إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التلخيص المعين في شرح الأربعين للشيخ العلامة ابن عثيمين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التلخيص المعين في شرح الأربعين للشيخ العلامة ابن عثيمين

    منقول التلخيص المعين في شرح الأربعين للشيخ العلامة ابن عثيمين

    الحديث الأول
    عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ  قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوُله ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا ، أَو امْرأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ "
    رواه إماما المحدثين أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَهْ البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجَّاج ين مسلم القشيري النيسابوري ، في صحيحيهما اللَذين هما أصح الكتب المصنفة .


    الــشــــرح
    " عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ " هو أبو حفص عمر بن الخطاب  آلت إليه الخلافة بتعين أبي بكر الصديق  له .
    وفي قوله :" سَمِعْتُ " دليل على أنه أخذه من النبي  بلا واسطة .
    ولفظ الحديث انفرد به عمر وتلقته الأمة بالقبول التام ، حتى إن البخاري رحمه الله صدر كتابه الصحيح بهذا الحديث ، ومعنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة .
    قوله  :" إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " فيه من أوجه البلاغة الحصر ، وهو :
    إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه .
    وطريق الحصر : " إِنَّمَا " لأن ( إِنَّمَا ) تفيد الحصر .
    وكذلك قوله  : " وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى " .
    وفي قوله :" وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا ، أَو امْرأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ " من البلاغة : إخفاء نية من هاجر للدنيا ، لقوله : " فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ " ولم يقل : إلى دنيا يصيبها ، والفائدة البلاغية في ذلك هي : تحقير ما هاجر إليه هذا الرجل ، أي ليس أهلاً لأن يذكر ، بل يكنى عنه بقوله :" إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ " .
    وقوله : "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله" الجواب : " فَهِجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوُله " فذكره تنويهاً بفضله.
    " وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا ، أَو امْرأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْه ِ" ولم يقل: إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، لأن فيه تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي : الدنيا أو المرأة .
    * أما من جهة الإعراب ، وهو البحث الثاني :
    فقوله  " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " مبتدأ وخبر ، الأعمال : مبتدأ ، والنيات : خبره .
    " وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى " أيضاً مبتدأ وخبر ، لكن قُدُّم الخبر على المبتدأ ؛ والمبتدأ هو " مَا نَوَى " متأخر .
    " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوُله " هذه جملة شرطية ، أداة الشرط فيها : من ، وفعل الشرط : كانت ، وجواب الشرط : فهجرته إلى الله ورسوله .
    وهكذا نقول في أعراب قوله :" وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا "
    * أما في اللغة فنقول :
    " الأَعْمَالُ " جمع عمل ، ويشمل أعمال القلوب وأعمال النطق ، وأعمال الجوارح ، فتشمل هذه الجملة الأعمال بأنواعها .
    " الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " النيات : جمع نية وهي : القصد .
    وشرعاً: العزم على فعل العبادة تقرباً إلى الله تعالى ، ومحلها القلب ، فهي عمل قلبي ولا تعلق للجوارح بها .
    " وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ " أي لكل إنسانٍ " مَا نَوَى " أي ما نواه .
    هنا مسألة : هل هاتان الجملتان بمعنى واحد ، أو مختلفان ؟
    الجواب : يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التأكيد ، ومعنى التأسيس : أن الثانية لها معنى مستقل ، ومعنى التأكيد : أن الثانية بمعنى الأولى .
    وللعلماء رحمهم الله في هذه المسألة رأيان :
    والصواب : أن الثانية غير الأولى ، فالكلام من باب التأسيس لا من باب التوكيد ، فالأولى باعتبار المنوي وهو العمل .
    والثانية : باعتبار المنوي له وهو المعمول له ، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا .
    ويدل لهذا ما فرعه النبي  في قوله : " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوُله " وعلى هذا يبقى الكلام لا تكرار فيه .
    والمقصود من هذه النية تمييز العادات من العبادات ، وتمييز العبادات بعضها من بعض .
    * و مثال تميز العادات عن العبادات :
    - أولاً : الرجل يأكل الطعام شهوة فقط ، والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله  في قوله :
     وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ (1) أكل الثاني عبادة ، وأكل الأول عادة .
    - ثانياً : الرجل يغتسل بالماء البارد تبرداً ، والثاني يغتسل بالماء من الجنابة ، فالأول عادة ، والثاني : عبادة .
    ولهذا قال بعض أهل العلم : عبادات أهل الغفلة عادات ، وعادات أهل اليقظة عبادات .
    * و مثال تميز العبادات بعضها من بعض:
    رجل يصلي ركعتين ينوي بذلك التطوع ، وآخر يصلي ركعتين ينوي بذلك الفريضة ، فالعملان تميزا بنية ، هذا نفل وهذا واجب ، وعلى هذا فَقِسْ .
    * واعلم أن النية محلها القلب ، ولا يُنْطَقُ بها إطلاقاً ، لأنك تتعبّد لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، والله تعالى عليم بما في قلوب عباده ، ولست تريد أن تقوم بين يدي من لا يعلم حتى تقول أتكلم بما أنوي ليعلم به ، إنما تريد أن تقف بين يدي من يعلم ما توسوس به نفسك ويعلم متقلّبك وماضيك ، وحاضرك .
    ولهذا لم يَرِدْ عن رسول الله  ولا عن أصحابه رضوان الله عليهم أنهم كانوا يتلفّظون بالنية .
    * وهنا مسألة : إذا قال قائل : قول المُلَبَّي : لبيك اللهم عمرة ، ولبيك حجّاً ، ولبيك اللهم عمرة وحجّاً، أليس هذا نطقاً بالنية ؟
    فالجواب : لا ، هذا من إظهار شعيرة النُّسك ، ولهذا قال بعض العلماء : إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة ، فإذا لم تلبِّ لم ينعقد الإحرام ، كما أنه لو لم تكبر تكبيرة الإحرام للصلاة ما انعقدت صلاتك .
    * ولهذا ليس من السنة : إن يقال : اللهم إني أريد نسك العمرة ، أو أريد الحج فيسّره لي ، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه .
    فإذا قال : قالها فلانٌ في كتابه الفلاني ؟
    فقل له : القول ما قال الله ورسوله  .
    " وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى " هذه هي نيّة المعمول له ، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً .
    * ثم ضرب النبي  مثلاً بالمهاجر فقال :
    " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ " الهجرة في اللغة : مأخوذة من الهجر وهو الترك .
    وأما في الشرع فهي : الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام .
    * وهنا مسألة : هل الهجرة واجبة أو سنة ؟
    والجواب : أن الهجرة واجبة على كل مؤمن لا يستطيع إظهار دينه في بلد الكفر ، فلا يتم إسلامه إلا بالهجرة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
    كهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة ، أو من مكة إلى المدينة .
    " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوُله " كرجل انتقل من مكة قبل الفتح إلى المدينة يريد الله ورسوله ، أي : يريد ثواب الله،ويريد الوصول إلى الله كقوله تعالى :  وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (1) إذاً يريد الله : أي يريد وجه الله ونصرة دين الله ، وهذه إرادة حسنة .
    ويريد رسول الله : ليفوز بصحبه ويعمل بسنته ويدافع عنها ويدعو إليها والذبّ عنه، ونصرة دينه ، فهذا هجرته إلى الله ورسوله .
    * وهنا مسألة : بعد موت الرسول  هل يمكن أن نهاجر إليه عليه الصلاة والسلام؟
    الجواب: أما شخصه  فلا ولذلك لا يُهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول لأنه تحت الثرى ، وأما الهجرة إلى سنته وشرعه  فهذا مما جاء الحث عليه وذلك مثل : الذهاب إلى بلد لنصرة شريعة الله الرسول  والذود عنها .
    فالهجرة إلى الله في كل وقت وحين ، والهجرة إلى رسول الله لشخصه وشريعته حال حياته ، وبعد مماته إلى شريعته فقط .
    " وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا " بأن علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح ، فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها ، وليس له إلا ما أراد ، وإذا أراد الله  ألا يحصل على شيء لم يحصل على شيء .
    أو من هاجر من بلد إلى لامرأة يتزوجها ، بأن خطبها وقالت لا أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي فهجرته إلى ما هاجر إليه .
    قوله رحمه الله : (رواه إماما المحدثين أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَهْ البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجَّاج ين مسلم القشيري النيسابوري ، في صحيحيهما اللَذين هما أصح الكتب المصنفة ) .
    أي صحيح البخاري وصحيح مسلم وهما أصح الكتب المصنفة في علم الحديث ، ولهذا قال بعض المحدثين إن ما اتفقا عليه لا يفيد الظن فقط بل العلم .
    وصحيح البخاري أصح من مسلم ، لأن البخاري – رحمه الله – يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه ، أما مسلم – رحمه الله – فيكتفي بمطلق المعاصرة مع إمكان اللقي وإن لم يثبت لقيه ، وقد أنكر على من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكاراً عجيباً .
    فالصواب ما ذكره البخاري – رحمه الله – أنه لا بد من ثبوت اللقي .
    لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم – رحمه الله – أحسن من سياق البخاري ، لأنه -رحمه الله – يفرِّق الحديث ، ففي الصناعة صحيح مسلم أفضل ، وأما في الرواية والصحة فصحيح البخاري أفضل .
    تشاجر قومٌ في البخاري ومسلم فقلت : لقد فاق البخاري صحة . .
    لديّ وقالـــــوا : أي ذَيْنِ تقدّم كما فاق في حسن الصناعة مسلم ..
    فالحديث إذا صحيح يفيد العلم اليقيني ، لكنه ليس يقينياً بالعقل وإنما هو يقيني بالنظر لثبوته عن النبي  .
    * من فوائد الحديث :
    1- هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليه مدار الإسلام ، ولهذا قال العلماء : مدار الإسلام على حدثين : هما هذا الحديث ، وحديث عائشة : " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فهُوَ رَدّ " فهذا الحديث عمدة أعمال القلوب ، فهو ميزان الأعمال الباطنة ، وحديث عائشة : عمدة أعمال الجوارح .
    2- من فوائد الحديث : أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض ، والعبادات عن المعاملات لقول النبي  : " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " .
    * مسألة :لو خرج شخص بعد زوال الشمس من بيته متطهراً ودخل المسجد وليس في قلبه أنها صلاة الظهر ، ولا صلاة العصر ، ولا صلاة العشاء ، ولكن نوى بذلك فرض الوقت ، فهل تجزئ أو لا تجزئ ؟
    الجواب : قيل تجزئ : ولا يشترط تعيين المعيّنة ، فيكفي أن الصلاة وتتعين الصلاة بتعيين الوقت ، وهذه رواية عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - ، وهذا هو القول هو الصحيح الذي لا يسع الناس العمل إلا به.
    3- من فوائد الحديث : الحثّ على الإخلاص لله ، لأن النبي  قسم الناس إلى قسمين :
    قسم : أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة .
    وقسم : بالعكس ، وهذا يعني الحث على الإخلاص لله  .
    4- من فوائد الحديث : حسن تعليم النبي  وذلك : بتنويع الكلام وتقسيمه ، لأنه قال " إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وهذا للعمل " وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى " وهذا للمعمول له ، هذا أولاً .
    والثاني من حُسن التعليم : تقسيم الهجرة إلى قسمين : شرعية وغير شرعية ، وهذا من حسن التعليم ، ولذلك ينبغي للمعلم أن لا يسرد المسائل على الطالب سرداً لأن هذا يُنْسِي، بل عليه أ، يجعل أصولاً ، وقواعد وتقييدات ، لأن ذلك أقرب لثبوت العلم في قلبه ، أما أن تسرد عليه المسائل فما أسرع أن ينساها.
    5- من فوائد الحديث : قرن الرسول  مع الله تعالى بالواو حيث قال : " إِلى اللهِ وَرَسُوله " ولم يقل : ثم إلى رسوله ، مع أن رجلاً قال للرسول  : مَا شاءَ اللهُ وشِئْتَ، فَقَالَ :" بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَه " فما الفرق ؟
    والجواب : أما ما يتعلق بالشريعة : فيعبر عنه بالواو ، لأن ما صدر عن النبي  من الشرع كالذي صدر من الله تعالى كما قال تعالى :  مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ  (1)
    وأما الأمور الكونية : فلا يجوز أن يُرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً ، لأن كل شي تحت إرادة الله تعلى ومشيئته.
    فإذا قال قائل :هل ينزل المطر غداً ؟
    فقيل : الله ورسوله أعلم ، فهذا خطأ ، لأن الرسول  ليس عنده علم بهذا .
    * مسألة :وإذا قال : هل هذا حرامٌ أم حلال ؟
    فقيل في الجواب : الله ورسوله أعلم ، فهذا صحيح ، لأن حكم الرسول في الأمور الشرعية حكم الله تعالى كما قال  :  مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ (1)
    * مسألة : أيهما أفضل العلم أم الجهاد في سبيل الله ؟
    والجواب : العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد في سبيل الله لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم ،وقد قال الإمام أحمد : " العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته "، ولا يمكن أبداً أن يكون الجهاد فرض عين لقول الله تعالى :  وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فلو كان فرض عين لوجب على جميع الناس  فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ أي وقعدت طائفة  لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ  (1)ولكن باختلاف الفاعل واختلاف الزمن ، قد نقول لشخص : الأفضل في حقك الجهاد ، ولآخر الأفضل في حقك العلم ،فإذا كان شجاعاً قوياً نشيطاً وليس بذاك الذكي فالأفضل له الجهاد ؛ لأنه أليَق به ، وإذا كان ذكياً حافظاً قوي الحجة فالأفضل له العلم وهذا باعتبار الفاعل .
    أما باعتبار الزمن فإننا إذا كنّا في زمن كثر فيه العلماء واحتاجت الثغور إلى مرابطين فالأفضل الجهاد .
    وإن كنّا في زمن تفشى فيه الجهل وبدأت البدع تظهر في المجتمع وتنتشر فالعلم أفضل .
    وهناك ثلاثة أمور تحتّم على طلب العلم :
    1- بدع بدأت تظهر شرورها .
    2- الإفتاء بغير علم .
    3- جدل كثير في مسائل بغير علم .
    وإذا لم يكن مرجّح فالأفضل العلم .
    6- ومن فوائد الحديث : أن الهجرة من الأعمال الصالحة لأنها يقصد بها الله ورسوله.
    * مسألة :هل الهجرة واجبة أم مستحبة ؟
    الجواب : فيه تفصيل ، إذا كان الإنسان يستطيع أن يظهر دينه وأن يعلنه ولا يجد من يمنعه في ذلك ، فالهجرة هنا مستحبة .
    وإن كان لا يستطيع فالهجرة واجبة وهذا هو الضابط للمستحبّ والواجب، وهذا يكون في البلاد الكافرة.
    أما في البلاد الفاسقة – وهي التي تعلن الفسق وتظهره – فإنا نقول : إن خاف الإنسان على نفسه أن ينزلق فيه أهل البلد فهنا الهجرة واجبة ، وأن لم يخف فتكون غير واجبة ، بل نقول في بقائه إصلاح ، فبقاؤه واجب لحاجة البلد إليه في الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
    والحاصل أن الهجرة من بلاد الكفر ليست كالهجرة من بلاد الفسق ، فيقال للإنسان: اصبر واحتسب ولا سيما إن كنت مصلحاً ، بل قد يقال : إن الهجرة في حقك حرام






