إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف




    د. خالد بن منصور الدريس
    توطئة:


    الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد.
    فهذا بحث عن تفرد الصدوق والثقة أيضاً، استللته من كتابي " الحديث الحسن لذاته ولغيره دراسة استقرائية نقدية "، طلب مني أحد الفضلاء من أعلام المحدثين المعاصرين أن أنشره مستقلاً، فاستحسنت الفكرة ؛ لأن الكتاب الأصلي قد نشر في خمس مجلدات في دار أضواء السلف بالرياض سنة 1426هـ، فغدى ثمنه غالياً على كثير من طلبة العلم، فقل الانتفاع به بسبب ذلك، وكان هذا على غير رغبة مني، وأما أصل البحث فهو موجود في المجلد الرابع، في الباب الثالث المتعلق بالحديث الحسن لذاته، نبهت على ذلك ليعلم أن الإحالات الموجودة داخل البحث على بعض الفصول أو المباحث تُطالع في الأصل المنشور.
    والكتاب الأصلي هو رسالة دكتوراه، كانت خطة البحث قدمت في سنة 1415هـ، وتم الانتهاء من طباعة الأصل في شعبان 1420هـ، وجرت المناقشة في أول سنة 1421هـ في الأسبوع الثاني من المحرم، ومن حصلت الأطروحة بحمد الله وتوفيقه على درجة الامتياز مع التوصية بالطبع على نفقة الجامعة.

    تعريف الصدوق :

    يقول أبو الحسين أحمد بن فارس: (الصاد والدال والقاف أصلٌ يدلُ على قوةٍ في الشيء قولاً وغيره. من ذلك الصدق: خلاف الكذب، سُمي لقوته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له، هو باطل)[1].
    فالصدوق: "وصف بالصدق على طريقة المبالغة"[2].
    * تفريق المحدثين بين الثقة والصدوق:
    سئل عبدالرحمن بن مهدي: أبو خلدة ثقة؟ فقال: (كان صدوقاً، وكان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة)[3].
    قال ابن أبي حاتم معلقاً على هذا النص: (فقد أخبر أن الناقلة للآثار والمقبولين على منازل، وأن أهل المنزلة الأعلى الثقات، وأن أهل المنزلة الثانية: أهل الصدق والأمانة)[4]. وقد جعل الصدوق في المرتبة الثانية بعد الثقة كما سبق نقل كلامه في ذلك.
    وقال أبو عبدالله الحاكم: (إن أئمة النقل قد فرقوا بين الحافظ والثقة، والثبت والمتقن والصدوق، هذا في التعديل)[5].

    استعمالات النقاد للفظة "صدوق":

