توطئة:
الحمد لله رب العالمين، الكريم المنان ذي النعمة، جليل الامتنان، أحمده ربي حق حمده، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وأصلُّي وأسلِّم على خير مَن عبد ربه حق العبادة، وخشي ربه في السرِّ والعلانية، محمدٍ سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، سيد العارفين على رأسه تاج الفخار والعلم، وفي صدره حوى الفقه والفهم، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله الأطهار، وصَحْبه الأخيار.
أما بعدُ:
فهذه باكورة مجالس نورانية، تمَّ فيها تدارُس "متن البيقونية"، ارتأينا أن تجمع وتعد لِمَنْ شَمَّر عن ساعد العلم والكد؛ فهي للمُبتدئ خير نفع وزاد، وللمستزيد من العلم هي نور ورشاد، فهيا يا مَن تحملت بهذا العلم النفيس، ونأَيْت بنفسك عن كل دَنِيء وخسيس، هاك علمَ سيد الأخيار في سطور ملاح، تزود من علم الحديث والاصطلاح؛ فهو سبيلك لكل خير وفلاح، سَمَّيْناه بـ"المجالس النورانية لحل ألفاظ البيقونية"
عبدالصمد المومني
قال صاحب البيقونية - رحمه الله تعالى:
أَبْدَأُ بِالْحَمْدِ مُصَلِّيًا عَلَى مُحَمَّدٍ خَيْرِ نَبِيٍّ أُرْسِلاَ
وَذِي مِنَ اقْسَامِ الحَدِيثِ عِدَّةْ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَتَى وَحَدَّهْ
افْتَتَحَ البيقوني درته المسماة بـ"البيقونية" - نسبة له - بالحمد، وهذا على عادة العلماء والمصنفين؛ تيمُّنًا بلفْظ الجلالة، وعملاً بقوله - عز وجل -: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النمل: 59]، ثُمَّ ثَنَّى الحمد بالصلاة على النبي المختار - صلى الله عليه وسلم - لأنَّ الله قد أَمَرَنَا بهذا؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، ثمَّ أشار - رحمه الله - إلى مضمون منظومته، وهو: بيان أقسام الحديث، والتي سيعرِّف كل نوع منها على حدة.
الحديث الصحيح
قال صاحب البيقونية - رحمه الله تعالى:
أَوَّلُهَا الصَّحِيحُ وَهْوَ مَا اتَّصَلْ إِسْنَادُهُ وَلَمْ يَشُذَّ أَوْ يُعَلّْ
يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ
عَرَّف البيقوني الحديثَ الصحيح حاويًا في حدِّه الشروط الخمسة المعروفة عند أهل العلم، وهي كما قال الحافظ الذهبي: "الحديث الصحيح: هو ما دار على عدْل متقن، واتَّصَل سنده، فإنْ كان مرسلاً ففي الاحتجاج به اختلاف، وزاد أهل الحديث: سلامته من الشذوذ والعلة، وفيه نظر على مُقتضى نظر الفقهاء؛ فإن كثيرًا من العِلَل يأبونها، فالمجمع على صحته إذًا المتصل السالم من الشذوذ والعلة، وأن يكون رواته ذوي ضبط وعدالة وعدم تدليس"[1].
أولاً: الاتِّصال:
اتصال السند: ضده الانقطاع، فإذا رُمت إثبات الاتصال وَجَبَ عليك نفيُ كلِّ وجوه الانقطاع، وهي: ألاَّ يكون الإسناد معلقًا، أو معضلاً، أو منقطعًا، أو مرسلاً، أو مدلسًا، فإذا أردتَ إثبات اتِّصال الإسناد وَجَبَ عليك نفْي هذه الوُجُوه الخمسة من الانقطاع: (التعليق، الإعضال، الانقطاع، الإرسال، التدليس).
المعلَّق:
ما حُذف من أول إسناده راوٍ، أو راويان، أو ثلاثة على التوالي؛ أي: ما حُذف راوٍ مِن أول سنده، أو راويان، أو ثلاثة رواة.
إذًا الفائدة: المعلَّق حذف الراوي من أول السند على التوالي.
