إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

شرح رياض الصالحين لابن عثيمين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • شرح رياض الصالحين لابن عثيمين


    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    - باب الإخلاص وإحضار النية في جميع الأعمال والأقوال البارزة والخفية


     
    قال الله تعالي: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5) وقال تعالي :)لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ )(الحج: من الآية37) وقال تعالي (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ )(آل عمران: من الآية29).




    الشرح

    قال المؤلف رحمه الله تعالي: (( باب الإخلاص وإحضار النية، في جميع الأعمال والأقوال البارز والخفية)):

    (( النية ))
    محلها القلب ، ولا محل لها في اللسان في جميع الأعمال ؛ ولهذا كان من نطق بالنية عند إرادة الصلاة، أو الصوم، أو الحج، أو الوضوء، أو غير ذلك من الأعمال كان مبتدعاً قائلاً في دين الله ما ليس منه؛ لأن النبي صلي الله عليه وسم كان يتوضأ ، ويصلي ويتصدق ، ويصوم ويحج، ولم يكن ينطق بتالنية، فلم يكن يقول : اللهم إني نويت أن أتوضأ ، اللهم إني نويت أن أصلي، اللهم إني نويت أن أتصدق ، اللهم إني نويت أن أحج، لم يكن يقول هذا؛ وذلك لأن النية محلها القلب، والله عز وجل يعلم ما في القلب ، ولا يخفي عليه شيء؛ كما قال الله تعالي في الآية التي ساقها المؤلف: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ )(آل عمران: الآية29) .



    ويجب علي الإنسان أن يخلص النية لله سبحانه وتعالي في جميع عباداته، وأن لا ينوى بعباداته إلا وجه الله والدار الآخرة.
    وهذا هو الذي أمر الله به في قوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ )، أي مخلصين له العمل، ( وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وينبغي أن يستحضر النية، أي: نية الإخلاص في جميع العبادات.

    فينوى مثلاً الوضوء ، وأنه توضأ لله، وأنه توضأ أمثالاً لأمر الله.
    فهذه ثلاثة أشياء:
    نية العبادة.
    ونية أن تكون لله.
    ونية أنه قام بها امتثالاً لأمر الله.
    فهذا أكمل شيء في النية.
    كذلك في الصلاة : تنوي أولاً: الصلاة، وأنها الظهر ، أو العصر ، أو المغرب ، أو العشاء ن أو الفجر ، أو ما أشبه ذلك ، وتنوي ثانياً: أنك إنما تصلي لله عز وجل لا لغيره، لا تصلي رياء ولا سمعة، ولا لتمدح على صلاتك ، ولا لتنال شيئاً من المال أو الدنيا، ثالثاً : تستحضر أنك تصلي امتثالاً لأمر ربك حيث قال: (أَقِمِ الصَّلاة)(ْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) إلي غير ذلك من الأوامر.
    وذكر المؤلف ـ رحمه الله ـ عدة آيات كلها تدل على أن النية محلها القلب ، وأن الله ـ سبحانه وتعالي ـ عالم بنية العبد ، ربما يعمل العبد عملاً يظهر أمام الناس أنه عمل صالح ، وهو عمل فاسد أفسدته النية، لأن الله ـ تعالي ـ يعلم ما في القلب ، ولا يجازى الإنسان يوم القيامة إلا على ما في قلبه، لقول الله تعالي: )إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) (فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ) (الطارق:8-10) يعني :يوم تختبر السرائر ـ القلوب ـ كقوله: )أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (العاديات:9-10) .
    ففي الآخرة: يكون الثواب والعقاب ، والعمل والاعتبار بما في القلب.

    أما في الدنيا : فالعبرة بما ظهر، فيعامل الناس بظواهر أحوالهم، ولكن هذه الظواهر: إن وافقت ما في البواطن، صلح ظاهره وباطنهن وسريرته وعلانيته، وإن خالفت وصار القلب منطوياً على نية فاسد ، نعوذ بالله ـ فبما أعظم خسارته *****!! يعمل ويتعب ولكن لا حظ له في هذا العمل؛ كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( قال الله تعالي: أنا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه))(5).

