كتبه/ ياسر برهامي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله -سبحانه وتعالى- يخلق ما يشاء ويختار، قال -تعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص:68)، وقال -تعالى-: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا) (الإسراء:21).
وهذا الاختيار والتفضيل من أدلة وحدانيته -سبحانه وتعالى-، ومن دلائل ربوبيته واستحقاقه وحده -عز وجل- أن يُعبد ويشكر؛ فهو -سبحانه وتعالى- لم يسوِّ بين عباده؛ لأنه يُحب أن يشكر، كما في الحديث: (وَرَفَعَ عَلَيْهِمْ آدَمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ، وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِّ لَوْلا سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
فالله -عز وجل- فاوت بين الناس، ولابد أن يُراعى هذا التفاوت، ولابد أن يُنتفع بما فضـَّل الله -سبحانه وتعالى- به العباد بعضهم على بعض، ومن لا ينتبه لهذه المسألة في أمر التربية والتوجيه والإعداد للأمة -ولو حتى في الأمور الدنيوية- ورام أن يكون الكل متساويًا؛ فقد أخطأ الطريق، ولم يعرف سنة الله -عز وجل- في خلقه.
اصطفاء من يصلح لقيادة الأمة
والله -عز وجل- قد اصطفى الأنبياء، وأمرهم بأن يصطفوا لأقوامهم مَن يصلح لقيادة أمتهم، وهذه قضية عظيمة الأهمية في التربية والتوجيه؛ فإنه لا يستوي أبناء الرجل الواحد، ولا يستوي أهل المحلة الواحدة، ولا أهل الوطن الواحد؛ وإنما يكون الاختيار بناءً على الخيرية، فالخيِّر مَن سبق إلى الله -سبحانه وتعالى- بطاعته، فهو السابق في الدنيا والآخرة، وهذا الذي ينبغي أن يُقدَّم، فالله هو المقدم والمؤخر؛ فمَن قدمه الله -عز وجل- إلى طاعته فهو المقدَّم، ومن أخره فهو المؤخر، والمبادرة إلى الخيرات سبب الفوز عند الله -تعالى-.
فمَن تقدم في العلم أو العبادة أو العمل الصالح أو خدمة المسلمين؛ فهذا الذي ينبغي أن يُنتقى، فلا يؤخذ أي شخص ويوضع في أي مهمة أو أي وظيفة؛ فإن من أعظم أسباب فساد الأمم أن تسند الأمور إلى غير أهلها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله: "متى الساعة؟"، فقال: (إِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ)، قَالَ: "كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ) (رواه البخاري).
وعندما يكون هناك اختيار لولايات أو أمانات أو مهمات أو مسئوليات فلابد من النظر إلى من يوكَّل أمر الاختيار، وما هي الصفات التي يختار بناءً عليها، فإذا اختل هذان الأمران حصل أنواع الفساد.
إلى من يوكَّل الاختيار؟
لابد أن يُنظر إلى من يوكَّل الاختيار، ولذا تجد أمم العالم تضطرب يمينًا وشمالاً في الجهالات؛ لأنها تقدِّم إلى قيادتها من ينزلها دار البوار كما قال -تعالى- عن فرعون: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (هود:98)، وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (إبراهيم:28-29)؛ أحلوا قومهم دار البوار حين تركوا طاعة الرسل، واتبعوا هؤلاء المجرمين الذين يصدون عن سبيل الله، وقال -تعالى-: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا) (نوح:21)، فحين يوكل أمر الاختيار إلى الجهلاء -فضلاً عن أن يوكل إلى الكفرة والمنافقين- يكون ذلك من أعظم الفساد.
لقد كان اختيار طالوت ملكًا عن طريق نبي بني إسرائيل -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:246-247).
وهكذا أيضًا صنع موسى -عليه السلام-؛ فقد أمره الله -عز وجل- أن يجتبي اثنى عشر قائدًا من أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر، فبعث من قومه اثنى عشر نقيبًا، وكذلك قال الله في شأن اختيار سبعين رجلا لميقاته (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا) (الأعراف:155).
وهكذا كان الحال في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا هو الواجب؛ أن يكون الأنبياء وورثة الأنبياء بعدهم من العلماء الربانيِّين هم الذين يختارون مَن يصلح لقيادة الأمة.
ونظام الأمانات والولايات في النظام الإسلامي يختلف عنه في النظام الديمقراطي المستورد من الغرب؛ فهو لا يعتمد في الاختيار على الدهماء والعامة؛ وإنما يُبنى على أن يكون هناك طائفة من أهل الحل والعقد عندهم من العلم والعقل والرزانة والحكمة والطاعة لله -سبحانه وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- والعدالة والعمل بالكتاب والسنة؛ فيوكل إليهم أمر الاختيار، ولابد أن يختاروا بناءً على موازين الشرع.