    الحديث الثاني
    عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أَيضاً قَال : بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ  ذَاتَ يَوْمٍ إَذْ طَلَعَ عَلَيْناَ رَجُلٌ شَدِيْدُ بَيَاضِ الثّياب شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لاَ يُرَى عَلَيهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنا أحَدٌ حَتى جَلَسَ إلَى النبِي  فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفيْهِ عَلَى فَخِذِيْهِ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ  : " الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إلَه إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله ، وَتُقِيْمَ الصَّلاَة ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ ، وَتَحُجَّ البيْتَ إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً "
    قَالَ : صَدَقْتَ . فَعجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ ، قَالَ : فَأَخْبِرِنيْ عَنِ الإِيْمَانِ ، قَالَ : " أَنْ تُؤمِنَ بِالله ، وَمَلاِئكَتِه ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالْيَومِ الآَخِر ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ "
    قَالَ : صَدَقْتَ ، قَالَ فَأخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ ، قَالَ : " أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " .
    قَالَ : فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : " مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " قَالَ : فَأخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها ، قَالَ :" أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا ، وَأَنْ تَرى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ " ثْمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثتُ مَلِيَّاً ثُمَّ قَالَ : " يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ قَالَ :" فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلَّمُكُمْ دِيْنَكُمْ " رواه مسلم .