    فالله الله!! أيها الاخوة بإخلاص النية لله سبحانه وتعالي!!
    واعلم: أن الشيطان قد يأتيك عند إرادة عمل الخير، فيقول لك: إنك إنما تعمل هذا رياء، فيحبط همتك ويثبطك ولكن لا تلتفت إلي هذا ، ولا تطعه، بل اعمل ولو قال لك: إنك إنما تعمل رياء أو سمعة؛ لأنك لو سئلت: هل أنت الآن تعمل هذا رياء وسمعة؟ : لا!!
    إذن فهذا الوسواس الذي أدخله الشيطان في قلبك، لا تلتفت له، وافعل لخير؛ ولا تقل: إني أرائي وما أشبه ذلك.





    1- وعن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزي بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤس بن غالب القرشي العدوي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امري ما نوي فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله ، فهجرته إلي الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلي ما هاجر إليه))؛ متفق على صحته؛(6) رواه إماما المحدثين : أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن المغيرة بن بردزبة الجعفي البخاري ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج ابن مسلم القشيري النيساوي ـ رضي الله عنهما ـ في صحيحيهما اللذين هما اصح الكتب المصنفة.

     


    >>> الشرح <<<

    لما كان هذا الباب في الإخلاص ، إخلاص النية لله عز وجل، وأنه ينبغي أن تكون النية مخلصة لله في كل قول، وفي كل فعل، وعلى كل حال، ذكر المؤلف من الآيات ما يتعلق بهذا المعني، وذكر ـ رحمه الله ـ من الأحاديث ما يتعلق به أيضاً، وصدر هذا بحديث عمر بن الخطاب الذي قال فيه : سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)):



    هاتان الجملتان اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيهما:
    فقال بعض العلماء: إنهما جملتان بمعني واحد ، وإن الجملة الثانية تأكيد للجملة الأولي.
    ولكن هذا ليس بصحيح، وذلك لأن الأصل في الكلام أن يكون تأسيسا لا توكيداً ، ثم إنهما عند التأمل يتبين أن بينهما فرقاً عظيماً؛ فالأولي سبب، والثانية نتيجة:
    الأولي: سبب يبين فيها النبي صلي الله عليه وسلم أن كل عمل لابد فيه من نية، فكل عمل يعمله الإنسان وهو عاقل مختار، فلابد فيه من نية، ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً إلا بنية؛ حتى قال بعض العلماء: (( لو كلفنا الله عملاً بلا نية ، لكان من تكليف ما لا يطاق!)).
    وهذا صحيح ؛ كيف تعمل وأنت في عقلك، وأنت مختار غير مكره، كيف تعمل عملاً بلا نية؟ ! هذا مستحيل؛ لأن العمل ناتج عن إرادة وقدرة ، والإرادة هي النية.
    إذن: فالجملة الأولي معناها أنه ما من عامل إلا وله نية، ولكن النيات تختلف اختلافاً عظيماً، وتتباين تبتيناً بعيداً كما بين السماء والأرض.
    من الناس من نيته في القمة في أعلي شيء، ومن الناس من نيته في القمامة في أخس شيء وأدني شيء؛ حتى إنك لتري الرجلين يعملان عملاً واحداً يتفقان في ابتدائه وانتهائه وفي أثنائه، وفي الحركات والسكنات، والأقوال والأفعال، وبينهما كما بين السماء والأرض، وكل ذلك باختلاف النية.
    إذن : الأساس أه ما من عمل إلا بنية، ولكن النيات تختلف وتتابين.
    نتيجة ذلك قال: (( وإنما لكل أمري ما نوي))؛ فكل امريء له ما نوي: إن نوي الله والدار الآخر في أعماله الشرعية ، حصل له ذلك، وإن نوي الدنيا ، قد تحصل وقد لا تحصل.
    قال الله تعالي: )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ)(الاسراء: الآية18) ما قال: عجلنا له ما يريد ؛ بل قال: (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ) ، لا ما يشاء هو؛ (لِمَنْ نُرِيدُ) لا لكل إنسان ، فقيد المعجل والمعجل له؛ فمن الناس: من يعطي ما يريد من الدنيان ومنهم: من يعطي شيئاً منه، ومنهم: من لا يعطي شيئاً أبدا.
    أما : (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الاسراء:19) لابد أن يجني ثمرات هذا العمل الذي أراد به وجه الله والدار الآخرة.
    إذن (( إنما لكل امري ما نوي)).
    وقوله: (( إنما الأعمال بالنيات..إلخ)) هذه الجملة والتي قبلها ميزان لكل عمل؛ لكنه ميزان الباطن، وقوله ص فيما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عها: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))(7) ميزان للأعمال الظاهرة.
    ولهذا قال أهل العلم : (( هذان الحديثان يجمعان الدين كله)) حديث عمر: (( إنما الأعمال بالنيات )) ميزان للباطن ، وحديث عائشة : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا)) ميزان للظاهر.
    ثم ضرب النبي صلي الله عليه وسلم مثلاً يطبق هذا الحديث عليه، قال: (( فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله ، فهجرته إلي الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلي ما هاجر إليه)):
    (( الهجرة)):
    أن ينتقل الإنسان من دار الكفر إلي دار الإسلام . مثل أن يكون رجل في أمريكا ـ وأمريكا دار كفر ـ فيسلم، ولا يتمكن من إظهار دينه هناك، فينتقل منها إلي البلاد الإسلامية، فهذه هي الهجرة.
    وإذا هاجر الناس ، فهم يختلفون في الهجرة.
    الأول: منهم من يهاجر ، ويدع بلده إلي الله ورسوله ؛ يعني إلي شريعة الله التي شرعها الله على رسوله صلي الله عليه وسلم هذا هو الذي ينال الخير،، وينال مقصوده؛ ولهذا قال: (( فهجرته إلي الله ورسوله))؛ أي فقد أدرك ما نوي.
    الثاني من المهاجرين: هاجر لدنيا يصيبها ، يعني : رجل يحب جمع المال، فسمع أن بلاد الإسلام مرتعاً خصباً يصيبها خصباً لاكتساب الأموال، فهاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام؛ من أجل الماء فقط، لا يقصد أن يستقيم دينه، ولا يهتم بدينه، ولكن همه المال.
    الثالث: رجل هاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام؛ يريد امرأة يتزوجها، قيل له: لا نزوجك إلا في بلاد الإسلام، ولا تسافر بها إلي بلد الكفر ، فهاجر من بلده ـ إلي بلاد الإسلام ؛ من أجل أن يتزوج هذه المرأة.
    فمريد الدنيا ومريد المرأة، لم يهاجر إلي الله ورسوله، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم (( فهجرته إلي ما هاجر إليه))، وهنا قال (( إلي ما هاجر إليه)) ولم يقل (( فهجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها )) فلماذا؟
    قيل: لطول الكلام؛ لأنه إذا قال: فهجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ صار الكلام طويلاً ، فقال: (( هجرته إلي ما هاجر إليه))




