الشعور الديني عند المراهق
إن مرحلة المراهقة من أخطر المراحل التي تـواجــه كـل مـن يقوم بالتربية، وذلك لأنها مرحلة انتقال جسمي وعقلي وانفعالي واجتماعي بين مرحلتين متميزتين هما: مرحلة الطفولة الوادعة و الساذجة الهادئة، ومرحلة الشباب التي تُسْلم المراهق إلـى الـرشـد والنضوج والتكامل والرجولة الكاملة.
وهي مرحلة طبيعية في النمو، يمر بها المراهق كما يمر بغيرها من مراحل العمر المختلفة، ولا يتعرض لأزمة من أزمات النمو، مادام هذا النمو يجري في مجراه الطبيعي، فهي ليست - بحد ذاتها - أزمة، وإنما هي مرحلة انتقال وتغيير كلي شامل. وإن حصلت الأزمــة فـإنـها إنما تنشأ بسبب عوامل مؤثرة غيرها، أو بسبب معالجة مشكلات المراهق.
والـمـراهـقـة هي: الفـتـرة من بلوغ الحلم إلى سن الرشد، وهي من 14- 21 سنة تقريبًا، وتتميز بسرعة التقلبات لدى المراهق , كما أن المراهق دائمًا يريد أن يثبت ذاته ليقول للناس: "هاأنذا لي وجود كرجل كبير".
ولن نعنى فـي هـذا الـمـقـال بـدراسة التغيرات النفسية والعقلية والجسمية التي تطرأ على المراهق، وإنما نُلمح إلى الـشعور الـديني عـنـد الـمراهق وتطوره، لبيان اتجاهات المراهقين الدينية والأخلاقية.
خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان على فطرة التوحـيـد والإيـمـان، وقد أخذ العهد على بني آدم مذ كانوا ذرية في ظهور آبائهم وأشهدهم على أنفسهم: {ألَـسْـتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172]. وفي الحديث القدسي «إني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
فـالإنـسـان مـؤمن بفطرته، يتجه إلى الله عز وجل وحده بالعبادة والخضوع، ولكن هــذه الفطرة قد يغشاها ما يغشاها، أو قد تنحرف وتمرض بتأثير بعض العوامل كالوالدين أو البيئة، ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة. فأبواه يُهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تُحسُّـون فـيها مـن جدعاء؟» ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: واقرؤوا إن شئتم:{فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}.
وإذا كان الطفل منذ نعومة أظـفـاره يـدرك عدداً من المعاني الدينية بتأثير هذه الفطرة التي أودعه الله إياها، فإن هذا الإدراك هو شعور غير محدد، فهو يبدي عدداً من الانفعالات، ويطرح جملة من الأسئلة عن الله خالـق الـكـون، خالـق الـشـمـس والقمر.. منزل المطر من السماء، عن الرعد والبرق، وعن الجنة والنار..ولكن المعاني الدينية تـتـضح أكثر عند المراهق، بـسـبـب نضـجه العقلي الذي وصل إليه، فلا تكاد مرحلة المراهقة تبلغ أوجها حوالي السادسة عشرة تقريباً حتى تكون مستويات المراهق الإدراكية قد تفتحت وتسامت، وذكاؤه قـد بـلغ أوجه، كـما تتحدد في هذه المرحلة اهتمامات المراهق، ويـتـحـرر من الشطحات والخيال، ويـمـيـل إلـى القـراءة والاطـلاع، ويصبح قادراً على التجريد وإدراك المعنويات، وتجاربه في البيت والمدرسة والمجتمع تكون قد تنوعت.
كل تلك العوامل العقلية والاجتماعية- إضافة إلـى الـنضج الجسدي - تتضافر في إيجاد وعي ديني عند المراهق، يختلف عن الاهتمام الديني عـند الأطفال. فعندئذ يبدأ بتكوين فكرة عن الحياة والمصير والغاية، ويفكر في الخالق سبحانه وفي صفاته، وهذا يكوِّن لديه يقظة دينية تثير نشاطاً عملياً، كالعبادة التي تترجم عن إيمانه، وكالجهاد فـي سـبيل الله، وتحمل المطالب والمسؤوليات تجاه دينه، والاستهانة بالعقبات التي تقف أمامه.