مقياس الاختيار
ولابد أيضًا أن يُعلم ما هو مقياس الاختيار؛ فحين يُجهل مقياس الاختيار فيُختار مَن هو أكثر مالاً وولدًا، ومَن هو أعظم جاهًا ومنزلة، ومَن يستطيع أن يخدع الناس أكثر بكثرة ما ينفقه من المال وبحسب ما عنده من الزينة التي يجذب لها الأبصار؛ فإن هذا هو علامة شؤم وشر لهذه الطائفة من البشر.
لما اختار موسى -عليه السلام- سبعين رجلاً لميقات ربه -عز وجل- اختار الأفضل فالأفضل حسب طاعة الله -سبحانه وتعالى-، وحسب الأهلية المناسبة للوظيفة التي يُختارون إليها في قيادة الأمة، وقد ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "(وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا): الخيِّر فالخيِّر".
ولما قال نبي بني إسرائيل -عليه السلام- لهم: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)، قالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) (البقرة:247)، فكان فيهم أمر التنافس على الرياسة، وعموا عن الصفات المؤهلة للقيادة الصحيحة، وأخذوا يبحثون عن أغراض نفوسهم رغم أنهم يزعمون أنهم يريدون القتال في سبيل الله، ولاسترداد ما ضاع مما أعطاهم الله -سبحانه وتعالى- من الأرض، وإنقاذ أسراهم من يد عدوهم، ومع ذلك كان التنافس على السلطة والولاية والملك من أعظم أسباب بعدهم عن الاختيار الصحيح.
ولذا نقول: قضية التنافس على الولايات إنما هي مستوردة من الجهال ممن لا يعرفون حقيقة الاجتباء والاصطفاء، ولا يعرفون الموازين الصحيحة.
ثم كان الميزان عندهم أنه ليس عنده سعة من المال، فقالوا: (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)، هكذا يزنون الأمور؛ فمن معه مال أكثر -أي: من رجال الأعمال باصطلاحنا المعاصر- يكون هو المقدَّم، ويجب أن يكون له الملك -والعياذ بالله-، أما العلم والقوة والصلاحية للوظيفة فلا يفكرون في ذلك!
وقد قال لهم نبيهم في الجواب عن ذلك: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)، فبسطة العلم والجسم في أمر القتال تعطي الإنسان الشجاعة والجرأة والإقدام وقوة اتخاذ القرار، فلم يكن هيابًا في المواقف العظيمة، ولذا اقتحم المعركة بعدد جنود لا يزيدون على ثلاثمائة وبضعة عشر في مواجهة مَن لا طاقة لهم بهم في الموازين الإنسانية الأرضية، قالوا: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (البقرة:249)، لكنه كان يعرف أن عنده من الجنود مَن فيه صفة الإقدام والعزيمة والشجاعة مثل داود -عليه السلام- ما يجعله على صغر سنه يستطيع قتل جالوت وأن يُهزم القوم وهم بالآلاف المؤلفة.
هذا في القتال، فإذا كانت هناك ولاية مالية -على سبيل المثال- فلابد أن تكون هناك أمانة، وإذا كانت ولاية قضاء لابد أن يكون هناك علم بطرق الفصل الشرعية ولابد أن يكون هناك معرفة بأحكام الله، وهكذا في أمر الحرب لابد أن يكون عنده خبرة بذلك.
فحين يُعدم الإنسان من كل هذا أيصلح أن يجتبى وأن يختار؟ نسأل الله العافية.
وحين لا يُعرض على الأمة إلا من فقد جميع صفات التأهل؛ لا يصح أن يختار الناس ما بين سيء وسيء، وإنما نفوض الأمر لله -عز وجل-، ويحتاج الأمر إلى إعداد طويل حتى يمكن أن يوجد من يصلح للاجتباء والاختيار، ولابد أن يوجد من يكون أهلاً أن يَخْتار، ولابد أن يكون مًن يختار وينتقي فيه صفات العلم والعدل والأمانة والقوة على أداء الوظيفة، لا أن يُختار مَن عنده مال، ولا أن يُختار مجرد مَن يتوسط لخدمة الناس مثلاً.
من شروط الاختيار: العلم بالوحي المنزَّل
قال نبي بني إسرائيل -عليه السلام- عن طالوت: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة:247)، فالله -عز وجل- يصطفي من شاء بطاعته -سبحانه وتعالى- كما قال -عز وجل-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (فاطر:32).
فالذين اصطفاهم الله هم الذين أورثهم الكتاب، فلا يُتصور أن يكون إنسانًا قد اصطـُفي واجتـُبي واختِير ولا يعلم شيئًا عن الكتاب ولا عن الوحي المنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنى له أن يحكم؟! ومن أين له أن يدري الحق من الباطل، والسنة من البدعة، والهدى من الضلال؛ بل الإيمان من الكفر إن لم يكن عنده الكتاب؟! ولا يلزم أن يكون حافظًا له؛ لكن لابد أن يكون عالمًا به.
