَربِيَّةُ وَحْدَها!.
- بل شاعَ ذِكْرُهُ في كلِّ عَصْرٍ ومِصْر، وجَرى خَبَرُهُ على الألْسِنَةِ بِلا فَرْقٍ بينَ ساكِنِ خَيْمَةٍ وقَطينِ قَصْر!.
- عَرَفَتْهُ شُعُوبُ الأرْضِ قاطِبَةً؛ وتَمَدَّحُوا بِنِسْبَتِهِ إليهم وَزَعْمِ أنهُ مِنهم، كما هُوَ شأنُهم معَ لقمان الحكيم!.
- ونَشَرتْ صَحيفَةُ الحياةِ البَيْرُوتِيَّةِ عَنْهُ مَقالاً بِتاريخِ (9/1/1971)؛ وفيهِ نَقْلٌ عنْ إحْدى الصحُفِ الأجْنَبِيَّة!.
- وذكَرت الصحيفَةُ أن الشعُوبَ عَرَفَتْهُ بأسماءٍ مُتَشابِهة!.
- فقيلَ هُوَ في آسيا الوُسْطَى (هُودْجا)!.
- وفي مالطَةَ عُرِفَ باسْمِ (جَيْهان)!.
- وفي بلادِ االسكْسون باسم (جُوكا)؛ هذا ما في الصحِيفَة.
- ولعلّ كلِمَةَ (JOKE) في الإنجليزية وتعْني الطُّرْفَةَ أو المِزاحَ مأخُوذةٌ من ذلك.
- وأزيدُكَ بأَنَّهُ عُرِفَ عِندَ أُممِ الفُرسِ وأَصْنافِ التُّركِ باسْمِ (مُلاَّ نَصْرِ الدين!)؛ مَعَ سِرٍّ في هذه التسمية!.
- وعُرِفَ عِندَ أَمَمِ الهِنْدِ باسم (شَيخ جلِّي) بالجيم الفارسيةِ المُثلثة؛ وتُلْفَظُ كما تُلْفَظُ (CH) الإنجليزية!.
- وأمَّا عِندَ العربِ فأولُ مَنْ ذكرهُ هو الجاحظُ في تَآليفِهِ؛ في رِسالَةِ عليٍّ والحكمين؛ وكتابِ البِغال!، هكذا في الأعْلامِ للزرِكْلِيِّ عن (شارْل بلا).
- وله ذِكرٌ عِندَ ابنِ النديمِ في (الفِهْرِسْتِ)؛ وأن بعضَ العلماءِ ألفَ كتاباً خاصاً في نَوادِره!.
- وذكرَ الذهَبِيُّ في (سِيَرِ الأَعْلامِ) أنَّ أبا الغُصْنِ صاحبَ النوادرِ هُوَ دُجَيْنُ بنُ ثابِتٍ اليَرْبُوعِيُّ، وحكى عَن مَكِّيِّ ابنِ إبراهيمَ أنهُ قال: الذي يُقالُ فيه مَكْذُوبٌ عليه؛ وكانَ فَتىً ظريفاَ؛ وكانَ له جيرانٌ مُخَنَّثُونَ يُمازِحُونَهُ ويزيدُونَ عليْه!.
- وهكذا زَعَمَ الدُّمَيْرِيُّ في حَياةِ الحَيَوَانِ؛ وأيَّدَه بالنَّقْلِ عَنْ عَبْدِ الرحْمنِ بنِ مَهْدي الإمام!.
- كما ذكرَ الذهَبِيُّ رجلاً آخَرَ يقالُ له: أبو الغُصْنِ ثابتُ بنُ قيس، وحكى أنه من صِغارِ التابِعينَ، وخَطّأَ منْ زَعَمَ أنه صاحبُ النوادر. فهما إذن اثنانِ رُبما اشتَبَها؛ فتنَبَّه.
- لكنْ نَفَى ما قَدَّمْناهُ عن السِّيَرِ جمعٌ من العُلماء؛ مِنهم ابنُ حِبانَ الإمام، وابْنُ الصلاح؛ وابنُ حجرٍ العسقلاني؛ وبُرْهانُ الدينِ الأبناسيُّ في كتابِهِ (الشذا الفَيَّاح)!.
- وذكرَ الجاحِظُ أن اسْمَهُ (نوح)، وأنّهُ أربى على المئةِ عامٍ؛ وأدركَ المَنْصورَ الخَليفَةَ؛ وكان يَسكنُ الكوفة، وقيلَ: بل اسْمُهُ: اسحاق!.
- وقدْ عَمِلَ الناسُ على لِسانِهِ كثيراً من النوادِرِ؛ حتى أَلَّفَ في ذلك أَبو اليُمْنِ الغِفاريُّ كتاباً في ألفِ ورقة!.
- وقالَ الزمَخْشَريُّ: والحكاياتُ لا تَضْبَطُ عنه كثْرَةً!.
- وقيلَ إنَّ أمَّ أبي الغُصْنِ كانتْ خادِمَةً لأنَسِ بنِ مالك صاحبِ رسُولِ الله صلى الله عليهِ وسلم!.
- وقيلَ أيضاً إنه أدركَ أبا مُسلم الخُراسانِيَّ صاحبَ الدعْوَةِ العباسِيَّةِ، ودَخَلَ عليهِ في الكوفَةِ، أدْخَلَهُ عليه أبو يَقْطين مَولَى أبي مُسلم، فقال أبو الغُصْنِ: يا يقْطينُ!؛ أيُّكُما أبو مُسلم؟!.
