بسم الله الرحمن الرحيم
سلام من الله عليكم وتحية فيها المولى بياكم و جعل الجنة مثواكم في محياكم ومماتكم ............. أما بعد.
في صبيحة ذلك اليوم أعني يوم العيد ومن بعد أن أنهيت ما أوجبه علي المولى جل وعلا من العبادات المفروضة في مثل هذه المناسبة الفضيلة وكذا تناولي لفطور الصباح الدافئ المطعم بحبات الكعك المرونقة باختلاف أشكالها وألوانها ولكأنها فسيفساء مغربية تزين مدخل قصر أو بهو مسجد دمشقي جادت بها أنامل الوالدة في صنعها وضبط النار الهادئة لطهيها من دون أن أنسى لقيمات من " الخبيز" المحمر أو قل المشوي على ضفاف الطاجين الزنجي و" الطابونة " العرجاء بثلاثة أقدام ........ أداعب بمقلتيا حبة الكعك هاته وألاعب بيديا قطعة " الخبيز" تلك ليكون مصيرهما المحتوم في آخر المطاف مرمى ثغر أكول أو شر وعاء يعبأ على وجه المعمورة بالعرض والطول ........ أخاطبهما في صمت " أين المفر" أو لكأنني في الأخرى أنتقم منها بلوعة وأسى جراء ما لحقني من جوع وألم فراق الطعام في ايام الصيام.
في تلك الصبيحة السرمدية وعلى إثر تلك الغزوة المباركة وذاك الفتح العظيم- أعني غزوة الكعك وفتح الخبيز- خرجت أجر رجليا أزفهما بخطى ثابتة تتبع الواحدة الأخرى في كسل وخمول بسبب السهرة التي سهرتها في سهرة العيد ويا ليتني ما فعلت لأن جسمي أصبح منهكا لا يقاوم التعب والإرهاق مع الأرق وجفنتيا صارتا لا تدفعان تلك الزغللة والغشاوة التي أحاطت بهما حتى أنهما لينطبقان لا إراديا ومن دون أمر وإنما ردة فعل لأرى في خضم كل ذلك الديك ديكين والحمار جحشين يرتدي " كوستيما " ومن الحذاء زوجين ؟؟؟؟؟.
المهم: خرجت - للمرة الثانية - بعد أن لبست أحسن ما أملك من الثياب كما هي سنة الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه فداه نفسي وأبي وأمي صائلا وجائلا على ضفاف وجنبات الأحياء ملتمسا الممرات في زقاق الأزقة الضيقة مختلسا كاللص في مكمنه أنقب بين الفينة والأخرى هذا أو ذاك من جمهور المعيدين وقد ارتادوا هم كذلك تلك المسالك والمحالك وأنا الذي كنت أظن نفسي فطنا وذكيا في التهرب من الضم والتقبيل إلى آخر الدرجات والمطات.
زرت الأقارب والأحباب ثم سلمت على الأصدقاء والأصحاب معانقا ومصافحا وناقرا لرؤوس الشيوخ و العجائز في جو فرحة وبهجة العيد تزيده سرورا نغمات ورنات هاتفي النقال مرة يدوي جرسه وأخرى يرقص فيهتز هزازه هزيزا ناعما يدغدغ كفي ولكأنه يوقضني لمكاملة أو رسالة جاءتني من قريب أو غريب.
و بعد كل هذه المقدمة وصلت إلى العرض لأجلس في مؤخرة الطابور على حاشية الرصيف ممتطيا صهوة نصف كرسي أو ربع مقعد أنظر إلى الرائح والغادي - محملقا لا مبحلقا - من الناس الذين أعرفهم في ملامحهم وأفقه الكثير منهم ما يجول في جواهرهم ومكنوناتهم بعضها في السر وجلها في العلن ........ متعجبا ومستغربا من سلوكات القوم في هذا اليوم المشهود بفرحه وقرحه ما بين ما يظهر على ظواهرهم وما هو مطمور ومغمور في بواطنهم افتراقا لا اتفاقا ؟؟؟.
