الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الحكيم العزيز الغفار، القهَّار الذي لا تخفى معرفته على مَن نظر في بدائع مملكته بعين الاعتبار، القدُّوس الصمد التعالي عن مشابه الأغيار، الغني عن جميع الموجودات فلا تحويه الجهات والأقطار، الكبير الذي تحيَّرت العقول في وصف كبريائه، فلا تُحيط به الأفكار، الواحد الأحد المنفرد بالخلق والاختيار، الحي العليم الذي تساوى في علمه الجهر والإسرار، السميع البصير الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه.
إن الصلاة على المختار إن ذُكرت في مجلس فاح منه الطيبُ إذ نفحا محمد أحمد المختار من مُضر أزكى الخلائق جمعًا أفصحُ الفصحا صلى عليه إلهُ العرش ثم على أهليه والصَّحب نعمَ السادةُ النصحا |
إخوة الإسلام، حديثنا في هذا اللقاء مع وصف غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومواطن غضب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صفة غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم:
كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - إذا غضِب احمرَّ وجهه، وكأنما تفقأ [1] في وجهه حب الرمان من الغضب، وكان أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين يعرفون غضبه من تلك العلامات.........
وعلى الرغم من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا من الأنبياء يتلقَّى الوحي من السماء، غير أن المشاعر الإنسانية المختلفة تنتابه كغيره من البشر، فتمرُّ به حالات من الفرح والسرور، والحزن والضيق، والرضا والسكينة، والغضب والغيظ.
وتبرز قيمة العنصر الأخلاقي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضع هذه الانفعالات المتباينة في إطارها الشرعي؛ حيث هذَّبها وصانها عن الإفراط والمغالاة، والتفريط والمجافاة، بل أضاف لها بُعدًا جديدًا حينما ربطها بقضيَّة الثواب والاحتساب، وكان شعاره - عليه الصلاة والسلام - في ذلك: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ)[2].
فالغضب وإن كانت حقيقته جمرة تشعل النيران في القلب، فتدفع صاحبها إلى قول ما يندم عليه، أو فعل ما لا تُحمَد عقباه، أو كان دافعه الانتصار للنفس أو العصبية والحميَّة للآخرين، فهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم - قولٌ بالحق، وغيرةٌ على محارم الله، لا اعتداء فيه ولا غلو، ودافعه دومًا إنكار لمنكر، أو عتابٌ على ترك الأفضل.
ويؤكد المعنى السابق ما ذكرته عائشة رضي الله عنها من حال النبي - صلى الله عليه وسلم -عنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ خَادِمًا قَطُّ، وَلاَ امْرَأَةً، وَلاَ شَيْئًا، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلاَ انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ، حَتَّى تُنْتَهَكَ مَحَارِمُ اللهِ فَيَكُونُ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الإِثْمِ[3].
مواقف غضب فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - حجرة عائشة رضي الله عنها، وقد وضعت ستارة عليها صور ونقوش، فتمعَّر وجه رسول الله من الغضب، وتلوَّن وجهه الشريف، ثم هتك ذلك الستر؛ عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت قرام[4] فيه صور، فتلوَّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، وقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور»[5].
«تحريم تصوير صورة الحيوان؛ قال النووي: هو حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر؛ لأنه متوعَّد عليه بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لِمَا يُمْتَهن أم لغيره، فصُنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.
قال في "الفتح": ويؤيد التعميم فيما له ظلٌّ، وفيما لا ظلَّ له: ما أخرجه أحمد من حديث علي - رضي الله عنه - أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وَثَنًا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها؟"؛ أي: طمسها، الحديث، وفيه: من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفَر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم»[6].
غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وجد الناس يتحدثون في القدر:
ها هو - صلى الله عليه وسلم - يخرج يومًا على أصحابه، فيجدهم يتكلمون في القدر، فيغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا؛ لأن الخوض في الحديث عن القدر بغير علم يَجر صاحبه إلى ما لا تُحمد عقباه؛ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: وكأنما تفقأ [7] في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: "ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم"، قال: "فما غبطت نفسي[8] بمجلس فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أشهده، بما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده"[9].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الخوض في ذلك - أي في القضاء والقدر - بغير علم تام، أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التنازع فيه.
إنه كان معك ملك يرد عنك:
ومن مواطن غضبه - صلى الله عليه وسلم - حينما انتصر أبو بكر لنفسه ورد على من يسبه، غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام من مجلسه؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ، قَالَ: "إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ"، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ، يُرِيدُ بِهَا صِلَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً" [10].
إن الصديق - رضي الله عنه - اتَّصف بكظم الغيظ، ولكنه رد ما ظنَّ أنه به يسكت هذا الرجل، فرغَّبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحلم والأناة، وأرشده الى ضرورة تحليه بالصبر في مواطن الغيظ، فإن الحلم وكظم الغيظ مما يزيد المرء ويحمله في أعين الناس، ويرفع قدره عند الله تعالى.
