وصايا الرسول في مرض موته عليه الصلاة والسلام:
منها ما يتعلق بالعقيدة؛ وهي الوصية بإحسان الظن بالله تعالى، وعدم اتخاذ قبره مسجدًا. ومنها ما هو في العبادات: وهي الوصية بالصلاة، والحفاظ عليها، وكذلك ما مَلَكَت يمين الإنسان؛ من العبيد والمال وغيرها، ومنها ما له صلة بالأخلاق وحسن المعاملة، ورده الجميل؛ كوصيته بالأنصار رضي الله عنهم؛ اعترافًا بجميلهم، ووفاء لهم على إجابتهم لدعوته، ونصرتهم لدينه، والوصية بالنساء خيرًا، وتلطُّفه بفاطمة، وعدله بين نسائه، واستئذانه للبقاء عند عائشة، وكذلك إكرام وإجازة الوفود والضيوف.
وكذلك الجانب السياسي؛ كإخراج اليهود، وإنفاذ جيش أسامة لقتال الروم وحماية الدولة الإسلامية، على رغم صغر سنِّ أسامة، فإنه جعله الأمير على كبار الصحابة.
رحمة الرسول لأُمَّتِهِ:
وصف الله تبارك وتعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوصاف التي تدل على رحمته بأُمَّته، وحرصه عليها؛ ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]؛ قال ابن كثير: "وقوله: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [التوبة: 128]؛ أي: يعِزُّ عليه الشيء الذي يُعنت أمته ويشُقُّ عليها، ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [التوبة: 128]؛ أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأُخروي إليكم".
والناظر والمتأمل في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّته - في حياته عامة وقبل وفاته خاصة - يرى فيها حرصه الشديد عليها، ورحمته وشفقته بها، وقد حملت الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، وقبل وفاته، الكثيرَ من هذه الوصايا؛ ومنها:
في العقيدة: إحسان الظن بالله:
قبيل موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام أكَّد إحسان الظن بالله، وأوصى به؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاثٍ: ((لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحسِن الظن بالله عز وجل))؛ [رواه مسلم]؛ ولذلك يُستَحَبُّ لمن حضر أحدًا في مرضه قبيل موته أن يُكثِر له من آيات وأحاديث الرجاء في الله وسَعَةِ رحمته؛ قال ابن حجر: "وأما عند الإشراف على الموت - الاقتراب من الموت - فاستحب قومٌ الاقتصار على الرجاء؛ لِما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذَّر، فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله))".
لو سلِم أحدٌ من الموت لسَلِم منه خير البشر وأفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه؛ فقد عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع وشدة المرض، وآلام سكرات الموت، كما عانى من قبل إخوانه من الأنبياء؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، وقال: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 34، 35].
وفي العقيدة أيضًا التحذير من جَعْلِ القبور مساجدَ:
عن عائشة وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما قالا: ((لما نزل - مرض الموت - برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفِق – جعل - يطرح خَمِيصةً – ثوبًا - له على وجهه، فإذا اغتمَّ - احتبس نفسه - كشفها عن وجهه، وهو كذلك يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدَ، يحذِّر مثلما صنعوا))؛ [رواه البخاري]، وعن جندب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((ألَا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجدَ، ألَا فلا تتخذوا القبور مساجدَ، إني أنهاكم عن ذلك))؛ [رواه مسلم]، وعن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فذكرت أم سلمة وأم حبيبة كنيسةً رأينها بالحبشة فيها تصاويرُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بَنَوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرارُ الخَلْقِ عند الله يوم القيامة))؛ [رواه البخاري].
قال ابن حجر: "وكأنه صلى الله عليه وسلم علِم أنه مرتحلٌ من ذلك المرض، فخاف أن يعظَّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمِّ من يفعل فعلهم"، وقال ابن رجب: "هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى"، وقال القرطبي: "وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام".
