يطالب بالنسخ الأصلية لصحيحي البخاري ومسلم
السؤال:
هناك من الشيعة من يشككون في صحة صحيحي البخاري ومسلم . حجتهم الأولى : أنه لا توجد النسخ الأصلية لهذين الكتابين بخطيهما رحمهما الله . الثانية : أن بعض شراح البخاري شرحوا بعض الأحاديث التي ليست في البخاري . أرجو أن يكون الجواب وافيا .
الجواب :
الحمد لله
من أهم ما ينبغي على المسلم المثقف ، أو المطالع لتراثه : أن يدرك أن إيراد الشبهات أمر سهل وميسور لكل أحد ، وعلى كل شيء ، حتى على المسلَّمات والبدهيات التي ينطلق الناس منها في أسس تفكيرهم العقلية ، حتى إن بعض المسترسلين مع الشبهات تاهوا في نهاية المطاف إلى إنكار وجودهم ، والشك في كل شيء حولهم ، الأمر الذي أدى بهم إلى المصحات النفسية لخروجهم عن السوية البشرية الطبيعية .
وهكذا نحن نتعامل مع كثير مما يسمى بـ" الشبهات "، وهي في حقيقتها أوهام يتحدث بها بعض من ابتلينا بهم في هذا الزمان ، الأمر الذي يضطرنا دائما إلى النزول لتأسيس مبادئ التفكير السليمة في شتى العلوم والثقافات .
وما ورد في السؤال هنا أحد الأمثلة على ذلك ، فإذا أراد السائل بقوله النسخ الخطية ( الأصلية ) أي التي كتبها المصنف بيده ، ففي أي عقل أو منطق يمكن أن يقال : إنه لا بد من توافر هذه النسخ ، كي نعترف بصحة نسبة كتاب معين إلى مؤلفه ! وكم في العالم من كتاب ، منذ أن عرف الناس الكتابة : يتحقق فيه ذلك التنطع ؟!
ولكي تعلم الشطط الذي ينحو إليه هذا القائل فما عليك سوى أن تتصور أحدهم يدخل مكتبة مرموقة ، أو دارا للنشر معروفة من المكتبات العالمية اليوم ، ويقول لقيِّم المكتبة : إنني لا أعترف بنسبة أي كتاب لديك في هذه الخزائن الضخمة
إلا أن تأتيني بنسخة أصلية كتبها المؤلف بخط يده ، كي يطمئن قلبي إلى صحة نسبة هذه الكتب لمؤلفيها ! متجاوزا بذلك كل الأعراف و" المسالك " العلمية التي تضمن في عصرنا الراهن سلامة الكتب وعدم انتحالها ، كالتسجيل في المكتبات الوطنية ، والحصول على إذن الفسح ، والشهرة بين النقاد ، وتواتر الأخبار ، ونحو ذلك من وسائل العلم والإثبات في هذا المجال .
نحن ندرك يقينا أن بعض المختصين في طرح الشبهات يعلم في داخلة نفسه مقدار السخف والسذاجة لما يطرحه ويقوله ، ولكنه في الوقت نفسه يصر على طرحه لعلمه أن مجرد إيراد كلمة " الشبهة " على أي شيء في هذا الوجود ، لا بد وأن يجد محلا في قلوب بعض الناس وعقولهم ،
ويكفيه حينئذ ما يحققه من نتائج ولو كانت يسيرة ، المهم أن يخلط الأوراق ، ويشوش على أساليب التفكير السليم .
وإلا فكتاب " صحيح البخاري " سمعه تسعون ألف رجل " من الإمام البخاري نفسه رحمه الله ، كما أخبر بذلك أحد أشهر تلاميذه ، وهو محمد بن يوسف الفربري (المتوفى سنة 320هـ). ينظر " تاريخ بغداد " (2/9) ، " تاريخ الإسلام " (7/375) ، وقد اشتهرت رواية الفربري لصحيح البخاري لطول عمره ، وإتقان نسخته ، فقد سمعها من البخاري رحمه الله في ثلاث سنين ،
ثم أخذها عنه جماعة من الرواة الثقات ، وعنهم اشتهر أيضا هذا الكتاب .
يقول المستملي (ت376هـ) – أحد الرواة عن محمد بن يوسف الفربري - : " انتسخت كتاب البخاري من أصله كما عند ابن يوسف ، فرأيته لم يتم بعد ، وقد بقيت عليه مواضع مبيضة كثيرة ، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئا ، ومنها أحاديث لم يترجم عليها ، فأضفنا بعض ذلك إلى بعض " انتهى. رواه الباجي في " التعديل والتجريح " (1/310) .