- ومِنْ نَوادرهِ أنه لما دَخَلَ على أبي مُسلمْ قالَ له: لَقدْ نَذرْتُ إن رَأيتُكَ أن آخذّ مِنكَ ألفَ دِرْهم!؛ فضحكَ أبو مُسلمْ وقالَ له: مَنْ نَذَر شَيْئاً فَإنَّما يُعْطي ولا يَأْخُذُ!؛ ثم أعطاه.
- وقيلَ: إنَّ عُمَرَ بنَ أبي رَبيعَةَ ذكرهُ في شِعْرِهِ؛ فإنْ صحَّ دلَّ على اشتِهارِ أمْرِهِ قبلَ أبي مُسلمْ بأكثرَ مِنْ أرْبَعِينَ سنة!، ومَقْتلُ أبي مسلمٍ كانَ على يَدِ أبي جَعْفَر المَنْصورِ سنةَ (137).
- وفي أعلامِ الزرِكْلِيِّ أَيْضاً عن مَخْطُوطَةٍ سُمِّيَتْ (قِطْعَةٌ من تَراجِمِ أَعْيانِ الدنْيا الحِسان) أنَّ أبا الغُصْنِ بَغداديُّ تُوفِّيَ في خلافَةِ المَهْديِّ العَباسِيِّ.
- وفيه أيضاً أن التُّرْكَ نَحَلُوا أخبارَ أبي الغُصْنِ لصاحِبِهم (مُلاّ أو خُوجَةَ نَصْرِ الدين) وزادُوا فيها أضعافَ أضعافِها!، ويُظَنُّ أنه صاحبُ الضريحِ الكبيرِ في بَلْدَةِ (آق شَهْر)، وأن مُؤَلِّفَ رِحْلَةِ الشتاءِ والصيْفِ قدْ مَرَّ به.ُ
- ولما كَتَبَ جَلالُ الدينِ الرُّومِيُّ مُؤَسِّسُ الطريقَةِ المَوْلَوِيَّةِ المُبْتَدَعَةِ في تُركيا كِتابَهُ المَثْنَوِيّ ضَمنَهُ بعْضَ نوادِره!.
- وبِسَبَبِ اخْتِلاطِ الحِكاياتِ بينِ أبي الغُصْنِ العَرَبيِّ والآخرِ الرُّومِيِّ ذهبَ بعضُ الكُتابِ إلى أنهُ أُسْطُورَةٌ خيالِيَّةٌ لا حَقيقَةَ لها، كما في مَقالٍ لِمُحَمد فريد أبي حديد في مَجَلَّةِ العَرَبي في العدد (41/66)!.
- وأخيراً فقدْ كتبَ (عَليُّ المِصْراتيُّ) كتاباً عن نَوادِرِهِ في (ليبيا)!.
- وللأديبِ عَباسِ بنِ مَحْمُودٍ العقَّادِ كتابُ عَنْهُ وصَفَهُ فيه بالضاحِكِ المُضْحِك!.
- وكَتبَ عن حِكاياتِ (أَبي الغُصْنِ العَرَبِيِّ) محمدُ بنُ رَجَبٍ النجارُ كتاباً خَاصاً.
- أما عَليُّ بنُ أحْمدَ باكثير الحَضرَميُّ أُصولاً الأنْدُنُوسِيُّ مَوْلِداً؛ الشاعِرُ القَصصِيُّ المُتوفّى سَنَةَ (1389) فله مَسْرَحِيَّاتٌ نَثْرِيةٌ مَطْبُوعَةٌ مِنْها مَسرحيَّةٌ حِيكَتْ حَولَ أَخبارِهِ!.
- وَوَفاةُ أبي الغُصْنِ على ما قِيلَ كانتْ في سنةِ (130) للهجرَة.
أبُو الغُصْنِ وأعْلى نَوادِرِهِ:
وكُلُّ ما سَبَقِ مِنَ الأخْبارِ التي جَمَعْناها عنهُ مِنْ عَشَراتِ المَصادِرِ - وكَثيرٌ مِنْها مِنْ غَيرِ مَظَانِّهِ - فَإنَّما هِيَ لِمَنْ عُرِفَ بَينَ الناسِ باسمِ (جُحَا)؛ وأَبو الغُصْنِ كُنْيَتُه؛ ودُجَينُ اسْمُهُ؛ والذي يَضْرِبُ الناسُ بهِ المَثَلَ في الغَفْلَةِ والحَماقَةِ تارَةً فيقولونَ: أَحْمَقُ مِنْ جَحا!، ويَجْعَلُونَهُ مِثالاً للدهاءِ والفطْنَةِ تارَةً أُخْرى كما في كَثِيرٍ مِنْ أخباره!.
وأعْلى ما وَجَدْتُ مِنْ ذكرِ (جحا) وَنَوَادِرِهِ ما قرَأْتُهُ في كتابِ كشفِ النِّقابِ لابنِ الجوزي نقلاً عن حاشِيَةِ مَخْطُوطَةِ الكتابِ منْ أنه وُجدَ بخطِّ الحافِظِ ابنِ ناصِرِ الدينِ الدِّمَشْقِيِّ ما يَلي: حَدّثَ اسماعيلُ الصفَّارُ بِسَنَدِهِ إلى قَبيصَةَ بنِ عُقْبَةَ قال: اجْتَزْتُ بِجُحا وهو جالِسٌ على الطريقِ يأكلُ خُبْزاً؛ فقلتُ له: يا أبا الفضلِ تُجالِسُ جَعْفَرَ بنَ مُحمدٍ وتأكلُ في الطريق؟!؛ فقال: حدثني جَعْفَرُ بن محمد عن نافِعٍ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلمَ قال: مَطلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ - (والمَطْلُ:تأخيرُ الحقِّ عن صاحِبه) - ؛ فطالَبَتْنِي نَفْسي بالمأكولِ؛ وخُبْزي في كُمِّي؛ فلم أُحِبَّ أنْ أَمْنَعَها فأمْطُلَها فَأَلْقَى الله ظالِماً!!.