ولم يقل -سبحانه وتعالى- أنه جعلهم يحفظون الكتاب عن ظهر قلب؛ إنما ورثوا الكتاب، والصحابة -رضي الله عنهم- لم يجمع القرآن منهم إلا أربعة -وقد كان القرآن مكتوبا كله حال نزوله-؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ"، قَالَ: "وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ" (رواه البخاري).
والصحابة -رضي الله عنهم- كان عندهم العلم بموازين التقديم والتأخير والاصطفاء والاجتباء ما جعلهم يقدِّمون أبا بكر -رضي الله عنه-، وما إن قدمه عمر -رضي الله عنه- حتى اجتمعت الكلمة؛ لأنه عنده علم من الكتاب يعرف كيف يستدل به وكيف يضعه موضعه، وعلمه بالكتاب يجعله يوافق السنة في أصولها، فيعرف الحق وإن لم يكن عنده نص فيه.
فإنه لما ارتد مَن ارتد من العرب ومنع مَن منع الزكاة واختلف الصحابة في قتال مانعي الزكاة؛ ناظر عمر -رضي الله عنه- أبا بكر -رضي الله عنه-: "كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)؟"، ولم يكن عند عمر ولا عند أبي بكر -رضي الله عنهما- الرواية الأخرى من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها: (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) ، ومع ذلك وصل أبو بكر -رضي الله عنه- إلى الحق بعظيم فهمه للدين؛ فقال: "وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ" (متفق عليه)، فقد استفاده من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي عنده: (إِلا بِحَقِّهَا) فقال: "إِلا بِحَقِّهَا"، إذن لابد من أداء الحق، وهكذا وافق أبو بكر -رضي الله عنه- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يسمع الرواية التي فيها النص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهكذا شرح الله صدره للحق، فعلم عمر -رضي الله عنه- أن هذا هو الحق، بهؤلاء الرجال يُعرف الحق عندما تنشرح له صدورهم.
فهم قضية التوحيد ومسألة الاختيار
لما اختار موسى -عليه السلام- سبعين رجلاً لميقات ربه اختارهم الخير فالخيِّر، فنظر إلى العلم والعمل؛ العلم بكتاب الله والعمل الصالح والعبادة، وكونهم ممن لم يعبدوا العجل، وهذا من أعظم الصفات المهمة فيمن يقدم إلى الوظائف والمهمات؛ أن يكون ممن فهم قضية التوحيد والإيمان فهمًا راسخًا، ولا يحتمل أن يضحي بها في أي ظرف من الظروف، فالذين عبدوا العجل ضحوا بعقيدة التوحيد اتباعًا للهوى، واتباعًا للسامري الذي أضلهم، وجهلاً منهم، وضلالاً عن الحق؛ فقد تركوا قول هارون -عليه السلام- واتبعوا أهواءهم في عبادة العجل، فهؤلاء لا يمكن أن يصلحوا للتقدم.
وقد كان مِن شروط أبي بكر -رضي الله عنه- على أهل الردة حتى يتوقف عن قتالهم لما تابوا ورجعوا للإسلام ألا يحملوا سلاحًا ولا يركبوا خيلاً حتى يُري اللهُ خليفةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين فيهم أمرًا؛ فهم لابد أن يؤخروا، وكما قال الله لنبيه: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (التوبة:83).
فمَن عُرِفَ في تاريخه أنه ولي لأعداء الله، وأنه يعين أعداء الله على أبناء أمته؛ فكيف يتصور أنه يقدم للأمة وأن يكون بارزًا فيها؟ مَن عُرف بأنه لا يعرف قضية الإيمان ولا عقيدة التوحيد وأنه يقع في الشرك والضلال وأنه لا يميز بين الحق والباطل كيف يُقال للناس: اختاروا هذا وقدموه؟
فلا تغتروا -عباد الله- بمن ينتسب للدين ثم يقدم للناس مَن عُرف بالبعد عن دين الله في سلوكه وعمله، ويَقول لهم: "إن هذا من المناورة السياسية أو من الموازنات المعتبرة"، فضلاً عن أن يقدم كافرًا ويقول للناس: "اختاروا هذا حتى يكون نائبًا لكم يتحدث باسمكم"، ويعطي من الصلاحيات ما فيه مِن تشريع يحتاجون إليه وما يلزمهم أن يرجعوا إليه عند الاختلاف من قوانين أو غيرها من المصالح العامة.
لقد اختار موسى -عليه السلام- قومه سبعين رجلاً لميقات الله على تاريخهم الذي يؤهلهم لذلك، فلم يكونوا مِمَّن عبد العجل، مع أن الله -عز وجل- عاقبهم بأن أخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكن لهم موقف قوي في مخالفة قومهم عندما عبدوا العجل.