    الشرح
    قوله : "بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوْسٌ " "بَيْنَمَا " هي " بينا" ولكن زيدت (مَا) فيها والأصل : بين نحن ، (مَا) زيدت للتوكيد .
    " جُلُوْسٌ " مبتدأ ، وخبره : " عِنْدَ رَسُولِ اللهِ  "
    " ذَاتَ يَوْمٍ " ذات هنا تفيد النكرة ، أي في يوم من الأيام ،وتستعمل في اللغة على وجوه متعددة: تارة تكون بمعنى النكرة الدالة على العموم : كما في جملة الحديث " ذَاتَ يَوْمٍ " وهذا أغلب ما تستعمل .
    " شَدِيْدُ بَيَاضِ الثّياب " أي عليه ثياب .
    " شَدِيْدُ سَوَادِ الشَّعْرِ " أي أنه شاب .
    " لاَ يُرَى عَلَيهِ أَثَرُ السَّفَرِ " لأن ثيابه بيضاء وشعره أسود ليس فيه غبار ولا شعث السفر ، ولأن المسافر في ذلك الوقت يُرى عليه أثر السفر .
    " وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنا أحَدٌ " أي وليس من أهل المدينة المعروفين ، فهو غريب .
    " حَتى جَلَسَ إلَى النبِي  " ولم يقل عنده ليفيد الغاية ، أي أن جلوسه كان ملاصقاً للنبي  .
    ولهذا قال : " فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفيْهِ " أي كفي هذا الرجل " عَلَى فَخِذِيْهِ " أي فخذي هذا الرجل ، وليس على فخذي النبي ، وهذا من شدة الاحترام .
    " وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ " ولم يقل : يا رسول الله ليوهم أنه أعرابي ، لأن الأعراب ينادون النبي  باسمه العلم ، وأما أهل الحضر فينادونه بوصف النبوة أو الرسالة عليه الصلاة والسلام .
    " أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَم " أي ما هو الإسلام ؟ أخبرني عنه .
    " الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إلَه إلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله " تشهد أي تقر وتعترف بلسانك وقلبك ، فلا يكفي اللسان ، بل لا بد من اللسان والقلب قال الله :إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .
    " وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله " أي وتشهد أن محمداً رسول الله ، ولم يقل : أني رسول الله مع أن السياق يقتضيه لأنه يخاطبه ، لكن إظهاره باسمه العلم أوكد وأشد تعظيماً .
    وقوله :" مُحَمَّدَاً " هو محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل ، وليس من ذرية إسماعيل رسول سواه .
    " رَسُولُ الله " رسول بمعنى مرسل ، والرسول هو من أوحى الله بشرع وأمر بتبليغه والعمل به .
    " وَتُقِيْمَ الصَّلاَة " أي تأتي بها قائمة تامة معتدلة .
    وكلمة : " الصَّلاَة " تشمل الفريضة والنافلة .
    " وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ " تؤتي بمعنى تعطي ، والزكاة هي المال الواجب بذله لمستحقه من الأموال الزكوية تعبداً لله ، وهي الذهب والفضة والماشية والخارج من الأرض وعروض التجارة .
    " وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ " أي تمسك عن المفطرات تعبداً لله تعالى من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
    وأصل الصيام في اللغة : الإمساك .
    " وَتَحُجَّ البيْتَ " أي تقصد البيت لأداء النسك في وقت مخصوص تعبداً لله تعالى .
    " إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً " .
    " صَدَقْتَ " القائل صدقت : جبريل عليه السلام وهو السائل ، فكيف يقول : صدقت وهو السائل ؟
    لأن الذي يقول : صدقت للمتكلم يعني أن عنده علماً سابقاً علم بأن هذا الرجل أصابه ، وهو محل عجب، ولهذا تعجب الصحابة كيف يسأله ويصدقه ، لكن سيأتي إن شاء الله بيان هذا .
    * شرح هذه الأركان الخمسة :
    - الركن الأول : شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمداً رسول الله .
    هنا مسألة : لماذا جُعِلَ هذان الركنان ركناً واحداً ، ولم يجعل ركنين ؟
    الجواب : أن الشهادة بهذين تبنى عليها صحة الأعمال كلها ، لأن شهادة ألا إله إلا الله تستلزم الإخلاص ، وشهادة أن محمداً رسول الله تستلزم الإتباع ، وكل عمل يتقرب له إلى الله لا يقبل إلا بهذين الشرطين : الإخلاص لله ، والمتابعة لرسول الله  .
    ومعنى أن تشهد أن لا إله إلا الله ، أي : أن يعتبر الإنسان بلسانه وقلبه بأنه لا معبود حق إلا الله  .
    و" أَشْهَدُ" بمعنى أقر بقلبي ناطقاً بلسانس ؛ لأن الشهادة نطق وإخبار عما في القلب .
    وإذا كان الشاهد بقلبه أخرس لا يستطيع النطق فإنه يكفي إقراره بقلبه للعجز .
    والشهادة باللسان لا تكفي بدليل أن المنافقين يشهدون لله  بالوحدانية ولكنهم يشهدون بألسنتهم ، فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، فلا ينفعهم .
    و " لاَ إلَه إلاَّ اللهُ " أي لا معبود بحق إلا الله وبتقديرنا الخبر بهذه الكلمة " حق " يتبين الجواب عن الأشكال التالي : وهو كيف يُقال :" لاَ إلَه إلاَّ اللهُ " مع أن هناك آلهة تعبد من دون الله ، وقد سماها الله آلهة وسماها عابدوها آلهة ، قال الله تعالى :  فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ  فبتقدير الخبر في " لاَ إلَه إِلاَّ اللهُ " نقول : هذه الآلهة التي تعبد من دون الله هي آلهة لكنها باطلة ، وليست آلهة حقّة ، وليس لها حق الألوهية من شيء .
    " إِلاَّ اللهُ " الله : علم على الرب  لا يسمى به غيره ، وها أصل من أسماء الله  ولهذا تأتي الأسماء تابعة له ، ولا يأتي تابعاً للأسماء إلا في آية واحدة ، وهي قول الله تعالى :  إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ 1 اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ  لكن لفظ الاسم الكريم هنا بدل من العزيز ، وليست صفة ، لأن جميع الأسماء إنما تكون تابعة لهذا الاسم العظيم .
    مسألة : هل هذه الشهادة تُدِل الإنسان في الإسلام ؟
    الجواب : نعم تدخله في الإسلام حتى لو ظننا أنه قالها تعوّذاً، فإننا نعصم دمه وماله؛ ولو ظننا أنه قالها كاذباً.
    إذاً نحن ليس لنا إلا الظاهر حتى لو غلب على ظننا أنه قالها تعوذاً فإنها تعصمه ، نعم لو ارتد بعد ذلك قتلناه، وهذا يوجود من جنود الكفر إذا أسرهم المسلمون قالوا : أسلمنا من أجل أن يعصموا أنفسهم من القتل، فيسأل المجاهدون ويقولون : هل نقتل هؤلاء بعد أن قالوا : لا إله إلا الله أم لا ؟
    نقول : حديث أسامة يدلّ على أنهم لا يقتلون ولكن يراقبون ، فإذا ظهر منهم ردة قتلوا، لأنهم بشهادة أن لا إله إلا الله تَلزمهم أحكام الإسلام .
    وقوله : " وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ الله " أي أن تشهد أنه رسول الله ، أي مرسلِة إلى الخلق، والرسول هو من أوحى الله إليه بشرع وأمره بتبليغه ، وكان الناس قبل نوح على ملة واحدة لم يحتاجوا إلى رسول ، ثم كثروا واختلفوا ، فكانت حاجتهم إلى الرسل ، فأرسل الله تعالى الرسل .
    ولهذا كان أول الرسل نوحاً عليه السلام ، وآخرهم محمد  .
    فلابد من الإيمان بأن محمدأ رسول الله ، ولا بد أن نؤمن بأنه خاتم النبيين .
    * شهادة أن محمداً رسول الله تستلزم أموراً منها :
    الأول : تصديقه  فيما أخبر ، بحيث لا يكون عند الإنسان تردد فيما أخبر به ، بل يكون في قلبه أشد مما نطق ، كما قال  في القرآن :  إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ  نعلم أنه الحق ، لكن بيننا وبينه مفاوز وهو السند ، لأن النبي  ليس أمامنا لكن إذا ثبت الحديث عن الرسول  وجب علينا تصديقه ، سواء علمنا وجهه أم لم نعلمه .
    الثاني : امتثال أمره  ولا نتردد فيه لقول الله تعالى :  وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ولهذا أقول : من الخطأ أنَّ بعضهم إذا جاءه الأمر من الله ورسوله بدأ يتسأل فيقول : هل للوجوب أو للاستحباب ؟ كما يقوله كثير من الناس اليوم .