شدة المرض على الرسول صلى الله عليه وسلم:
وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: ((ما رأيت رجلًا أشدَّ عليه الوجع – المرض - من رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه مسلم]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُوعَكُ، فمَسِسْتُه بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لَتُوعكُ وعكًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجَل، إني أُوعكُ كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمٍ يُصيبه أذًى من مرض فما سواه، إلا حطَّ الله به سيئاته، كما تحطُّ الشجرة ورقَها))؛ [رواه البخاري].
ومن الوصايا في العبادات: الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت اليمين:
الصلاة هي الصلة التي تصِل العبد بربه، وهي الوشيجة التي تربطه بخالقه، إذا حافظ عليها المسلم، زَكَتْ نفسه، ونقِيَت سريرته، وأشرقت علانيته، وزاد بهاؤه ونور وجهه، وأحبه الله سبحانه، وأحبه الناس؛ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((كان من آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم، فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه))؛ [رواه ابن ماجه]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يُغَرْغِر بنفسه: الصلاة وما ملكت أيمانكم))؛ [رواه ابن ماجه].
قال السندي: "(الصلاة): أي: الزموها واهتموا بشأنها ولا تغفُلوا عنها، (ما ملكت أيمانكم): من الأموال؛ أي: أدُّوا زكاتها ولا تسامحوا فيها، ويحتمل أن يكون وصية بالعبيد والإماء؛ أي: أدوا حقوقهم وحسن ملكتهم، (حتى ما يفيض بها لسانه): أي: ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه".
وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: ((كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ الصلاة، وما ملكت أيمانكم))؛ [رواه أبو داود]؛ قال السندي: "قوله: (آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في الأحكام، وإلا فقد جاء أن آخر كلامه على الإطلاق: الرفيق الأعلى... (الصلاة): أي: الزموها واهتموا بشأنها ولا تغفلوا عنها، (وما ملكت أيمانكم): من الأموال؛ أي: أدوا زكاتها... ويحتمل أن يكون وصية بالعبيد والإماء؛ أي: أدوا حقوقهم وحسن ملكتهم... قوله: (حتى ما يفيض بها لسانه)؛ أي ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه"، وقال ابن الأثير: "(كان آخر كلامه: الصلاة وما ملكت أيمانكم)؛ يريد الإحسان إلى الرقيق، والتخفيف عنهم، وقيل: أراد حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي".
قال عليه الصلاة والسلام: ((أول ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)).
ومن الوصايا: حسن التعامل ورد الجميل: وصيته بالأنصار:
الأنصار في اللغة: جمع نصير وناصر، وهم الأتباع والمدافعون؛ وفي القرآن الكريم: ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270].
والمقصود بالأنصار هنا: أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نصروه حين هاجر من مكة إليهم في المدينة، وهم خلاف المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم؛ في نحو قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((مرَّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يُبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية بُرْدٍ، قال: فصعِد المنبر، ولم يصعَدْهُ بعد ذلك اليوم، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشي وعَيْبَتي - بطانتي وخاصتي - وقد قَضَوا الذي عليهم، وبقِيَ الذي لهم، فاقبلوا من مُحسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم))؛ [رواه البخاري].
ومن حسن التعامل: إكرام الوفود:
قال الإمام النووي (المتوفى: 676هـ) ما مختصره: أن القصد من إجازة الوفود، وضيافتهم وإكرامهم، هو تطييب نفوسهم، وإعانتهم على سفرهم، وترغيب غيرهم من المؤلَّفة قلوبهم، ونحوهم، سواء كان الوفد مسلمين أو كفارًا؛ لأن الكافر إنما يفِدُ غالبًا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم.
وفي حسن التعامل أيضًا: الوصية بالنساء خيرًا:
وهو في حجة الوداع، وأن يتقوا الله تعالى فيهن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واسْتَحْلَلْتُم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألَّا يُوطِئن فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
فلا يكرمهن إلا كريم، ولا يُهينهن إلا لئيم.
وفي الجانب السياسي: إخراج اليهود من جزيرة العرب، وكذلك كان قد جهز جيش أسامة لتأديب الروم، وأمَّره على كبار الصحابة:
أمرَ الرسول بإخراج يهود الحجاز ونجران من جزيرة العرب، ذكر بعض الصحابة الكرام أن آخر ما تكلم به النبي عليه الصلاة والسلام هو إخراج يهود الحجاز ونجران من جزيرة العرب؛ وورد ذلك في حديث: ((إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب)).
قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام أوصى صحابته بثلاث؛ فقال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أُجيزهم؛ قال ابن عباس راوي الحديث: وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها)).
اليوم الأخير في حياة الرسول:
روى أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسَّم يضحك، فنَكَصَ أبو بكر على عقِبَيه، ليصِلَ الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن أتِمُّوا صلاتكم، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر))؛ [رواه البخاري]، ثم لم يأتِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
حديثه لفاطمة رضي الله عنها والتلطف بها:
((ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمةَ رضي الله عنها، فسارَّها بشيء فبَكَت، ثم دعاها، فسارَّها بشيء فضحكت، قالت عائشة رضي الله عنها: فسألنا عن ذلك - أي فيما بعد - فقالت: سارَّني النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يُقبَض في وجعه الذي تُوفِّيَ فيه، فبكيت، ثم سارَّني فأخبرني أني أول أهله يَتْبَعُه فضحِكت))؛ [رواه البخاري].
وبشَّر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمةَ رضي الله عنها بأنها سيدة نساء العالمين، وتدل بعض الروايات الأخرى أن هذا الحوار لم يكن في آخر يوم، بل في آخر أسبوع من حياته صلى الله عليه وسلم.
ودعا الحسن والحسين فقبَّلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكَّرهن.
ورأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشَّاه؛ فقالت: ((وا كربَ أبتاه، فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم))؛ [رواه البخاري].
وطفِق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السم))؛ [رواه البخاري].
فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكراتٍ، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قُبِض، فمالت يده صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه البخاري].
وكان صلى الله عليه وسلم وهو في سكرات الموت ولحظات احتضاره يدعو قائلًا: ((اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى))؛ [رواه أحمد].
وقع هذا يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، السنة الحادية عشرة من الهجرة، وقد تم له ثلاث وستون سنة، وزادت أربعة أيام على الأصح والأشهر، فقد جمع الإمام النووي بين الأقوال المختلفة في عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تُوفِّيَ صلى الله عليه وسلم وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، وقيل: ستون سنة، والأول أصح وأشهر، وقد جاءت الأقوال الثلاثة في الصحيح، قال العلماء: الجمع بين الروايات أن من روى ستين لم يعد معها الكسور، ومن روى خمسًا وستين عدَّ سنتي المولد والوفاة، ومن روى ثلاثًا وستين لم يعدهما، والصحيح ثلاث وستون".
وقال ابن حجر: "وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعًا... ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه".
وهذا اليوم لم يُرَ في تاريخ الإسلام أظلم منه؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضْوَأَ من يومٍ دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يومٍ مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الشاعر:
تغسيل الرسول، وقول عليٍّ: ما أطيبك يا رسول الله حيًّا وميتًا:
غُسِّل بملابسه، وصُلِّي عليه في مكانه، ودُفِنَ في بيته، ولُحِدَ.
يا رسول الله:
أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، حتى أتاك اليقين، تركتنا على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فجزاك الله خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمته.
د. عبدالسلام حمود غالب
شبكةالالوكة
منها ما يتعلق بالعقيدة؛ وهي الوصية بإحسان الظن بالله تعالى، وعدم اتخاذ قبره مسجدًا. ومنها ما هو في العبادات: وهي الوصية بالصلاة، والحفاظ عليها، وكذلك ما مَلَكَت يمين الإنسان؛ من العبيد والمال وغيرها، ومنها ما له صلة بالأخلاق وحسن المعاملة، ورده الجميل؛ كوصيته بالأنصار رضي الله عنهم؛ اعترافًا بجميلهم، ووفاء لهم على إجابتهم لدعوته، ونصرتهم لدينه، والوصية بالنساء خيرًا، وتلطُّفه بفاطمة، وعدله بين نسائه، واستئذانه للبقاء عند عائشة، وكذلك إكرام وإجازة الوفود والضيوف.
