السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده و رسوله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:102) .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء:1) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (الأحزاب:7).
ألا و إن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار .
أما بعد
سنقوم في هذه السلسله بشرح عدة أحاديث هامه لما فيها من منافع جمه
وفقنا الله وإياكم لمرضاته ورزقنا العلم النافع والعمل الصالح
الحديث الأول
من كتاب رياض الصالحين بشرح شيخنا ابن عثيمين
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتقوا الظلم فإن الظلم ؛ ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" [318]رواه مسلم.
هذا الحديث يشتمل على أمرين:
الأمر الأول: تحريم الظلم
والأمر الثاني: وجوب ردّ المظالم.
واعلم أن الظلم هو النقص، قال الله تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (الكهف:33) ، يعني لم تنقص منه شيئاً، والنقص إما أن يكون بالتجرؤ على ما لا يجوز للإنسان، وإما بالتفريط فيما يجب عليه . وحينئذٍ يدور الظلم على هذين الأمرين، إما ترك واجب ، وإما فعل محرم.
والظلم نوعان: ظلم يتعلق بحق الله عز وجلّ ، وظلم يتعلق بحق العباد ، فاعظم الظلم هو المتعلق بحق الله تعالى والإشراك به، فإن النبي صلى الله عليه وسمل سئل: أي الذنب أعظم؟ فقال :" أن تجعل لله نداً وهو خلقك ويليه[319] الظلم في الكبائر، ثم الظلم في الصغائر.
أما في حقوق عباد الله فالظلم يدور على ثلاثة أشياء، بينها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع ، فقال :" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا [320]، في بلدكم هذا" الظلم في النفس هو الظلم في الدماء، بأن يعتدي الإنسان على غيره، بسفك الدماء أو الجروح أو ما أشبه ذلك، والظلم في الأموال بأن يعتدي الإنسان ويظلم غيره في الأموال، إما بعدم بذل الواجب، وإما بإتيان محرم، وإما بان يمتنع من واجب عليه ، وإما بأن يفعل شيئاً محرماً في مال غيره.
وأما الظلم في الأعراض فيشمل الاعتداء على الغير بالزنا، واللواط ، والقذف ، وما أشبه ذلك.
وكل الظلم بأنواعه محرم ، ولن يجد الظالم من ينصره أما الله تعالى قال الله تعالى ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً إي صديقاً ينجيه من عذاب الله ، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيُطاع؛ لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه، فالظالم لن يجد من ينصره يوم القيامة، وقال تعالى ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(البقرة: 270)، يعني لا يجدون انصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم.
حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال :"اتقوا الظلم" اتقوا : يعني احذروا، والظلم هو كما سبق يكون في حق الله، ويكون في حق العباد ، فقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا الظلم " أي : لا تظلموا أحداً، لا أنفسكم ولا أنفسكم ولا يغركم،" فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" ويوم القيامة ليس هناك نور إلا من أنار الله تعالى له، وأما من لم يجعل الله له نواراً فما له من نور، والإنسان إن كان مسلماً فله نور بقدر إسلامه، ولكن إن كان ظالماً فقد من هذا النور بمقدار ما حصل من الظلم، لقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة".
ومن الظلم: مطل الغني يعني أن لا يوفى الإنسان ما عليه وهو غني به لقوله صلى الله عليه وسلم: " مطل الغني ظُلم [321]" وما أكثر الذين يماطلون في حقوق الناس ، يأتي عليه صاحب الحق فيقول : يا فلان أعطني حقي فيقول : غداً ، فيأتيه من غدٍ فيقول: بعد غدٍ وهكذا، فإن هذا الظلم يكون ظلمات يوم القيامة على صاحبه.
" وأتقوا الشحَّ" الحرص على المال" فإنه أهلك من كان قبلكم" لأن الحرص على المال- نسأل الله السلامة- يوجب للإنسان أن يكسب المال من أي وجه كان، من حلال أو حرام؛ بل قال النبي عليه الصلاة والسلام: " حملهم" إي حمل من كان قبلنا" على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" يسفك الشحيح الدماء إذا لم يتوصل إلى طمعه إلا بالدماء ، كما هو الواقع عند أهل الشحّ، يقطعون الطريق على المسلمين ، ويقتلون الرجل ، ويأخذون متاعه، ويأخذون بعيره، وكذلك أيضاً يعتدون على الناس في داخل البلاد ، يقتلونهم ويهتكون حجب بيوتهم ، فيأخذون المال بالقوة والغلبة.
فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من أمرين: من الظلم ومن الشحّ . فالظلم هو الاعتداء على الغير ، والشح هو الطمع فيما عند الغير . فكل ذلك محرم ، ولهاذ قال الله تعالى في كتابه: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9) ، فدلت الآية على أن من لم يوق شح نفسه فلا فلاح له. المفلح من وقاه الله شحّ نفسه. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الظلم، وأن يقينا شح أنفسنا وشرورها.
* * *
204- وعن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لتؤدون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" رواه مسلم [322].
الشرح
في هذا الحديث أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق بغير قسم . أقسم أن الحقوق ستؤدى على أهلها يوم القيامة، ولا يضيع لأحد حقٌ ، الحق الذي لك إن لم تستوفه في الدنيا استوفيته في الآخرة ولابد، حتى إنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
الجلحاء: التي ليس لها قرن.
والقرناء: التي لها قرن. والغالب أن التي لها اقرن إذا ناطحت الجلحاء التي ليس لها قرن تؤذيها أكثر، فإذا كان يوم القيامة قضى الله بين هاتين الشاتين، واقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
هذا وهي بهائم لا يعقلن ولا يفهمن ؛ لكن الله عزّ وجلّ حكم عدل، أراد أن يُري عباده كمال عدله حتى في البهائم العجم، فكيف ببني آدم!!
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن البهائم تُحشر يوم القيامة وهو كذلك ، وتحشر الدوابّ، وكل ما فيه روح يحشر يوم القيامة، قال الله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)(الأنعام:38)، أمم كثيرة، أمة الذر، أمة الطيور، أمة السباع، أمة الحيّات وهكذا ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام:38).
وكل شيء مكتوب ، حتى أعمال البهائم والحشرات مكتوبة في اللوح المحفوظ ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)، وقال تعالى: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ)(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير:4-5)، يحشر يوم القيامة كل شيء ، يقضى الله تعالى بينهم بحكمه وعدله ، وهو السميع العليم، يقتص من البهائم بعضها مع بعض، ومن الآدميين بعضهم مع بعض، ومن الجن بعضهم مع بعض، ومن الجن والإنس بعضهم مع بعض، لأن الإنس قد يعتدون على الجن، والجن قد يعتدون على الإنس، فمن عدوان الجن على الإنس الشيء الكثير، من عدوان الإنس على الجن أن يستجمر الإنسان بالعظم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بالعظام وقال:" إنها زاد إخوانكم من الجن [323]" الجن يجدون العظام ، فإذا استجمر أحد بها فقد اعتدى عليهم وكدرها عليهم، ويخشى أن يؤذوه إذا أذاهم بها.
على كل حال ففي يوم القيامة يُقتص للمظلوم من الظالم ، ويؤخذ من حسنات الظالم إلا إذا نفدت حسناته؛ فيؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه . قال النبي عليه الصلاة والسلام :" من تعدون المفلس فيكم" - أي الذي ليس عنده شيء- قالوا: المفلس من لا درهم عنده ولا متاع. قال:" المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات مثل الجبال ، فيأتي وقد ضرب هذا ، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء، وإلا أخذ من سيئاتهم فطُرحت عليه ، ثم طرح في النار [324]".
لابد أن يقتص للمظلوم من الظالم ، ولكن إذا أخذ المظلوم بحقه في الدنيا ، فدعا على الظالم بقدر مظلمته، واستجاب الله دعاءه فيه، فقد اقتص لنفسه قبل أن يموت ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ:" واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [325]"
فإذا دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا واستجيب لدعائه فقد اقتصّ منه في الدنيا، أما إذا سكت فلم يدع عليه ولم يعفف عنه فإنه يتقصّ له منه يوم القيامة، والله المستعان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده و رسوله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (آل عمران:102) .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (النساء:1) .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً (الأحزاب:7).
ألا و إن أصدق الكلام كلام الله و خير الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها و كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار .
أما بعد
سنقوم في هذه السلسله بشرح عدة أحاديث هامه لما فيها من منافع جمه
وفقنا الله وإياكم لمرضاته ورزقنا العلم النافع والعمل الصالح
الحديث الأول
من كتاب رياض الصالحين بشرح شيخنا ابن عثيمين
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتقوا الظلم فإن الظلم ؛ ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم؛ حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" [318]رواه مسلم.
هذا الحديث يشتمل على أمرين:
الأمر الأول: تحريم الظلم
والأمر الثاني: وجوب ردّ المظالم.
واعلم أن الظلم هو النقص، قال الله تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) (الكهف:33) ، يعني لم تنقص منه شيئاً، والنقص إما أن يكون بالتجرؤ على ما لا يجوز للإنسان، وإما بالتفريط فيما يجب عليه . وحينئذٍ يدور الظلم على هذين الأمرين، إما ترك واجب ، وإما فعل محرم.
والظلم نوعان: ظلم يتعلق بحق الله عز وجلّ ، وظلم يتعلق بحق العباد ، فاعظم الظلم هو المتعلق بحق الله تعالى والإشراك به، فإن النبي صلى الله عليه وسمل سئل: أي الذنب أعظم؟ فقال :" أن تجعل لله نداً وهو خلقك ويليه[319] الظلم في الكبائر، ثم الظلم في الصغائر.
أما في حقوق عباد الله فالظلم يدور على ثلاثة أشياء، بينها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع ، فقال :" إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا [320]، في بلدكم هذا" الظلم في النفس هو الظلم في الدماء، بأن يعتدي الإنسان على غيره، بسفك الدماء أو الجروح أو ما أشبه ذلك، والظلم في الأموال بأن يعتدي الإنسان ويظلم غيره في الأموال، إما بعدم بذل الواجب، وإما بإتيان محرم، وإما بان يمتنع من واجب عليه ، وإما بأن يفعل شيئاً محرماً في مال غيره.
وأما الظلم في الأعراض فيشمل الاعتداء على الغير بالزنا، واللواط ، والقذف ، وما أشبه ذلك.
وكل الظلم بأنواعه محرم ، ولن يجد الظالم من ينصره أما الله تعالى قال الله تعالى ( مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) أي أنه يوم القيامة لا يجد الظالم حميماً إي صديقاً ينجيه من عذاب الله ، ولا يجد شفيعاً يشفع له فيُطاع؛ لأنه منبوذ بظلمه وغشمه وعدوانه، فالظالم لن يجد من ينصره يوم القيامة، وقال تعالى ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(البقرة: 270)، يعني لا يجدون انصاراً ينصرونهم ويخرجونهم من عذاب الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم.
حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم " قال :"اتقوا الظلم" اتقوا : يعني احذروا، والظلم هو كما سبق يكون في حق الله، ويكون في حق العباد ، فقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا الظلم " أي : لا تظلموا أحداً، لا أنفسكم ولا أنفسكم ولا يغركم،" فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" ويوم القيامة ليس هناك نور إلا من أنار الله تعالى له، وأما من لم يجعل الله له نواراً فما له من نور، والإنسان إن كان مسلماً فله نور بقدر إسلامه، ولكن إن كان ظالماً فقد من هذا النور بمقدار ما حصل من الظلم، لقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة".
ومن الظلم: مطل الغني يعني أن لا يوفى الإنسان ما عليه وهو غني به لقوله صلى الله عليه وسلم: " مطل الغني ظُلم [321]" وما أكثر الذين يماطلون في حقوق الناس ، يأتي عليه صاحب الحق فيقول : يا فلان أعطني حقي فيقول : غداً ، فيأتيه من غدٍ فيقول: بعد غدٍ وهكذا، فإن هذا الظلم يكون ظلمات يوم القيامة على صاحبه.
" وأتقوا الشحَّ" الحرص على المال" فإنه أهلك من كان قبلكم" لأن الحرص على المال- نسأل الله السلامة- يوجب للإنسان أن يكسب المال من أي وجه كان، من حلال أو حرام؛ بل قال النبي عليه الصلاة والسلام: " حملهم" إي حمل من كان قبلنا" على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" يسفك الشحيح الدماء إذا لم يتوصل إلى طمعه إلا بالدماء ، كما هو الواقع عند أهل الشحّ، يقطعون الطريق على المسلمين ، ويقتلون الرجل ، ويأخذون متاعه، ويأخذون بعيره، وكذلك أيضاً يعتدون على الناس في داخل البلاد ، يقتلونهم ويهتكون حجب بيوتهم ، فيأخذون المال بالقوة والغلبة.
