منذ فترة طويلة و أنا أبحث عن نماذج نسائية باهرة أقدمها كهدية للأخوات من واقعنا المعاصر و بفضل الله ستكون بنان طنطاوي أول الشخصيات التي سأقوم بعرضها عليكم و قد قمت بنقل الموضوع كاملا.
بنان طنطاوي امرأة تُبكي الرجال
!بقلم: محمد علي شاهين
الأم الشهيدة، ثانية بنات الداعية الإسلامي الشيخ علي الطنطاوي، ولدت في دمشق الفيحاء، نبتت نباتاً حسناً، وتربت في بيت العلم والفضيلة على العفّة والطهارة والحياء، وتتلمذت على أبيها، الذي تميز بالعطاء المتواصل طوال ستين عاما في مختلف المجالات التعليمية والثقافية والقضائية والاجتماعية، وأسهم في التوعية الإسلامية، ورد الشبهات، ونقض الافتراءات، وتفرد بالإبداع في مناهج القول، واستقت من معارفه، وتثقّفت على كتب التراث والأدب، تزوّجت من الأستاذ عصام العطّار المراقب العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، الذي ضيّق عليه النظام السوري في أعقاب استيلاء البعث على السلطة 8/3/1963 واضطهده، فكانت كلّما طرقوا دارها وانتزعوا زوجها ليلقوه في غياهب السجون، وقفت بجرأة وشموخ أمام كلّ الإجراءات القمعيّة التعسّفيّة إلى جانب الحق والقوّة والحريّة التي بشّر بها زوجها .
يروي الدكتور أحمد البراء الأميري ابن الشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الأميري في مقالة منشورة له بعنوان: (امرأة تُبكي الرجال!):
كنت أزور والدي في السجن وكانت الأخت بنان تزور زوجها في سجنه بعد أن اعتقله النظام الحاكم، فسمعتها تقول لزوجها " يا عصام، أنا والأولاد بخير وسلامة، فلا تقلق علينا، كن قويا كما عرفتك دائما ولا ترِ هؤلاء الأنذال من نفسك إلا قوة وصلابة واستعلاء الحق على الباطل" كانت تتجلد وتصبر نفسها أمامه، لتربط على قلبه، وكم بحاجة هي لمن يربط على قلبها.
وهاجرت معه بعد منعه من دخول سوريّة بعد تأديته مناسك الحج، وأقامت إلى جانبه سبعة عشر عاماً من التشرد والغربة، قبل أن ينفّذ القتلة جريمتهم المدبّرة، وأخذت تبشّر بالإسلام عقيدة وشريعة، وتدعو بنات جنسها إلى التمسك بقيم الإسلام والالتزام بمبادئه، وعلى يديها التزم العديد من السيّدات بالدين الحق، وكان (المركز الإسلامي النسائي للمسلمات) الذي أنشأته في مدينة آخن الألمانيّة منارة إيمان وصحوة في ديار الاغتراب .
كانت نموذجا يحتذى وقدوة لنساء عصرها، أليست هي المرأة التقيّة النقيّة الصالحة التي وقفت مع الدعوة، وعاشت رحلة الاغتراب، وربّت أبناءها على حب الإله والعمل الصالح، وختمت حياتها بالشهادة.
وتستعيد الابنة الصالحة هادية العطار سيرة والدتها الشهيدة فتكتب قائلة: كانت أمي رحمها الله تعالى تُكْثِر من قراءة القرآن، وتكثر من الدعاء، وكانت تقرأ بفهمٍ وتدبّر، وخشوعٍ وتأثّر، وكنّا نراها أحياناً وهي مستغرقة في تلاوة القرآن، فنرى الدموع تفيض من عينيها على خَدّيها وصدرها.
وكانت حريصة على سلامة موقف زوجها لأنّها أدركت أنّ الرجل موقف، وأن انحراف القائد وتنازله عن ثوابت عقيدته انحراف أمّة وتخاذل شعب بأكمله، فوقفت تشدّ أزره وتدعوه للثبات والصبر.
وفي إحدى رسائلها لم تنس تذكيره بدعوته، فها هي تقول له: نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك يا عصام، وما يكتبه الله لنا هو الخير.
وعندما أصيب زوجها (أطال الله عمره ومتعه بالصحّة) بالمرض، لم تتخل عنه ووقفت معه في محنته، وكانت تقول له: لا تحزن يا عصام، إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك - إن اضطررنا- الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام.
وكانت أديبة مثقفة، تتقن فن القول، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإسلاميّة، وكانت تؤمن بأنّ للمرأة دوراً اجتماعيّاً وثقافيّاً لا يقل أهميّة عن دور الرجل، ومهمة دعويّة مؤتمنة عليها، إلى جانب دورها الطبيعي في رعاية الأسرة وتربية الأجيال، وصدر لها كتاب: (دور المرأة المسلمة).