    تأتي لفظة "صدوق" في استعمالات أئمة النقد على ثلاث حالات:
    الأولى: مطلقة من دون تقييد كقولهم: "فلان صدوق".
    الثانية: مقترنة بما يفيد التوثيق وتمام الضبط، فمن ذلك قول ابن أبي حاتم في كثير من مشايخه: "ثقة صدوق"[6]، وكذا قول أحمد بن حنبل[7] في بعض الرواة، وتجيء الصيغة في بعض المواضع هكذا: "صدوق ثقة"[8] عند ابن أبي حاتم، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً.
    الثالثة: مقترنة بما يفيد عدم الاحتجاج، فمن ذلك مثلاً قول أبي زرعة الرازي في أحد الرواة: (ليِّن الحديث مدلس) فقيل له: هو صدوق؟ قال: (نعم، كان لا يكذب)[9].
    وقول ابن معين في عدد من الرواة : (صدوق وليس بحجة)[10]، وقال في أحد الرواة: (صدوق كثير الخطأ)[11].
    ومن ذلك ما قاله يعقوب بن شيبة في أحد الرواة: (واهي الحديث، في حديثه اضطراب كثير، وهو صدوق)[12].
    ومنها قول ابن خراش: (سيئ الحفظ صدوق)[13]، وقول عمرو بن علي الفلاس: (صدوق، كثير الخطأ والوهم، متروك)[14].
    وقد قال البخاري في محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى: (صدوق، إلا أنه لا يُدرى صحيح حديثه من سقيمه)، قال الترمذي : (وضعف حديثه جداً)[15]، وقال البخاري في النعمان بن راشد: (في حديثه وهم كثير، وهو صدوق في الأصل)[16].
    والأمثلة على ذلك كثيرة جداً تدل على أن عدداً من أئمة الحديث يطلقون "الصدوق" على من لم يكن متهماً بالكذب ويدخل في ذلك بدون ريب من كان ضعيفاً لا يحتج به.
    وقد استقر عُرف المحدثين على أن لفظة "صدوق" إذا أطلقت من غير تقييد فإنها تفيد أن الراوي يكون عدلاً ولكنه دون الثقة من حيث الضبط.
    ويدخل في حكم الصدوق من قيل فيه: "لا بأس به" و"محله الصدق"، وغيرها من الألفاظ التي سبق ذكرها في الفصل السابق.
    وحقيقة الصدوق وماهيته، عبَّر عنها الذهبي في قوله: (الصدوق لا يكثر خطؤه)[17]، وقوله في أحد الرواة: (صدوق، قيل: كان يخطئ، فالصدوق يخطئ)[18].
    وقال ابن حجر: (رواية الصدوق الذي لم يوصف بتمام الضبط والإتقان، هو الحسن لذاته)[19]، وهو دون الثقة كما هو العُرف، وفوق من لا يحتج بحديثه إلا إذا اعتضد بغيره كما تم إيضاحه في الفصول السابقة من هذا الباب.
    وللفظة "صدوق" علاقة وطيدة بابن أبي حاتم، حيث أكثر من إيرادها في كتابه "الجرح والتعديل" عن أبيه وعن غيره من كبار أئمة النقد، ولا أعرف كتاباً في علم الجرح والتعديل قبل ابن أبي حاتم وردت فيه لفظة "الصدوق" بكثرة كما وردت في كتابه.
    فقد بلغ عدد مرات ورودها أكثر من 1200 مرة تقريباً بصِيَغٍ متعددة، وهو أقدم من وضع لها مرتبة في سلم الجرح والتعديل.
    وقد أثار حكمه على ما يرويه الصدوق بعض الخلاف بين اثنين من أساتذة الحديث في عصرنا، هما الشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله -، والأستاذ الدكتور نور الدين عتر.
    فذهب الشيخ الألباني - رحمه الله - إلى أن "الصدوق" حسن الحديث ويحكم على حديثه بأنه حسن لذاته واحتج على ذلك بكلام الذهبي في مقدمة ميزانه، وبكلام ابن حجر في مقدمة "التقريب"، وقد نقلنا كلامهما في الفصل السابق، ثم علق على ذلك بقوله: (فأنت ترى أن الذهبي جعل من قيل فيه "صدوق" في مرتبة من قيل فيه: "جيد الحديث، حسن الحديث"، وكلام الحافظ ابن حجر لا يخرج عنه، فإن من كان عنده من المرتبة الثالثة لاشك في أن حديثه صحيح، فمن كان عنده من المرتبة الرابعة، فحديثه حسن بداهة، وذلك ما صرح به المحقق أحمد شاكر في "الباعث الحثيث" (ص118)، ولولا ضيق المقام لنقلت كلامه، فأكتفي بالإشارة إليه)[20].
