نهاية عام واستقبال آخر ( وقفة محاسبة )
بسم الله الرحمن الرحيم
قالت عائشة -رضي الله عنها- : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ . وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾[1]. فقلت: أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون؟ فقال : «لا يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ، ويتصدقون ، ويخافون ألا يتقبل منهم ، أولئك يسارعون في الخيرات»[2] .
لقد كان سلفنا الصالح ، يتقربون إلى الله بالطاعات، ويسارعون إليه بأنواع القربات، ويحاسبون أنفسهم على الزلات، ثم يخافون ألا يتقبل الله أعمالهم.
فهذا الصديق رضي الله عنه : كان يبكي كثيراً، ويقول: «ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا» وقال: «والله ، لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد».
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قرأ سورة الطور حتى بلغ قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾[3] . فبكى واشتد في بكائه حتى مرض وعادوه. وكان يمر بالآية في ورده بالليل فتخيفه ، فيبقى في البيت أياماً يعاد ، يحسبونه مريضاً ، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء!!
وقال له ابن عباس -رضي الله عنهما- : نصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح وفعل ، فقال عمر: وددت أني أنجو ، لا أجْر ولا وزر!!
وهذا عثمان بن عفان ـ ذو النورين رضي الله عنه : كان إذا وقف على القبر بكى حتى تبلل لحيته، وقال: لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير!!
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كان كثير البكاء والخوف، والمحاسبة لنفسه . وكان يشتد خوفه من اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى. قال: فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران، فيها أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى الصراط داع يدعو يقول : يا أيها الناس ، اسلكوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو على الصراط، فإذا أراد أحكم فتح شيء من تلك الأبواب قال : ويلك! لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه. فالصراط: الإسلام. والستور: حدود الله. والأبواب المفتحة: محارم الله. والداعي من فوق: واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم»[4] .
فهلا استجبنا لواعظ الله في قلوبنا ؟ وهلا حفظنا حدود الله ومحارمه؟ وهلا انتصرنا على عدو الله وعدونا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[5].
1- كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: «حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة ، عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة».
2- وقال الحسن: «لا تلقي المؤمن إلا بحساب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه» .
3- وقال أيضا: «إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه ، وكانت المحاسبة همته».
4- وقال الحسن: «المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً».
5- وقال ميمون بن مهران : «لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ، ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان ، إن لم تحاسبه ذهب بمالك».
6- وذكر الإمام أحمد عن وهب قال : «مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجعل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات وإجماماً للقلوب».
7- وكان الأحنف بن قيس ويجيء إلى المصباح، فيضع إصبعه فيه ثم يقول : «حس يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم».
8- إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله.
وأخيرا ، فهذه همسات تسع:
الهمسةُ الأولى : إلى قارئ هذه السطور .. ها هو عام مضى وانقضى ، وساعاتٌ ودقائقُ تصرَّمت وانتهت .. فهل يا تُرى عُمّرت بالطاعاتِ وتحصيلِ الحسنات ؟ أم لطِّخت بالمعاصي والسيِّئات ؟ ﴿وأنْ ليسَ للإنسانِ إلاَّ ما سعى . وأن سعيهُ سوف يُرى . ثم يُجزاهُ الجزاء الأوفى ﴾[6] .
الهمسةُ الثانية : إلى كلِّ داعيةٍ وطالب علم .. سل نفسك .. أينَ أنت ؟ وماذا قدَّمت ؟ ما هيَ مخطَّطاتك ؟ وماذا تريد ؟ ألا تكفي الأعمالُ الارتجاليةُ دون تخطيطِ أو تفكير ؟ ألا يكفي الانشغالُ بالمهمِّ عن الأهم ؟
الهمسةُ الثالثة : إلى الشباب المباركين المحبين لدينهم وأمتهم ووطنهم .. أقول : إنكم تعلمون أنَّ أمة الإسلام اليوم تواجه أزماتٍ قاسية ، وهجماتٍ شرِسةٍ ضارية موجهة تارةً من عدوِّها الخارجيِّ (اليهودُ والنصارى وأضرابِهم) وتارة من عدو داخلي لدود (العلمانيون والليبراليُّون وأذنابُهم) . جعلوا الإسلام شِعاراً ، والإصلاح بُغيةَ الحضارة ، والتمدُّن دثاراً .. فلا تغرَّنكم فِعالهم ، ولا تهولنَّكم دعواتهم ، بل عليكم مواجهتهم بسلاح العلم الشرعيِّ .. ولْتكونوا قريباً من العلماء والأكابر .. فبالبركةُ معهم .. واسلُكوا طريقهم حيثُ تيمَّموا .