والسند هو: الإخبار عن طريق المتن (سلسلة الرجال الموصلة إلى المتن).
والإسناد هو: رفع الحديث إلى قائله.
والمتن هو: ألفاظ الحديث التي تتقوم بها المعاني.
والسند له طرفان: علوي ودنيوي، مثلاً: قال مسلم: حَدَّثَنا يحيى بن يحيى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، فالدنيوي هو: يحيى بن يحيى، والعلوي هو ابن عمر.
ولكن إذا قال مسلم: حَدَّثَنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، سقط يحيى بن يحيى من أول السند، هذا هو المعلق.
المعضل:
الذي سَقَطَ منه راويان على الأقل وعلى التوالي من أيِّ مكان من السند، من أعلاه، أو وسطه، أو أدناه، فلو سَقَط مالك ونافع، لا يُسَمى هذا معلقًا، وإنما معضلاً، ولو سقط يحيى بن يحيى ومالك نسمِّيه المعلق المعضل.
المنقطع:
ما سقط منه راوٍ في موضع من السند، فإذا كان السقوط من أوله، فهو: المعلق المنقطع.
المرسل:
ما قال فيه التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ أي: كأنه أرسل الحديث مباشرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجاوز الواسطة اللازمة، وليس للتابعي سبيل إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بواسطة الصحابي.
وبعض علماء الاصطلاح وطَلَبة العلم يقولون: المرسَل: ما سقط منه الصحابي، وهذا فيه نَظَر؛ إذ لو تيقَّنَّا أن الساقط هو الصحابي، لَحَكَمْنَا على الحديث بالاتِّصال؛ لأننا لا نبحث عن عدالة الصحابة، فهم عدول بتعديل الله لهم، ولكن حينما يروي الحديث التابعي، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمكن أن يكون رواه عن تابعي مثله، أو رواه عن مجهول الحال، وتسمَّى برواية الأقران.
والتابعون منهم الكبار، وهم: الذين تتلمَذوا وعاصَروا الصحابة، وكان شيوخهم هم الصحابة، والصغار من تتلْمَذوا على التابعيين الكبار.
المدلس:
والتدليس هو عمل شيء في الخفاء، وهو أنواع؛ نذْكُر منها:
- تدليس الإسناد: وهو أن يروي الراوي عن شيخه الذي سمع منه ما لم يسمع منه.
- تدليس الشيوخ: وهو أن يعمد الراوي إلى شيخه فيسميه بكنية مجهولة حتى يعمي أمْره.
ثانيًا: العدالة:
والعدالة هي ملَكة تحمل صاحبها على ملازمة الدين والوَرَع، مع البراءة من أسباب الفسق وخوارم المروءة.
شروط العدالة تنقسم إلى: شروط تحمُّل، وشروط أداء.
الإسلام:
هل الإسلام شرط تحمُّل وأداء معًا؟ أو في أحدهما؟
الصحيح أنه شرط أداء فحسب؛ لأنه يُمكن أن يكون الراوي تحمل وهو كافر، و التحمُّل هو التلقِّي والأداء هو الإلْقاء.
البلوغ:
من علامات البلوغ الإنبات؛ لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة كان يكشف عن عانة الغلام، فإن وجده قد أنبت ضرب عنقه، وإلا فيسرحه...؛ الحديث رواه أبو داود في سننه بسند صحيح، ومن علاماته أيضًا الاحتلام، والحيض بالنسبة للإناث.
وعلى الصحيح، فالبلوغُ ليس بشرط تحمُّل ولا أداء؛ لأنَّ المحدِّثين خرجوا أحاديث محمد بن الربيع وعمره خمس سنين.
العقل:
أي: عدم الغفلة والجنون أو الاختلاط، وهو شرط تحمُّل وأداء معًا.
خاليًا من أسباب الفسْق:
لا يرتكب الكبائر، ولا يجاهر بالذنوب، ولا بالبِدْعة، يراعي عُرف وأحوال الناس في اللباس والعادات ولا يكذب، و هو شرط تحمُّل وأداء معًا.