وفي السابع عشر من آذار سنة واحد وثمانين وتسعمائة وألف، كانت بنان على موعد مع الشهادة، اقتحم المجرمون شقة جارتها (الألمانيّة) وأجبروها على أن تحدثها في الهاتف أنها قادمه لزيارتها، حينها فتحت "بنان" الباب فاقتحم ثلاثة من القتلة المأجورين منزلها بمدينة آخن الألمانيّة، وعندما لم يجد القاتل زوجها المعارض للنظام لتنفيذ جريمته، أطلق القاتل الجبان عليها خمس رصاصات، أصابتها في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، فسقطت مضرجة بدم الشهادة.
يستعيد الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) ذكرى مقتل أبنته في مذكراته والدمع يملأ مآقي عينيه والخفقان يعصف بقلبه الجريح فيقول:
إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي... ما صدّقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل .... هذا .......يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة (الألمانيّة) بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا...ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ويواصل الشيخ وصف الجريمة فيقول: ثمّ داس القاتل بقدميه النجستنين عليها ليتوثّق من موتها كما أوصاه من بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، قطع الله يديه ورجليه، (آمين) لا بل ادعه وأدع من بعث به لله، لعذابه، لانتقامه، ولعذاب الآخرة اشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.
وفي اليوم الثاني للجريمة طلعت الصحف والمجلاّت الألمانيّة على الملأ تصف جريمة الاغتيال المدبرة وصفاً صادقاً وعطوفاً، وألقي القبض على الجاني، فانهار واعترف بجريمته، وأدلى بمعلومات في غاية الأهميّة عن الجهة التي أرسلته لتنفيذ ما أقدم عليه.
وكان أشد الناس حزناً عليها زوجها الشهيد الحي الذي فدته بروحها، فرثاها بقصائد باكية رقيقة، جمعت في ديوان: (رحيل) ومنه هذه الأبيات:
ومضت سنوات طوال وذكرى اغتيال الشهيدة بنان حي في ضمائر الأحرار، لأنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون
الأم الشهيدة، ثانية بنات الداعية الإسلامي الشيخ علي الطنطاوي، ولدت في دمشق الفيحاء، نبتت نباتاً حسناً، وتربت في بيت العلم والفضيلة على العفّة والطهارة والحياء، وتتلمذت على أبيها، الذي تميز بالعطاء المتواصل طوال ستين عاما في مختلف المجالات التعليمية والثقافية والقضائية والاجتماعية، وأسهم في التوعية الإسلامية، ورد الشبهات، ونقض الافتراءات، وتفرد بالإبداع في مناهج القول، واستقت من معارفه، وتثقّفت على كتب التراث والأدب، تزوّجت من الأستاذ عصام العطّار المراقب العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في سورية، الذي ضيّق عليه النظام السوري في أعقاب استيلاء البعث على السلطة 8/3/1963 واضطهده، فكانت كلّما طرقوا دارها وانتزعوا زوجها ليلقوه في غياهب السجون، وقفت بجرأة وشموخ أمام كلّ الإجراءات القمعيّة التعسّفيّة إلى جانب الحق والقوّة والحريّة التي بشّر بها زوجها .
يروي الدكتور أحمد البراء الأميري ابن الشاعر الإسلامي الكبير عمر بهاء الأميري في مقالة منشورة له بعنوان: (امرأة تُبكي الرجال!):
كنت أزور والدي في السجن وكانت الأخت بنان تزور زوجها في سجنه بعد أن اعتقله النظام الحاكم، فسمعتها تقول لزوجها " يا عصام، أنا والأولاد بخير وسلامة، فلا تقلق علينا، كن قويا كما عرفتك دائما ولا ترِ هؤلاء الأنذال من نفسك إلا قوة وصلابة واستعلاء الحق على الباطل" كانت تتجلد وتصبر نفسها أمامه، لتربط على قلبه، وكم بحاجة هي لمن يربط على قلبها.
وهاجرت معه بعد منعه من دخول سوريّة بعد تأديته مناسك الحج، وأقامت إلى جانبه سبعة عشر عاماً من التشرد والغربة، قبل أن ينفّذ القتلة جريمتهم المدبّرة، وأخذت تبشّر بالإسلام عقيدة وشريعة، وتدعو بنات جنسها إلى التمسك بقيم الإسلام والالتزام بمبادئه، وعلى يديها التزم العديد من السيّدات بالدين الحق، وكان (المركز الإسلامي النسائي للمسلمات) الذي أنشأته في مدينة آخن الألمانيّة منارة إيمان وصحوة في ديار الاغتراب .
كانت نموذجا يحتذى وقدوة لنساء عصرها، أليست هي المرأة التقيّة النقيّة الصالحة التي وقفت مع الدعوة، وعاشت رحلة الاغتراب، وربّت أبناءها على حب الإله والعمل الصالح، وختمت حياتها بالشهادة.