قد صُعق من لم ينهَ عن الشرك، فكيف بمن كان مشاركًا في الباطل؟
وأصح أقوال أهل العلم في قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ)، في سبب هذه الرجفة: أن الله -عز وجل- عاقبهم لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم يكن لهم موقف قوي واضح من عبادة العجل رغم أنهم لم يعبدوه.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جُرَيْج: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل، ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول بقول موسى: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)".
فدورك -أيها المسلم- ليس فقط أن تترك المنكر؛ بل لابد أن تكون إيجابيًا، لابد أن تكون آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر داعيًا إلى الله -عز وجل-، والله -سبحانه وتعالى- يحب منا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر، وبهذا استحقت الأمة الخيرية.
بل كان غضب موسى -عليه السلام- على هارون لأنه ظن أنه قصر في النهي، ولذلك قال: (أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (طه:93)، وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه، مع أن هارون -عليه السلام- بشهادة القرآن كان قد نهاهم عن عبادة العجل، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي . قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طه:90-91)، واستغفر موسى -عليه السلام- لنفسه ولأخيه.
وإذا كانوا قد صعقوا -وهم خير بني إسرائيل- بالرغم من أنهم لم يعبدوا العجل إلا أنهم لم يكن لهم موقف واضح في مزايلة من عبده ومفارقته وإعلان البراءة منه؛ فكيف بمن يكون مشاركًا في أنواع الباطل؟! كيف بمن يكون معينًا على الكفر والشرك والنفاق -والعياذ بالله-؟! كيف بمن يكون آلة في يد الأعداء ينفذون بها ما يريدون -والعياذ بالله-؟!
يوجد في المسلمين -بل فيمن ينتسب إلى العلم والدين- مَن يقول أنه إذا وضع الأعداء المحتلون لبلاد المسلمين رئيسًا ينتسب إلى الإسلام ينفذ كل مخططاتهم وأغراضهم فلابد وأن يكون الناس تبعًا لهم! ووالله إنه للعجب العُجاب! قوم يأمرون الناس بأن يكون رجوعهم إلى من يدعوهم إلى أبواب جهنم، وإلى أن يكونوا من أصحاب السعير، يقولون: اسمعوا وأطيعوا وإن لم يقودكم بكتاب الله! وهذا -والله- خطر عظيم وبلاء شديد.
والمعروض على الأمة للأسف مع التناقضات والاختلافات والصراعات والتنافسات لا يكاد يخرج عمَّن كان فاعلاً للمنكر بل الباطل والنفاق والكفر المعلن وغير المعلن، ومَن يكون ساكتًا على ذلك -نسأل الله العافية-، لذلك لا يصلح شيء من هذا أن يكون ممن يُجتبى ويُختار.
تحمل مسئولية الأمة
قال -تعالى-: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)، بقي موسى -عليه السلام- يتضرع إلى الله بأنواع التضرعات حتى يرد أرواحهم إليهم؛ فماذا يصنع بعد اختيار سبعين رجلاً من الخيار، أيعود وقد ماتوا؟ أيعود إلى بني إسرائيل فلا يجد فيهم من يقوم بأمرهم ويعاونه بعد أن هلك أفضل سبعين رجلاً؟
الشعور بتحمل المسئولية في الأمة وأنه لن يجد خيارًا يقودون الناس في دين الله -عز وجل- جعله يتضرع إلى الله بأنواع التضرعات ليرد عليهم أرواحهم، فأحياهم الله بعد موتهم؛ إكرامًا لموسى -عليه السلام-، وحفظًا لبني إسرائيل؛ توبة من الله ومنة عليهم.
لقد أشفق موسى -عليه السلام- أن يعود إلى بني إسرائيل بلا خيارهم؛ فالحياة بلا أفاضل والحياة بلا معينين على الحق أمرٌ لا يحتمل، ويُذكر أن هارون قد مات في هذه الأوقات، فلم يعد هناك لموسى -عليه السلام- إلا هؤلاء الأخيار يكونون عونًا له، وهم الذين تولوا قتل من عبد العجل في توبة الله التي استجابوا لأمر الله بها، وكان هذا أمرًا عظيمًا شديدًا لا يمكن أن يتم دون وجود أخيار لذلك.
وقال موسى -عليه السلام- في تضرعه: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)، فهلاك للأمة أن يهلك خيارها بفعل سفهائها الذين عبدوا العجل، وهذا من أوضح ما يقوي قول من قال: أخذتهم الرجفة؛ لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادة العجل، فموسى -عليه السلام- يعتذر؛ لأن هذا ليس فعل الجميع، بل فعل السفهاء، والخطر -والله- كبير من فعل السفهاء إذا تصدروا، فكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يستعيذ بالله من رأس الستين وإمارة السفهاء.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تتركوا السفهاء يدمرون دينكم وبلادكم وأمتكم.
من موقع صوت السلف
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله -سبحانه وتعالى- يخلق ما يشاء ويختار، قال -تعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (القصص:68)، وقال -تعالى-: (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا) (الإسراء:21).