والعَجَبُ في أنّ أكثرَ النوادِرِ تُنْسَبُ إليهِ مَعَ وُجودِ غَيرهِ مِنْ أصحابِ النوادِر مِنْ أمثالِ: ابنِ أبي عَتيق؛ وأشعَبَ الطمع؛ وأبي العَنْبسِ؛ وابنِ الْجَصّاصِ مَزْيَدَ المَدَنِيِّ، وغيرِهم؛ كما في صبحِ الأعْشى للقَلْقَشَنْدي.
وكذا الحمقى؛ من مِثل: أزهرَ الحمّارِ الأحمقِ، وأبي مُحمَّدٍ الصَّيدَلانِيِّ الأحْمقِ، وغَيرِهم، كما في أخبار الحمقى لابنِ الجَوزي!.
وكُلُّ ذي دُعابَةٍ جُحا:
هكذا رأيْتُ الناسَ يَصْنَعُون!؛ ففي (إنباءِ الغَمْرِ) لابنِ حَجر رحمه الله تَرْجَمةٌ لأحدِ خَواصِّ الأشرافِ والذي ماتَ مسجوناً في قَلْعَةِ (صَفَدٍ) من أرضِ فِلَسطينَ في سَنةِ (847)، وقال عنه السخاوِيُّ في الضوْءِ اللامِعِ: كانَ فيه خِفَّةُ رُوحِ ومُجونٌ ودُعابةٌ؛ فلقَّبَ جُحا!.
ولُقِّبَ به أيضاً: محمدُ بنُ إبراهيمَ الخانكي، ويونسُ بنُ حُسَيْنٍ الواحِيُّ الجَزار، كذا في الضوء اللامعِ المذكور، وفي كَتُبِ التراجِمِ كثيرٌ مِنْ هؤلاءِ لا نَطيلُ بِذِكْرِهم.
ومِنَ الطرائفِ المَنْسُوبَةِ إلى بَعْضِ هؤلاءِ مَثَلاً: ما في الدُّرَرِ الكامِنَةِ لابنِ حجر؛ وأعيانِ العَصْرِ للصَّفديِّ؛ في أخبارِ أحمدَ بنِ محمدٍ بنِ الحريرِيِّ وكانَ شَكِلاً ضَخماً مُفْرِطَ السِّمَنِ له نوادِرُ مُضْحكةٌ من نَمَطِ ما يُحْكَى عن جُحا!.
حكاية:
كان السلطانُ قد عَيَّنَ أحمدَ المذكورَ مُدَرِّساً في المَدْرَسَةِ الصالِحيَّةِ؛ فدَخلَ أَحْمَدُ المدرَسَةَ مَرّةً ورأَى الشيخَ نَجْمَ الدينِ القَحْفازِيَّ خارِجاً مِنْ مَحلِّ الطَّهارَةِ (بيت الخلاء)؛ فقالَ له أحمدُ: يا مَولانا!؛ آنَسْتُمْ مَحَلَّكُم!!، فقالَ له الشيخُ: قَبَّحَكَ الله!.
حِكايَةُ الحكايات:
وأَخالُكُ - كانَ الله لي ولك – فيما أَصْنَعُهُ مِنَ الاسْتِطْرادِ والتطْويلِ في (مُسامَراتِنا) هذه بينَ مُؤَيِّدٍ يَرَاها فُرْصَةً سانِحَةً لاقْتِناصِ ما أَمْكنَ مِن فَرائدِ الفوائدِ!؛ ومُعارِضٍ يُرَجِِّحُ جانِبَ الاخْتِصارِ في زَمَنِ الاخْتِصار!، وبينَ هذا وذاك آراءٌ وآراءٌ!، ولله الحِكْمَةُ البالغة.
أما أنا فأَكْرَهُ الاخْتِصارَ!، وأُشْفِقُ على الفائدَةِ أنْ تَبْقَى حَبِيسَةَ فِكْري وعَوَاناً في صَدْري؛ بَعْدَ أنْ بَذَلتُ في تَحْصِيلِها وجَمْعِها وضَمِّها إلى نَظائِرها رُبُعَ قَرْنٍ من الزمانِ بل أكثر!، وأَرَانِي أتَحاشَى الحَشْوَ فيما أَكْتُبُ ما اسْتَطَعْتُ إلى ذلك سَبيلاً؛ وأتَخَوَّلُ القارِئَ بالفائِدَةِ بعْدَ الفائِدَةِ مَخافَةَ السآمَة.
ولَسْتَ بِمَلُومٍ وإنْ خالَفْتَني في ذلك، فالمَوْطِنُ يَتَّسعُ للخِلافِ ولله الحَمد؛ وذاكَ هُوَ شأْنُ العَقْلِ البَشَرِيِّ، قادِرٌ على مَدْحِ ما يَشاءُ وذمِّ ما يَشاءُ!، مُتَناقِضٌ!؛ قدْ يَمْدَحُ الشيءَ تارَةً ويَذمُّهُ أخرى!؛ وكلُّ ذي رأْيٍّ أو مَذهبٍ أو نِظامٍ أو عَقيدَةٍ يَرَى ما هُوَ عَلَيهِ حَقّا ويَراهُ مُخالِفُوهُ باطِلاً!!.