    وقد رد الدكتور العتر هذا الكلام بقوله: (وقد كان يكفي.. أن يرجع إلى كتاب إمام الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي... [حيث] يقول: "وإذا قيل له: صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية" انتهى كلامه.
    وقد اعتمد كافة أئمة الحديث من بعد كلامه... وهذه عبارة الإمام ابن الصلاح قالها يؤيد بها كلام الإمام الرازي: "وهو كما قال، لأن هذه العبارات لا تُشعر بشريطة الضبط" )[21].
    وهو يرى "أن حديث الصدوق ليس ضعيفاً، ولكنه لا يحتج به مطلقاً، بل لا بد قبل الاحتجاج به أن يُنظر في حديثه؛ لأن "الصدوق" لم يوصف بالضبط أي الحفظ، فاحتاج إلى التحري من اتصافه بذلك كي يحتج به"[22].
    ونقل الدكتور العتر "الاتفاق[23] على أن كلمة "صدوق" لا يحتج بمن قيلت فيه إلا بعد الاختبار والنظر، ليعلم هل يضبط الحديث أم لا؟" ويرى أن" ذلك يرد ما زعمه بعض الناس من أن من قيلت فيه يكون حديثه حجة من الحسن لذاته، دون أن يقيده بأن ينظر فيه"[24].
    فحقيقة الخلاف بينهما تتلخص في السؤال الآتي: هل حديث "الصدوق" حجة حتى يثبت أنه أخطأ أم لا يحتج به حتى يثبت أنه حفظ؟
    ولا ريب أن الخلاف في حكم تفرد الصدوق بين القبول والتوقف؛ مسألة لها آثار مهمة للغاية، ويكفي لبيان أهميتها أن يُعلم أن ما يقارب من ربع رجال تقريب التهذيب قد حكم عليهم الحافظ ابن حجر بعبارات مثل: "صدوق" أو "صدوق يهم" أو "صدوق يخطئ" ونحوها، وقد بلغ عددهم ما يقرب من (1831) من مجمل تراجم الكتاب.
    ومنهم (210) راوياً ممن أخرج لهم البخاري في صحيحه، و(269) ممن أخرج لهم مسلم في صحيحه من غير الذين أخرج لهم البخاري[25] فمجموعهم في الكتابين من غير المكرر يبلغ (479) راوياً، وأكثرهم في الشواهد والمتابعات.
    ومن المعلوم أن علماء الحديث قد اتفقوا على صحة متون الكتابين إلا أحرفاً يسيرة وقع النزاع فيها، وقد سبق أن ذكرنا أننا مع الرأي القائل بعدم تحسين شيء من أحاديثهما، وإنما ذكرنا تلك الإحصائية ليُعلم أن الكلام في تفرد الصدوق في غاية الأهمية لكثرة الموصوفين بوصف "الصدوق".
    ومسألة "التفرد" لها أثر ضخم جداً في علم الجرح والتعديل، وعلم العلل، ومن تأمل كثيراً من كتب العلل والرجال سيرى بما لا يدع مجالاً للشك أثرها الكبير في نقد العديد من كبار الأئمة.
    فالنصوص التي تدل على نقد الرواة أو بعض مروياتهم بسبب التفرد أو لعدم المتابعة كثيرة جداً في التاريخين الكبير والأوسط للبخاري، وضعفاء العقيلي، والكامل لابن عدي، وتهذيب التهذيب والعلل لابن أبي حاتم وغيرها من المصادر.
    ومن أهم الأسئلة التي سنناقشها في هذا المبحث : هل تفرد الصدوق كتفرد الثقة من حيث القبول إلا في حالة مخالفته لمن هو أولى منه ؟ أم أن لتفرده حكماً مختلفاً لانحطاط مرتبته عن مرتبة الثقة؟
    أو بمعنى آخر هل تفرد من يُحسَّن حديثه لذاته محتج به إلا إذا خالف من هو أولى منه؟! أم لابد من التفريق بين ما ينفرد به من يصحح حديثه لذاته وبين من يحسن حديثه لذاته لتفاوتهما في القوة؟
    وما أدلة من قبل تفرد الصدوق؟
    وما أدلة من توقف في تفرد الصدوق؟
    ومتى يحتمل التفرد من الراوي الصدوق؟
    ومتى لا يحتمل منه ذلك؟