والمراهق - كغيره- يجد في الدين أملاً مشرقاً بعد يأس مظلم، ويجد فيه أمناً من خوف، وفكراً يسدّ فراغه النفسي وقلقه الانفعالي. وهذا كله يدفع بالمراهق إلى المبالغة فـي الـعـبـادة والتعمق فيها أحياناً إذا وجد من يدفعه إلى ذلك، ويشجعه عليه، ويثني عليه به، وينميه فيه. ولذلك قال بعض السلف: "من فضل الله على الشاب إذا نسك أن تتلقفه يد شيخ من أهل السنة يربيه على السنة".
ولذلك هذا الوعي الديني عند المراهق، يجب توجيهه وجهة سليمة صحيحة تتفق ومقدرته العقلية وتكوينه النفسي والانفعالي، ليكون فهمه للدين - منذ البداية - فهماً صحيحاً بعيداً عن الأوهام والخرافات والتعصب.
فلا يجوز أن يفهم بعض آيات الكتاب الكريم على نحو غير صحيح استناداً إلى أنه لا يستطيع الآن أن يدرك معانيها الحقيقية كما ندركها نحن مثــلاً، أو بحجة استغلال عاطفته الدينية خوفاً من موجات الشك والإلحاد، أو انتصاراً لـلـديـن على العلم -كما يفعله بعضهم -أو بأي حجة أخرى. فإن تلقين المعاني والأفكار الدينية للمراهق بشكل منحرف أو خرافي يؤدي إلى ناحية سلبية، فينكر الدين إلحاداً وازدراءً، أو ينكر العلم جهلاً وتعصباً!
ومن هنا، كان من الواجب توجـيه المراهق توجيهاً سليماً واضحاً، و وجب الابتعاد عن السطحية والضحالة في تقديم الأفكار الدينية له وتعليمه إياها؛ إذ يجب في هذه المرحلة أن نوسِّع ثقافته - وهو في دراسته في هذه المرحلة في مستوى الدراسة المتوسطة والثانوية - من الناحية الدينية حتى ننهض بمستواه الروحي، ونرى أثر هذه الثقافة في أخلاقه وسلوكه. كما يجب على كل من يُعنى بتربية المراهق أن يفتح له قلبه بفتح باب المناقشة الهادئة الواعية الدقيقة، وأن يعوِّده على ذلك، وأن لا يضيق أو يتبرم بمناقشته وأسئلته، لأنه يميل في هذه المرحلة إلى مناقشة كل فكرة تُعرض عليه، فهو لم يعد طفلاً يأخذ كل شيء بالتسليم المطلق..
وإن كان هذا لا ينفي أن نزرع فـي نفسه أيضاً التسليم المطلق لله تعالى والانقياد لأوامره وأحكامه، وأنه سبحانه وتعالى إنما شرع شرعـته لمصلحة لنا، قد يدركها العقل وقد يعجز عن دركها ومعرفتها أحياناً. ولكنه - بكل تأكيد - ما من حكم شرعي إلا وهو ينطوي على مصلحة للبشر. وهذا ما أشار إليه وفصَّله الإمام المحـقـق الشاطبي في كتابه العظيم ”الموافقات“ والعز بن عبد السلام في ”قواعد الأحكام“، ويمكن أن نحيله على هذه الكتب نفسها وندعوه إلى قراءتها وإبداء الرأي ومناقشته فيما رأى، ليرى بنفسه حجم إمكانياته العقلية، فيكسر ذلك صفة الغرور فيه، ويقف بعقله عند حده، وأيضا نرضي غروره. وهذا هو الطريق السوي السليم - فيما أحسب - في توجيه المراهق دينياً، بحيث نبعث في نفـسـه السكينة والاطمئنان والثقة بالنفس، مع القناعة العقلية والوجدانية، والمباعدة بينه وبين الغرور، وبهذا نحفظه من رياح الإلحاد والاستهتار والانحلال.
وفي دراسة إحصائية لخبرات المراهقين، أجراها الدكتور عبد المنعم المليجي في مصر،اقترح تصنيفاً للمراهقين حسب الاتجاه الديني الذي يغلب عليهم، إلى فئات أربع:
1- فئة يلتزمون قواعد الدين حرفياً دون مناقشة:وهذه فئة المؤمنين إيماناً تقليدياً - حسب تعبيره -.
2- فئة تأخذ الدين بجدية أكثر: فتندفع إلى تبرير الدين والتحمس له. وهذه فئة المتحمسين للدين.