    وقيل : بل لم ينص عليهما؛ احتقاراً لهما، وإعراضاً عن ذكرهما؛فلأنهما حقيران؛ أي: الدنيا، والزوجة. ونية الهجرة ـ التي هي من أفضل الأعمال - لإرادة الدنيا والمرأة؛ نية منحطة سافلة، قال: (( فهجرته إلي ما هاجر إليه)) فلم يذكر ذلك احتقاراً ، لأنها نية فاسدة منحطة.
    وعلي كل حال ، سواء هذا أو الجميع؛ فإن هذا الذي نوي بهجرته الدنيا، أو المرأة التي ينكحها ، لا شك أن نية سافلة منحطة هابطة، بخلاف الأول الذي هاجر غلي الله ورسوله صلي الله عليه وسلم .

    أقسام الهجرة:

    الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل ، وتكون للمكان.
    القسم الأول : هجرة المكان : فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلي بلد لا يوجد فيه ذلك.
    وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلي بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم إنه يجب علي الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلي بلد الإسلام إذا كان غير قادر علي إظهار دينه.
    وأما إذا كان قادراً علي إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب ، وبناء علي ذلك يكون السفر إلي بلد الكف أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان ؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته ، والهجرة منه.
    فذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين ؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلي بلد الكفر ؛ لما في ذلك من الخطر على دينه ، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من الخطر على دينه، وعلي أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار،ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع ، كما قال الله تبارك وتعالي: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:123) وقال تعالي: (وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(التوبة: من الآية120) .