وقِصَّةُ جُحا معَ حِمارِهِ دليلٌ لهذا!:
فقد حَكى حَمَلةُ الآثارِ ورُواةُ الأخبارِ أنَّ (أبا الغُصْنِ جُحا) قَصدَ السوقَ يَوماً راكِباً على حِمارٍ لهُ وقدْ أرْدفَ وَلدَهُ خَلْفَه، فَمَرّ على نَفَرٍ جُلُوس؛ فقالَ قائلُهم: ألا تَرَوْنَ إلى هذينِ وقدْ نَزَعَ الله الرّحْمَةَ منْ قَلْبَيْهِما؛ فلم يَرْحَما الدابَّةَ ولم يُشْفِقا عَلَيها!، فتَركَ ولدَهُ على ظَهْرها ومَضى يَمْشي؛ حتى أَتى على قَوْمٍ آخَرينَ؛ فَلَما رَأوْهما قالوا: وَلَدٌ لا أَدَبَ عِنْدَهُ!؛ ولم يُحْسنْ أبوهُ تأَدِيبَه!!، فأَمَرَ ولَده بالمَشْيِ ورَكبَ هو؛ فلَما كانا بِبَعْضِ الطريق سَمِعَ من يَقُول: شيخٌ قسا قَلْبُهُ؛ ولا يَرْأفْ بِحالِ صَبِيِّهِ الصغير!، فنزلا عن حِمارِهما يَمْشيانِ وخَلَّياهُ؛ فقيلَ والله أَعْلَمُ بالقائل: ما رأيناَ أَحْمقَ مِن هذينِ!؛ يَمْشِيانِ على أَقْدَامِهِما؛ والحِمارُ وحده؛ وما خَلقَ الله الحميرَ إلاّ لِتُركب!!.
وقيل: فما كانَ مِنْهما إلاّ أنْ حَملا الحِمارَ ومَضَيا به!!!.
و لَعْمْرُ اللهِ إنْ كانَتْ إلاّ مِن بَدائعِ الحِكَم!؛ وهاكَ إن شِئتَ شِعْراً نَظَمْتُهُ في التَعْليقِ عليها؛ والعَنْدمُ في البَيتِ الخامس: الدَّمُ، وجَعْدُ اليَدَينِ في البيتِ السابع: البَخيلُ. (والنظْمُ مِنْ بحرِ المُتقارب)؛ فقلتُ:
وأَحْلِـفُ باللهِ لـنْ يِسْلَمـا وإن مَرَّ دَهْـرٌ ونالاَ الســمَا
فَدَعْكَ فَمنْ في الوَرَى كَجُحَا يُقِـلُّ الحِمارَ ومـا اسْتَسْلَما
خَلِيلََـيَّ دُنْيـا وَجَرّبْتُـهـا تُرِيكَ الثَّرى قَد غَدا أَنْجُمـا!.
وَكُلٌّ يُريكَ بِـها مـا يَـرَى فكمْ مَنْ يَقُولُ؟ ومَنْ؟ وفَما؟!.
فَلَوْ قُلتَ: دِجْلَةُ شَهْداً جَرى!؛ لَقِيلَ: الفُراتُ جَرى عَنْدَمـا!.
وكَمْ مِنْ عَيِيٍّ بِهــا باقِـلٍ يُقالُ: أَبـانَ كَما أَفْهَمــا!.
وَجَعْدِ اليَدَينِ بَــدا حِرْصُهُ!؛ يُقالُ: الجَوَادُ!؛ وغَيْثٌ هَـمى!.
وَهَـذا يَئِنُّ؛ وهـذا يَـرِنُّ!؛ لِحَقٍّ يَضيـعُ؛ ومَـالٍ نَمـا!.
فيارَبُّ ما لي بِـها حِيلَــةٌ؛ وأَنْتَ المُعِيـنُ على كُـلِّ مـا
وصانَ الإلَهُ جُحـا وابْنَــهُ؛ وَدُومـا لَنا طُرْفَـةً واسْلَمـا!.
سَفِينَةُ النَّجاةِ في بَحْرِ المَهالك:
ولأجْلِ هَذا الذي شَرَحتُ لكَ منِ اضطِرابِ العُقُولِ البَشَريَّةِ واصطِلامِها كانَ الإنِسانُ في دُنْياهُ كَمَنْ أشْرَفَ في طَريقِ سَفَرهِ على غابَةٍ كثيرَةٍ الشعابِ والمَخاوِفِ ولا مَناصَ لهُ مِنْ سُلُوكِها؛ فَليسَ يَسلمُ إلا بِدَليلٍ خِرِّيتٍ (ماهرٍ) عالمٍ بِمَخاطِرها وطُرُقِ النجاةِ فيها!.
وتَعَيَّنَ على الإنسانِ بل على البَشريةِ كُلِّها أنْ تَرْجِعَ إلى مِيزانِ قِسطٍ وعَدْلٍ لا يَتَأَثَّرُ بِما تَتَأثَّرُ بهِ الموازِينُ البَشَرِيَّةُ المُخْتَرَعَةُ مِنَ المُيُولاتِ النّفْسيَّةِ والأهواءِ القَلْبِيَّةِ.