    المطلب الأول : قبول تفرد الصدوق.

    ذهب عدد من أئمة المحدثين إلى قبول تفرد الصدوق، وهذا هو اختيار جمهور المتأخرين من علماء الحديث، ولا يُستثنى من ذلك فيما أعلم إلا الذهبي وابن رجب ومن بعدهما المعلمي اليماني في بعض تطبيقاته كما سيأتي إيضاحه في المطلب القادم.
    يقول الحافظ أبو عمرو بن الصلاح: (إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه، فإن كان ما انفرد به مخالفاً لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط كان ما انفرد به شاذاً مردوداً.
    وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فيُنظر في هذا الراوي المنفرد، فإن كان عدلاً حافظاً موثوقاً بإتقانه وضبطه؛ قُبل ما انفرد به، ولم يقدح الانفراد فيه...
    وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به، كان انفراده خارماً له مزحزحاً له عن حيز الصحيح.
    ثم هو بعد ذلك دائر بين مراتب متفاوتة بحسب الحال فيه، فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده؛ استحسنا حديثه ذلك ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف.

    فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان:

    أحدهما: الحديث الفرد المخالف.
    والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابراً لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف)[26].
    وإذا رجعنا إلى تحديد ابن الصلاح لراوي الحسن فسنجده قد وصفه بأنه من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح؛ لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، ويرتفع عن حال من يُعد ما ينفرد به من حديثه منكراً[27]، ولما ذكر مثالاً لراوي الحسن لذاته اختار محمد بن عمرو بن علقمة وقال فيه: (من المشهورين بالصدق والصيانة، لكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه، ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته، فحديثه من هذه الجهة حسن)[28]، فتفرد مثل هذا الراوي يُعد عند ابن الصلاح حسناً، ما لم يخالف.
    وممن يرى هذا الرأي أيضاً الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقد صَرَّح بأن ما ينفرد به مثل محمد بن إسحاق، أو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يُعد حسناً[29]، وقال في موضع آخر: (ما ينفرد به ابن إسحاق، وإن لم يبلغ درجة الصحيح، فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث)[30] وقال أيضاً: (وابن إسحاق حسن الحديث، إلا أنه لا يحتج به إذا خولف)[31].
    وقال في عبدالرحمن بن أبي الزناد: (غاية أمره أنه مختلف فيه، فلا يتجه الحكم بصحة ما ينفرد به، بل غايته أن يكون حسناً)[32].
    وقال في عبدالله بن محمد بن عقيل: (فأما إذا انفرد فيُحسن، وأما إذا خالف فلا يُقبل)[33].
    فتفرد من يُحسن حديثه لذاته يكون حجة عند ابن حجر إلا إذا خالف فلا يُقبل، والمخالفة لمن هو أولى منه صفةً أو عدداً توجب الشذوذ.
    وممن يرى قريباً من ذلك من القدماء: الإمام ابن حبان فقد قال في ترجمة محمد بن سليم أبي هلال الراسبي: (وكان أبو هلال شيخاً صدوقاً، إلا أنه كان يخطئ كثيراً من غير تعمد حتى صار يرفع المراسيل ولا يعلم، وأكثر ما كان يحدث من حفظه، فوقع المناكير في حديثه من سوء حفظه)[34] ثم قال: (والذي أميل إليه في أبي هلال الراسبي:
    ترك ما انفرد من الأخبار التي خالف فيها الثقات.
    والاحتجاج بما وافق الثقات.
    وقبول ما انفرد من الروايات التي لم يخالف فيها الأثبات، التي ليس فيها مناكير.
    لأن الشيخ إذا عرف بالصدق والسماع، ثم تبين منه ولم يفحش ذلك منه، لم يستحق أن يعدل به عن العدول إلى المجروحين إلا بعد أن يكون وهمه فاحشاً وغالباً، فإذا كان كذلك استحق الترك، فأما من كان يخطئ في الشيء اليسير، فهو عدل، وهذا مما لا ينفك عنه البشر، إلا أن الحكم في مثل هذا إذا عُلِم خطؤه تجنبه واتبع ما لم يخطئ فيه.

    هذا حكم جماعة من المحدثين العارفين الذين كانوا يخطئون، وقد فصَّلناهم في الكتاب[35] على أجناس ثلاثة:

    1- فمنهم من لا يُحتج بما انفرد من حديثه، ويقبل غير ذلك من روايته.
    2- ومنهم من يحتج بما وافق الثقات فقط من روايته.
    3- ومنهم من يُقبل ما لم يخالف الأثبات، ويحتج بما وافق الثقات)[36].
    فمع وصفه لأبي هلال بكثرة الخطأ وسوء الحفظ، إلا أنه قبل ما تفرد به مما لم يخالف فيه الإثبات، ورد أخباره التي خالف فيها الثقات، واحتج بما وافق الثقات من حديثه، وقد بين ابن حبان مراده من قوله: "ما لم يخالف الأثبات" فقال: (ولا يتوهم متوهم أن ما لم يخالف الأثبات، هو ما وافق الثقات، لأن ما لم[37] يخالف الإثبات هو ما روى من الروايات التي لا أصول لها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أتى بزيادة اسم في الإسناد أو إسقاط مثله مما هو محتمل في الإسناد، وأما ما وافق الثقات فهو ما يروى عن شيخ سمع منه جماعة من الثقات، فإن أتى بالشيء على حسب ما أتوا به عن شيخه [احتج به])[38] [39].
    وقد سبق أن ذكرنا أن ابن حبان ممن يدخل "الحسن" في الصحيح ولا يفرق بينهما، وقد نقلنا عنه هناك بعض النصوص التي تدل على أنه يقبل الحديث من الراوي الكثير الخطأ إذا لم يعلم خطؤه[40].
    وممن يرى ذلك أيضاً الحافظ أبو عبدالله الحاكم، وهو ممن لا يفرق بين الحسن لذاته والصحيح[41] أيضاً، وقد أكثر في مستدركه من تصحيح أحاديث تفرد بها رواة هم في حكم من يحسن لهم المتأخرون كأحمد بن جناب المصيصي الذي وصفه ابن حجر بأنه: (صدوق)، وقال الحاكم في حديثه: (هذا حديث صحيح الإسناد، تفرد به أحمد بن جناب المصيصي، وهو شرط من شروطنا في هذا الكتاب أنا نخرج أفراد الثقات إذا لم نجد لها علة)[42].
    وقال في حديث آخر: (هذا حديث صحيح، تفرد به عمرو بن محمد بن أبي رزين[43] وهو صدوق، ولم يخرجاه، وقد أوقفه يحيى بن سعيد الأنصاري وغيره عن نافع عن ابن عمر)[44].
    وقال في حديث آخر: (هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، لتفرد عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب[45]، ولما نسب إليه من سوء الحفظ، وهو عند المتقدمين من أئمتنا ثقة مأمون)[46].
    ومفهوم الثقة عنده واسع، يدخل فيه حتى الصدوق الذي يهم كما هو ظاهر من هذا النص، ولما عُرف أنه لا يفرق بين الحسن والصحيح، وهو يرى أن تفرد "الثقة" يُسمى شاذاً ولكن لا يمنع التصحيح[47]، ولهذا وجدنا في مستدركه عدة نصوص يقول فيها مثلاً: (صحيح الإسناد على شرطهما، وهو غريب شاذ)[48]، و(صحيح الإسناد... وهو شاذ بمرة)[49]، و(شاذ صحيح الإسناد)[50]، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط البخاري... ولعل متوهماً يتوهم أن هذا متن شاذ، فلينظر في الكتابين - يعني الصحيحين - ليجد من المتون الشاذة التي ليس لها إلا إسناد واحد ما يتعجب منه، ثم ليقس هذا عليها)[51].
    فمجمل النصوص السابقة تؤكد أن الحاكم يحتج بتفرد الصدوق إذا لم يخالف مخالفة يرى هو أنها ضارة، وقد مر معنا قبل قليل أنه قبل تفرد ابن أبي رزين مع أنه خولف.
    وممن يرى أن تفرد الصدوق مقبول أيضاً الحافظ ابن القطان الفاسي، فقد ذكر قول الحافظ عبدالحق الإشبيلي في ثابت بن عجلان "لا يحتج به"، ثم رد عليه بقوله: (وقوله في ثابت بن عجلان لا يحتج به، قول لم يقله غيره فيما أعلم، ونهاية ما قال فيه العقيلي: "لا يتابع على حديثه". وهذا من العقيلي تحامل عليه، فإنه يُمس بهذا من لا يُعرف بالثقة، فأما من عُرِف بها، فانفراده لا يضره، إلا أن يكثر ذلك منه)[52].
    ثم نقل قول بعض النقاد فيه: لا بأس به، ثم قال: (والحق أن من عُرف بالطلب، وأخذ الناس عنه، ونقل الناقلون حُسن سيرته، بتفصيل أو بإجمال بلفظ من الألفاظ المصطلح عليها، مقبول الرواية)[53]، فدل هذا أنه عنده دون الثقة المتفق عليه ومع ذلك قَبِل تفرده.