وهذا الاختيار والتفضيل من أدلة وحدانيته -سبحانه وتعالى-، ومن دلائل ربوبيته واستحقاقه وحده -عز وجل- أن يُعبد ويشكر؛ فهو -سبحانه وتعالى- لم يسوِّ بين عباده؛ لأنه يُحب أن يشكر، كما في الحديث: (وَرَفَعَ عَلَيْهِمْ آدَمَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، فَرَأَى الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ، وَحَسَنَ الصُّورَةِ، وَدُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: رَبِّ لَوْلا سَوَّيْتَ بَيْنَ عِبَادِكَ؟ قَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أُشْكَرَ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
فالله -عز وجل- فاوت بين الناس، ولابد أن يُراعى هذا التفاوت، ولابد أن يُنتفع بما فضـَّل الله -سبحانه وتعالى- به العباد بعضهم على بعض، ومن لا ينتبه لهذه المسألة في أمر التربية والتوجيه والإعداد للأمة -ولو حتى في الأمور الدنيوية- ورام أن يكون الكل متساويًا؛ فقد أخطأ الطريق، ولم يعرف سنة الله -عز وجل- في خلقه.
اصطفاء من يصلح لقيادة الأمة
والله -عز وجل- قد اصطفى الأنبياء، وأمرهم بأن يصطفوا لأقوامهم مَن يصلح لقيادة أمتهم، وهذه قضية عظيمة الأهمية في التربية والتوجيه؛ فإنه لا يستوي أبناء الرجل الواحد، ولا يستوي أهل المحلة الواحدة، ولا أهل الوطن الواحد؛ وإنما يكون الاختيار بناءً على الخيرية، فالخيِّر مَن سبق إلى الله -سبحانه وتعالى- بطاعته، فهو السابق في الدنيا والآخرة، وهذا الذي ينبغي أن يُقدَّم، فالله هو المقدم والمؤخر؛ فمَن قدمه الله -عز وجل- إلى طاعته فهو المقدَّم، ومن أخره فهو المؤخر، والمبادرة إلى الخيرات سبب الفوز عند الله -تعالى-.
فمَن تقدم في العلم أو العبادة أو العمل الصالح أو خدمة المسلمين؛ فهذا الذي ينبغي أن يُنتقى، فلا يؤخذ أي شخص ويوضع في أي مهمة أو أي وظيفة؛ فإن من أعظم أسباب فساد الأمم أن تسند الأمور إلى غير أهلها كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمن سأله: "متى الساعة؟"، فقال: (إِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ)، قَالَ: "كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ) (رواه البخاري).
وعندما يكون هناك اختيار لولايات أو أمانات أو مهمات أو مسئوليات فلابد من النظر إلى من يوكَّل أمر الاختيار، وما هي الصفات التي يختار بناءً عليها، فإذا اختل هذان الأمران حصل أنواع الفساد.
إلى من يوكَّل الاختيار؟
لابد أن يُنظر إلى من يوكَّل الاختيار، ولذا تجد أمم العالم تضطرب يمينًا وشمالاً في الجهالات؛ لأنها تقدِّم إلى قيادتها من ينزلها دار البوار كما قال -تعالى- عن فرعون: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (هود:98)، وقال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) (إبراهيم:28-29)؛ أحلوا قومهم دار البوار حين تركوا طاعة الرسل، واتبعوا هؤلاء المجرمين الذين يصدون عن سبيل الله، وقال -تعالى-: (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا) (نوح:21)، فحين يوكل أمر الاختيار إلى الجهلاء -فضلاً عن أن يوكل إلى الكفرة والمنافقين- يكون ذلك من أعظم الفساد.
لقد كان اختيار طالوت ملكًا عن طريق نبي بني إسرائيل -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة:246-247).
وهكذا أيضًا صنع موسى -عليه السلام-؛ فقد أمره الله -عز وجل- أن يجتبي اثنى عشر قائدًا من أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر، فبعث من قومه اثنى عشر نقيبًا، وكذلك قال الله في شأن اختيار سبعين رجلا لميقاته (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا) (الأعراف:155).
وهكذا كان الحال في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فهذا هو الواجب؛ أن يكون الأنبياء وورثة الأنبياء بعدهم من العلماء الربانيِّين هم الذين يختارون مَن يصلح لقيادة الأمة.
ونظام الأمانات والولايات في النظام الإسلامي يختلف عنه في النظام الديمقراطي المستورد من الغرب؛ فهو لا يعتمد في الاختيار على الدهماء والعامة؛ وإنما يُبنى على أن يكون هناك طائفة من أهل الحل والعقد عندهم من العلم والعقل والرزانة والحكمة والطاعة لله -سبحانه وتعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- والعدالة والعمل بالكتاب والسنة؛ فيوكل إليهم أمر الاختيار، ولابد أن يختاروا بناءً على موازين الشرع.