    فالكافر إيا كان، سواء كان من النصارى، أو من اليهود، أو من الملحدين ، وسواء تسمي بالإسلام أم لم يتسم بالإسلام، الكافر عدو لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين جميعاً، مهما تلبس بما تلبس به؛ فإنه عدو!!
    فلا يجوز للإنسان أن يسافر إلي بلد الكفر إلا بشروط ثلاثة:
    الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ لأن الكفار يوردون على المسلمين شبهاً في أخلاقهم،وفي كل شيء يوردون الشبهة؛ ليبقي الإنسان شاكا متذبذبا ، ومن المعلوم أن الإنسان إذا شك في الأمور التي يجب فيها اليقين؛ فإنه لم يقم بالواجب ، فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره - الإيمان بهذه - يجب أن يكون يقيناً ؛ فإن شك الإنسان في شيء من ذلك فهو كافر.
    فالكفار يدخلون علي المسلمين الشك، حتى إن بعض زعمائهم صرح قائلاً: لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم من دينه إلي دين النصارى، ولكن يكفي أن تشككوه في دينه؛ لأنكم إذا شككتموه في دينه سلبتموه الدين، وهذا كاف، أنتم أخرجوه من هذه الحظيرة التي فيها الغلبة والعزة والكرامة ويكفي. أما أن تحاولوا أن تدخلوه في دين النصارى - المبني علي الضلال والسفاهة - فهذا لا يمكن ، لأن النصارى ضالون ، كما جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم(8) ، وإن كان دين المسيح عليه الصلاة والسلام دين حق، لكنه دين الحق في وقته قل أن ينسخ برسالة النبي صلي الله عليه وسلم فإن الهدي والحق فيما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم .
    الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات؛ لأن الإنسان يدفع به الشبهات. الذي ليس عنده دين إذا ذهب إلي بلاد الكفر انغمس؛ لأنه يجد زهرة الدنيا، هناك شهوات ، من خمر، وزني، ولوط. كل إجرام موجود في بلاد الكفر.فإذا ذهب إلي هذه البلاد يخشي عليه أن ينزلق في هذه الأوحال، إلا إذا كان عنده دين يحميه .فلابد أن يكون عند الإنسان دين يحميه من الشهوات.
    الشرط الثالث: أن يكون محتاجاً إلي ذلك؛ مثل أن يكون مريضاً؛يحتاج إلي السفر إلي بلاد الكفر للاستشفاء، أو يكون محتاجاً إلي علم لا يوجد في بلد الإسلام تخصص فيه؛ فيذهب إلي هناك ويتعلم ، أو يكون الإنسان محتاجاً إلي تجارة، يذهب ويتجر ويرجع. المهم أنه لابد أن يكون هناك حاجة ولهذا أري أن الذين يسافرون إلي بلد الكفر من أجل السياحة فقط. أري أنهم آثمون ، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم، وإضاعة لمالهم، وسيحاسبون عنه يوم القيامة؛ حين لا يجدون مكاناً يتفسحون فيه أو يتنزهون فيه، حين لا يجدون إلا أعمالهم، لأن هؤلاء يضيعون أوقاتهم ، ويتلفون أموالهم، ويفسدون أخلاقهم، وكذلك ربما يكون معهم عوائلهم، ومن عجب أن هؤلاء يذهبون إلي بلاد الكفر التي لا يسمع فيها صوت مؤذن، ولا ذكر ذاكر، وإنما يسمع فيها أبواق اليهود، ونواقيس النصارى، ثم يبقون فيها مدة هم وأهلوهم وبنوهم وبناتهم، فيحصل في هذا شر كثير، نسأل الله العافية والسلامة.
    وهذا من البلاء الذي يحل الله به النكبات التي تأتينا، والتي نحن الآن نعيشها كلها بسبب الذنوب والمعاصي ، كما اقل الله تعالي: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30) نحن غافون ، نحن آمنون في بلادنا. كأن ربنا غافل عنان كأنه لا يعلم ، كأنه لا يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
    والناس يعصرون في هذا الحوداث، ولكن قلوبهم قاسية والعياذ بالله! وقد قال الله سبحانه: )وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) (المؤمنون:76) أخذناهم بالعذاب، ونزل بهم، ومع ذلك ما استكانوا إلي الله، وما تضرعوا إليه بالدعاء، وما خافوا من سطوته، ولكن قست القلوب - نسأ الله العافية-وماتت؛ حتى أصبحت الحوادث المصيرية تمر على القلب وكأنها ماء بارد ، نعوذ بالله من موت القلب وقسوته، وإلا لو كان الناس في عقل، وفي قلوب حية، ما صاروا علي هذا الوضع الذي نحن عليه الآن، مع أننا في وضع نعتبر أننا في حال حرب مدمرة مهلكة، حرب غازات الأعصاب والجنود وغير ذلك، ومع هذا لا تجد أحداً حرك ساكناً إلا أن يشاء الله، هذا لا شك أنه خطأ ، إن أناسا في هذه الظروف العصيبة ذهبوا بأهليهم يتنزهون في بلاد الكفر، وفي بلاد الفسق وفي بلاد المجون والعياذ بالله !
    والسفر إلي بلاد الكفر للدعوة يجوز؛ إذا كان له أثر وتأثير هناك فإنه جائز، لأنه سفر لمصلحة، وبلاد الكفر كثير من عوامهم قد عمي عليهم الإسلام، لا يدرون عن الإسلام شيئاً، بل قد ضللوا، وقيل لهم إن الإسلام دين وحشية وهمجية ورعاع، ولا سيما إذا سمع الغرب بمثل هذه الحوادث التي حصلت علي أيدي من يقولون إنهم مسلمون، سيقولون أين الإسلام؟! هذه وحشية!! وحوش ضارية يعدو بعضها علي بعض ويأكل بعضها بعضا، فينفر الناس من الإسلام بسبب أفعال المسلمين، نسأل الله أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم.
    القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلي الله عليه وسلم : (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه))(9) فتهجر كل ما حرم الله عليك ، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله ؛ فتجهر السبب والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلي هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.
    القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية ؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة.
    والمصلحة والفائدة إنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية.
    ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا ، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلي صوابه، ورجل ثالث-وهو أعظمهم-لا يصلي ؛ فهذا مرتد كافر - والعياذ بالله -؛ يجب أن يهجر؛ فلا يرد عليه السلام، ولا يسلم عليه، ولا تجاب دعوته حتى إذا عرف نفسه ورجع إلي الله وعاد إلي الإسلام انتفع بذلك.
    أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفعن وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر، لأن الهجر إذا كان للكفر فإنه يهجر. والكافر المرتد يهجر على كل حال - أفاد أم لم يفد - لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام(10).
    ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان.
    فيبقي النظر بعد ذلك؛ هل الهجر مفيد أو لا ؟ فإن أفاد، وأوجب أن يدع الإنسان معصيته فإنه يهجر، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه ، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم - الذين تختلفوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلي الله عليه وسلم(11) وأمر المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعا عظيماً ولجأوا إلي الله، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم.
    هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان ، وهجرة العمل، وهجرة العامل.