ثالثًا: الضبط:
ضبط الراوي؛ أي: حِفْظه للأسانيد والمتون، وهو ضبط صدر؛ أي: ضبْط الرِّوايات عن ظهْر قلب، وضبْط كتاب؛ حيث يحفظ الكتاب بالصفحات؛ إذ لو أدخل في الكتاب زيادات علمها الحافِظُ.
نكتة: يقول ابن معين: أنا لا أعجب من الذي يخطئ، وإنما أتَعَجَّب مِن الذي لا يخطئ، (يُشير إلى انعدام الذي لا يخطئ).
وضبْط الصَّدْر أعلى رُتبة من ضَبْط الكتاب، وضبْط الكتاب أتْقَن مِن ضبْط الصدر، (قصة أبو نعيم رواها ابن حبان في صحيحه، تجدها في آخر البحث - إن شاء الله).
رابعًا: الشذوذ والعلَّة:
الشذوذ: الانْفِرَاد عن الجماعة، والحديث الشاذ هو: ما انْفَرَدَ به الراوي؛ سواء كان ثقة أو غير ثقة، والشاذ ما خالف فيه الثقة الأوثق منه.العلة: هي أسباب خفية غامضة، تقدح في الحديث، إما سندًا أو متنًا، وتدرك بتفرُّد الراوي وبمخالفة غيره له، مع قرائن تنبِّه العارف المتقن على وهْم أو إرسال.
مثال الحديث الصحيح:
ما أخرجه البخاري في صحيحه، قال: حدثنا الحميدي عبدالله بن الزبير، قال: حدثنا سفيان، قال:حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم التيمي: أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعتُ عمر بن الخطاب على المنبر قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
- فإسناد الحديث متصل؛ إذ كل راوٍ من الرواة صَرَّح بلفظ تحمُّل الحديث عن شيخه.
- رواة الحديث عدول ضابطون، وهذا بيان حالهم.
أ- أبو بكر عبدالله بن الزبير بن عيسى القرشي الحميدي المكي: شيخ البخاري، ثقة حافظ فقيه، مصنف ت 219 هـ.
ب - أبو محمد سفيان بن عُيينة الكوفي المكي: ثِقة حافظ فقيه، إمام حجة ت 198 هـ.
ج - أبو سعيد يحيى بن سعيد الأنصاري النجاري، ثقة كثير الحديث، حجة ثبت، من صغار التابعين ت 144 هـ.
د - أبو عبدالله محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد القرشي التيمي المدني: ثقة كثير الحديث، من التابعين ت 120 هـ.
هـ - أبو يحيى علْقمة بن وقاص الليثي المدني: ثقة ثبت من كبار التابعين، توفِّي في خلافة عبدالملك بن مروان.
و - أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والصحابة كلهم عدول.
والحديث انتفى عنه الشذوذ والعلة القادحة.
أنواع الحديث الصحيح:
أ - صحيح لذاته: وهو الذي تقدَّم الحديث عنه.
ب - صحيح لغَيْره:
شروطه: اتصال الإسناد - عدالة الراوي - خفَّة ضبط الراوي - السلامة من الشذوذ - السلامة من العلة القادحة - تعدُّد الأسانيد لتنجبر خفة ضبط الراوي.
- ما هي الشروط المشتركة والفروق بينهما؟
الشروط المشتركة: اتصال الإسناد - عدالة الراوي - السلامة من الشذوذ - السلامة من العلة القادحة.
الفروق: خفة ضبط الراوي - تعدد الأسانيد لتنجبر خفة ضبط الراوي.
فالصحيح صحيح لذاته: أتته الصحة من نفسه، والصحيح لغيره: يحتاج لتعدُّد الأسانيد ليصح، فصحته جاءتْه من الخارج.مثال الصحيح لغيره:
أخرج الترمذي وابن حبان وغيرهما، من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)).
- أحوال الرواة:
- محمد بن علقمة بن وقاص: صدوق، له أوهام، في حفظه خفة.
- والحديث له إسناد آخر: رواه ابن حبان من طريق سعيد بن أبي هلال، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وسعيد بن أبي هلال: صدوق، في حفظه خفة، فصار للحديث إسنادان فعدَّ صحيحًا لِغَيْرِه.
حكمه: حجة بنوعيه يجب العمل به.
تعليق