وكذلك الجانب السياسي؛ كإخراج اليهود، وإنفاذ جيش أسامة لقتال الروم وحماية الدولة الإسلامية، على رغم صغر سنِّ أسامة، فإنه جعله الأمير على كبار الصحابة.
رحمة الرسول لأُمَّتِهِ:
وصف الله تبارك وتعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم بأعظم الأوصاف التي تدل على رحمته بأُمَّته، وحرصه عليها؛ ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]؛ قال ابن كثير: "وقوله: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [التوبة: 128]؛ أي: يعِزُّ عليه الشيء الذي يُعنت أمته ويشُقُّ عليها، ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [التوبة: 128]؛ أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأُخروي إليكم".
والناظر والمتأمل في وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّته - في حياته عامة وقبل وفاته خاصة - يرى فيها حرصه الشديد عليها، ورحمته وشفقته بها، وقد حملت الأيام الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم، وقبل وفاته، الكثيرَ من هذه الوصايا؛ ومنها:
في العقيدة: إحسان الظن بالله:
قبيل موت النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام أكَّد إحسان الظن بالله، وأوصى به؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاثٍ: ((لا يَمُوتَنَّ أحدكم إلا وهو يُحسِن الظن بالله عز وجل))؛ [رواه مسلم]؛ ولذلك يُستَحَبُّ لمن حضر أحدًا في مرضه قبيل موته أن يُكثِر له من آيات وأحاديث الرجاء في الله وسَعَةِ رحمته؛ قال ابن حجر: "وأما عند الإشراف على الموت - الاقتراب من الموت - فاستحب قومٌ الاقتصار على الرجاء؛ لِما يتضمن من الافتقار إلى الله تعالى، ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذَّر، فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته، ويؤيده حديث: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله))".
لو سلِم أحدٌ من الموت لسَلِم منه خير البشر وأفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه؛ فقد عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع وشدة المرض، وآلام سكرات الموت، كما عانى من قبل إخوانه من الأنبياء؛ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، وقال: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 34، 35].
وفي العقيدة أيضًا التحذير من جَعْلِ القبور مساجدَ:
عن عائشة وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما قالا: ((لما نزل - مرض الموت - برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفِق – جعل - يطرح خَمِيصةً – ثوبًا - له على وجهه، فإذا اغتمَّ - احتبس نفسه - كشفها عن وجهه، وهو كذلك يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدَ، يحذِّر مثلما صنعوا))؛ [رواه البخاري]، وعن جندب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول: ((ألَا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجدَ، ألَا فلا تتخذوا القبور مساجدَ، إني أنهاكم عن ذلك))؛ [رواه مسلم]، وعن عائشة رضي الله عنها أنهم تذاكروا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، فذكرت أم سلمة وأم حبيبة كنيسةً رأينها بالحبشة فيها تصاويرُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بَنَوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرارُ الخَلْقِ عند الله يوم القيامة))؛ [رواه البخاري].
قال ابن حجر: "وكأنه صلى الله عليه وسلم علِم أنه مرتحلٌ من ذلك المرض، فخاف أن يعظَّم قبره كما فعل من مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمِّ من يفعل فعلهم"، وقال ابن رجب: "هذا الحديث يدل على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى"، وقال القرطبي: "وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام".
شدة المرض على الرسول صلى الله عليه وسلم:
وتصف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مَرَضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: ((ما رأيت رجلًا أشدَّ عليه الوجع – المرض - من رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه مسلم]، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُوعَكُ، فمَسِسْتُه بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لَتُوعكُ وعكًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجَل، إني أُوعكُ كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمٍ يُصيبه أذًى من مرض فما سواه، إلا حطَّ الله به سيئاته، كما تحطُّ الشجرة ورقَها))؛ [رواه البخاري].
ومن الوصايا في العبادات: الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت اليمين:
الصلاة هي الصلة التي تصِل العبد بربه، وهي الوشيجة التي تربطه بخالقه، إذا حافظ عليها المسلم، زَكَتْ نفسه، ونقِيَت سريرته، وأشرقت علانيته، وزاد بهاؤه ونور وجهه، وأحبه الله سبحانه، وأحبه الناس؛ عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: ((كان من آخر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم، فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه))؛ [رواه ابن ماجه]، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يُغَرْغِر بنفسه: الصلاة وما ملكت أيمانكم))؛ [رواه ابن ماجه].