ويتبيَّن لنا كذلك من هذا الموقف حرص الصديق - رضي الله عنه - على عدم إغضاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسارعة إلى إرضائه، وفي الحديث ذم الغضب للنفس، والنهي عنه، والتحذير منه، واعتزال الأنبياء للمجالس التي يحضرها الشيطان، وبيان الفضل للمظلوم الصابر، المحتسب للأجر والثواب، وفيه حثٌّ على العطايا، وصلة الأرحام، وذم للمسألة وأهلها.
لا تفضلوا بين أنبياء الله:
ومن مواطن غضب الحبيب - صلى الله عليه وسلم - لَما خرج ذات يوم على أصحابه، فوجدهم يتحدثون عن الأنبياء، ثم إنهم أخذوا يفضلون رسولنا - صلى الله عليه وسلم - عليهم - ولا شك أنه أفضلهم - ولكن النبي غضب وأمرَهم بعدم تفضيله تواضعًا منه - صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَةً لَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا، كَرِهَهُ أَوْ لَمْ يَرْضَهُ - شَكَّ عَبْدُ الْعَزِيزِ - قَالَ: لَا، وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْبَشَرِ قَالَ: فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَلَطَمَ وَجْهَهُ، قَالَ: تَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْبَشَرِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ قَالَ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا، وَقَالَ: فُلَانٌ لَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ " قَالَ: قَالَ - يَا رَسُولَ اللَّهِ - وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْبَشَرِ وَأَنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: " لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، أَوْ فِي أَوَّلِ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ آخِذٌ بِالْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ، أَوْ بُعِثَ قَبْلِي، وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلَامُ"[11].
قال الطيبيّ - رَحِمَهُ اللهُ - نقلًا عن التوربشتي - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله: "لا تخيِّروني على موسى"؛ أي: لا تفضِّلوني عليه، وهذا قولٌ قاله على سبيل التواضع أولًا، ثم لِرَدْع أمته عن التخيير بين أنبياء الله من تلقاء أنفسهم ثانيًا، فإن ذلك يفضي بهم إلى العصبيَّة، فينتهز الشيطان عند ذلك فُرصة، فيدعوهم إلى الإفراط والتفريط، فيُطرون الفاضل فوق حقه، ويَبخسون المفضول حقه، فيقعون في مَهواة الغي، ولهذا قال: "لا تخيروا بين الأنبياء"؛ أي: لا تُقدِموا على ذلك بأهوائكم وآرائكم، بل بما آتاكم من الله من البيان، وعلى هذا النحو قول النبي - صلى الله عليه وسلم : "ولا أقول إن أحدًا خير من يونس بن متى"؛ أي: لا أقول من تلقاء نفسي، ولا أفضِّل أحدًا عليه من حيث النبوة والرسالة، فإن شأنهما لا يختلف باختلاف الأشخاص، بل أقول: كلُّ من أُكرم بالنبوة، فإنهم سواء فيما جاؤوا به عن الله تعالى، وإن اختلفت مراتبهم، وكذلك من أُكرم بالرسالة، وإليه وقعت الإشارة بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285]»[12].
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فلا ينبغي لبشر أن يعذِّب بعذاب الله:
إخوة الإسلام، من مواطن غضب النبي الهمام عليه الصلاة والسلام لَما مرَّ أصحابه على قرية نمل، فأحرقوها فغضب النبي حتى ظهر ذلك على ملامح وجهه الكريم؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -فمَرَرْنَا بِقَرْيَةِ نَمْلٍ قَدْ أُحْرِقَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ"[13].
إن منكم منفِّرين:
ويغضب - صلى الله عليه وسلم - عندما يصلي أُبي بن كعب بطوال السور حتى يبدوَ غضبُه على وجهه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «كَانَ أُبَيٌّ يُصَلِّي بِأَهْلِ قُبَاءَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةً طَوِيلَةً، وَدَخَلَ مَعَهُ غُلَامٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا سَمِعَهُ قَدِ اسْتَفْتَحَ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ انْفَتَلَ الْغُلَامُ مِنْ صَلَاتِهِ وَكَانَ يُرِيدُ أَنْ يُعَالِجَ نَاضِحًا يَسْقِي لَهُ فَلَمَّا انْفَتَلَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ لَهُ الْقَوْمُ: إِنَّ فُلَانًا انْفَتَلَ مِنَ الصَّلَاةِ فَغَضِبَ أُبَيٌّ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَشْكُو الْغُلَامَ، فَأَتَاهُ الْغُلَامُ يَشْكُو إِلَيْهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى رُئِيَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَأَوْجِزُوا فَإِنَّ خَلْفَكُمُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَالْمَرِيضَ وَذَا الْحَاجَةِ»"[14].
فلقد (جاءت هذه الشريعة السمحة باليسر والسهولة، ونفي العنت والحرج، ولهذا فإن الصلاة التي هي أجلُّ الطاعات، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإمام التخفيف فيها، لتتيسر وتسهُل على المأمومين، فيخرجوا منها وهم لها راغبون، ولأن في المأمومين من لا يطيق التطويل، إما لعجزه أو مرضه أو حاجته، فإن كان المصلي منفردًا فليطول ما شاء؛ لأنه لا يضر أحدًا بذلك.