وتستعيد الابنة الصالحة هادية العطار سيرة والدتها الشهيدة فتكتب قائلة: كانت أمي رحمها الله تعالى تُكْثِر من قراءة القرآن، وتكثر من الدعاء، وكانت تقرأ بفهمٍ وتدبّر، وخشوعٍ وتأثّر، وكنّا نراها أحياناً وهي مستغرقة في تلاوة القرآن، فنرى الدموع تفيض من عينيها على خَدّيها وصدرها.
وكانت حريصة على سلامة موقف زوجها لأنّها أدركت أنّ الرجل موقف، وأن انحراف القائد وتنازله عن ثوابت عقيدته انحراف أمّة وتخاذل شعب بأكمله، فوقفت تشدّ أزره وتدعوه للثبات والصبر.
وفي إحدى رسائلها لم تنس تذكيره بدعوته، فها هي تقول له: نحن لا نحتاج منك لأي شيء خاص بنا، ولا نطالبك إلا بالموقف السليم الكريم الذي يرضي الله عز وجل، وبمتابعة جهادك الخالص في سبيل الله حيثما كنت وعلى أي حال كنت، والله معك يا عصام، وما يكتبه الله لنا هو الخير.
وعندما أصيب زوجها (أطال الله عمره ومتعه بالصحّة) بالمرض، لم تتخل عنه ووقفت معه في محنته، وكانت تقول له: لا تحزن يا عصام، إنك إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، تابع طريقك الإسلامي المستقل المميز الذي شكلته وآمنت به، فنحن معك على الدوام، نأكل معك - إن اضطررنا- الخبز اليابس، وننام معك تحت خيمة من الخيام.
وكانت أديبة مثقفة، تتقن فن القول، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات الإسلاميّة، وكانت تؤمن بأنّ للمرأة دوراً اجتماعيّاً وثقافيّاً لا يقل أهميّة عن دور الرجل، ومهمة دعويّة مؤتمنة عليها، إلى جانب دورها الطبيعي في رعاية الأسرة وتربية الأجيال، وصدر لها كتاب: (دور المرأة المسلمة).
وفي السابع عشر من آذار سنة واحد وثمانين وتسعمائة وألف، كانت بنان على موعد مع الشهادة، اقتحم المجرمون شقة جارتها (الألمانيّة) وأجبروها على أن تحدثها في الهاتف أنها قادمه لزيارتها، حينها فتحت "بنان" الباب فاقتحم ثلاثة من القتلة المأجورين منزلها بمدينة آخن الألمانيّة، وعندما لم يجد القاتل زوجها المعارض للنظام لتنفيذ جريمته، أطلق القاتل الجبان عليها خمس رصاصات، أصابتها في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، فسقطت مضرجة بدم الشهادة.
يستعيد الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) ذكرى مقتل أبنته في مذكراته والدمع يملأ مآقي عينيه والخفقان يعصف بقلبه الجريح فيقول:
إن كل أب يحب أولاده، ولكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي... ما صدّقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات ونصف السنة وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحيانا فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّف ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائما كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل .... هذا .......يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة (الألمانيّة) بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها كأن فيها بقية من أعراق أجدادها.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا...ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ويواصل الشيخ وصف الجريمة فيقول: ثمّ داس القاتل بقدميه النجستنين عليها ليتوثّق من موتها كما أوصاه من بعث به لاغتيالها، دعس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، قطع الله يديه ورجليه، (آمين) لا بل ادعه وأدع من بعث به لله، لعذابه، لانتقامه، ولعذاب الآخرة اشدّ من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.
وفي اليوم الثاني للجريمة طلعت الصحف والمجلاّت الألمانيّة على الملأ تصف جريمة الاغتيال المدبرة وصفاً صادقاً وعطوفاً، وألقي القبض على الجاني، فانهار واعترف بجريمته، وأدلى بمعلومات في غاية الأهميّة عن الجهة التي أرسلته لتنفيذ ما أقدم عليه.
وكان أشد الناس حزناً عليها زوجها الشهيد الحي الذي فدته بروحها، فرثاها بقصائد باكية رقيقة، جمعت في ديوان: (رحيل) ومنه هذه الأبيات:
بنان" ياجبهةَ الإسلام دامية...مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍ
"بنان" ياصورة الإخلاص رائعةً...ويا منال الفِدى والنبل والكرم
عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطن...ملاحماً من صراع النور والقيم
الكيد يرصدنا في كل منعطفٍ... والموت يرقبنا في كل مقتحم
"بنان" ياصورة الإخلاص رائعةً...ويا منال الفِدى والنبل والكرم
عشنا شريدين عن أهلٍ وعن وطن...ملاحماً من صراع النور والقيم
الكيد يرصدنا في كل منعطفٍ... والموت يرقبنا في كل مقتحم
ومضت سنوات طوال وذكرى اغتيال الشهيدة بنان حي في ضمائر الأحرار، لأنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون
تعليق