وقد روى الصحيحَ عن الفربري جماعةٌ من الرواة الثقات ، من أشهرهم :
المستملي (ت376هـ) واسمه : إبراهيم بن أحمد .
الحموي خطيب سرخس (ت381هـ)، واسمه عبد الله بن أحمد .
أبو الهيثم الكشميهني (ت389هـ)، واسمه محمد بن مكي .
أبو علي الشبوي ، واسمه محمد بن عمر .
ابن السكن البزاز (ت353هـ)، واسمه سعيد بن عثمان .
أبو زيد المروزي (ت371هـ)، واسمه محمد بن أحمد .
أبو أحمد الجرجاني (ت373هـ)، واسمه محمد بن محمد .
ومن تلاميذ البخاري الثقات الذين سمعوا صحيحه منه مباشرة ، ونقلوه للناس مسندا مدونا الإمام الحافظ الفقيه ، القاضي ، أبو إسحاق ، إبراهيم بن مَعْقِل بن الحجاج ، النسفي، (ت295هـ). وقد روى نسخة النسفي الإمام الخطابي رحمه الله ، كما قال في شرحه " أعلام الحديث " (1/105): " سمعنا معظم هذا الكتاب من رواية إبراهيم بن معقل النسفي ، حدثناه خَلفُ بن محمد الخيام ، قال : حدثنا إبراهيم بن معقل ، عنه "
وهذه هي الطريقة الأشهر والأمثل لدى المحدثين ، أنهم يقرؤون مصنفاتهم على تلاميذهم ، أو يقرأ عليهم تلاميذهم مصنفاتهم ، ثم تنتشر تلك المصنفات عبر التلاميذ والرواة ، وليس عبر أصل كتاب المؤلف الذي هو نسخة واحدة يحتفظ بها لنفسه ، مع عدم وجود المطابع ودور النشر في تلك الأيام ، فقد كانت المطابع هي رواية التلاميذ مسندة موثقة .
فماذا يريد الباحث ثقة أكثر من نقل الرواة الثقات ، عن نسخ خطية قرئت على المصنف وأقرها ، كما قالوا في " نسخة الصَّغانّي : أنه نقلها من النسخة التي قُرئت على المصنف رحمه الله تعالى " ينظر "فيض الباري" للكشميري.
وإذا سألت عن قدم النسخ الخطية الموجودة اليوم فقد نشر المستشرق " منجانا " في كمبردج عام 1936م ، أقدم نسخة خطية وقف عليها حتى الآن ، وقد كتبت عام 370هـ ، برواية المروزي عن الفربري . ينظر " تاريخ التراث " فؤاد سزكين " (1/228) .
ومن أشهر مخطوطات الكتاب التي وصلتنا في عصرنا الحديث نسخة الحافظ أبي علي الصدفي (ت 514هـ) التي كتبها من نسخة بخط محمد بن علي بن محمود ، مقروءة على أبي ذر رحمه الله ، وعليها خطه .
وقد كانت عند العلامة الطاهر بن عاشور استعارها من مكتبة طبرق في ليبيا .
وكذلك نسخة الإمام الحافظ شرف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد اليونيني المعروف بالبعليّ ، الحنبلي (ت701هـ)، وقد قابلها بأصل مسموع على الحافظ أبي ذرِّ الهروي ، وبأصل مسموع على الأصيلي ، وبأصل الحافظ ابن عساكر ، وبأصل مسموع عن أبي الوقت ، وذلك بحضرة الإمام اللغوي النحوي ابن مالك صاحب الألفية (ت672هـ) .
وهكذا لو رحنا نعدد نسخ الصحيح المنتشرة في مكتبات المخطوطات في العالم ، وقربها من عصر تأليف الصحيح ، وكثرة رواتها وثقتهم ومقابلتهم نسخهم على النسخ الكبيرة المعتمدة لطال المقام جدا ، ويكفيك أن تذهب إلى إحدى المكتبات التي تشتمل على المخطوطات ، وتسأل عن صحيح البخاري لتقف على المئات منها ، بأسانيدها الصحيحة إلى الإمام البخاري نفسه .
وقد أحال " الفهرس الشامل " على (2327) موضعاً في مكتبات العالم المختلفة توجد به مخطوطات هذا الكتاب . انظر: " الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، الحديث النبوي وعلومه " (1/493 – 565).
أما صحيح الإمام مسلم ، فلا يقل اشتهارا وانتشارا عن صحيح الإمام البخاري ، كما قال بروكلمان : " صحيح مسلم يكاد يضاهي صحيح البخاري في كثرة مخطوطاته ووجودها في أكثر المكتبات ". كما في " تاريخ الأدب العربي " (3/180) .