    2-وعن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (( يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم)) قالت: يا رسول الله، كيف تخسف بأولهم وآخرهم وفيهم اسوافهم ، ومن ليس منهم؟ قال: (( يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم))(12) ( متفق عليه) هذا لفظ البخاري.





    >>> الشرح <<<

    ذكر المؤلف حديث عائشة ـ رضي الله عنها- أن النبي صلي الله عليه وسلم أخبر أنه يغزو جيش الكعبة، الكعبة المشرفة حماها الله وأنقذها من كل شر.

    هذه الكعبة هي بيت الله؛ بناه إبراهيم ، وابنه إسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - وكانا يرفعان القواعد من البيت ويقولان ) رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(البقرة: من الآية127)
    هذا البيت أراد ابرهة أن يغزو من اليمن ، فغزاه بجيش عظيم في مقدمته فيل عظيم؛ يريد أن يهدم به الكعبة - بيت الله - فلما قرب من الكعبة ووصل إلي مكان يقال له المغمس حرن الفيل، وأبي أن يتقدم ، فجعلوا ينهرونه ليتقدم إلي الكعبة فأبي ، فإذا صرفوه نحو اليمن هرول وأسرع؛ ولهذا قال الرسول - عليه الصلاة والسلام - في غزوة الحديبة لما أن ناقته حزنت ، وبركت من غير علة - قال الرسول صلي الله عليه وسلم : (( ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق!))(13) فالنبي - عليه الصلاة والسلام - يدافع عن بهيمة ، لأن الظلم لا ينبغي، ولو على البهائم.
    (( ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق - أي عادة- ولكن حبسها حابس الفيل)) وحابس الفيل: هو الرب سبحانه وتعالي، (( والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطتيهم إياها))