ومِنَ العَبَثِ بلا مِرْيَةٍ ولا رَيبٍ أنْ يُفْتَرَضَ مُجْتَمَعٌ بَشَريٌّ يَتَّفِقُ كُلُّهُ على قَانُونِ عَدْلٍ ومِيزانٍ يَفْصِلُ بَيْنَ الحقِّ والباطِلِ؛ ويُعْطِي كُلَّ ذي حَقِّ حَقَّهُ ويُنْزِلُ كُلاًّ مَنْزِلَتَهُ دُونَ أن يَكَونَ إلهِيّاً سَماوِيّا، لأنَّ بِناءَ الإنسانِ عَلى النقْصِ كما قَدْ عَلِمْتَ؛ وتَفَرَّعَ عن هذا اخْتِلافٌ في المَفاهِيمِ وتَفاوتٌ فِي الأذْواقِ والمَشارب؛ وتَعارُضٌ في القِيَمِ والمَبادِئِ، فَكانَ افْتِراضُ ذلكَ يَعْني افْتِراضَ أُمَمٍ مِنَ البَشَرِ الكامِلِينَ لا يَعْتَرِيهم قُصُورٌ ولا نَقْصٌ؛ بل هُمْ على سَجِيَّةٍ واحِدَةٍ لا تَبايُنَ بينَها ولا تَفاوُتَ؛ ولا تتغَيَّرُ ولا تتبَدَّلُ!!، وذلكَ مُخالِفٌ كُلَّ المُخالَفَةِ للأَمْرِ الكَوْنِيِّ القَدَريِّ في خلْقِ الإنسان!، ولهذا صَرحَ بعْضُ خُبَراءِ القانُونِ بأنكَ لو سألْتَ عَشرَةً من القانُونيينَ عنْ تَعْريفِ القانُونِ فإنَّ عَلَيكَ أن تَسْمَعَ أحدَ عَشرَ جَواباً!!.
وكُلُّ دَعْوى على خِلافِ ذلكَ فهيَ وَهْمٌ خادِعٌ وسَرابٌ كاذِب، وما صاحِبُها إلاَّ الذئبَ في ثِيابِ الطبيبّ!.
وإلاّ فَهؤُلاءِ اليهُودُ أَحَطَّ أُمَمِ الأَرْضِ قَدْراً؛ وأخَسُّهمْ طِينَةً؛ المَغْضوبُ عَليهمٍ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَماواتٍ يَدَّعُونَ أرْضَ فِلَسْطينَ وأنَّهمْ أهْلُها وأَحَقُّ بِها!!، فهَلْ يَسْتَقِيمُ اللقَاءُ بَينَ هؤلاءِ المُدَّعِينَ؛ وبَينَ أصحابِ الحَقِّ مِنَ المُسلِمينَ الذين يَعْمُرُونَها بَنُورِ التوحيدِ والإيمان إلا في ذِهْنِ مَنْ يُقالُ فيه: (أَحْمقُ مِنْ جُحا)!.
وهلِ الدَّعْوةُ إلى هذا وأمْثالِهِ إلا مِنْ قَبيلِ الدعْوةِ إلى طَحْنِ الدُّرِّ والبَعْرِ وخَلْطِهما وعَجْنِهِما في كُتْلَةٍ واحِدة!.
شَهادَةُ مُهَنِدِسِي الحَياةِ على حِمارٍ مَقْطُوعِ الذيلِ والأُذُنَيْنِ!.
ولقدْ وَصَفَ كثيرٌ مِنَ الكُتابِ والباحِثينَ دِراسَةَ القانُونِ في القَرْنِ العِشرينَ بأَنَّها الهَنْدَسَةُ الاجْتِماعِيَّةُ!؛ والتي سَيتَمَكَّنُ خَبَراءُ القانُونِ بِزَعْمِهمْ عَنْ طِريِقِها مِنْ وَضْعِ قَوانِينَ ثَابِتَةٍ للحَياةِ الإنسانِيَّةِ كالتي يَضَعُها المُهَنْدِسُ لآلاَتِهِ!؛ غَيرَ أنَّ الجَمَلَ تَمَخَّضَ في هذه المَرَّةِ لا لِِيَلِدَ فَأْراً كما يُقالُ؛ بلْ ولَدَ عُتْعُتاً (وهو ولَدُ الحِمار!؛ ويُقالُ له في اللغَةِ الجَحْشُ و التَّوْلبُ والتِّلْوُ والعَفْوُ بِتَثْلِيثِ العَيْنِ) مَبْتُورَ الذَّنَبِ مَجْدُوعَ الأنْفِ ذاهِبَ العَيْنَينِ أَسَكَّ الأُذُنينِ!!؛ واعْتَرَفُوا - ويالَهُمْ مِنْ مُهْنْدسِين! – بالعَجْزِ عن التَّوَصُّلِ إلى مِعْيارٍ قَانُونِيٍّ تَتَّفِقُ الأُمُمُ عليه!!.
وكانَ الكِبارُ مِنْ فَلاسِفَتِهِمْ مِنْ أمْثالِ (كَانْتَ الألمانِيِّ؛ المُتوفّى سنَةَ : 1804) الذي أسّسَ المَذهَبَ النقْدِيَّ في الفَلْسَفِةِ الحَدِيثَةِ وحاوَلَ التوْفيقَ بين الاتِّجاهِ العَقْلِيِّ والحِسِّيِّ في الفَلْسَفَةِ قدْ اعْتَرفَ بأن المُشْكِلَةَ الكُبْرَى للنَّوْعِ الإنْسانِيِّ هيَ الوُصُولُ إلى مُجْتَمَعٍ مَدَنِيِّ يَحْكُمُهُ قَانون!!، لكِنَّ مُحَاوَلاتِ المُهندِسينَ! انْتَهتْ إلى الفَشَلِ؛ بل اعْتَرَفَ كِبارُ القانُونِيينَ مِنْ أمْثالِ (فُولَر) L.L.) (Fuller بِأَنّ (القانُونَ لَم يكشفْ عَنْ نفسِهِ بعدُ!)؛ و(فولر) هذا هو الذي وَضَعَ كتاباً أسماهُ: (القانونُ يَبْحَثُ عَنْ نفسه،The Law in Quest of Itself)!.
واعْتَرَفَ القانُونِيُّ (G.W. Paton) بأنّ السبيلَ الوَحِيدَ للوُصُولِ إلى مَعَايِيرَ مُتَّفَقٍ علَيْها للقانُونِ هو الاعْتِرافُ بالوحي السماوِيِّ قانُونا!.