    تابع شرح الحديث الثالث

    وهذا السؤال وأن لا يورد ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إذا أمرهم النبي  كانوا يمتثلون ويصدقون بدون أن يسألوا .
    نقول : في حالة ما إذا وقع الإنسان في مسألة وخالف الأمر ، فهنا له الحق أن يسأل هل هو للوجوب أو لغير الوجوب .
    الثالث : أن يتجنب ما نهى رسول الله  عنه بدون تردد ، لا يَقُلْ : هذا ليس في القرآن فيهلك ، لأننا نقول : ما جاء في السنة فقد أمر القرآن بإتباعه .
    الرابع : أن لا يقدم قول أحدٍ من البشر على قول النبي  ، وعلى هذا لا يجوز أن تقدم قول فلان –الإمام من أئمة المسلمين – على قول الرسول  لأنك أنت والإمام يلزمكما إتباع الرسول  .
    الخامس : أن لا يبتدع في دين الله ما لم يأت الرسول  ، سواء عقيدة ، أو قولاً ، أو فعلاً ، وعلى هذا فجميع المبتدعين لم يحققوا شهادة أ، محمداً رسول الله ، لأنهم زادوا في شرعه ما ليس منه ، ولم يتأدبوا مع الرسول  .
    السادس : أن لا يبتدع في حقه ما ليس منه ، وعلى هذا فالذين يبتدعون الاحتفال بالمولد النبوي ناقصون في تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله ، لأن تحقيقها يستلزم أن لا تزيد في شريعته ما ليس منها .
    السابع : أن تعتقد بأن النبي  ليس له شيء من الربوبية ، أي أنه لا يُدعى ، ولا يُستغاث به إلا في حياته فيما يقدر عليه ، فهو عبدالله ورسوله  قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ 
    الثامن : احترام أقواله ، بمعنى أن يحترم أقوال النبي  فلا تضع أحاديثه عليه الصلاة والسلام في أماكن غير لائقة ، لأن هذا نوع من الامتهان .
    " وَتُقِيْمَ الصَّلاَة " أي تأتي بها قويمة ، ولا تكون قويمة إلا بفعل شروطها وأركانها وواجباتها – وهذا لا بد منه – وبمكملاتها ، تكون أكمل .
    ولا حاجة لشرح هذه لأنها معروفة في كتب الفقه .
    وقوله : " الصَّلاَة " يشمل كل الصلاة : الفريضة والنافلة ، وهل تدخل في صلاة الجنازة أو لا ؟
    يحتمل هذا وهذا ، لكن تدخل في عموم الأمر بالإحسان .
    " وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ " تؤتي بمعنى تعطي ، والزكاة هي : المال الواجب ف الأموال الزكوية ، فيعطيه الإنسان مستحقه تعبداً لله  ورجاء لثوابه .
    وقد بيّن الله  أهل الزكاة في سورة التوبة أنهم ثمانية أصناف فقال   إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ  أي فرضها الله علينا أن نعطيها هؤلاء ولا نعطي غيرهم  وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  وتفاصيل ذلك مذكورة في كتب الفقه ولا حاجة إلى تفصيله هنا .
    " وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ " بأن تمسك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس تعبداً لله تعالى .
    والمفطرات أيضاً معروفة لا حاجة إلى ذكرها ولكن ننبّه على شيء مهم فيها :
    أن المفطرات لا تفطر الصائم إلا بثلاثة شروط :
    1- أن يكون عالماً .
    2- أن يكون ذاكراً .
    3- أن يكون مريداً .
    " وَتَحُجَّ البيْتَ " أي تقصد لأداء المناسك في وقت مخصوص تعبداً لله تعالى .
    وهل يدخل في ذلك العمرة أو لا ؟
    فيه خلاف بين العلماء :
    والصحيح أن العمرة دون الحج ، أي ليست من أركان الإسلام لكنها واجبة يأثم الإنسان بتركها إذا تمت شروط الوجوب .
    " إِنِ اِسْتَطَعتَ إِليْهِ سَبِيْلاً " مؤخوذ من قوله تعالى : وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً قد يقول قائل : هذا الشرط ف جميع العبادات لقول الله تعالى :  فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ  فلماذا خص الحج ؟
    نقول : خص الحج لأن الغالب فيه المشقة والتعب وعدم القدرة ، فلذلك نص عليه وإلا فجميع العبادات لا بد فيها من الاستطاعة .
    " قَالَ : صَدَقْتَ " أي أخبرت بالحق ، والقائل هو جبريل عليه السلام .
    " فَعجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ " ووجه العجب أن السائل عادة يكون جاهلاً ، والمصدق يكون عالماً فكيف يجتمع هذا وهذا .
    " قَالَ : فَأَخْبِرِنيْ عَنِ الإِيْمَانِ " قال : أي جبريل ، فأخبرني : أي يا محمد عن الإيمان ؟
    والإيمان في اللغة : هو الإقرار بالقلب والاعتراف المستلزم للقبول والإذعان وهو مطابق للشرع .
    وأما قولهم : الإيمان في اللغة التصديق ففيه نظر .
    " قَالَ : " أَنْ تُؤمِنَ بِالله ، وَمَلاِئكَتِه ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَالْيَومِ الآَخِر ، وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " هذه ستة أشياء :
    " أَنْ تُؤمِنَ بِالله " الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء :
    الأول : الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى .
    الثاني : الإيمان بانفراده بالرّبوبية ، أي تؤمن بأنه وحده الرّب ، والرب هو الخالق المالك المدبر .
    الثالث: الإيمان بانفراده بالألوهية، وأنه وحده الذي لا إله إلا هو لا شريك له.
    الرابع: أن تعطي بالأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكيف، ولا تمثيل، فمن حرّف آيات الصفات أو أحاديث الصفات فإنه لم يحقق الإيمان بالله.
    وعلى هذا فجميع المبتدعة في الأسماء والصفات، المخالفين لما عليه السلف الصالح ، ولم يحققوا الإيمان بالله، والذي فاتهم من الأمور الأربعة هو الرابع : الإيمان بأسماء الله وصفاته ، ولم يحققوا الإيمان به ، ولا نقول : إنهم غير مؤمنين ، فهم مؤمنون لا شك، لكنهم لم يحققوا الإيمان بالله ، وهم مخطئون مخالفون لطريق السلف ، وطريقتهم ضلا بلا شكّ ، ولكن لا يحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة ، وأصر على خطئه وضلاله ، كان مبتدعاً فيما خالف فيه من الحق ، وإن كان سلفيّ على وجه الإطلاق ، بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف ، مبتدع فيما خالفهم .
    وقوله : " وَمَلاِئكَتِه " بدأ بالملائكة قبل الرسل والكتب لأنهم عالم غيبي ، أما الرسل والكتب فعالم محسوس ، فالملائكة لا يظهرون بالحس إلا بإذن الله  ، وقد خلق الله الملائكة من نورٍ ، كما ثبت عن النبي  وهم لا يحتاجون إلى أكل وشرب ، فنؤمن إن هناك عالماً غيبياً هم الملائكة .
    وهم أصناف، ووظائفهم أيضاً حسب حكمة الله  كالبشر أصناف ووظائفهم أصناف.
    والإيمان بالملائكة يتضمّن :
    أولاً : الإيمان بأسماء من علمنا أسماءهم ، مثل أن نؤمن بأن هناك ملكاً اسمه جبريل .
    ثانيا : أن نؤمن بما لهم من أعمال مثلاً :
    جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من عند الله إلى رسله.
    كذلك يجب الإيمان بما لبعض الملائكة من أعمال خاصة، فمثلاً: هناك ملائكة وظائفهم أن يكتبوا أعمال العباد.
    " وَكُتُبِهِ " جمع كتاب بمعنى : مكتوب والمراد بها الكتب التي أنزلها الله  على رسله لأنه ما من رسول إلا أنزل الله عليه كتاباً كما قال  : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ  وقال  عن نوح وإبراهيم :  وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ  واعلم أن جميع الكتب السابقة منسوخة بما له هيمنة علها وهو القرآن ، قال الله  :  وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ  كل الكتب منسوخة بالقرآن ، فلا يُعمل بها شرعاً .
    واختلف العلماء – رحمهم الله – فيما ثبت في شرائع من قبلنا، هل نعمل به إلا أن يرد شرعنا بخلافه، أو لا نعمل به ؟
    من العلماء من قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، وذلك أن ما سبق من الشرائع :
    إما أن توافقه شريعتنا.
    وإما أن تخالفه شريعتنا.
    وإما أن لا ترد شريعتنا بخلافه ، ولا وفاقه فيكون مسكوتاً عنه .
    فما وافقته شريعتنا فهو حق ونتبعه ، وهذا بالإجماع ، واتباعنا إياه لا لأجل وروده في الكتاب السابق ولكن لشريعتنا .
    وما خالف شريعتنا فلا تعمل به بالاتفاق ، لأنه منسوخ .
    وما لم يرد شرعنا بخلافه ولا وفاقه فهذا محل الخلاف: وتفصيل ذلك في أصول الفقه.
    * والإيمان بالكتب يتضمن أربعة أمور :
    أولاً : أن نؤمن بأن الله تعالى أنزل على الرسل كتباً ، وأنها من عند الله ولكن لا نؤمن بأن الكتب الموجودة في أيدي هذه الأمم هي الكتب التي من عند الله لأنها محّرفه ومبدلة ، لكن أصل الكتاب المنزل على الرسول نؤمن بأنه حق من عند الله .
    ثانياً : أن نؤمن بصحة ما فيها من أخبار كأخبار القرآن وأخبار ما لم يبدل أو يحرف من الكتب السابقة .
    ثالثاً : أن نؤمن بما فيها من أحكام إذا لم تخالف شريعتنا على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا – وهو الحق- .
    رابعاً : أن نؤمن بما علمنا من أسمائها ، مثل القرآن و التوارة والإنجيل و الزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى .
    فلو قال رجل : أنا لا أومن بأن هناك كتاباً  ، فإنه كافر ، لأن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بالكتب .
    " وَرُسُلِهِ " أي أن تؤمن برسل الله  ، والمراد بالرسل من البشر ، وليُعلم بأنه يعبر برسول ويعبّر بنبي ، فهل معناهما واحد ؟
    الجواب : أما في القرآن فكل من ذكر من الأنبياء فهو رسول ، فكلما وجدت في القرآن من نبي فهو رسول، لكن معنى النبي والرسول يختلف .
    والصواب فيه: أن النبي: هو من أوحي إليه بشرع وأمر بالعمل به ولكن لم يؤمر بتبليغه، فهو نبي بمعنى مُخْبَر، مثاله: أدم عليه السلام أبو البشر نبي مكلف لكنه ليس برسول.
    فإذا قال قائل: لماذا لم يرسل ؟
    فالجواب : لأن الناس في ذلك الوقت كانوا أمة واحدة ، قليلين وليس بينهم اختلاف، لم تتسع الدنيا ولم ينتشر البشر فكانوا متفقين فكفاهم أن يروا أباهم على عبادة ويتبعوه، ثم لما حصل الخلاف وانتشر الناس احتيج إلى الرسل ، كما قال الله  :  كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ  .
    فإذا قال قائل: ما الفائدة من النبي بعد آدم عليه السلام إذا كان لم يؤمر بالتبليغ ؟
    قلنا الفائدة : تذكير الناس بالشريعة التي نسوها ، وفي هذا لا يكون الإعراض من الناس تاماً فلا يحتاجون إلى رسول ، ويكفي النبي الذي يذكرهم بالشريعة ، قال الله تعالى :  إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ 
    - وأول الرسل نوح عليه السلام ، وآخرهم محمد  .
    والرسل عليهم الصلاة والسلام هم أعلى طبقات البشر الذين أنعم الله عليهم، قال الله تعالى:  وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ  هذه أربعة أصناف .
    فالنبيون يدخل فيهم الرسل وهو أفضل من الأنبياء ، ثم الرسل أفضلهم خمسة هم أُوُلوا العزم ، ذكروا في القرآن في موضعين في سورة الأحزاب وفي سورة الشورى : ففي الأحزاب قال تعالى :  وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى  وفي سورة الشورى قال الله تعالى :  شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ  .
    وأفضلهم محمد  كما قال النبي : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ " ولما التقى بهم في الإسراء أَمَّهم في الصلاة ، فإبراهيم إمام الحنفاء صلى وراء محمد  ، ومعلوم أنه لا يقدم في الإمامة إلا الأفضل ، فالنبي  هو أفضل أولي العزم .
    وإبراهيم الخليل عليه السلام يلي مرتبة النبي  الذي قال الله فيه :  وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً  .
    والخلة : هي أعظم أنواع المحبة .
    * و لا نعلم من البشر خليلاً لله إلا اثنان : إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام .
    قال النبي  : " إِنَّ اللهَ اِتَّخَذَنِيْ خَلِيْلاً كَمَا اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيِمَ خَلِيْلا ، وَلَوْ كُنْتُ مُتخِذَاً مِنْ أُمَتِيْ خَلِيِِِِِْلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بكْر خليلاً " .
    وقوله : " وَالْيَومِ الآَخِر " هو يوم القيامة ، وسمي آخراً لأنه أخر مراحل بني آدم وغيرهم أيضاً ، فالإنسان له أربع دور ، في بطن أمه ، وفي الدنيا ، وفي البرزخ ، ويوم القيامة وهو آخرها .