    المهم أن الكعبة غزيت من قبل اليمن، في جيش عظيم ، يقوده هذا الفيل العظيم، ليهدم الكعبة، فلما وصلوا إلي المغمس أبي الفيل أن يمشي ، وحرن ، فنتهروه، ولكن لا فائدة، فبقوا هناك وانحبسوا ، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ، والأبابيل : يعني الجماعات الكثيرة من الطيور ، وكل طير يحمل حجراً قد أمسكه برجله، ثم يرسله على الواحد منهم،حتى يضربه مع هامته ويخرج إلي دبره )فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل:5).كأنهم زرع أكلته البهائم ، وأندكوا في الأرض ، وفي هذا يقول أمية بن الصلت:

    حبس الفيل في المغمس حتى ظل يحبو كأنه معقور

    فحمي الله عز وجل بيته من كيد هذا الملك الظالم الذي ججاء ليهدم بيت الله، وقد قال الله عز وجل، : )وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الحج: من الآية25)
    في آخر الزمان يغزو قوم الكعبة، جيش عظيم.
    وقوله : (( حتى إذا كانوا بيداء من الأرض)) أي بأرض واسعة متسعة، خسف الله بأولهم وآخرهم.
    خسفت بهم الأرض ، وساخوا فيها هم وأسواقهم، وكل من معهم.
    وفي هذا دليل على أنهم جيش عظيم؛ لأن معهم اسواقهم؛ للبيعوالشراء وغير ذلك.
    فيخسف الله بأولهم وآخرهم.لما قال الرسول صلي الله عليه وسلم هذا، ورد على خاطر عائشة - رضي الله عنها- سؤال، فقالت: يا رسول الله(( كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم ؟)) أسو أقهم: الذين جاءوا للبيع والشراء؛ ليس لهم قصد سيء في غزو الكعبة، وفيهم أناس ليسوا منهم تبعوهم من غير أن يعلموا بخطتهم، فقال الرسول صلي الله عليه وسلم : (( يخسف بأولهم وآخرهم وأسواقهم ومن ليس منهم ثم يبعثون يوم القيامة على نياتهم)) كل له ما نوي.
    هذا فرد من أفراد قول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)).




    وفي هذا الحديث عبرة: أن من شارك أهل الباطل وأهل البغي والعدوان، فإنه يكون معهم في العقوبة؛ الصالح والطالح، العقوبة إذا وقعت تعم الصالح والطالح، والبر والفاجر، والمؤمن والكافر، والمصلي والمستكبر، ولا تترك أحداً، ثم يوم القيامة يبعثون علي نياتهم.
    يقول الله عز وجل: )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ



    اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
    ) (لأنفال:25) والشاهد من هذا الحديث قول الرسول صلي الله عليه وسلم : (( ثم يبعثون علي
    نياتهم))
    فهو كقوله: (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوي)).






    3- وعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: قال النبي صلي الله عليه وسلم (( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونبة وإذا استفرتم فانفروا))(13) متفق عليه.
    ومعناه : لا هجرة من مكة؛ لأنها صارت دار إسلام.







    >>> الشرح <<<
     في هذا الحديث نفي رسول الله صلي الله عليه وسلم الهجرة بعد الفتح، فقال: (( لا هجرة))وهذا النفي ليس على عمومه، يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح، بل إنه (( وهذا النفي ليس على عمومه ، يعني أن الهجرة لم تبطل بالفتح، بل إنه (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها))(14) _ كما جاء ذلك في الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم - لكن المراد بالنفي هنا نفي الهجرة من مكة كما قاله المؤلف - رحمه الله-؛ لأن مكة بعد الفتح صارت بلاد إسلام، ولن تعود بعد ذلك بلاد كفر ، ولذلك نفي النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم أن تكون هجرة بعد الفتح.