وهذا - والأُمورُ تُذْكَرُ بِنَظائِرها - يُثْبِتُ فَشَلَ نَظَرِيَّةِ التَّطَوُّرِ الذي حَاوَلَ جَمْعٌ مِنَ الفلاسِفَةِ المُتأَخِّرينَ مِنْ أمْثالِ الإنْجِليزِيِّ (هَرْبرتْ سبِنْسَرْ) فَرْضَ سُلْطانِها على الأصولِ والمبادِئِ والأخْلاقِ والقِيَمِ؛ وهُمْ بِذلكَ يُريدُونَ جَرَّ أَذيالِها على الدينِ والعَقِيدَةِ والشريعَةِ؛ تَحْتَ زَعْمِ أنَّ المُجْتَمَعَ الإنْسانِيَّ جَاوَزَ الطُفُولَةَ إلى الرَّشْدِ!!، وأنَّهُ يَسْتَطِيعُ الاسْتِغْناءَ عَنِ خَالِقِهِ وهِدَايَتِهِ وشَرْعِهِ!؛ وهِيَ نِحْلَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ نَظَرِيَّةِ (دَارْوِنَ) الإلْحادِيَّةِ في النَّشوءِ والارْتِقاءِ للكائِنِ الحيِّ؛ جُعِلَتْ قَانُوناً اجْتِماعِيّاً!.
وقدْ عارَضها فلاسِفَةٌ غَربِيونَ آخَرونَ مِثْلُ (الدكتور كريسي موريسون)؛ وقامَتْ براهينُ كثيرَةٌ على بُطْلانِها.
حِكايَةُ الجُمْجُمَتَين!:
وههُنا قِصَّةٌ لا بُدَّ من حكايَتِها، تَدُلُّكَ على قُصُورِ العقْلِ البَشَريِّ بالِغاً ما بلغَ مِنَ البحثِ والتجْرِبَةِ، وأَنَّهُ ما دامَ لا يَهْتَدِي بِهُدَى اللهِ فلا يَزَالُ يَقْرَعُ سِنَّهُ حَيْرَةً؛ وَيَنكُثُ الأرضَ حَسْرَةً؛ ويَعَضُّ على يَدَيْهِ نَدَما!.
فَفي أَوائلِ القرْنِ العِشرينَ حينَ راجَ أمْرُ (نَظَريَّةِ التطَوُّرِ) في الكائنِ الحيِّ التي اخْتَرَعَها (دَارْون) واحْتَدَمَ الصراعُ حَوْلَها؛ قامَتْ طائِفَةٌ من أَنْصارِ هذه النظريَّةِ بِعَمَلِيَّةٍ مِنْ أشْهَرِ عَمَليَّاتِ التَّزْويرِ في حَقْلِ البَحْثِ العِلْمِيِّ!!؛ وتُعْرَفُ باسْمِ عَمَلِيَّةِ (Piltdown man)؛ وتَعْنِي الاكتِشافَ المَزْعُومَ (لإنسانِ ما قَبْلَ التاريخ) قرْبَ مَدينَةِ ( piltdown) الإنجِليزية؛ حيثُ قامَ أنصارُ النظرِيَّةِ المَذكُورُونَ في عامِ (1912) بِتَرْكيبِ جُمْجُمَةٍ مِنْ قَحْفِ إنسانٍ على فكِّ قِردٍ مَعَ إضافَةِ أسنانِ إنسانٍ إلى الفكِّ!، وقُدِّمتْ هذه الجُمْجُمَةُ على أنها الحَلَقَةُ المَفْقُودَةُ فِي تاريخِ التَّطَوُّرِ بَينِ القِردِ والإنسانِ!!؛ والذي يَهُمُّنا هنا أن هذه الجُمْجُمَةَ خَدَعَتْ كِبارَ عُلَماءِ (البَيُولُوجِيا) وأطِباءِ الأسنان الذينَ فَحَصُوا الجُمْجُمَةَ مَدَّةَ أرْبَعينَ عاماً!؛ وألَّفُوا حَوْلَها مِئاتِ الكُتُبِ!؛ وقُدِّمَتْ لدِراسَتِها رَسائلُ (دُكْتُوراه)!؛ وكُتِبَ حَوْلَها نَحْوُ خَمْسمائةِ أَلْفِ مَقالَة!!.
وفي عامِ (1953) أثْبَتَ (كِينيثْ أُوكْلِي) مِنْ خِلالِ التحاليلِ الكيميائِيَّةِ أنَّ الجُمْجَمَةَ ليسَتْ سِوى تَزْويرٍ وخِداعٍ؛ وقدْ تَمَّ ذلكَ بِمَهارَةٍ على أَيدِي أُناسٍ مُحْتَرفينَ، وطُلِيَتْ عِظامُ الجُمْجُمَةِ بالحديدِ والمَنْغَنِيزِ لِتَظْهَرَ عليها آثارُ القِدَم!!.
وفي (24/مايو) منْ عام (1996) أعْلنَ (براين غارْدِينَر)، أستاذُ عِلْمِ الدِّرَاسَاتِ القَدِيمَةِ في كليّةِ الْمَلِك في (لندن/إنْجِلْترا) في إجْتِماعٍ عامٍّ الكشْفَ عَنْ أَسرارِ خَدِيعَةِ إنسانِ ما قَبْلَ التاريخ!.