قال السندي: "(الصلاة): أي: الزموها واهتموا بشأنها ولا تغفُلوا عنها، (ما ملكت أيمانكم): من الأموال؛ أي: أدُّوا زكاتها ولا تسامحوا فيها، ويحتمل أن يكون وصية بالعبيد والإماء؛ أي: أدوا حقوقهم وحسن ملكتهم، (حتى ما يفيض بها لسانه): أي: ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه".
وعن عليٍّ رضي الله عنه قال: ((كان آخر كلام النبي صلى الله عليه وسلم: الصلاةَ الصلاة، وما ملكت أيمانكم))؛ [رواه أبو داود]؛ قال السندي: "قوله: (آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في الأحكام، وإلا فقد جاء أن آخر كلامه على الإطلاق: الرفيق الأعلى... (الصلاة): أي: الزموها واهتموا بشأنها ولا تغفلوا عنها، (وما ملكت أيمانكم): من الأموال؛ أي: أدوا زكاتها... ويحتمل أن يكون وصية بالعبيد والإماء؛ أي: أدوا حقوقهم وحسن ملكتهم... قوله: (حتى ما يفيض بها لسانه)؛ أي ما يجري ولا يسيل بهذه الكلمة لسانه"، وقال ابن الأثير: "(كان آخر كلامه: الصلاة وما ملكت أيمانكم)؛ يريد الإحسان إلى الرقيق، والتخفيف عنهم، وقيل: أراد حقوق الزكاة وإخراجها من الأموال التي تملكها الأيدي".
قال عليه الصلاة والسلام: ((أول ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)).
ومن الوصايا: حسن التعامل ورد الجميل: وصيته بالأنصار:
الأنصار في اللغة: جمع نصير وناصر، وهم الأتباع والمدافعون؛ وفي القرآن الكريم: ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [البقرة: 270].
والمقصود بالأنصار هنا: أهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين نصروه حين هاجر من مكة إليهم في المدينة، وهم خلاف المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، وقد ورد ذكرهم في القرآن الكريم؛ في نحو قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ﴾ [التوبة: 117].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((مرَّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يُبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية بُرْدٍ، قال: فصعِد المنبر، ولم يصعَدْهُ بعد ذلك اليوم، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: أوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشي وعَيْبَتي - بطانتي وخاصتي - وقد قَضَوا الذي عليهم، وبقِيَ الذي لهم، فاقبلوا من مُحسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم))؛ [رواه البخاري].
ومن حسن التعامل: إكرام الوفود:
قال الإمام النووي (المتوفى: 676هـ) ما مختصره: أن القصد من إجازة الوفود، وضيافتهم وإكرامهم، هو تطييب نفوسهم، وإعانتهم على سفرهم، وترغيب غيرهم من المؤلَّفة قلوبهم، ونحوهم، سواء كان الوفد مسلمين أو كفارًا؛ لأن الكافر إنما يفِدُ غالبًا فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم.
وفي حسن التعامل أيضًا: الوصية بالنساء خيرًا:
وهو في حجة الوداع، وأن يتقوا الله تعالى فيهن؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واسْتَحْلَلْتُم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألَّا يُوطِئن فُرُشَكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مُبرِّح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)).
فلا يكرمهن إلا كريم، ولا يُهينهن إلا لئيم.
وفي الجانب السياسي: إخراج اليهود من جزيرة العرب، وكذلك كان قد جهز جيش أسامة لتأديب الروم، وأمَّره على كبار الصحابة:
أمرَ الرسول بإخراج يهود الحجاز ونجران من جزيرة العرب، ذكر بعض الصحابة الكرام أن آخر ما تكلم به النبي عليه الصلاة والسلام هو إخراج يهود الحجاز ونجران من جزيرة العرب؛ وورد ذلك في حديث: ((إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخرجوا يهود أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب)).
قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام أوصى صحابته بثلاث؛ فقال: ((أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أُجيزهم؛ قال ابن عباس راوي الحديث: وسكت عن الثالثة أو قال: فنسيتها)).
اليوم الأخير في حياة الرسول:
روى أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم، لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسَّم يضحك، فنَكَصَ أبو بكر على عقِبَيه، ليصِلَ الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فقال أنس: وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن أتِمُّوا صلاتكم، ثم دخل الحجرة، وأرخى الستر))؛ [رواه البخاري]، ثم لم يأتِ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
حديثه لفاطمة رضي الله عنها والتلطف بها:
((ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمةَ رضي الله عنها، فسارَّها بشيء فبَكَت، ثم دعاها، فسارَّها بشيء فضحكت، قالت عائشة رضي الله عنها: فسألنا عن ذلك - أي فيما بعد - فقالت: سارَّني النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يُقبَض في وجعه الذي تُوفِّيَ فيه، فبكيت، ثم سارَّني فأخبرني أني أول أهله يَتْبَعُه فضحِكت))؛ [رواه البخاري].
وبشَّر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمةَ رضي الله عنها بأنها سيدة نساء العالمين، وتدل بعض الروايات الأخرى أن هذا الحوار لم يكن في آخر يوم، بل في آخر أسبوع من حياته صلى الله عليه وسلم.
ودعا الحسن والحسين فقبَّلهما، وأوصى بهما خيرًا، ودعا أزواجه فوعظهن وذكَّرهن.
ورأت فاطمة رضي الله عنها ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشَّاه؛ فقالت: ((وا كربَ أبتاه، فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم))؛ [رواه البخاري].
المجد يشرق من ثلاث مطالع في مهد فاطمة فما أعلاها هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ من ذا يداني في الفخار أباها هي ومضة من نور عين المصطفى هادي الشعوب إذا تروم هداها هو رحمة للعالمين وكعبة الآ مال في الدنيا وفي أُخراها |
وطفِق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: ((يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أَبْهَرِي من ذلك السم))؛ [رواه البخاري].
فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه، يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكراتٍ، ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، حتى قُبِض، فمالت يده صلى الله عليه وسلم))؛ [رواه البخاري].
وكان صلى الله عليه وسلم وهو في سكرات الموت ولحظات احتضاره يدعو قائلًا: ((اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى))؛ [رواه أحمد].
وقع هذا يوم الاثنين، الثاني عشر من ربيع الأول، السنة الحادية عشرة من الهجرة، وقد تم له ثلاث وستون سنة، وزادت أربعة أيام على الأصح والأشهر، فقد جمع الإمام النووي بين الأقوال المختلفة في عمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تُوفِّيَ صلى الله عليه وسلم وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، وقيل: ستون سنة، والأول أصح وأشهر، وقد جاءت الأقوال الثلاثة في الصحيح، قال العلماء: الجمع بين الروايات أن من روى ستين لم يعد معها الكسور، ومن روى خمسًا وستين عدَّ سنتي المولد والوفاة، ومن روى ثلاثًا وستين لم يعدهما، والصحيح ثلاث وستون".
وقال ابن حجر: "وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، وكاد يكون إجماعًا... ثم عند ابن إسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه".
وهذا اليوم لم يُرَ في تاريخ الإسلام أظلم منه؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضْوَأَ من يومٍ دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يومٍ مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال الشاعر:
يا خيرَ من دُفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاعُ والأَكَمُ نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرمُ أنت الشفيع الذي تُرجى شفاعته على الصراط إذا ما زلَّتِ القدم وصاحباك فلا أنسهما أبدًا مني السلام عليكم ما جرى القلمُ |
تغسيل الرسول، وقول عليٍّ: ما أطيبك يا رسول الله حيًّا وميتًا:
غُسِّل بملابسه، وصُلِّي عليه في مكانه، ودُفِنَ في بيته، ولُحِدَ.
يا رسول الله:
أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده، حتى أتاك اليقين، تركتنا على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فجزاك الله خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمته.
د. عبدالسلام حمود غالب
شبكةالالوكة