    * الإيمان باليوم الآخر يتضمّن :
    أولاً : الإيمان بوقوعه ، وأن الله يبعث من في القبور ، وهو إحياؤهم حين ينفخ في الصور ، ويقوم الناس لرب العالمين ، قال تعالى : ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون  وقال النبي  : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيِامَةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً " وأنه واقع لا محالة ، لأن الله تعالى أخبر به في كتابه وكذلك في السنة .
    ثانياً : الإيمان بكل ما ذكره الله في كتابه وما صح عن النبي  مما يكون في ذلك اليوم الآخر .
    ثالثاً : الإيمان بما ذكر في اليوم الآخر من الحوض والشفاعة والصراط والجنة والنار فالجنة دار النعيم ، والنار دار العذاب الشديد .
    رابعاً : الإيمان بنعيم القبر وعذابه ، لأن ذلك ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف .
    " وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " وهنا أعاد  الفعل : ( تؤمن ) لأهمية الإيمان بالقدر ، لأن الإيمان بالقدر ، لأن الإيمان بالقدر مهم جداً ، وخطير جداً .
    * والإيمان بالقدر يتضمّن أربعة أمور :
    الأول : أن تؤمن بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً .
    ثانياً : الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللحوح المحفوظ ، مقادير كل شيء إلى يوم القيامة ، قال الله  : وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ  أي في كتاب وقال  : وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ وهو اللحوح المحفوظ  أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ  والآيات في هذا متعددة .
    ثالثاً : أن تؤمن بأن كل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله تعالى ، فلا يخرج شيء عن مشيئته أبداً .
    ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة : ( ما شاء الله كان وما لم يشاء لا يكن ) فأي شيء يحدث فهو بمشية الله .
    وهذا عام ، لما يفعله  بنفسه وما يفعله العباد ، فكله بمشيئة الله ، ودليل ذلك قول الله  :  وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ  وقال  :  وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وقال :  وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ  فكل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله .
    رابعاً : الخلق ومعناه : الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء ، فنؤمن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء ، قال تعالى : لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ 28 وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ  فكل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله .
    رابعاً : الخلق ومعناه : الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء ، فنومن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء ، قال تعالى :  وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا  فكل شيء مخلوق لله : السموات ، والأرضون ، والبحار ، والأنهار ، والكواكب ، والشمس ، والقمر ، والإنسان ، الكل مخلوق لله  وحركات الإنسان مخلوقة لله ، وإذا كان هو مخلوقاً فصفاته وأفعاله مخلوقه ولا شك ، فأفعال العباد مخلوقة لرب العباد  .
    وهل صفات الله مخلوقة ؟
    الجواب : لا ، لأن صفاته سبحانه وتعالى كذاته كما أن صفات الإنسان كذات الإنسان مخلوقة .
    " قَالَ : صَدَقْتَ " القائل جبريل عليه السلام .
    ثم قال: " فَأخْبِرْنِيْ عَنِ الإِحْسَانِ " الإحسان: مصدر أحسن يحسن، وهو بذل الخير والإحسان في حق الخالق، بأن تبني عبادتك على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسول الله، وأما الإحسان للخلق، فهو بذل الخير لهم من مال أو جاه أو غير ذلك.
    فقال النبي  : "الإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ " وعبادة الله لا تتحقق إلا بأمرين وهما : الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله  ، أي عبادة الإنسان ربه سبحانه كأنه يراه ، عبادة طلب وشوق ، وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها ، لأنه يطلب هذا الذي يحبه ، فهو يعبده كأنه يراه ، فيقصده وينيب إليه ويتقرّب إليه سبحانه وتعالى .
    " فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ " أي : اعبده على وجه الخوف ولا تخالفه ، لأنك إن خالفته فإنه يراك ، فتعبده عبادة خائف منه ، هارب من عذابه وعقابه ، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى من الدرجة الأولى.
    فصار للإحسان مرتبتان: مرتبة الطلب، ومرتبة الهرب.
    مرتبة الطلب: أن تعبد الله كأنك تراه.
    ومرتبة الهرب : أن تعبد الله وهو يراك  فاحذره ، كما قال  :  وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ  .
    " فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ " لم يُعِد قوله " صدقت " اكتفاءً بالأولى.
    والساعة هي : قيام الناس من قبورهم لرب العالمين ، يعني البعث ، وسميت ساعة لأنها داهية عظيمة ، قال الله  : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ  فقال النبي  :"مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا " يعني نفسه  " بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " يعني جبريل عليه السلام ، والمعنى إذا كنت تجهلها فأنا أجهلها ولا أستطيع أن أخبرك بها ، لأن علم الساعة مما اختص الله به  قال الله تعالى : يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا  وقال :  يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ولهذا يجب علينا أن نكذب كل من حدد عمر الدنيا في المستقبل ، ومن قال به أو صدق به فهو كافر .
    ولما قال النبي  :" مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " أي علامات قربها ، لأن الأمارة بمعنى العلامة ، والمراد أمارات قربها وهو ما يعرف بالأشراط ، قال الله  :  فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا 
    * وأشراط الساعة قسّمها العلماء إلى ثلاثة أقسام :
    1- أشراط مضت وانتهت .
    2- أشراط لم تزل تتجدد وهي الوسطى .
    3- أشراط كبرى تكون عند قرب قيام الساعة .
    ومن علامات الساعة ما ذكره  في هذا الحديث بقوله : " أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا " وفي لفظ " رَبَّهَا " والمعنى : " أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ " أي الرقيقة المملوكة " رَبَّهَا " أي سيدها ، أو " رَبَّتَهَا " .
    وهل المراد العين أو الجنس؟
    والجواب : اختلف في هذا العلماء ، فمنهم من قال : المراد أن تلد الأمة ربها ، يعني أن تلد الأمة من يكون سيداً لغيرها لا لها ، فيكون المراد بالأمة : الأمة بالجنس .
    وهذا المعنى أقوى ، لأن الإماء يلدن من يكونون أسياداً مالكين ، فهي كانت مملوكة في الأول ، وتلد من يكونون أسياداً مالكين ,وهو كناية عن تغير الحال بسرعة ، ويدل
    لهذا ما ذكره بعدْ ذلك حيث قال :
    " وَأَنْ تَرى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ " الحفاة: يعني: ليس لهم نعال .
    والعراة : أي ليس لهم ثياب تكسوهم وتكفيهم .
    العالة : أي ليس عندهم ما يأكلون من النفقة أو السكنى أو ما أشبه ذلك ، عالة أي فقراء .
    " يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ " أي يكونون أغنياء حتى يتطاولون في البنيان أيهم أطول .
    وهل المراد بالتطاول ارتفاعاً ، أو جمالاً ، أو كلاهما ؟
    الجواب : كلاهما ، أي يتطاولون في البنيان أيهم أعلى ، ويتطاولون في البنيان أيهم أحسن ، وهو في الأول فقراء لا يجدون شيئاً ، لكن تغير الحال بسرعة مما يدل على قرب قيام الساعة .
    وهنا مسألة : هل وجد التطاول في البينان أم لا ؟
    والجواب : الله أعلم ، فإنه قد يوجد ما هو أعظم مما في هذا الزمان ، لأن كل أناس وكل جيل يحدث فيه من التطاول والتعالي في البينان ، وكل زمن يقول أهله : هذا من أشراط الساعة ، والله أعلم ، لكن هذه علامة واضحة .
    " ثْمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثتُ مَلِيَّاً " يعني بقيت ملياً أي مدة طويلة كما في قوله تعالى:  وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا أي مدة طويلة .
    " ثُمَّ قَالَ : " يَا عُمَرُ " والقائل النبي  :" أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ قَالَ :" فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلَّمُكُمْ دِيْنَكُمْ " ولعل النبي  وجده فيما بعد وسأله : أتدري من السائل ؟ أي أتعلم من هو ؟ " فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ وَرَسُوله أَعْلَمُ " وهذا يدل على أن عمر  لا علم له من هذا السائل .
    فقال النبي  :" فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ " الإشارة هنا إلى شيء معلوم بالذهن ، أي هذا جبريل؟ " أَتَاكُمْ يُعَلَّمُكُمْ دِيْنَكُمْ " لكنه جاء بهذه الصيغة أي صيغة السؤال والجواب لأنه أمكن في النفس وأقوى في التأثير .
    * من فوائد الحديث :
    هذا الحديث فيه فوائد كثيرة ، فلو أراد الإنسان أن يستنبط ما فيه من الفوائد منطوقاً ومفهوماً وإشارة لكتب مجلداً، لكن نشير إشارة قليلة إلى ما يحضرنا إن شاء الله تعالى ، فمنها :
    1- بيان حسن خلق النبي  وأنه يجلس مع أصحابه ويجلسون إليه، وليس ينفرد ويرى نفسه فوقهم .
    2- جواز جلوس الأصحاب إلى شيخهم ومن يفوقهم، لكن هذا بشرط : إذا لم يكن فيه إضاعة وقت على الشيخ ومن يفوقه علماً .
    3- أن الملائكة عليهم السلام يمكن أن يتشكلوا بأشكال غير أشكال الملائكة، لأن جبريل أتى بصورة رجل كما جاء في الحديث .
    * فإن قال قائل : وهل هذا إليهم، أو إلى الله  ؟
    فالجواب : هذا إلى  بمعنى : أنه لا يستطيع الملك أن يتزيَّى بزيّ الغير إلا بأذن الله .
    4- الأدب مع المعلم كما فعل جبريل عليه السلام، حيث جلس أمام النبي  جلسة المتأدب ليأخذ منه .
    5- جواز التورية لقوله:" يا مُحَمَّد " وهذه العبارة عبارة الأعراب، فيوري بها كأنه أعرابي،وإلا فأهل المدن المتخلفون بالأخلاق الفاضلة لا ينادون الرسول  بمثل هذا.
    6- فضيلة الإسلام، وأنه ينبغي أن يكون أول ما يسأل عنه .
    7- أن أركان الإسلام هي هذه الخمسة، ويؤده حديث عبدالله بن عمر  أن النبي قال : " بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْس " وسيأتي شرحه – إن شاء الله - .
    8- فضل الصلاة وإنها مقدمة على غيرها بعد الشهادتين .
    9- الحث على أقامة الصلاة، وفعلها قويمة مستقيمة، وأنها ركن من أركان الإسلام.
    10- أن إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من أركان الإسلام .
    * ولو قال قائل : إذا ترك الإنسان واحداً من هذه الأركان هل يكفر أم لا ؟
    فالجواب : أن نقول : إذا لم يشهد أن لا إله إلا الله ، وإن محمداً رسول الله فهو كافر بالإجماع، لا خلاف في هذا .
    وأما إذا ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج أو واحداً منها ففي ذلك خلاف .
    والصواب : أن هذه الأربعة لا يكفر تاركها إلا الصلاة، لقول عبدالله بن شقيق رحمه الله: " كان أصحاب النبي  لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفرٌ إلا الصلاة " ولذلك أدلة معروفة .