ومن كراهته - صلى الله عليه وسلم - للتطويل الذي يضر الناس أو يعوقهم عن أعمالهم، أنه لما جاءه رجل وأخبره أنه يتأخر عن صلاة الصبح مع الجماعة، من أجل الإمام الذي يصلي بهم، فيطيل الصلاة، غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا، وقال: إن منكم من ينفر الناس عن طاعة الله، ويكره إليهم الصلاة ويثقلها عليهم، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن منهم العاجزين وذوي الحاجات)[15].
أتشفع في حد من حدود الله:
يغضب نبينا صلى الله عليه وسلم عندما جاءه أسامة رضي الله عنه يشفع للمرأة المخزومية؛ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أهمَّتهم الْمَرْأَةُ الْمَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلا أسامة، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فكلَّم رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: (أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ)، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنما ضل من كان قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سرقت لقطَع محمدٌ يدها)[16].
أيُّكم صاحب هذه النخامة:
من المواطن التي غضب فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَما وجد أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قد تنخم في القبلة، هنا غضِب حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ، فَاسْتَبْرَأَهَا بِعُودٍ مَعَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ، يَعْرِفُونَ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ صَاحِبُ هَذِهِ النُّخَامَةِ؟» فَسَكَتُوا، فَقَالَ: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا قَامَ يُصَلِّي أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ رَجُلٌ فَيَتَنَخَّعُ فِي وَجْهِهِ؟»، فَقَالُوا: لَا قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فِي صَلَاتِكُمْ، فَلَا تُوَجِّهُوا شَيْئًا مِنَ الْأَذَى بَيْنَ أَيْدِيكُمْ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِ أَحَدِكُمْ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ»[17].
اللهم استُرنا ولا تفضَحنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وكن لنا ولا تكُن علينا.
اللهم لا تدَع لأحدٍ منا في هذا المقام الكريم ذنبًا إلا غفَرته، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا دَينًا إلا قضيته، ولا همًّا إلا فرَّجته، ولا ميتًا إلا رحِمته، ولا عاصيًا إلا هديته، ولا طائعًا إلا سدَّدته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاحٌ إلا قضيتَها يا رب العالمين.
اللهم اجعَل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده تفرُّقًا معصومًا، ولا تجعل فينا ولا منَّا ولا معنا شقيًّا أو محرومًا.
اللهم اهدِنا واهدِ بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى.
اللهم إن أردتَ بالناس فتنةً، فاقبِضنا إليك غيرَ خزايا ولا مفتونين ولا مغيِّرين ولا مبدِّلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احْمِل المسلمين الحفاة، واكسُ المسلمين العراة، وأطعِم المسلمين الجياع.
اللهم لا تَحرِم مصرَ التوحيدَ والموحدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
[1] فقئ: فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، أي: شق وفقص.
[2] صحيح، قال ابن عبد البر: هو حديث مدني صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره، تجريد التمهيد ص 251 رقم 817، ورواه أحمد وقاسم بن أصبع والحاكم، والخرائطي في مكارم الأخلاق رقم 1، برجال الصحيح عن أبي هريرة، وكشف الخفاء 1: 244، وجامع الأصول رقم 1973.
[3] أخرجه عبد الرزاق (9/ 442)، وأحمد (6/ 281، رقم 26448)، وعبد بن حميد (ص 430، رقم 1481)، وابن عساكر.
[4] القرام: ستر فيه رَقْم ونقوش.
[5] أخرجه أحمد 4/ 4(16215)، و"عبد بن حميد" 519، و"البخاري" 3/ 145(2359 و2360)، و"مسلم" 7/ 90، (6183)، وأبو داود 3637، و"ابن ماجه" 15 و2480، والترمذي" 1363 و3027.
[6] «البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج» (35/ 107).
[7] فقئ: فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، أي: شق وفقص.
[8] أي: ما استحسنت فعل نفسي.
[9] أخرجه أحمد 2/ 178(6668)، و"البخاري" في "خلق أفعال العباد"30، و"ابن ماجه"85، (حسن صحيح)، المشكاة 98 و99 و237، وظلال الجنة 406، التعليق الرغيب 81 / 1 – 82.
[10] أخرجه أحمد (2/ 436، رقم 9622) قال الهيثمي (8/ 190): رجاله رجال الصحيح وجوَّد إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/ 271).
[11] رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373).
[12] «البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج» (38/ 168).
[13] أخرجه الطبراني بهذا الإسناد في الكبير 10/ 176 (10373)، ومن طريق أبي إسحق الشيباني أخرجه أبو داود 3/ 55 (2675)، وفيه زيادة؛ قال الهيثمي 4/ 44: رجاله رجال الصحيح.
[14] أخرجه: أبو يعلى (1795) (1798)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (3744).
[15]((تيسير العلام شرح عمدة الأحكام)) للبسام (ص 141).
[16] البخاري (2648)، ومسلم (1688)، وأبو داود (4373) و (4396)، والترمذي (1493)، والنسائي 8/ 72 – 75.
[17] المستدرك (1/ 257).
السيد مراد سلامة
شبكة الالوكة