    وكانت مكة تحت سيطرة المشركين، وأخرجوا منها رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فهاجر صلي الله عليه وسلم بإذن ربه إلي المدينة وبعد ثمان سنوات رجع النبي صلي الله عليه وسلم إلي مكة فاتحاً مظفراً منصوراً- صلوات الله وسلامه عليه-.
    فصارت مكة كونها بلد كفر النبي صلي الله عليه وسلم صارت بلد إيمان وبلد إسلام، ولم يكن منها هجرة بعد ذلك.
    وفي هذا دليل على أن مكة لن تعود بلاد كفر، بل ستبقي بلاد إسلام إلي أن تقوم الساعة، أو إلي أن يشاء الله.
    ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((ولكن جهاد ونية)) ؛ أي الأمر بعد هذا جهاد؛ أي يخرج أهل مكة من مكة إلي الجهاد.
    و(( النية)) أي النية الصالحة للجهاد في سبيل الله، وذاك بان ينوي الإنسان بجهاده، أن تكون كلمة الله هي العليا.
    ثم قال عليه الصلاة والسلام(( وإذا استنفرتم فانفروا)) يعني : إذا استنفركم ولي أمركم للجهاد في سبيل الله، فانفروا وجوباً، وحينئذ يكون الجهاد فرض عين، إذا استنفر الناس للجهاد؛ وجب عليهم أن ينفروا، وألا يتخلف أحد إلا من عذره ، لقول الله تعالي: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) (إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئا)(التوبة: من الآية38/39)، وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الجهاد فرض عين.
    الموضع الثاني: إذا حضر بلدة العدو، أي جاء العدو حتى وصل إلي البلد وحصر البلد، صار الجهاد فرض عين، ووجي علي كل أحد أن يقاتل، حتى على النساء والشيوخ القادرين في هذه الحال، لأن هذا قتال دفاع.
    وفرق بين قتال الدفاع وقتال الطلب.
    فيجب في هذا الحال أن ينفر الناس كلهم للدفاع عن بلدهم.
    الموضع الثالث: إذا حضر الصف ، والتقي الصفان؛ صف الكفار وصف المسلمسن؛ صار الجهاد حينئذ فرض عين، ولا يجوز لأحد أن ينصرف كما قال الله تعالي: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ)(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (لأنفال:15،16) .
    وقد جعل النبي صلي الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات.(14)
    الموضع الرابع: إذا احتيج إلي الإنسان ؛ بأن يكون السلاح لا يعرفه إلا فرد من الأفراد، وكان الناس يحتاجون إلي هذا الرجل؛ لاستعمال هذا السلاح الجديد مثلاً؛ فإنه يتعين عليه أن يجاهد وإن لم يستنفره الإمام وذلك لأنه محتاج إليه.
    ففي هذه المواطن الأربعة، يكون الجهاد فرض عين.
    وما سوي ذلك فإنه يكون فرض كفاية.
    قال أهل العلم: ويجب علي المسلمين ان يكون منهم جهاد في العام مرة واحدة، يجاهد أعداء الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لأجل أن يدافعوا عن الوطن من حيث إنه وطن، لأن الدفاع عن الوطن من حيث هو وطن يكون من المؤمن والكافر، حتى الكفار يدافعون عن أوطانهم، لكن المسلم يدافع عن دين الله، فيدافع عن وطنه؛ لا لأنه وطنه مثلاً، ولكن لأنه بلد إسلامي؛ فيدافع عنه حماية للإسلام الذي حل في هذه البلد.
    ولذلك يجب علينا في مثل هذه الظروف التي نعيشها اليوم النبي صلي الله عليه وسلم يجب علينا أن نذكر جميع العامة بأن الدعوة إلي تحرير الوطن، وما أشبه ذلك دعوة غير مناسبة، وأنه يجب أن يعبأ الناس تعبئة دينية ، ويقال إننا ندافع عن ديننا قبل كل شيء؛ لأن بلدنا بلد دين، بلد إسلام يحتاج إلي حماية ودفاع، فلابد ان ندافع عنها بهذه النية. أما الدفاع بنية الوطنية، أو بنية القومية، فهذا يكون من المؤمن والكافر، ولا ينفع صاحبه يوم القيامة، وإذا قتل وهو يدافع بهذه النية فليس بشهيد؛ لأن الرسول صلي الله عليه وسلم سئل عن الرجل يقاتل حمية،ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليري مكانه أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).(15)
    أنتبه إلي هذا القيد (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)) لا لأنه وطنه وإذا كنت تقاتل لوطنك ؛ فأنت والكافر سواء ، لكن قلت لتكون كلمة الله هي العليا، ممثلة في بلدك؛ لأن بلدك بلد إسلام؛ ففي هذه الحال يكون القتال قتالاً في سبيل الله.
    وثبت عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: (( لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله- أي يخرج - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب؛ اللون لون الدم، والريح ريح المسك))(16).
    فأنظر كيف اشترط النبي صلي الله عليه وسلم للشهادة أن يكون الإنسان يقاتل في سبيل الله، والقتال في سبيل الله؛ أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
    فيجب على طلبة العلم أن يبينوا للناس أن القتال للوطن ليس قتالاً صحيحاً وإنما يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وأقاتل عن وطني ؛ لأنه وطن إسلامي؛ فأحميه من أعدائه وأعداء الإسلام؛ فبهذه النية تكون النية صحيحة والله الموفق.