    وقد علق الحافظ ابن حجر على كلام ابن القطان السابق بقوله: (صَدَق، فإن مثل هذا لا يضره إلا مخالفته الثقات لا غير، فيكون حينئذٍ شاذاً)[54]، وقد وصف ثابت بن عجلان بأنه : (صدوق)[55].
    وهذا رأي جمهور علماء الحديث من المتأخرين ممن يرون أن الحسن لذاته حجة كما قال الصنعاني: (الحسن لذاته... لم يعتبروا في رسمه إلا خفة ضبط رواته كما عرفت، فإنهم قالوا: "فإن خف الضبط فالحسن لذاته، وبكثرة طرقه يصح"، فلم يجعلوا متابعة غيره له إلا شرطاً لصحته لا لحسنه، وأما الحسن لغيره فقد عرفناك مراراً أنه لا يصير حسناً إلا بمتابعة غيره)[56].
    وهكذا قال الشيخ عبدالفتاح أبو غدة: (وإن لم يكن هناك ما يخالف حديث الصدوق، وانفرد هو بحديث الباب، قُبِل حديثه إذ لا معارض له أقوى منه)[57].
    وذهب التهانوي إلى "أن تفرد "المختلف فيه" حجة في درجة حجية الحسن على أصل مذهب الحنفية؛ لأن التعديل مقدم على الجرح إلا إذا كان مفسراً، فإذا اختلف في التوثيق والتضعيف ولم يكن الجرح مفسراً، فالراوي ثقة عند الحنفية وآخرين غيرهم، فيقبل تفرده إذا لم يخالف الجماعة مخالفةً تستلزم ردَّ ما رواه"[58].
    وفيما أعرف فإن أغلبية المعاصرين ممن لهم كتابات منشورة على هذا الرأي.
    وممن يميلون أحياناً لهذا الرأي من كبار أئمة النقد المتقدمين: الإمام البخاري، إلا أني لم أجد ما يدل صراحة على أنه يعمم ذلك، وإنما وقفت على بعض النصوص القليلة التي تدل على أنه لا يتشدد في بعض تفردات من كانوا دون مرتبة الثقة، ولهذا أخَّرتُ الكلام عنه في هذا المبحث لوجود شكوك لدي في أنه يقبل بصفة مطلقة تفرد الصدوق ومن في حكمه.
    فيقول الحافظ ابن حجر في فُليح بن سليمان: (صدوق، تكلم بعض الأئمة في حفظه، ولم يخرج البخاري من حديثه في الأحكام إلا ما توبع عليه، وأخرج له في المواعظ والآداب وما شاكلها طائفة من أفراده)[59]، وبنحو هذا قال الذهبي، فقد قال: (قد اعتمد أبو عبدالله البخاري فليحاً في غير ما حديث...)[60] يريد أنه لم يُتابع عليها.
    وقد حَسَّن البخاري تفرد عامر بن شقيق بحديث تخليل رسول الله صلى الله عليه وسلم للحيته [61] مع أن عامر بن شقيق متكلم فيه، فقد قال له الترمذي: (إنهم يتكلمون في هذا الحديث، فقال: هو حسن)[62].
    وقد قوى أمر محمد بن إسحاق ودافع عنه دفاعاً قوياً نافياً عنه أسباب الضعف[63]، واحتج بحديثه الذي رواه عن أبي هريرة موقوفاً في أن مدرك الركوع إذا لم يقرأ الفاتحة فلا يُعد مدركاً للركعة[64]، مع علمه بكثرة تفرداته فقد قال: (محمد ابن إسحاق ينبغي أن يكون له ألف حديث ينفرد بها لا يُشاركه فيها أحد)[65]، ولم يستنكرها ولم يتكلم فيه بسببها، مع علمه بأنه قد تُكلم فيه.
    وإذا استحضرنا ما ذكرناه أول هذا المبحث عن عدد الرواة الذين أخرج لهم البخاري في صحيحه وأطلق عليهم ابن حجر وصف "الصدوق"، واستحضرنا أيضاً قول الحاكم المتقدم آنفاً عن كثرة المتون التي ليس لها إلا إسناد واحد في الصحيحين، وقول الحافظ ابن حجر[66] أن في الصحيحين قدر مائتي حديث من الغرائب الأفراد، وقول الحافظ ابن رجب[67] أن تصرف البخاري ومسلم يدل على أن ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر خلاف مذهب يحيى ابن سعيد القطان وأحمد بن حنبل وغيرهما؛ فيحتمل أن يكون في صحيح البخاري أحاديث تفرد بها بعض الصدوقين، وإن كان ذلك كما يظهر من "هدي الساري" نادراً جداً[68] وقد حرص الحافظ ابن حجر على إيراد المتابعات والشواهد ليرفع التفرد عن بعض المتكلم فيهم ممن احتج بهم البخاري، سواء في الأصول أو في الشواهد والمتابعات والمعلقات.
    والذي يحملني على عدم الجزم بأن ذلك اختيار البخاري رحمه الله، لأنني وقفت على عدة نصوص تدل على أنه لم يقبل بعض تفردات الثقات والصدوقين ولو لم يخالفوا، فمثلاً وجدته لا يقبل حديثاً تفرد به شبابة بن سوَّار وهو ثقة حافظ[69] عن شعبة بن الحجاج مع أنه لم يُخالف، ومع أن المتن محفوظ من طرق أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[70]، ومع أن علي بن المديني لم يرده وقال: (لا ينكر لرجل سمع من رجل ألفاً وألفين أن يجيء بحديث غريب)[71].