وله من الأسانيد التي تثبت نسبة الكتاب إلى مصنفه ما لا يكاد ينحصر ، حتى إن جماعة من العلماء أفردوا أسانيد " صحيح مسلم " بمصنفات خاصة ، بلغ عددها نحوا من ثمانية مصنفات ، من آخرها كتاب الكتاني (ت1327هـ) المسمى بـ " جزء أسانيد صحيح مسلم ".
يقول الشيخ مشهور حسن سلمان :
" أخذ هذا الكتاب عن مسلم جماعة ، من أشهرهم إبراهيم بن محمد بن سفيان ، وقد سمعه من صاحبه خلا ثلاثة مواطن ، فقد قابلها بنسخة شيخه مسلم ، وكانت نسخة مسلم هذه نفيسة عزيزة عليه ، حملها معه إلى الري ، ووضعها بين يدي أبي زرعة الرازي ، واطلع عليها ابن وارة ، وأخذها عن سفيان جماعة ، بالسماع أحيانا ، والإجازة مرة ثانية ، من بينهم الجلودي ،
وقد كانت نسخته يتداولها الطلبة فيما بينهم , وينسخ عنها بعضهم ... وكانت كثير من هذه النسخ صحيحة غاية ، وعليها سماعات ومقابلات ، ولذا احتج بها العلماء عند المباحثة والمناقشة ، وكانوا يرجعون إليها في المعضلات والمشكلات . وتوجد في مكتبات العالم من هذا " الصحيح " نسخ خطية عديدة جدا ، فتكاد أن لا تخلو منه مكتبة أو دار للكتب ، وهذه النسخ تتفاوت في تاريخ نسخها ، وفي نفاستها وجودتها .
وفي مكتبة القرويين بفاس إلى الآن نسخة منه نفيسة جدا ، هي نسخة ابن خير الإشبيلي ، التي قابلها مرارا ، وسمع فيها وأسمع ، بحيث يعد أعظم أصل موجود من " صحيح مسلم " في إفريقية ،
وعليه بخط ابن خير أنه عارضه بأصول ثلاثة معارضة بنسخة الحافظ أبي علي الجياني " انتهى باختصار من " الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح " (1/375-376) .
أما دعوى أن " بعض شراح البخاري شرحوا بعض الأحاديث التي ليست في البخاري " فلم نقف لها على مثال واحد ، فالاختلاف بين روايات " صحيح البخاري " إنما وقع في أمثلة يسيرة من الأسانيد ، أو بعض ألفاظ المتون ، أو أبواب الكتاب وتراجمه ،
أما أن يكون ثمة أحاديث أصول مستقلة في أبواب معينة من أبواب العلم وردت في بعض الروايات ، ولم ترد في روايات أخرى ، فهذا ما لم نجد له مثالا .
وعلى فرض وجوده : فليس بالأمر المستنكر ولا المستغرب ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه اختلف الرواة عليه ، فبعض الصحابة يروي الحديث بلفظ معين ، وآخرون يروونه بلفظ آخر ، وبعض الصحابة يروي الحديث ولا يستذكره آخرون ، في عشرات الأمثلة ، وليس ذلك بقادح في أصل السنة النبوية ، ولا في وثاقة الصحابة الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم . فمن باب أولى أن يكون الاختلاف اليسير بين رواة " الجامع الصحيح " ليس بقادح في أصل ثبوت الكتاب ، ولا في وثاقته ، ولا في أحاديثه ورواياته .
ونحن لا نشك في أن انعدام الخبرة في التعامل مع التراث ، بل انعدام العلم بطبيعة علم التاريخ والمخطوطات : هو السبب في مثل هذه الإيرادات ، أو غلبة الجهل المطبق ، وعمى القلب ، على صاحبه .
وإلا فمن مارس شيئا يسيرا من هذه العلوم أيقن أن تفاوت الروايات والمخطوطات لكتب التراث القديمة أمر طبيعي في ظل اعتماد الناس قديما على النسخ باليد ، وفي ظل ضعف وسائل الإعلام ، وعدم التزام النساخ في بعض المواضع بما في الأصل ، بل وعدم وقوفهم على التعديلات التي يجريها المؤلف نفسه على كتابه ، فيقع الاختلاف بين النسخ ، كما وقع في " سنن الترمذي " ، و " سنن أبي داود " ، و" الموطأ " للإمام مالك ، و " مسند الإمام أحمد بن حنبل ". بل وكما وقع في " الشعر الجاهلي " من قبل ، وفي كتب أفلاطون وأرسطو وتراث فلاسفة اليونان كله ، وفي كل من التوراة والإنجيل .