    وكذا لو أنكر وجوبها وهو كافر وهو يفعلها فإنه يكفر، لأن وجوبها أمرٌ معلوم بالضرورة من دين الإسلام .
    * وإذا تركها عمداً فهل يقضيها أو لا ؟
    نقول : الموقت لا يقضى، فلو ترك الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر قلنا لا تقضها، لأنه لو قضاها لم تنفعه لقول الله تعالى : وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  والظالم لا يمكن أن يقبل منه، ومن أخرج الصلاة عن وقتها بلا عذر فهو ظالم .
    ولقول النبي  :" مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فهُوَ رَدّ " .
    وكذلك يقال في الصوم : فلو ترك الإنسان صوم عمداً بلا عذر ثم ندم بعد أن دخل شوال وأراد أن يقضيه، فإننا نقول له : لا تقضه ، لأنك لو قضينه لم ينفعك .
    وعلى من ترك الصلاة بلا عذر حتى خرج الوقت ، أو ترك الصوم بلا عذر حتى خرج الوقت أن يكثر من الطاعات والاستغفار والعمل الصالح والتوبة إلى الله توبة نصوحاً .
    أما الزكاة : إذا تركها الإنسان ثم تاب فإنه يزكي ، نقول : زكَّ لأنه ليس للزكاة وقت محدد يقال فيه لا تزكي إلا في الشهر الفلاني .
    * ومن مات ولم لم يزك تهاوناً، فهل تخرج الزكاة من ماله ، أم لا ؟
    الجواب : الأحوط – والله أعلم – أن الزكاة تخرج ، لأنه يتعلق بها حق أهل الزكاة فلا تسقط ، لكن لا تبرأ ذمته ، لأن الرجل مات على عدم الزكاة .
    والحج كذلك ، لو تركه الإنسان القادر المستطيع تفريطاً حتى مات ، فإنه لا يحج عنه.
    * وهنا مسألة :هل يجب على ورثته أن يخرجوا الحج عنه من تركته ؟
    والجواب : لا ، لأنه لا ينفعه ولم يتعلق به حق الغير كالزكاة ، قال ابن القيم في تهذيب السنن :" هذا هو الذي ندين الله به " أو كلمة نحوها ، وهو الذي تدل عليه الأدلة .
    يجب على الإنسان أن يتقي  لأنه إذا مات ولم يحج مع قدرته على الحج فإنه لو حُجَّ عنه ألف مرة لم تبرأ ذمته .
    11- الانتقال من الأدنى إلى الأعلى ، فالإسلام بالنسبة للإيمان أدنى ، لأن كل إنسان يمكن أن يسلم ظاهراً ، كما قال تعالى :  قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا  لكن الإيمان ليس بالأمر الهين فمحله القلب والاتصاف به صعب .
    12- أن الإسلام غير الإيمان ، لأن جبريل عليه السلام قال : "أخبرني عن الإسلام" وقال :" أخبرني عن الإيمان " وهذا يدل على التغاير .
    وهذه المسألة نقول فيها ما قال السلف :
    إن ذكر الإيمان وحده دخل يفيه الإسلام ، وإن ذكر الإسلام وحده دخل الإيمان، فقوله تعالى :  وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا  يشمل الإيمان .
    كذلك الإيمان إذا ذكره وحده دخل فيه الإسلام ، قال تعالى :  وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ  .
    إما إذا ذكرا جميعاً فيفترقان ، فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وعمل الجوارح ، والإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها.
    فإن قال قائل : في قولنا إذا اجتمعا افترقا إشكال ، وهو قول الله تعالى في قوم لوط :  فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 35 فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ  فعبر بالإسلام عن الإيمان ؟
    فالجواب : أن هذا الفهم خطأ،وأن قوله:  فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 3
    يخص المؤمنين وقوله:  فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِين3 يعم كل من كان في بيت لوط ، وفي بيت لوط من ليس بمؤمن ، وهي امرأته التي خانته وأظهرت أنها معه وليست كذلك ، فالبيت بيت مسلمين ، لأن المرأة لم تظهر العداوة والفرقة ، لكن الناجي هم المؤمنين خاصة، ولهذا قال: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 3 وهم ماعدا هذه المرأة ، أما البيت فهو بيت مسلم .
    ويؤخذ من هذه الآية فائدة هي : أن البلد إذا كان المسيطر عليه هم السلمون فهو بلد إسلامي حتى وإن كان فيه نصارى أو يهود أو مشركون أو شيوعيون ، لأن الله تعالى جعل بيت لوط بيت إسلام مع أن امرأته كافرة ، هذا هو التفصيل في مسألة الإيمان والإسلام ، فصار الأمر كما قال بعضهم : " إن اجتمعا افترقا ، وإن افترقا اجتمعا "
    13- أن أركان الإيمان ستة كما سبق ، وهذه الأركان تروث للإنسان قوة الطلب في الطاعة والخوف من الله عز وجل .
    14- أن من أنكر واحداً من هذه الأركان الستة فهو كافر ، لأنه مكذب لما أخبر به رسول الله.
    15- إثبات الملائكة وأنه يجب الإيمان بهم .
    وهنا مسألة: هل الملائكة أجسام ، أم أرواح ، أم قوى؟
    والجواب : الملائكة أجسام بلا شك ، قال الله عز وجل :  جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى  وقال النبي  " أطت السماء" والأطيط : صرير الرحل ، أي إذا كان على البعير حمل ثقيل ، تسمع له صريراً من ثقل الحمل ، فيقول عليه الصلاة والسلام "وحق لها أن تئط ، ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد " ويدل لهذا حديث جبريل عليه السلام : أنه له ستمائة جناح قد سد الأفق، والأدلة على هذا كثيرة.
    16_أنه لابد من الإيمان بجميع الرسل ، فلو آمن أحد برسوله وأنكر من سواه فإنه لم يؤمن برسوله ، بل هو كافر ، واقرأ قول الله  :  كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ  مع أنهم إنما كذبوا نوحاً ولم يكن قلبه رسول، لكن تكذيب واحد من الرسل تكذيب للجميع .
    17- إثبات اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء، حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم .
    18- أن تؤمن بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر معترك عظيم من زمن الصحابة إلى زماننا هذا، وسبق لنا أن له مراتب أربع وهي: العلم والكتابة، والمشيئة، والخلق.
    19- أن القدر ليس فيه شر، وإنما الشر في المقدور، وتوضيح ذلك بأن القدر بالنسبة لفعل الله كله خير، ويدل لهذا: قول النبي  :" وَالشَرَّ لَيْسَ إِلَيْكَ " أي لا ينسب إليك، فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شرٌ أبداً، لأنه صادر عن رحمة وحكمة، لأن الشر المحض لا يقع إلا من الشرير، والله تعالى خير وأبقى .
    إذاً كيف نوجّه " وَتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ " ؟
    الجواب : أن نقول : المفعولات والمخلوقات هي التي فيها الخير والشر ، أما أصل فعل الله تعالى وهو القدر فلا شر فيه ، مثال ذلك قول الله عز وجل :  ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ  هذا بيان سبب فساد الأرض، وأما الحكمة فقال: لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 3 إذن هذه مصائب،من جدب الأرض ومرض أو فقر،ولكن مآلها إلى خير، فصار الشر لا يضاف إلى الرب ، لكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات مع أنها شر من وجه وخير من وجه آخر ، فتكون شراً بالنظر إلى مايحصل منها من الأذية ، ولكنها خير بما يحصل منها من العاقبة الحميدة  لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ  .
    ومن الحكمة أن يكون في المخلوق خير وشر ،لأنه لولا الشر ما عرف الخير ، كما قيل((وبضدها تتبين الأشياء)) فلو كان الناس كلهم على خير ما عرفنا الشر، ولو كانوا كلهم على الشر ماعرفنا الخير، إذا إيجاد الشر لنعرف به الخير ، لكن كون الله تعالى يوجد هذا الشر ليس شراً ،فهنا فرق بين الفعل والمفعول , ففعل الله الذي هو تقديره لاشر فيه ، ومفعوله الذي هو مقدره ينقسم إلى خير وشر ، وهذا الشر الموجود في المخلوق لحكمة عظيمة.
    فإذا قال قائل: لماذا قدر الله الشر؟
    فالجواب: ليعرف به الخير.
    ثانياً: من اجل أن يلجأ الناس إلى الله عز وجل.
    ثالثاً: من اجل أن يتوبوا إلى الله.
    فكم من إنسان لايحمله على الورد ليلاً أو نهاراً إلا مخافة شرور الخلق ، فتجده يحافظ على الأوراد لتحفظه من الشرور ، فهذه الشرور في المخلوقات لتحمل الإنسان على الأذكار والأوراد وما أشبهها ، فهي خير.
    فالمهم أن الشر لاينسب إلى الله تعالى ، لأن النبي  قال :" وَالشَرَّ لَيْسَ إِلَيْكَ "
    فالشر ينسب إلى المخلوقات قال الله تعالى : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ 1 مِن شَرِّ مَا خَلَقَ  .
    وهنا مسألة: هل في تقدير إيجاد المخلوقات الشريرة حكمة؟
    والجواب: نعم ،حكمة عظيمة ولولا هذه المخلوقات الشريرة ماعرفنا قدر المخلوقات الخيرة..
    20- أن الساعة لا يعلمها احد إلا الله عز وجل ،لان أفضل الرسل من الملائكة سأل أفضل الرسل من البشر عنها، فقال: " مَا الْمَسئُوُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ "
    21- عظم الساعة ،ولهذا جاءت لها أمارات حتى يستعد الناس لها- رزقنا الله وإياكم الاستعداد لها..
    أننا إذا كنا لانعلم الشيء فأننا نطلب مايكون من علاماته ، لان جبريل عليه السلام قال:" " فَأخْبِرْنِيْ عَنْ أَمَارَاتِها "
    23- ضرب المثل بما ذكره النبي  :" أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا"وفي لفظ(ربَّهَا))والعلامة الثانية:" ، وَأَنْ تَرى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُوْنَ فِي البُنْيَانِ "فان قال قائل: لم يذكر النبي  أمارات أخرى أوضح من هذا ؟
    فالجواب: أن العلامات بينة واضحة لايحتاج السؤال عنها ، ولذلك عدل النبي عنها إلى ذكر هذه الصورة .
    24- أن الملائكة يمشون إذا تحولوا إلى البشر، لقوله  :" ثْمَّ انْطَلَقَ "
    وهل يمشون إذا كانوا على صفة الخلق الذي خلقوا عليه؟
    الجواب :قال الله  : قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً 95 
    ولهم أجنحة يطيرون بها , كما قال تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ 
    25- إلقاء العالم على طلبته ما يخفى عليهم ، لقول النبي  :" أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ "
    26- أن السائل عن العلم يكون معلماً لمن سمع الجواب, لان النبي  قال" " فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ أَتَاكُمْ يُعَلَّمُكُمْ دِيْنَكُمْ " .
    مع أن الذي علمهم النبي  لكن لما كان جبريل هو السبب جعله هو المعلم .
    ويتفرغ على هذا انه ينبغي لطالب العلم إذا كان يعلم المسألة وكان من المهم معرفتها أن يسأل عنها وان كان يعلمها ، وإذا سأل عنها وأجيب صار هو المعلم.
    27- أن السبب إذا بني عليه الحكم صار الحكم للسبب ،ولهذا ذكر العلماء لهذه القاعدة مسائل كثيرة منها :
    لو شهد رجلان على الشخص بما يوجب قتله من ردة أو حرابة , ثم حكم القاضي بذلك وقتل هذا الشخص ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا قتله ، فان هؤلاء الشهود يقتلون، لان الحكم مبني على شهادتهم وهم السبب.
    ولكن إذا اجتمع متسبب ومباشر إلا إذا تعذرت إحالة الضمان عليه فيكون على المتسبب مثال ذلك :
    رجل حفر حفرة في الطريق فوقف عليها رجل فجاء رجل ثالث فدفع الرجل وسقط في الحفرة ومات، فالضمان على الدفع، لأنه هو المباشر.
    أن ما ذكر في هذا الحديث هو الدين ، لقوله :" يُعَلَّمُكُمْ دِيْنَكُمْ" ولكن ليس على سبيل الإجمال.
    فإن قال قائل :أليس النبي قال :" الدَّيْنُ النَّصِيْحَةُ" ثلاث مرات: " للهِ وَلِكتَابِهِ، وَلِرَسُوله ، ولأَئمَّةِ المُسْلِمِيْنَ , وَعَامَّتِهِمْ " ؟
    فالجواب:بلى، لكن هذه النصيحة لاتخرج عما في حديث جبريل،لأنها من الإسلام .