3- فئة تأخذ الدين جدياً: لكن تميل إلى اتجاه نقدي أكثر. وهي فئة المتشككين.
4- فئة تنكر الدين إنكاراً صريحاً.
وحبذا لو أجريت دراسات أخرى في بعض البلدان الإسلامية، لمعرفة مدى الرصيد الإيماني لشبابنا المراهقين الذين تحاصرهم كثير من التغيرات، وتغزوهم وسائل الإعلام التي يزيد الهدم فيها ويفـوق البناء، وبذلك نرصد اهتمامات شبابنا وتوجهاتهم، ويمكن معالجة ما قد يقع من انحراف، وتصويب ما يمكن تصويبه من أخطاء.
وكذلك يقف المراهق - والمراهقة أيضاً - موقفاً إيجابياً من الأخلاق، بعكس ما كان عليه عندما كان طفلاً، فهو لا يتقبل أي موقف أخلاقي دون مناقشة أو تقليب النظر.
إن المراهق والمراهقة يناقشان في صراحة - أحياناً - كل ما يصدر عن الوالدين من أعمال، ويحاولان أن يُصدرا أحكاماً على هذه الأعمال، فكل منهما يقبل عندئذ ما يروقه وما يتمشى مع منطقه، ويرفض ما يتعارض مع مُثُلِه العليا، ويجادل والديه في هذا كله.
وهناك ظاهرة أخرى في سلوك المراهق الخلُقي، إذ باستطاعته الآن التفكير في صيغ عامة، وأن يكوِّن لنفسه (مُثُلاً عليا) هي تجمّع لخبراته السابقة في الطفولة.
ومن الأمثلة القريبة على هذه المثل العليا والأخلاق السامية عند المراهق: أولئك الفتيان الذين ينشطون دائماً في جمع التبرعات للمنكوبين أو المشرّدين، دون أن ينتظروا من وراء ذلك كسباً مادياً أو نفعاً دنيوياً عاجلاً.
مثال آخر يدل على شهامة المراهقين ومثاليتهم العالية: أولئك الطلاب الذين اشتركوا في حرب فلسطين عام 1948م أو في معركة القـنال بمصر بعد إلغاء المعاهدة المصرية الإنكليزية عام 1926م، وكان الكثير من هؤلاء في سن المراهقة، ذهبوا وضحَّوا بأنفسهم في سبيل مبدإ جليل دون رهبة أو وجل، يدفعهم إلى ذلك إيمان بالله قويٌّ، وأخلاق عالية سامية.
وإذا ارتقينا في تاريخنا الإسلامي إلى عهد الصحابة رضوان الله عليهم وجدنا أمثلة كثيرة تعزُّ على الحصر، تؤكد ذلك، فأولئك الشباب من الشهداء في عهد النبوة، وأولئك الذين جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مـثال رائع لذلك، وكان فيهم من لا يتجاوز الخامسة عشرة من العمر، ومنهم من ردّه الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يُجِزه في الاشتراك في الجهاد لصغر سنِّه! وحسبنا هنا أن نشير إلى مَثَلٍ واحد رواه الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف وهو يحكي قصة معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء - غلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما - في سؤالهما عـن عدو الله أبي جهل، إذ كل واحد منهما قد عاهد الله”لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا“. إنها مثل رائع للبطولة الشامخة والإيمان القوي.
وبعد؛ فقد يجد المراهق أن مثاليته هذه بعيدة عن الواقع وصعبة التنفيذ، عندما تتسع الدائرة الـتي يـتـعـامل معها، وقد يساوره شيء من الشك في قيمة تلك المُثُل العليا، أو قد يعتبرها رياءً لا معنى لها، فينتهي إلى الانطواء على النفس واحتقار الذات، أو الاندفاع في غمار الحياة لتحقيق رغباته وإشباع دوافعه الفطرية دون احترام للمبادئ الأخلاقية، ما لم يكن هـناك وازع منالدين والتربية القويمة التي تربط هذه القيم الأخلاقية بعقيدة المراهق وإيمانهبالله تعالى، ووجوب الالتزام بشرعه، وبضبط النفس بين دوافعه وضوابطه، وطموحاتهوواقعه، وهي مـسؤولـية عـظمى تقع على عاتق كل من جعله الله تعالى داعياً لأولئك الأفراد، تـحـتاج إلى عون من الله تعالى، وإلى كثير من الجهد والصبر والمصابرة:{والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}.
تعليق