ونحن نرجو بمثل هذه الإضاءات اليسيرة أن يتيقظ القراء لحقيقة التلبيسات التي تتم ، وأن إعمالا يسيرا للعقل ، مع قليل من الخبرة : حقيق أن يدفع عن المرء جميع هذه الشبهات .
ينظر كتاب " روايات ونسخ الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري دراسة وتحليل" لفضيلة الدكتور محمد بن عبد الكريم بن عبيد ، ومنه استفدنا كثيرا مما سبق.
والله أعلم .
وهذه هي الطريقة الأشهر والأمثل لدى المحدثين ، أنهم يقرؤون مصنفاتهم على تلاميذهم ، أو يقرأ عليهم تلاميذهم مصنفاتهم ، ثم تنتشر تلك المصنفات عبر التلاميذ والرواة ، وليس عبر أصل كتاب المؤلف الذي هو نسخة واحدة يحتفظ بها لنفسه ، مع عدم وجود المطابع ودور النشر في تلك الأيام ، فقد كانت المطابع هي رواية التلاميذ مسندة موثقة .
فماذا يريد الباحث ثقة أكثر من نقل الرواة الثقات ، عن نسخ خطية قرئت على المصنف وأقرها ، كما قالوا في " نسخة الصَّغانّي : أنه نقلها من النسخة التي قُرئت على المصنف رحمه الله تعالى " ينظر "فيض الباري" للكشميري.
وإذا سألت عن قدم النسخ الخطية الموجودة اليوم فقد نشر المستشرق " منجانا " في كمبردج عام 1936م ، أقدم نسخة خطية وقف عليها حتى الآن ، وقد كتبت عام 370هـ ، برواية المروزي عن الفربري . ينظر " تاريخ التراث " فؤاد سزكين " (1/228) .
ومن أشهر مخطوطات الكتاب التي وصلتنا في عصرنا الحديث نسخة الحافظ أبي علي الصدفي (ت 514هـ) التي كتبها من نسخة بخط محمد بن علي بن محمود ، مقروءة على أبي ذر رحمه الله ، وعليها خطه .
وقد كانت عند العلامة الطاهر بن عاشور استعارها من مكتبة طبرق في ليبيا .
وكذلك نسخة الإمام الحافظ شرف الدين أبي الحسين عليّ بن أحمد اليونيني المعروف بالبعليّ ، الحنبلي (ت701هـ)، وقد قابلها بأصل مسموع على الحافظ أبي ذرِّ الهروي ، وبأصل مسموع على الأصيلي ، وبأصل الحافظ ابن عساكر ، وبأصل مسموع عن أبي الوقت ، وذلك بحضرة الإمام اللغوي النحوي ابن مالك صاحب الألفية (ت672هـ) .
وهكذا لو رحنا نعدد نسخ الصحيح المنتشرة في مكتبات المخطوطات في العالم ، وقربها من عصر تأليف الصحيح ، وكثرة رواتها وثقتهم ومقابلتهم نسخهم على النسخ الكبيرة المعتمدة لطال المقام جدا ، ويكفيك أن تذهب إلى إحدى المكتبات التي تشتمل على المخطوطات ، وتسأل عن صحيح البخاري لتقف على المئات منها ، بأسانيدها الصحيحة إلى الإمام البخاري نفسه .
وقد أحال " الفهرس الشامل " على (2327) موضعاً في مكتبات العالم المختلفة توجد به مخطوطات هذا الكتاب . انظر: " الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط، الحديث النبوي وعلومه " (1/493 – 565).
أما صحيح الإمام مسلم ، فلا يقل اشتهارا وانتشارا عن صحيح الإمام البخاري ، كما قال بروكلمان : " صحيح مسلم يكاد يضاهي صحيح البخاري في كثرة مخطوطاته ووجودها في أكثر المكتبات ". كما في " تاريخ الأدب العربي " (3/180) .
وله من الأسانيد التي تثبت نسبة الكتاب إلى مصنفه ما لا يكاد ينحصر ، حتى إن جماعة من العلماء أفردوا أسانيد " صحيح مسلم " بمصنفات خاصة ، بلغ عددها نحوا من ثمانية مصنفات ، من آخرها كتاب الكتاني (ت1327هـ) المسمى بـ " جزء أسانيد صحيح مسلم ".