    الحديث الرابع

    الحديث الرابع
    عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُوْلُ اللهِ ] وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ : " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنفُخُ فِيْهِ الرٌّوْحَ،وَيَؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ. فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنََّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَايَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا "
    رواه البخاري ومسلم.



    الشرح
    قوله: ( حَدَّثَنَا ) حدث وأخبر في اللغة العربية بمعنى واحد، وهي كذلك عند قدماء المحدثين، لكن عند المتأخرين من صاروا يفرقون بين: (حدثنا) وأخبرنا)، وعلم ذلك مذكور في مصطلح الحديث.
    وقوله: ( وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْق ) الجملة هذه مؤكدة لقوله: رَسُولُ اللهِ لأن من اعترف بأنه رسول اعترف بأنه صادق مصدوق.
    وقوله: وَهُوَ الصَّادِقُ أي الصادق فيما أَخْبَر به المَصْدُوْقُ فيما أُخبِِر به،
    والنبي] وصفه كذلك تماماً، فهو صادق فيما أخبر به، ومصدوق فيما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.
    وإنما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه هذه الجملة،لأن التحدث عن هذا المقام من أمور الغيب التي تخفى، وليس في ذلك الوقت تقدم طبٍّ حتى يُعرف ما يحصل.
    وهناك ماهو فوق علم الطب وهو كتابة الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد، فلذلك من فقه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أتى بهذه الجملة المؤكدة لخبر النبي ] .
    قال: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ ) وذلك أن الإنسان إذا أتى أهله فهذا الماء المتفرق يُجمع،وكيفية الجمع لم يذكر في الحديث، وقيل: إن الطبّ توصّل إلى معرفة بعض الشيء عن تكون الأجنة والله أعلم.
    )أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَة ) أي قطرة من المني.
    )ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ) وهل ينتقل فجأة من النطفة إلى العلقة؟
    الجواب: لا، بل يتكون شيئاً فشيئاً،فيحمّارُ حتى يصل إلى الغاية في الحُمرةِ فيكون علقة.
    والعلقة هي: قطعة الدم الغليظ، وهي دودة معروفة ترى في المياه الراكدة.
    )ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِك) أي أربعين يوماً، والمضغة: هي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان.
    وهذه المضغة تتطور شيئاً فشيئاً،ولهذا قال الله تعالى: (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) .
    فالجميع يكون مائة وعشرين، أي أربعة أشهر.
    ) ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ) والمرسِل هو الله رب العالمين عزّ وجل، فيرسل الملك إلى هذا الجنين،وهو واحد الملائكة،والمراد به الجنس لا ملك معين.
    ) فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ ) الروح ما به يحيا الجسم، وكيفية النفخ الله أعلم بها، ولكنه ينفخ في هذا الجنين الروح ويتقبلها الجسم.
    والروح سئل النبي] عنها فأمره الله أن يقول: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فالروح من أمر الله أي من شأنه، فهو الذي يخلقها عزّ وجل: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وهذا فيه نوع من التوبيخ،كأنه قال:ما بقي عليكم من العلم إلاالروح حتى تسألوا عنها،
    )وَيُؤْمَرُ ) أي الملك ( بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ ) والآمر هو الله عزّ وجل بِكْتبِ (رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ) .
    ) رِزْقه) الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.
    والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.
    والرزق الذي يقوم به الدين:هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث.
    )وَأَجَله ) أي مدة بقائه في هذه الدنيا، والناس يختلفون في الأجل اختلافاً متبايناً، فمن الناس من يموت حين الولادة، ومنهم من يعمر إلى مائة سنة من هذه الأمة ، أما من قبلنا من الأمم فيعمرون إلى أكثر من هذا، فلبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
    واختيار طول الأجل أو قصر الأجل ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن ،إذ قد يحصل الموت بحادث والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عزّ وجل.
    وهذا الأجل لا يتقدم لحظة ولا يتأخر، فإذا تم الأجل انتهت الحياة ،
    وهنا مسألة: هل الأجل وراثي؟
    الجواب: الأجل ليس وراثياً، فكم من شاب مات من قبيلة أعمارهم طويلة، وكم من شاب عمَّر في قبيلة أعمارها قصيرة.
    )وَعَمَله ) أي ما يكتسبه من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، فمكتوب على الإنسان العمل .
    )وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ ) هذه النهاية، والسعيد هو الذي تم له الفرح والسرور، والشقي بالعكس، قال الله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) فالنهاية إما شقاء وإما سعادة ، فنسأله سبحانه أن يجعلنا من أهل السعادة.
    قال فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ ) هذه الجملة قيل إنها مدرجة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه وليست من كلام النبي ] .
    وإذا اختلف المحدثون في جملة من الحديث أمدرجة هي أم من أصل الحديث؟ فالأصل أنها من أصل الحديث، فلا يقبل الإدراج إلا بدليل لا يمكن أن يجمع به بين الأصل والإدراج
    وعلى هذا فالصواب أنها من كلام النبي ] .
    )فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ ) هذا قسم مؤكد بالتوحيد، القسم: ( فَوَاللهِ ) والتوكيد بالتوحيد: (الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ) أي لا إله حق غير الله، وإن كان توجد آلهة تعبد من دون الله لكنها ليست حقاً،كما قال الله عزّ وجل أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) وقال عزّ وجل: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل) .
    ) إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ) أي حتى يقرب أجله تماماً. وليس المعنى حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع في مرتبة العمل،لأن عمله الذي عمله ليس عملاً صالحاً،كما جاء في الحديث: ( إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ) لأنه أشكل على بعض الناس:كيف يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
    فنقول: عمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولم يتقدم ولم يسبق، ولكن حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أي بدنو أجله ، أي أنه قريب من الموت. ( فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ) فيدع العمل الأول الذي كان يعمله، وذلك لوجود دسيسة في قلبه ( والعياذ بالله) هوت به إلى هاوية.
    أقول هذا لئلاّ يظن بالله ظن السوء: فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبداً.
    فالله عزّ وجل أكرم من عبده، لكن لابد من بلاء في القلب.
    * من فوائد الحديث :
    .1حسن أسلوب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،وهو كلماته كأنما تخرج من مشكاة النبوة، كلمات عذبة مهذبة،
    .2أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد الخبر الذي يحتاج الناس إلى تأكيده بأي نوع من أنواع التأكيدات.
    .3تأكيد الخبر بما يدل على صدقه، لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ.
    .4أن الإنسان في بطن أمه يُجمع خلقه على هذا الوجه الذي ذكره النبي] .
    .5أنه يبقى نطفة لمدة أربعين يوماً.
    وقد يقول قائل: هذه النطفة هل يجوز إلقاؤها أولا يجوز؟
    والجواب: ذكر الفقهاء (رحمهم الله) أنه يجوز إلقاؤها بدواء مباح، قالوا: لأنه لم يتكون إنساناً،ولم يوجد فيه أصل الإنسان وهو الدم.