مقياس الاختيار
ولابد أيضًا أن يُعلم ما هو مقياس الاختيار؛ فحين يُجهل مقياس الاختيار فيُختار مَن هو أكثر مالاً وولدًا، ومَن هو أعظم جاهًا ومنزلة، ومَن يستطيع أن يخدع الناس أكثر بكثرة ما ينفقه من المال وبحسب ما عنده من الزينة التي يجذب لها الأبصار؛ فإن هذا هو علامة شؤم وشر لهذه الطائفة من البشر.
لما اختار موسى -عليه السلام- سبعين رجلاً لميقات ربه -عز وجل- اختار الأفضل فالأفضل حسب طاعة الله -سبحانه وتعالى-، وحسب الأهلية المناسبة للوظيفة التي يُختارون إليها في قيادة الأمة، وقد ذكر ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "(وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا): الخيِّر فالخيِّر".
ولما قال نبي بني إسرائيل -عليه السلام- لهم: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)، قالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا) (البقرة:247)، فكان فيهم أمر التنافس على الرياسة، وعموا عن الصفات المؤهلة للقيادة الصحيحة، وأخذوا يبحثون عن أغراض نفوسهم رغم أنهم يزعمون أنهم يريدون القتال في سبيل الله، ولاسترداد ما ضاع مما أعطاهم الله -سبحانه وتعالى- من الأرض، وإنقاذ أسراهم من يد عدوهم، ومع ذلك كان التنافس على السلطة والولاية والملك من أعظم أسباب بعدهم عن الاختيار الصحيح.
ولذا نقول: قضية التنافس على الولايات إنما هي مستوردة من الجهال ممن لا يعرفون حقيقة الاجتباء والاصطفاء، ولا يعرفون الموازين الصحيحة.
ثم كان الميزان عندهم أنه ليس عنده سعة من المال، فقالوا: (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)، هكذا يزنون الأمور؛ فمن معه مال أكثر -أي: من رجال الأعمال باصطلاحنا المعاصر- يكون هو المقدَّم، ويجب أن يكون له الملك -والعياذ بالله-، أما العلم والقوة والصلاحية للوظيفة فلا يفكرون في ذلك!
وقد قال لهم نبيهم في الجواب عن ذلك: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)، فبسطة العلم والجسم في أمر القتال تعطي الإنسان الشجاعة والجرأة والإقدام وقوة اتخاذ القرار، فلم يكن هيابًا في المواقف العظيمة، ولذا اقتحم المعركة بعدد جنود لا يزيدون على ثلاثمائة وبضعة عشر في مواجهة مَن لا طاقة لهم بهم في الموازين الإنسانية الأرضية، قالوا: (لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (البقرة:249)، لكنه كان يعرف أن عنده من الجنود مَن فيه صفة الإقدام والعزيمة والشجاعة مثل داود -عليه السلام- ما يجعله على صغر سنه يستطيع قتل جالوت وأن يُهزم القوم وهم بالآلاف المؤلفة.
هذا في القتال، فإذا كانت هناك ولاية مالية -على سبيل المثال- فلابد أن تكون هناك أمانة، وإذا كانت ولاية قضاء لابد أن يكون هناك علم بطرق الفصل الشرعية ولابد أن يكون هناك معرفة بأحكام الله، وهكذا في أمر الحرب لابد أن يكون عنده خبرة بذلك.
فحين يُعدم الإنسان من كل هذا أيصلح أن يجتبى وأن يختار؟ نسأل الله العافية.
وحين لا يُعرض على الأمة إلا من فقد جميع صفات التأهل؛ لا يصح أن يختار الناس ما بين سيء وسيء، وإنما نفوض الأمر لله -عز وجل-، ويحتاج الأمر إلى إعداد طويل حتى يمكن أن يوجد من يصلح للاجتباء والاختيار، ولابد أن يوجد من يكون أهلاً أن يَخْتار، ولابد أن يكون مًن يختار وينتقي فيه صفات العلم والعدل والأمانة والقوة على أداء الوظيفة، لا أن يُختار مَن عنده مال، ولا أن يُختار مجرد مَن يتوسط لخدمة الناس مثلاً.
من شروط الاختيار: العلم بالوحي المنزَّل
قال نبي بني إسرائيل -عليه السلام- عن طالوت: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة:247)، فالله -عز وجل- يصطفي من شاء بطاعته -سبحانه وتعالى- كما قال -عز وجل-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (فاطر:32).
فالذين اصطفاهم الله هم الذين أورثهم الكتاب، فلا يُتصور أن يكون إنسانًا قد اصطـُفي واجتـُبي واختِير ولا يعلم شيئًا عن الكتاب ولا عن الوحي المنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أنى له أن يحكم؟! ومن أين له أن يدري الحق من الباطل، والسنة من البدعة، والهدى من الضلال؛ بل الإيمان من الكفر إن لم يكن عنده الكتاب؟! ولا يلزم أن يكون حافظًا له؛ لكن لابد أن يكون عالمًا به.
