"فاتبعونى يحببكم الله"
كتبه/ فضيلة الشيخ الدكتور: ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فما زلنا مع عبادة الحب، التي هي أساس الإيمان وأصل العبادة.
قال -عز وجل-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، وهذا يدل على أن حبه -عز وجل- يكون لطاعتهم وعبادتهم، فإذا أحب العبدُ ربَّه -عز وجل- واتبع رسوله -صلى الله عليه وسلم- وصل بذلك إلى درجة المحبوبية، فمن زعم حب الله ثم لم يتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فليس بصادقٍ في دعواه المحبة؛ لأن من كان يحب الله -عز وجل- فلابد أن يتبع النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (رواه البخاري ومسلم) ، ولهذا قال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: "ليس الشأن أن تُحِبَّ؛ إنما الشأن أن تُحَبَّ"، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: "زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)".
ثم قال: (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: باتباعكم للرسول -صلى الله عليه وسلم- يحصل لكم هذا كله ببركة سفارته.
ثم قال آمرًا لكل أحد من خاص وعام: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: خالفوا عن أمره؛ (فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)، فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب الله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء ـ بل المرسلون، بل أولو العزم منهم ـ في زمانه لما وسعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته".
وقال ابن القيم في مدارج السالكين -رحمه الله- عن هذه الآية: "وهي تسمى آية المحبة، قال أبو سليمان الداراني: "لما ادعت القلوب محبة الله أنزل الله لها محنة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)".
قال بعض السلف: "ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحنة: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)"، وقال: (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها اتباع الرسول، وفائدتها وثمرتها محبة المرسِل لكم، فما لم تحصل المتابعة؛ فليست محبتكم له حاصلة، ومحبته لكم منتفية).
وصدق القائل:
تعصـي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وقال -عز وجل-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (البقرة: 165)، فهم يحبون الله -عز وجل- أعظم الحب، ألا وهو حب العبادة: حبٌّ مع ذلٍّ وانقيادٍ وخضوعٍ، وأشد من حب المشركين لشركائهم، ومن حب المشركين لله -عز وجل- إذا كان هناك من يحبه منهم، وهذا على تفسيرين في هذه الآية:
الأول: أن المشركين يحبون أندادهم مثل الحب الذي ينبغي أن يُصرف لله، أي مثل حب المؤمنين لله في النوع، ولكن حب المؤمنين لله -عز وجل- أشد من حب المشركين لشركائهم؛ لأنه الحب الفطري الذي جُبلت عليه القلوب وفُطرت على تحقيقه.
الثاني: أن المشركين لما توزَّعت محبتهم بين محبة الله ومحبة الأنداد كان حبهم ضعيفًا؛ لأنه حبٌّ مُوزَّعٌ: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 29)، أما حب المؤمنين لله -عز وجل- فهو حب لمحبوب واحد، لا يُشركون في ذلك الحب سواه، وأما من يحبونه من المخلوقين فمحبتهم له تابعة لمحبة محبوبهم الذي يعبدونه بهذه المحبة، فحبُّهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحبهم للمؤمنين، وحبهم للطاعات والأزمنة والأمكنة التي يحبها الله حبٌّ في الله ولأجله، وهي من كمال محبة الله -عز وجل-.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
تعليق