الهمسةُ الرابعة : إلى كُلِّ إعلاميّ أقول : إنك تعلم مدى تأثير الإعلام على واقع الأمة ، ودورُه الكبير في توجيهِ الناس وقيادتهم - سلباً كان أو إيجاباً - .. فالإعلامُ جعلَ هذا العالم بيتاً واحداً ، وهو سلاحٌ ذو حدَّينِ -كما يُقال- فإما أن يُستخدمَ في الخيرِ ، فهذا –والله- هوَ الفلاحُ والفوز ، وإما أن يُستخدم لنشرِ الشرِّ وهذه هي الخسارةُ والخيانةُ لعُقولِ الأمة . فالذي ينبغي هو أن يتعاونَ الجميعُ من أجلِ تصحيحِ مجالاتِ الإعلام ودخولها بكلِّ قوة -ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا-.
الهمسة ُ الخامسة : إلى كلِّ من ولاَّهُ الله أمراً من أمورِ المسلمين -أمراً خاصاً أو عاماً- تذكر أنَّ اللهَ سائلُك عما استرعاك : أحفظت أم ضيعت؟ تذكَّر أنك ستقفُ في محكمةٍ يقضي فيها الله - جلَّ الله - . إنَّ هذه الأمانة التي تولَّيتها إما أن تكونَ ممراً لكَ إلى الجنة ، وإما أن تُبعِدَك عنها -والعياذ بالله- فاتَّق الله فيما تولَّيت ، واسأل ربَّك الإعانة والتوفيق ، فإنه خيرُ معين.
الهمسةُ السادسة : إلى كل مجاهد في سبيل الله ، إلى المقاومين الصامدين على ثغورِ الإسلام ، في بلادِ العراقِ وأفغانستان وفي كل مكان ؛ حُيِّيتم ، وسُدِّدتم ، ووُفِّقتم ، وأعانكمُ الله ونصرَكم .. فلقد رفعتم هامة الإسلام عالية ، للهِ أنتم يومَ تركتمُ النومَ على الفِراشِ الوثيرِ وآثرتمْ منازلة المحتلِّ الباغي .. لكمُ منَّا الدعاء ، وحقّكمُ علينا الذبُّ عن أعراضكِم .. مكَّنكمُ اللهُ من رقابِ الكافرين ، وأعادَ لكم أرضكم ودياركُم ، ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[7] .
الهمسةُ السابعة : إليكم أيُّها المرابطون الصابرون على أرض فلسطين المباركة ، إن القلم يستحي أن يكتبَ لكم شيئاً ، لقد علَّمتمونا كيف نصبرُ ونُصابر ، أيها الأحبة: إن الظلامُ سينجلي ، ويُسفرُ صُبحٌ بديعُ المُحيَّا ، وإنَّ الفرج قريبٌ فلا تجزعوا ، أسألُ الله أن ينصرَكم ، وأن يكُفَّ بأسَ الذين كفروا عنكم : ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[8]. ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[9] .
الهمسةُ الثامنة : إلى من أطلقَ قلمه ولِسانه للنيلِ من العلماء والدعاة سباً وتجريحاً وتنفيراً وتحريضا أو انتقاصاً من شعيرة دينية ، أو لمزاً للعفةِ والطهرِ والفضيلة .. أقولُ لهم : ﴿ستُكتبُ شهادتُهم ويُسألون﴾[10]..
وما مِن كاتبٍ إلا سيفنى ويُبقي المرءُ ما كتَبت يداهُ
فلا تكتُب بكَفِّكَ غيرَ شيءٍ يسُرُّكَ في القيامةِ أن تراهُ
فلا تكتُب بكَفِّكَ غيرَ شيءٍ يسُرُّكَ في القيامةِ أن تراهُ
الهمسةُ التاسعة : إليك أيتُها المرأةُ الفاضلة الطاهرةُ الشريفةُ العفيفة -أمَّاً أو أختاً أو بنتاً- أيتُها الصالحةُ الوفيَّةُ لدينها .. أمامكِ تحدِّياتٌ عصيبة في ظلِّ تردٍ أخلاقيّ وطغيانِ رذيلة . آنَ لك أن تتقدَّمي الصفوف لرعاية الفضيلة ، وتحصين الأسرة بدينِ الفطرة .
يا حرةً قد أرادوا جعلها أمةً غربية الفعلِ لكن اِسمها عربي
يا درَّةً حُفِظت بالأمسِ غاليةً واليومَ يبغونها للَّهوِ واللعبِ
أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستخلص العبر مما مضى من السنين ، وأن يجعلنا أكثر محاسبة لأنفسنا فيما يستقبلنا من العمر ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
وكتب : د. عقيل بن محمد المقطري
22 ذو الحجة 1431هـ
اسئلكم الدعاء لي بالهداية
وان يجعل خاتمتي شهادتا في سبيله
[1]-المؤمنون : 57-61 .
[2]-الترمذي وابن ماجه وأحمد .
[3]-الطور : 7 .
[4]-الطور : 7 .
[5]-أحمد والحاكم وصححه الألباني .
[6]-النجم : 39-41 .
[7]-آل عمران : 169.
[8]-الأنفال : 46 .
[9]-آل عمران : 139 .
[10]-الزخرف :19 .
تعليق