ولم يقل -سبحانه وتعالى- أنه جعلهم يحفظون الكتاب عن ظهر قلب؛ إنما ورثوا الكتاب، والصحابة -رضي الله عنهم- لم يجمع القرآن منهم إلا أربعة -وقد كان القرآن مكتوبا كله حال نزوله-؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "مَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ"، قَالَ: "وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ" (رواه البخاري).
والصحابة -رضي الله عنهم- كان عندهم العلم بموازين التقديم والتأخير والاصطفاء والاجتباء ما جعلهم يقدِّمون أبا بكر -رضي الله عنه-، وما إن قدمه عمر -رضي الله عنه- حتى اجتمعت الكلمة؛ لأنه عنده علم من الكتاب يعرف كيف يستدل به وكيف يضعه موضعه، وعلمه بالكتاب يجعله يوافق السنة في أصولها، فيعرف الحق وإن لم يكن عنده نص فيه.
فإنه لما ارتد مَن ارتد من العرب ومنع مَن منع الزكاة واختلف الصحابة في قتال مانعي الزكاة؛ ناظر عمر -رضي الله عنه- أبا بكر -رضي الله عنه-: "كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ)؟"، ولم يكن عند عمر ولا عند أبي بكر -رضي الله عنهما- الرواية الأخرى من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها: (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) ، ومع ذلك وصل أبو بكر -رضي الله عنه- إلى الحق بعظيم فهمه للدين؛ فقال: "وَاللَّهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ" (متفق عليه)، فقد استفاده من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي عنده: (إِلا بِحَقِّهَا) فقال: "إِلا بِحَقِّهَا"، إذن لابد من أداء الحق، وهكذا وافق أبو بكر -رضي الله عنه- رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يسمع الرواية التي فيها النص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهكذا شرح الله صدره للحق، فعلم عمر -رضي الله عنه- أن هذا هو الحق، بهؤلاء الرجال يُعرف الحق عندما تنشرح له صدورهم.
فهم قضية التوحيد ومسألة الاختيار
لما اختار موسى -عليه السلام- سبعين رجلاً لميقات ربه اختارهم الخير فالخيِّر، فنظر إلى العلم والعمل؛ العلم بكتاب الله والعمل الصالح والعبادة، وكونهم ممن لم يعبدوا العجل، وهذا من أعظم الصفات المهمة فيمن يقدم إلى الوظائف والمهمات؛ أن يكون ممن فهم قضية التوحيد والإيمان فهمًا راسخًا، ولا يحتمل أن يضحي بها في أي ظرف من الظروف، فالذين عبدوا العجل ضحوا بعقيدة التوحيد اتباعًا للهوى، واتباعًا للسامري الذي أضلهم، وجهلاً منهم، وضلالاً عن الحق؛ فقد تركوا قول هارون -عليه السلام- واتبعوا أهواءهم في عبادة العجل، فهؤلاء لا يمكن أن يصلحوا للتقدم.
وقد كان مِن شروط أبي بكر -رضي الله عنه- على أهل الردة حتى يتوقف عن قتالهم لما تابوا ورجعوا للإسلام ألا يحملوا سلاحًا ولا يركبوا خيلاً حتى يُري اللهُ خليفةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين فيهم أمرًا؛ فهم لابد أن يؤخروا، وكما قال الله لنبيه: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (التوبة:83).
فمَن عُرِفَ في تاريخه أنه ولي لأعداء الله، وأنه يعين أعداء الله على أبناء أمته؛ فكيف يتصور أنه يقدم للأمة وأن يكون بارزًا فيها؟ مَن عُرف بأنه لا يعرف قضية الإيمان ولا عقيدة التوحيد وأنه يقع في الشرك والضلال وأنه لا يميز بين الحق والباطل كيف يُقال للناس: اختاروا هذا وقدموه؟
فلا تغتروا -عباد الله- بمن ينتسب للدين ثم يقدم للناس مَن عُرف بالبعد عن دين الله في سلوكه وعمله، ويَقول لهم: "إن هذا من المناورة السياسية أو من الموازنات المعتبرة"، فضلاً عن أن يقدم كافرًا ويقول للناس: "اختاروا هذا حتى يكون نائبًا لكم يتحدث باسمكم"، ويعطي من الصلاحيات ما فيه مِن تشريع يحتاجون إليه وما يلزمهم أن يرجعوا إليه عند الاختلاف من قوانين أو غيرها من المصالح العامة.
لقد اختار موسى -عليه السلام- قومه سبعين رجلاً لميقات الله على تاريخهم الذي يؤهلهم لذلك، فلم يكونوا مِمَّن عبد العجل، مع أن الله -عز وجل- عاقبهم بأن أخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكن لهم موقف قوي في مخالفة قومهم عندما عبدوا العجل.