يقول الشيخ مشهور حسن سلمان :
" أخذ هذا الكتاب عن مسلم جماعة ، من أشهرهم إبراهيم بن محمد بن سفيان ، وقد سمعه من صاحبه خلا ثلاثة مواطن ، فقد قابلها بنسخة شيخه مسلم ، وكانت نسخة مسلم هذه نفيسة عزيزة عليه ، حملها معه إلى الري ، ووضعها بين يدي أبي زرعة الرازي ، واطلع عليها ابن وارة ، وأخذها عن سفيان جماعة ، بالسماع أحيانا ، والإجازة مرة ثانية ، من بينهم الجلودي ،
وقد كانت نسخته يتداولها الطلبة فيما بينهم , وينسخ عنها بعضهم ... وكانت كثير من هذه النسخ صحيحة غاية ، وعليها سماعات ومقابلات ، ولذا احتج بها العلماء عند المباحثة والمناقشة ، وكانوا يرجعون إليها في المعضلات والمشكلات . وتوجد في مكتبات العالم من هذا " الصحيح " نسخ خطية عديدة جدا ، فتكاد أن لا تخلو منه مكتبة أو دار للكتب ، وهذه النسخ تتفاوت في تاريخ نسخها ، وفي نفاستها وجودتها .
وفي مكتبة القرويين بفاس إلى الآن نسخة منه نفيسة جدا ، هي نسخة ابن خير الإشبيلي ، التي قابلها مرارا ، وسمع فيها وأسمع ، بحيث يعد أعظم أصل موجود من " صحيح مسلم " في إفريقية ،
وعليه بخط ابن خير أنه عارضه بأصول ثلاثة معارضة بنسخة الحافظ أبي علي الجياني " انتهى باختصار من " الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح " (1/375-376) .
أما دعوى أن " بعض شراح البخاري شرحوا بعض الأحاديث التي ليست في البخاري " فلم نقف لها على مثال واحد ، فالاختلاف بين روايات " صحيح البخاري " إنما وقع في أمثلة يسيرة من الأسانيد ، أو بعض ألفاظ المتون ، أو أبواب الكتاب وتراجمه ،
أما أن يكون ثمة أحاديث أصول مستقلة في أبواب معينة من أبواب العلم وردت في بعض الروايات ، ولم ترد في روايات أخرى ، فهذا ما لم نجد له مثالا .
وعلى فرض وجوده : فليس بالأمر المستنكر ولا المستغرب ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه اختلف الرواة عليه ، فبعض الصحابة يروي الحديث بلفظ معين ، وآخرون يروونه بلفظ آخر ، وبعض الصحابة يروي الحديث ولا يستذكره آخرون ، في عشرات الأمثلة ، وليس ذلك بقادح في أصل السنة النبوية ، ولا في وثاقة الصحابة الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم . فمن باب أولى أن يكون الاختلاف اليسير بين رواة " الجامع الصحيح " ليس بقادح في أصل ثبوت الكتاب ، ولا في وثاقته ، ولا في أحاديثه ورواياته .
ونحن لا نشك في أن انعدام الخبرة في التعامل مع التراث ، بل انعدام العلم بطبيعة علم التاريخ والمخطوطات : هو السبب في مثل هذه الإيرادات ، أو غلبة الجهل المطبق ، وعمى القلب ، على صاحبه .
وإلا فمن مارس شيئا يسيرا من هذه العلوم أيقن أن تفاوت الروايات والمخطوطات لكتب التراث القديمة أمر طبيعي في ظل اعتماد الناس قديما على النسخ باليد ، وفي ظل ضعف وسائل الإعلام ، وعدم التزام النساخ في بعض المواضع بما في الأصل ، بل وعدم وقوفهم على التعديلات التي يجريها المؤلف نفسه على كتابه ، فيقع الاختلاف بين النسخ ، كما وقع في " سنن الترمذي " ، و " سنن أبي داود " ، و" الموطأ " للإمام مالك ، و " مسند الإمام أحمد بن حنبل ". بل وكما وقع في " الشعر الجاهلي " من قبل ، وفي كتب أفلاطون وأرسطو وتراث فلاسفة اليونان كله ، وفي كل من التوراة والإنجيل .
ونحن نرجو بمثل هذه الإضاءات اليسيرة أن يتيقظ القراء لحقيقة التلبيسات التي تتم ، وأن إعمالا يسيرا للعقل ، مع قليل من الخبرة : حقيق أن يدفع عن المرء جميع هذه الشبهات .
ينظر كتاب " روايات ونسخ الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري دراسة وتحليل" لفضيلة الدكتور محمد بن عبد الكريم بن عبيد ، ومنه استفدنا كثيرا مما سبق.
والله أعلم .
موقع الإسلام سؤال وجواب
تعليق