والذي يَهُمَّنا هُنا لَيْسَ هُوَ الاكْتِشافَ الفَذَّ لِزَيفِ الجُمْجُمَةِ!!؛ بَلْ تِلْكَ الجُمُوعَ مِنَ العُلَماءِ والباحِثينَ الذينَ انْطَلَتْ عَلَيْهم الحِيلَةُ - مَعَ ما تَوَفَّرَ لَدَيْهِمْ مِنْ وَسائلِ العِلْمِ وأدَواتِ البَحْثِ – طِيلَةَ السنَواتِ الأرْبَعين!؛ والتي تَحْكِي تِيهَ اليَهُودِ في الأرْضِ أَرْبَعِينَ عاماً؛ لِيَكُونَ ذلكَ جَزاءً وِفاقاً لِكُلِّ مَنْ أعْرَضَ عَنْ دينِ الله وهُدَاهُ!.
وأَدلُّ ما تَشِيرُ إلَيهِ هذه الحِكايَةُ؛ والخُلاصَةُ التي نَنْتَهِي إِلَيْها أنّ العَقْلَ البَشَرِيَّ بالغاً ما بلغَ لا يُمْكنُ أن يَكونَ مِيزاناً ومَرجِعاً للحقِّ والباطلِ والصوابِ والخطَأ؛ وأن البَشَريَّةَ لا نَجاةَ لها إلا بالدينِ الذي ارتَضاهُ لها خالقُها الذي يَعْلَمُ السرَّ وأخْفى.
سَنُريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِم:
ولا تَزَالُ بِحَمْدِ اللهِ تَتَوَالَى الشَّوَاهِدُ وتَنْهَضُ البَراهِينُ والحُجَجُ الكُوْنِيَّةُ والآفَاقِيِّةُ عَلَى الدَّلالَةِ علَى طِريقٍ واحِدٍ للخلاصِ؛ وهُوَ الذي لا يُنْكِرُهُ العُقَلاءُ مِنَ الأُمَمِ، وهو (الإسلامُ) الذي جاءَ به مَحمدٌ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليْهِ؛ ولا طريقَ سِواه.
ودُونَكَ شَهادَاتِ أمْثال (الدكتور جرِينِيه) الفَرَنِسيِّ الذي أسلمَ وكانَ عُضْواً سابِقاً في مَجْلِسِ النُّواب؛ حيثُ ذكرَ عن سَببِ إسلامِهِ أنهُ تتبَّعَ كلَّ الآياتِ القرْآنِيَّةِ التي تتحدَّثُ عن العُلومِ الطبيعِيَّةِ والصحِّيَّةِ والكَوْنِيَّةِ فوجَدَها مُطابِقَةً للمَعارِفِ الحدِيثَةِ؛ فأسلم.
وَشَهادَةَ (بثورث سميثْ) في كتابِهِ (حياة مُحمد) الذي شَهِدَ للنبِيِّ صَلى الله عليهِ وسلمَ بأنّهُ مُؤسِّسُ أُمَّةٍ ومَمْلَكَةٍ ودِيانَة!؛ كما شَهْدَ للقُرْآنِ بأنهُ نَقِيُّ العِبارَةِ مِن الألفاظِ المُسْتَهْجَنَةِ؛ باهِرُ الحِكْمَةِ والحقائقِ؛ وأنهُ أعْظَمُ مُعْجِزَةٍ للنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم.
وَشَهادَةَ المُسْتَشرِقِ الألماني (الدكتور شُوميس) بأنَّ القرْآنَ وحْيٌّ من الله تَعالَى؛ وأنَّ جُمْلةً واحدَةً تُغْنِي عن مُؤَلّفات!!؛ وذلك أكبرُ مُعْجَزَةٍ أتى بها مُحَمَّدٌ مِنْ رَبِّهِ!.
وشَهادَةَ المؤَرِّخِ الإنْجِليزِيِّ (بوسْوُورْثْ سِمِيثْ) في كِتابِهِ (محمد والدينُ المُحمَّدي) بأنَّ القرْآنَ يَحْوي أدَباً وقانوناً؛ وأخلاقاً عامَّةً؛ وكُتُباً مُقَدَّسةً في كِتابٍ واحد؛ وانتَهى إلى القولِ بأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله حَقّا!!.
وشَهادَةَ (سنكس) بأَنَّ تعاليمَ القرْآنِ أكثَرُ انطِباقاً على نَوامِيسِ الطبيعَةِ وقوانِينها والعَقْلِ الإنسانِي!.
وشَهادَةَ (آرْثَرْ ليُونَرْد) بأنَّ محَمداً خَلَّفَ للعالَمِ كِتاباً هوَ آيَةُ البَلاغَةِ وِسِجِلُّ الأخلاقِ!؛ وأنه ليسَ بَينَ المُكْتَشَفاتِ العِلِمِيَّةِ حَديثاً مَسألَةٌ تتعارَضُ مَعَ الأسسِ الإسلامِيَّة، فالانسِجامُ تامٌّ بينَ تعاليمِ القُرْآنِ والقَوانينِ الطبِيعِيَّة!!.
ومِثْلُ هذه الشهادَاتِ كثيرٌ؛ وكُلُّها إمامٌّ لا يَضِلُّ؛ ودَليلٌ لا يَزِلُّ على أّنَّ دينَ الإسلامِ الذي اخْتارَهُ اللهُ للبَشَريَّةِ وَثِيقُ العُرَى؛ وَكِيدُ القُوى؛ حَصينُ العِصْمَةِ؛ مَأْمُونُ الوَصْمَةِ؛ لا يأْتِيهِ الباطِلُ من بَينِ يديهِ ولا مِن خَلْفِهِ.