فحذّر النبي صلى الله عليه وسلم من أمرين: من الظلم ومن الشحّ . فالظلم هو الاعتداء على الغير ، والشح هو الطمع فيما عند الغير . فكل ذلك محرم ، ولهاذ قال الله تعالى في كتابه: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9) ، فدلت الآية على أن من لم يوق شح نفسه فلا فلاح له. المفلح من وقاه الله شحّ نفسه. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الظلم، وأن يقينا شح أنفسنا وشرورها.
* * *
204- وعن أبي هريرة رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لتؤدون الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" رواه مسلم [322].
الشرح
في هذا الحديث أقسم النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق بغير قسم . أقسم أن الحقوق ستؤدى على أهلها يوم القيامة، ولا يضيع لأحد حقٌ ، الحق الذي لك إن لم تستوفه في الدنيا استوفيته في الآخرة ولابد، حتى إنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
الجلحاء: التي ليس لها قرن.
والقرناء: التي لها قرن. والغالب أن التي لها اقرن إذا ناطحت الجلحاء التي ليس لها قرن تؤذيها أكثر، فإذا كان يوم القيامة قضى الله بين هاتين الشاتين، واقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء.
هذا وهي بهائم لا يعقلن ولا يفهمن ؛ لكن الله عزّ وجلّ حكم عدل، أراد أن يُري عباده كمال عدله حتى في البهائم العجم، فكيف ببني آدم!!
وفي هذا الحديث دليلٌ على أن البهائم تُحشر يوم القيامة وهو كذلك ، وتحشر الدوابّ، وكل ما فيه روح يحشر يوم القيامة، قال الله تعالى (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)(الأنعام:38)، أمم كثيرة، أمة الذر، أمة الطيور، أمة السباع، أمة الحيّات وهكذا ( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)(الأنعام:38).
وكل شيء مكتوب ، حتى أعمال البهائم والحشرات مكتوبة في اللوح المحفوظ ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)، وقال تعالى: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ)(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) (التكوير:4-5)، يحشر يوم القيامة كل شيء ، يقضى الله تعالى بينهم بحكمه وعدله ، وهو السميع العليم، يقتص من البهائم بعضها مع بعض، ومن الآدميين بعضهم مع بعض، ومن الجن بعضهم مع بعض، ومن الجن والإنس بعضهم مع بعض، لأن الإنس قد يعتدون على الجن، والجن قد يعتدون على الإنس، فمن عدوان الجن على الإنس الشيء الكثير، من عدوان الإنس على الجن أن يستجمر الإنسان بالعظم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن نستنجي بالعظام وقال:" إنها زاد إخوانكم من الجن [323]" الجن يجدون العظام ، فإذا استجمر أحد بها فقد اعتدى عليهم وكدرها عليهم، ويخشى أن يؤذوه إذا أذاهم بها.
على كل حال ففي يوم القيامة يُقتص للمظلوم من الظالم ، ويؤخذ من حسنات الظالم إلا إذا نفدت حسناته؛ فيؤخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه . قال النبي عليه الصلاة والسلام :" من تعدون المفلس فيكم" - أي الذي ليس عنده شيء- قالوا: المفلس من لا درهم عنده ولا متاع. قال:" المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات مثل الجبال ، فيأتي وقد ضرب هذا ، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء، وإلا أخذ من سيئاتهم فطُرحت عليه ، ثم طرح في النار [324]".
لابد أن يقتص للمظلوم من الظالم ، ولكن إذا أخذ المظلوم بحقه في الدنيا ، فدعا على الظالم بقدر مظلمته، واستجاب الله دعاءه فيه، فقد اقتص لنفسه قبل أن يموت ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ:" واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [325]"
فإذا دعا المظلوم على ظالمه في الدنيا واستجيب لدعائه فقد اقتصّ منه في الدنيا، أما إذا سكت فلم يدع عليه ولم يعفف عنه فإنه يتقصّ له منه يوم القيامة، والله المستعان
تعليق