وطارحا لجملة من الأسئلة بنصف جواب أو أسئلة لم أجد لها صواب وكان من ضمن ما جال في خاطري هاتيك الساعة مما تلفظته آنفا سؤال حيرني وطيرني وكورني حتى عورني ...... يقول في محياه: لماذا صرنا نركز على ظواهرنا أكثر مما ننظف ونرونق أغوارنا وأسرارنا من أقوالنا وأفعالنا ؟؟؟ إن جل الناس في العيد يعشقون لبس الأبيض ومتيمون بالتضمخ بالعطر والخلوق بل والشغف بالمعانقة إلى حد كتم الأنفاس ...... ولكن لما نستقرء ما يدور في شوارعنا ومساجدنا ومنتدياتنا ونفتش في أحوالنا وجوانا نجد العكس من كل ذلك بل هو ضرب من التفنن في التصنع ليس إلا ؟؟؟ وكلكم يفقه ويعي ما حوله أدندن وأروي.
فأين هي بربكم تلكم الأقمصة البيضاء من بواطننا السوداء مملوءة بالكراهية والبغض والحسد والضغينة بل ومثخنة بجل أصناف النفاق والتثعلب..... أين هي بالله عليكم تلكم الروائح و العطور الزكية من نسائم أفعالنا وأقوالنا بل وحتى أفواهنا النتنة بشتى جوائح القدح والتجريح سبا وشتما وغيبة ونميمة والباقي تعرفونه ؟؟؟ أين هي تلك المعانقات الحارة التي تكسر الأضلاع وتحدث في الرأس الصداع من تربص بعضنا ببعض وحفر الحفر ليقع فيها الغير أو تدبير المكائد ليبقى المسكين مع الشقاء يكابد ولكأنه يضمه ضم الكاره للمكروه كراهية معها يحاول قتله وليس محبة فيها لوعة واشتياق ...... صراحة لم يبقى منا إلا ما تبقى من السيارة القديمة الهرمة في محركها والبادية جديدة في ما يكسوها وتتحلى به في الظاهر بل ويزيد الطين بلة إذا كانت لوحة الترقيم مزورة في تعداد سنة الصنع بالزيادة وادعاء التجدد .........
لقد كان – يا أصحاب – السادة من الصحابة فيما مضى رضي الله عنهم وأرضاهم يكتفون في الأعياد بلبس الجيد من الثياب لا الجديد والإقتصار على المصافحة بالأيدي في التهنئة من دون ضم ومعانقة ومع ذلك كانت دواخلهم على وفق خوارجهم في صفائها ونقائها من حب للخير واستصحاب للإيثار بل وكفوفهم الطاهرة الملساء تحاكي قلوبهم البيضاء لتصنع جمهرة وجوهرة من التخلق والآداب من دون نفاق أو تصنع...... في حين أننا لما نأتي إلى هذا الزمان التعس نجد أن الكل قد انعكس وانتكس فهم جددوا الباطن قبل ترميم الخارج و نحن قد زوقنا ونمقنا ظواهرنا ليبقى الباطن خربانا خراب البيوت التي لايقوى أهلها على دفع الصائل والعدو الجائل أو وهنة وهانة بيوت العنكبوت..... وفي حين أنهم تقاربوا بقلوبهم قبل أيديهم تجدنا نحن قد تقاربنا بأجسادنا تطبيلا في الأكتاف والأرداف وتقبيلا على الخدود ولكن ياحسرة علينا نتفارق في عقولنا وطريقة تفكيرنا لتنفصم معها قلوبنا وأفئدتنا ..... فواأسفاه...... صراحة إني أجد أننا كلما اقتربنا أكثر إبتعدنا لمسافة أكبر فإما أن نقترب كلنا على بعضنا ظاهرا وباطنا أو نبقى مفترقين ويكفينا مراوغة وتلون كتلون الحرباء............... فهكذا نكون أو لا نكون.
أقول: بقيت على تلك الحالة المكفهرة برهة من الزمن أقلب هذه وأضرب تلك عرض الحائط ثم ما لبثت أن ودعت صهوتي وأنهيت شربت قهوتي لألملم أشلائي وما بقي من أطيافي ثم انصرفت في خفاء شخط الخفى ..... كما جئت وليت أتمتم وأهمهم على ضفاف البيوت والديار ........ إلى أن وصل الغريب إلى باب الدار......... سلام.
كتبها لكم القناص
ممنوع نقل الموضوع او نسخه بدون اذن من الكاتب
الله شهيد على الجميع
تعليق