    كما وجدت البخاري رد حديثاً تفرد به حفص بن غياث عن عبيدالله بن عمر العمري وقال: (هذا حديث فيه نظر)[72]. مع أنه احتج بحفص في صحيحه في مواضع عديدة[73]، كما أن حفصاً لم يُخالف، ولهذا فقد صحح حديثه الترمذي[74]، وابن حبان[75]، فلم يقبل البخاري حديثه بسبب التفرد[76] مع كونه ثقة عنده.
    وذكر الترمذي حديثاً لعمر بن هارون البلخي يرويه عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها"[77] ثم قال: (سمعت محمد بن إسماعيل يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث، لا أعرف له حديثاً ليس لإسناده أصل أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث... ولا نعرفه إلا من حديث عمر بن هارون، ورأيته حسن الرأي في عمر)[78].
    فرد تفرد من كان يحسن الرأي فيه ويرى أنه مقارب الحديث، ولا أظن البخاري رد حديثه لمعارضته لأحاديث الأمر بإعفاء اللحى؛ لأن لفظ الإعفاء غير صريح ولا قطعي في الدلالة على منع الأخذ من اللحية، بدليل أن جمعاً من الصحابة كانوا يفعلون ذلك[79]، كما أن البخاري من عادته أن يظهر المتن المعارض إذا أراد الإعلال وتأكيد الضعف، ولم يفعل ذلك هنا.
    والنصوص السابقة تدل على أن تفرد الصدوق بل الثقة أحياناً لا يكون حجة عند البخاري، ولعله توفرت له بعض القرائن التي استدعت النظر في تلك التفردات ولو لم توجد مخالفة صريحة وواضحة.
    وعلى أية حال فإن تلك النصوص وغيرها تمنعنا من إطلاق القول بأن البخاري يقبل تفرد الصدوق، ولكن نستطيع أن نقول - نظراً لما ذكر آنفاً من نصوص أخرى - أنه يميل إلى قبول ذلك أكثر من أحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي على سبيل المثال.
    [1] معجم مقاييس اللغة (3/339).
    [2] فتح المغيث (3/113).
    [3] الجرح والتعديل (2/37).
    [4] المرجع السابق.
    [5] المدخل إلى معرفة الصحيحين (ص28)، ونحوه (ص601).
    [6] الجرح والتعديل (2/66، 137، 144، 158، 161).
    [7] المرجع السابق (2/124).
    [8] المرجع السابق (2/57، 63، 67، 72).
    [9] المرجع السابق (4/62).
    [10] تاريخ ابن معين (3/225)، (4/263)، والجرح والتعديل (7/192)، والنبلاء (9/20).
    [11] الميزان (2/508).
    [12] تهذيب الكمال (5/427)، وانظر أمثلة أخرى في تاريخ بغداد (13/451) وتهذيب الكمال (2/521).
    [13] تاريخ بغداد (11/146).
    [14] تاريخ بغداد (7/350) وتهذيب الكمال (6/272)، وانظر مثالاً آخر في تهذيب الكمال (14/499).
    [15] العلل الكبير (ص392).
    [16] التاريخ الكبير (8/80).
    [17] النبلاء (9/429).
    [18] الميزان (1/103).
    [19] النكت لابن حجر (1/407).
    [20] آداب الزفاف في السنة المطهرة (ص135-136).
    [21] ماذا عن المرأة ؟ (ص93-94).
    [22] المرجع السابق (ص186-187) بتصرف يسير.
    [23] يظهر من سياق الكلام أن المقصود اتفاق ابن أبي حاتم وابن الصلاح والسخاوي على ذلك، فهو اتفاق غير عام لكل المحدثين.
    [24] منهج النقد في علوم الحديث (ص111).
    [25] استخرجنا هذه الإحصائية عن طريق الحاسب الآلي من برنامج "الموسوعة الذهبية".
    [26] علوم الحديث (ص70-71).
    [27] المرجع السابق (ص28).
    [28] علوم الحديث (ص31).
    [29] نزهة النظر (ص30) ولمعرفة أقوال أهل العلم في ابن إسحاق وعمرو بن شعيب انظر ما تقدم في الفصل الرابع.
    [30] فتح الباري (11/167).
    [31] المرجع السابق (4/32) دار المعرفة.
    [32] المرجع السابق (13/187) دار المعرفة، وللمزيد عن مرويات ابن أبي الزناد انظر ما ذكره المعلمي في المبحث الثاني من الفصل المتقدم.
    [33] التلخيص الحبير (2/108).
    [34] كتاب المجروحين (2/283).