وكَمْ أَتَمَنَّى لو اضطلعَ بَعْضُ الغَيُورِينَ بِمُهِمَّةِ القِيامِ على عَمَلٍ مَوسُوعِيٍّ يَجْمَعُ أَمْثالَ هذه الشهادَاتِ مِنَ مَشاهِيرِ المُنْصِفِينَ مِنَ الأُممِ الأخرى؛ والذينَ أنْصَفُوا الإسلامَ ونَبِيَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ والقرْآنَ عَبْرَ التاريخ، مُبَوَّباً بِحَسبِ المَواضِيعِ التي وقعَتْ الشهادَةُ عليها، وإذنْ لكانَ تَصْدِيقاً لِقَولِهِ تعالى في سُورَةِ الأَنْبِياء:{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}.
وَخَاتِمَةُ هذِهِ المُسامُرَة:
أَنِّنِي – وقاكَ اللهُ شَرَّ كُلِّ ذي شَرٍّ – لا زِلْتُ أَعْجَبُ مِمَّنْ اسْتَزَلَّهُ الشيطانُ واسْتَهْواهُ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنا اللاجِئِينَ إلى حِصْنِ الإسلامِ وَحِرْزِهِ؛ والمُتَمَسِّحِينَ بِمُسُوحِهِ (ثِيابِهِ)؛ وهُمْ مِنَ الإسْلامِ وما جاءَ بهِ عَلَى نَقِيضِ ما قَالَهُ أولئكَ المُنْصِفُونَ مِن عُلَماءِ الغَرْبِ الذينَ قَدَّمْنا لكَ أقوالَهم!!، فكانُوا كالشاةِ العائِرَةِ بَينَ الغَنَمَينِ لا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاء!.
ونَحنُ بِحاجَةٍ اليَوْمَ إلى تَصْحِيحِ مَفْهُومِ مِيزَانِ الخَيرِ والشرِّ في الأذْهان؛ خاصَّةً بَعْدَ أنْ صَنَعَ البَشَرُ لأَنْفُسِهِمْ مَوازِينَ مِنْ قَبيلِ المَوازِينِ التي سَبَقَتْ في حِكايَةِ أبي الغُصْنِ لا تَنْتَسِبُ إلى العَدْلِ بِحالٍ؛ بلْ هِيَ وَليدَةُ جَهالَةِ الإنسانِ وشَقاوَتِهِ؛ وشَكِّهِ وَحَيْرَتِه!.
إنَّ مَظاهِرَ القُوَّةِ التي يَتَمَتَّعُ بِها العالَمُ المادِّيُ اليَومَ جَعَلَتْ الحَقَّ عِنْدَ الأمَمِ الغَرْبِيَّةِ وَمُقَلِّدِيها للقُوَّةِ!؛ كما قالَ (الفَيلَسوفُ الإنجليزيُّ سبِنْسَرُ) للأسْتاذ مُحَمَّد عَبْده حِينَما لَقِيَهُ في (برايْتُون) من جَنُوبِ (إنجِلْتْرا) في العاشر من شَهرِ (أغسطس) سَنَةَ (1903)، فأجابَهُ الأستاذُ: ومَظاهِرُ القوّةِ هي التي حَمَلَتْ الشرقِيينَ على تَقْليدِ الأورُوبِيينَ فيما لا يُفيدُ مِنْ غَيرِ تَدقيقٍ في مَعْرِفَةِ مَنابِعِها!!. انتَهى.
وقدْ عَرَفْتَ المِيزانَ فالزَمْ!؛ ولا عَلَيْكَ مِما يُتَمْتِمُ بِهِ أُولئكَ هنا وهُناك!، فالدرُّ هو الدرُّ حيثُما كان!.
وَما عَلَى العَنْبَرِ الفَوَّاحِ مِنْ حَرَجٍ أَنْ ماتَ مِنْ شَمِّهِ الزَّبَّالُ والجُعَلُ.
وقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الله تعَالَى بأَنْ جَعَلَ لكُلِّ شَيءٍ في هذهِ الحَياةِ قَدْراً؛ وما قُدِّرَ للباطلِ مِنَ البقاءِ في الأرْضِ وإنْ طالَ مُكْثُهُ لا يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الحقِّ!؛ بلْ ولا بَعْضَ مَنْزِلَتِهِ!، وأَنّى للباطلِ ذلك وقدْ اجْتُثَّ مِنْ فَوقِ الأرْضِ أَصْلُهُ!؛ وانتُزِعَ منْ جَوْفِها جَلَدُهُ!.
وباللهِ التوْفِِيق.
...
وكتبه شيخنا المجاهد / أبي الوليد الغزى الأنصاري
حفظ الله ووقاه .
ااامين .
وهي جزء من مجموع للشيخ عبارة عن " أسمار " !!!
...
ورفعه من حاسوبه ونسقه
محبكم في الله
أبو مصعب الأزهري
السلفي .
وقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ الله تعَالَى بأَنْ جَعَلَ لكُلِّ شَيءٍ في هذهِ الحَياةِ قَدْراً؛ وما قُدِّرَ للباطلِ مِنَ البقاءِ في الأرْضِ وإنْ طالَ مُكْثُهُ لا يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ الحقِّ!؛ بلْ ولا بَعْضَ مَنْزِلَتِهِ!، وأَنّى للباطلِ ذلك وقدْ اجْتُثَّ مِنْ فَوقِ الأرْضِ أَصْلُهُ!؛ وانتُزِعَ منْ جَوْفِها جَلَدُهُ!.
وباللهِ التوْفِِيق.
...
وكتبه شيخنا المجاهد / أبي الوليد الغزى الأنصاري
حفظ الله ووقاه .
ااامين .
وهي جزء من مجموع للشيخ عبارة عن " أسمار " !!!
...
ورفعه من حاسوبه ونسقه
محبكم في الله
أبو مصعب الأزهري
السلفي .
تعليق