    وقال آخرون: لا يجوز،لأن الله تعالى قال: (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، وهذا أقرب إلى الصواب أنه حرام، لكنه ليس كتحريم ما بعده من بلوغه أربعة أشهر.
    فإذا قدر أن المرأة مرضت وخيف عليها، فهل يجوز إلقاء هذه النطفة؟
    الجواب: نعم يجوز، لأن إلقاءها الآن صار ضروريّاً.
    .6 حكمة الله عزّ وجل في أطوار الجنين من النطفة إلى العلقة.
    .7أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان، وجهه: أن أصل بني آدم بعد النطفة العلقة، والعلقة دم، ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.
    .8أن الطور الثالث هي المضغة، هذه المضغة تكون مخلقة وغير مخلقة بنص القرآن،كما قال الله تعالى: (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ )
    لكن ما الذي يترتب على كونها مخلقة أو غير مخلقة ؟
    الجواب: يترتب عليها مسائل:
    .1لو سقطت هذه المضغة غير مخلقة لم يكن الدم الذي يخرج نفاساً، بل دم فساد.
    .2ولو سقطت هذه المضغة قبل أن تخلق وكانت المرأة في عدة لم تنقض العدة، لأنه لابد في انقضاء العدة أن يكون الحمل مخلقاً، ولابد لثبوت النفاس من أن يكون الحمل مخلقاً، لأنه قبل التخليق يحتمل أن تكون قطعة لحم فقط وليست آدمياً، فلذلك لا نعدل إلى إثبات هذه الأحكام إلا بيقين بأن يتبين فيه خلق إنسان.
    .9أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر، لقوله: " ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ ".
    وينبني على هذا:
    أ- أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ويسمى ويعق عنه، لأنه صار آدمياً إنساناً فيثبت له حكم الكبير.
    ب. أنه بعد نفخ الروح فيه يحرم إسقاطه بكل حال، فإذا نفخت فيه الروح فلا يمكن إسقاطه،لأن إسقاطه حينئذ يكون سبباً لهلاكه، ولايجوز قتله وهو إنسان.
    فإن قال قائل: أرأيتم لو كان إبقاؤه سبباً لموت أمه، أفيلقى وتبقى حياة الأم، أو يبقى وتهلك الأم ثم يهلك الجنين؟
    فالجواب: نقول ربما أهل الاستحسان يقولون بالأول، ولكن لااستحسان في مقابلة الشرع.
    فنقول: الثاني هو المتعيّن بمعنىأنه لا يجوز إسقاطه،حتى لو قال الأطباء: إنه إن بقي هلكت الأم. وقد يحتج من يقول بإسقاط الجنين بأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين فيهلك نفسان، وإذا أخرجناه هلك الجنين لكن الأم تسلم.
    والجواب على هذا الرأي الفاسد أن نقول:
    أولاً: قتل النفس لإحياء نفس أخرى لا يجوز، ولذلك لو فرض أن رجلين كانا في سفر في أرض فلاة ولا زاد معهما، وكان أحدهما كبيراً والآخر عشر سنين أو تسع سنين فجاع الكبير جداً بحيث لو لم يأكل لهلك، فلا يجوز للكبير أبداً أن يذبح الصغير ليأكله ويعيش بإجماع المسلمين .
    ولو قدر أن الصبي مات من الجوع وبقي الكبير وهو إما أن يأكله فيبقى أو يتركه فيهلك، فهل يجوز له الأكل من جسد الصغير؟
    والجواب: مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- في المشهور عنه أنه لا يجوز أكله، لأن النبي قال: كَسْرُ عَظْمِ الميِّتِ كَكَسْرِهِ حَيَّاً ، وذبح الميت كذبحه حياً. والقول الثاني في هذه المسألة: أنه يجوز أن يأكل منه ما يسد رمقه،لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت.
    أولاً: فنقول: أننا لو أسقطنا الجنين فهلك فنحن الذين قتلناه، ولو أبقيناه فهلكت الأم ثم هلك هو،فالذي أهلكهما هو الله عزّ وجل أي ليس من فعلنا.
    ثانياً: لا يلزم من هلاك الأم أن يهلك الجنين لاسيما في وقتنا الحاضر، إذ من الممكن إجراء عملية سريعة لإخراج الجنين فيحيى، ولهذا بعض البيطريين في الغنم وشبهها يستطيع إذا ماتت الأم أن يخرج حملها قبل أن يموت .
    وأيضاً نقول: لو أنه مات هذا الجنين في بطن أمه من عند الله عزّ وجل لا يلزم أن تموت هي، فيُخرج لأنه ميت وتبقى الأم.
    الخلاصة: أنه إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إسقاطه بأي حال من الأحوال.
    ومن فوائد هذا الحديث:
    .10عناية الله تعالى بالخلق حيث وكل بهم وهم في بطون أمهاتهم ملائكة يعتنون بهم، ووكل بهم ملائكة إذا خرجوا إلى الدنيا، وملائكة إذا ماتوا، كل هذا دليل على عناية الله تعالى بنا.
    .11أن الروح في الجسد تنفخ نفخاً ولكن لا نعلم الكيفية، وهذا كقوله تعالى: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)
    لكن لا ندري كيف هذا؟ لأن هذا من أمور الغيب.
    .12أن الروح جسم، لأنه ينفخ فيحل في البدن.
    ولكن هل هذا الجسم من جنس أجسامنا الكثيفة المكونة من عظام ولحم وعصب وجلود؟
    الجواب: لا علم للبشر بها، بل نقول كما قال تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)
    وهي جسم لكن مخالف للأجسام الكثيفة التي هي أجسادنا، والله أعلم بكيفيتها. والروح عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البدن لكن ليس خروجاً تامّاً، فتجد نفسك تجوب الفيافي،ربما وصلت إلى الصين أو إلى أقصى المغرب وربما طرت بالطائرة وربما ركبت السيارة، وأنت في مكانك واللحاف قد غطّى جسمك، ومع ذلك تتجول في الأرض، لكنها لا تفارق الجسم في حال النوم مفارقة تامة، فالروح أمرها غريب،ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنة، وما لا نعلمه نَكِلُ علمهُ لله سبحانه وتعالى.
    فإذا كنت لا تدري عن نفسك التي بين جنبيك فكيف تحاول أن تعرف كيفية صفات الله عزّ وجل الذي هو أعظم وأجل من أن تحيط به.
    .13أن الملائكة عليهم السلام عبيد يؤمرون وينهون، لقوله: فَيُؤمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمرُ له هو الله عزّ وجل.
    .14أن هذه الأربع مكتوبة على الإنسان: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. ولكن هل معنى ذلك أن لا نفعل الأسباب التي يحصل بها الرزق؟
    الجواب: بلى نفعل، وما نفعله من أسباب تابع للرزق.
    .15أن الملائكة يكتبون.
    فلو قال لنا قائل: بأي حرف يكتبون، هل يكتبون باللغة العربية، أم باللغة السريانية، أو العبرية، أو ما أشبه ذلك؟
    فالجواب: السؤال عن هذا بدعة، علينا أن نؤمن بأنهم يكتبون، أما بأي لغة فلا نقول شيئاً.
    هذه الكتابة هل هي في صحيفة، أو تكتب على جبين الجنين؟
    الجواب: هناك آثار تدل على أنها تكتب على جبين الجنين، وآثار على أنها تكتب في صحيفة، والجمع بينهما سهل: إذ يمكن أن تكتب في صحيفة ويأخذها الملك إلى ما شاء الله، ويمكن أن تكتب على جبين الإنسان.
    .16أن الإنسان لا يدري ماذا كتب له، ولذلك أمر بالسعي لتحصيل ما ينفعه، وهذا أمر مسلّم،
    .17أن نهاية بني آدم أحد أمرين:
    إما الشقاء وإما السعادة، قال الله تعال: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)
    وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ )
    نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل السعادة إنه سميع قريب
    التعديل الأخير تم بواسطة كريمه بركات; الساعة 17-09-2014, 08:50 PM. سبب آخر: حذف روابط غير مفعله وتنسيق الموضوع

  • #2
    رد: التلخيص المعين في شرح الأربعين للشيخ العلامة ابن عثيمين

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    جزاكم الله خيرا

    تعليق


    • #3
      رد: التلخيص المعين في شرح الأربعين للشيخ العلامة ابن عثيمين

      وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته



      ينقل لقسم واحة علوم الحديث
      اللهم إن أبي وأمي و عمتي في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِم من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر لهما وارحمهما، فإنك أنت الغفور الرحيم.

      تعليق


      • #4
        رد: التلخيص المعين في شرح الأربعين للشيخ العلامة ابن عثيمين

        جزاكم الله خيرا

        بارك الله فيكم وجعله في موازين حسناتكم

        يا الله
        علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

        تعليق


        • #5
          رد: التلخيص المعين في شرح الأربعين للشيخ العلامة ابن عثيمين

          جزاكم الله خيرا

          تعليق

          يعمل...
          X