    [35] يعني كتاب المجروحين.
    [36] كتاب المجروحين (2/283-284).
    [37] سقطت "لم" من الأصل.
    [38] هذه الزيادة يلزم منها السياق وهي جواب الشرط، وقد سقطت من الأصل.
    [39] كتاب المجروحين (3/127).
    [40] انظر المبحث الثالث من الفصل الثالث في هذا الباب.
    [41] التقريب (20).
    [42] المستدرك (1/33).
    [43] قال ابن حجر في التقريب (5107): (صدوق ربما أخطأ).
    [44] المستدرك (1/180).
    [45] قال ابن حجر في التقريب (3592): (صدوق في حديثه لين) وتقدم قبل قليل أنه حسن ما انفرد به.
    [46] المستدرك (1/71-72).
    [47] انظر معرفة علوم الحديث (ص119-122)، وقد ذكر في المدخل إلى الإكليل (ص39) أن الأحاديث الأفراد التي يرويها الثقات تعد من الصحيح المتفق عليه.
    [48] المستدرك (1/108).
    [49] المرجع السابق (1/274).
    [50] المرجع السابق (1/277).
    [51] المرجع السابق (1/21).
    [52] بيان الوهم (5/363).
    [53] المرجع السابق (5/364).
    [54] التهذيب (2/10).
    [55] التقريب (822).
    [56] توضيح الأفكار (1/193-194).
    [57] قواعد في علوم الحديث (ص246).
    [58] المرجع السابق (ص347) مع بعض التصرف اليسير في ترتيب كلامه.
    [59] فتح الباري (1/142).
    [60] الميزان (3/365).
    [61] انظر تخريج الحديث والكلام عليه في مبحث البخاري النص الثامن عشر.
    [62] العلل الكبير (ص33).
    [63] جزء القراءة خلف الإمام للبخاري (ص40-41).
    [64] المرجع السابق (ص37).
    [65] تاريخ بغداد (1/227) وتهذيب الكمال (24/419).
    [66] النكت لابن حجر (1/368).
    [67] شرح علل الترمذي (1/456).
    [68] انظر مثلاً هدي الساري: إسماعيل بن أبي أويس، أخرج له البخاري حديثين تفرد بهما (ص410).
    [69] التقريب (2733).
    [70] العلل الكبير (ص309).
    [71] تاريخ بغداد (9/297).
    [72] العلل الكبير (2/791) تحقيق حمزة ديب، وقد سقط بعض سند الحديث في نسخة السامرائي.
    [73] هدي الساري (ص418).
    [74] جامع الترمذي (1880).
    [75] صحيح ابن حبان (12/141، 143-144).
    [76] وقد رد حديث حفص بسبب التفرد أيضاً ابن معين وأحمد وعلي بن المديني كما في التهذيب (2/417).
    [77] حكم الشيخ الألباني على هذا الحديث بأنه موضوع في السلسلة الضعيفة (1/304) لأن البلخي قد وصفه ابن معين وصالح جزرة بأنه كذاب، وانظر كلام النقاد فيه في التهذيب (7/502-505).
    [78] جامع الترمذي (5/94) ورقم الحديث (2762).
    [79] مصنف ابن أبي شيبة (8/374-376).


  • #2
    رد: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف

    عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
    ما شاء الله موضوع قيم
    جزاكم الله خيرا وتقبل الله منكم


    ربِّ خذ من حياتي حتى ترضى، واجعل كل سكنة وكل حركة وكل لحظة طَرْفٍ فيك ولك!

    تعليق


    • #3
      رد: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف


      بارك الله فيكم ونفع بكم

      تعليق


      • #4
        رد: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف

        السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        جزاكم الله خيراً وبارك الله فيكم
        اللهم إن أبي وأمي و عمتي في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِم من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر لهما وارحمهما، فإنك أنت الغفور الرحيم.

        تعليق


        • #5
          رد: تفرد الراوي الصدوق بين القبول والتوقف

          ماشاء الله
          أحسنتِ في الطرح
          بارك الله فيكِ

          يا الله
          علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

          تعليق

          يعمل...
          X