قد صُعق من لم ينهَ عن الشرك، فكيف بمن كان مشاركًا في الباطل؟
وأصح أقوال أهل العلم في قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ)، في سبب هذه الرجفة: أن الله -عز وجل- عاقبهم لأنهم لم يزايلوا قومهم حين عبدوا العجل، ولم يكن لهم موقف قوي واضح من عبادة العجل رغم أنهم لم يعبدوه.
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جُرَيْج: إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل، ولا نهوهم، ويتوجه هذا القول بقول موسى: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)".
فدورك -أيها المسلم- ليس فقط أن تترك المنكر؛ بل لابد أن تكون إيجابيًا، لابد أن تكون آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر داعيًا إلى الله -عز وجل-، والله -سبحانه وتعالى- يحب منا أن نأمر بالمعروف وأن ننهى عن المنكر، وبهذا استحقت الأمة الخيرية.
بل كان غضب موسى -عليه السلام- على هارون لأنه ظن أنه قصر في النهي، ولذلك قال: (أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (طه:93)، وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه، مع أن هارون -عليه السلام- بشهادة القرآن كان قد نهاهم عن عبادة العجل، قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي . قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طه:90-91)، واستغفر موسى -عليه السلام- لنفسه ولأخيه.
وإذا كانوا قد صعقوا -وهم خير بني إسرائيل- بالرغم من أنهم لم يعبدوا العجل إلا أنهم لم يكن لهم موقف واضح في مزايلة من عبده ومفارقته وإعلان البراءة منه؛ فكيف بمن يكون مشاركًا في أنواع الباطل؟! كيف بمن يكون معينًا على الكفر والشرك والنفاق -والعياذ بالله-؟! كيف بمن يكون آلة في يد الأعداء ينفذون بها ما يريدون -والعياذ بالله-؟!
يوجد في المسلمين -بل فيمن ينتسب إلى العلم والدين- مَن يقول أنه إذا وضع الأعداء المحتلون لبلاد المسلمين رئيسًا ينتسب إلى الإسلام ينفذ كل مخططاتهم وأغراضهم فلابد وأن يكون الناس تبعًا لهم! ووالله إنه للعجب العُجاب! قوم يأمرون الناس بأن يكون رجوعهم إلى من يدعوهم إلى أبواب جهنم، وإلى أن يكونوا من أصحاب السعير، يقولون: اسمعوا وأطيعوا وإن لم يقودكم بكتاب الله! وهذا -والله- خطر عظيم وبلاء شديد.
والمعروض على الأمة للأسف مع التناقضات والاختلافات والصراعات والتنافسات لا يكاد يخرج عمَّن كان فاعلاً للمنكر بل الباطل والنفاق والكفر المعلن وغير المعلن، ومَن يكون ساكتًا على ذلك -نسأل الله العافية-، لذلك لا يصلح شيء من هذا أن يكون ممن يُجتبى ويُختار.
تحمل مسئولية الأمة
قال -تعالى-: (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)، بقي موسى -عليه السلام- يتضرع إلى الله بأنواع التضرعات حتى يرد أرواحهم إليهم؛ فماذا يصنع بعد اختيار سبعين رجلاً من الخيار، أيعود وقد ماتوا؟ أيعود إلى بني إسرائيل فلا يجد فيهم من يقوم بأمرهم ويعاونه بعد أن هلك أفضل سبعين رجلاً؟
الشعور بتحمل المسئولية في الأمة وأنه لن يجد خيارًا يقودون الناس في دين الله -عز وجل- جعله يتضرع إلى الله بأنواع التضرعات ليرد عليهم أرواحهم، فأحياهم الله بعد موتهم؛ إكرامًا لموسى -عليه السلام-، وحفظًا لبني إسرائيل؛ توبة من الله ومنة عليهم.
لقد أشفق موسى -عليه السلام- أن يعود إلى بني إسرائيل بلا خيارهم؛ فالحياة بلا أفاضل والحياة بلا معينين على الحق أمرٌ لا يحتمل، ويُذكر أن هارون قد مات في هذه الأوقات، فلم يعد هناك لموسى -عليه السلام- إلا هؤلاء الأخيار يكونون عونًا له، وهم الذين تولوا قتل من عبد العجل في توبة الله التي استجابوا لأمر الله بها، وكان هذا أمرًا عظيمًا شديدًا لا يمكن أن يتم دون وجود أخيار لذلك.
وقال موسى -عليه السلام- في تضرعه: (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا)، فهلاك للأمة أن يهلك خيارها بفعل سفهائها الذين عبدوا العجل، وهذا من أوضح ما يقوي قول من قال: أخذتهم الرجفة؛ لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادة العجل، فموسى -عليه السلام- يعتذر؛ لأن هذا ليس فعل الجميع، بل فعل السفهاء، والخطر -والله- كبير من فعل السفهاء إذا تصدروا، فكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يستعيذ بالله من رأس الستين وإمارة السفهاء.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تتركوا السفهاء يدمرون دينكم وبلادكم وأمتكم.
من موقع صوت السلف
تعليق