    4-وعن أبي عبد الله جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما -
    قال: كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في غزاة فقال: (( إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم؛ حبسهم المرض)) وفي رواية : (( إلا شركوكم في الأجر))(17) رواه مسلم.
    ورواه البخاري عن أنس - رضي الله عنه - قال: (( رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلي الله عليه وسلم فقال: (( إن أقواماً بالمدينة خلفنا، ما سلكنا عبا، ولا واديا إلا وهم معنا ، حبسهم العذر))





     


    >>> الشرح <<<


    قوله : (( في غزاة)) أي في غزوة.

    فمعني الحديث أن الإنسان إذا نوي العمل الصالح، ولكنه حبسه عنه حابس فإنه يكتب له أجر ما نوي.
    أما إذا كان يعلمه في حال العذر؛ أي: لما كان قادراً كان يعلمه، ثم عجز عنه فيما بعد؛ فإنه يكتب له أجر العمل كاملاً، لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً))(18). فالمتمني للخير، الحريص عليه؛ إن كان من عادته أنه كان يعلمه، ولكنه حبسه عنه حابس ، كتب له أجره كاملاً.
    فمثلاً: إذا كان الإنسان من عادته أن يصلي مع الجماعة في المسجد، ولكنه حبسه حابس، كنوم أو مرض، أو ما أشبهه فإنه يكتب له أجر المصلي مع الجماعة تماماً من غير نقص.
    وكذلك إذا كان الإنسان من عادته أن يصلي تطوعاً، ولكنه منعه منه مانع، ولم يتمكن منه؛ فإنه يكتب له أجره كاملاً، وكذلك إن كان من عادته أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ثم عجز عن ذلك، ومنعه مانع، فإنه يكتب له الأجر كاملاً.
    وغيره من الأمثلة الكثيرة.
    أما إذا كان ليس من عادته أن يفعله؛ فإنه يكتب له أجر النية فقط، دون أجر العمل.
    ودليل ذلك: أن فقراء الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله سبقنا أهل الدثور بالدرجات العلي، والنعيم المقيم _ يعني : أن أهل الأموال سبقوهم بالصدقة والعتق- فقال النبي صلي الله عليه وسلم : (( أفلا أخبركم بشي إذا فعلتموه أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد إلا من عمل مثل ما عملتم!! فقال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين)) ففعلوا، فعلم الأغنياء بذلك؛ ففعلوا مثلما فعلوا، فجاء الفقراء إلي الرسول صلي الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا؛ ففعلوا مثله، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : (( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء))(19) والله ذو الفضل العظيم.ولم يقل لهم: إنكم أدركتم أجر عملهم، ولكن لا شك أن لهم أجر نية العمل.
    ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فيمن آتاه الله مالاً؛ فجعل ينفقه في سبل الخير، وكان رجل فقير يقول: لو أن لي مال فلان لعملت مثل عمل فلان، قال النبي صلي الله عليه وسلم : (( فهو بنيته النبي صلي الله عليه وسلم فأجرهما سواء))(21).
    أي سواء في اجر النية، أما العمل فإنه لا يكتب له أجره إلا إن كان من عادته أن يعمله.
    *وفي هذا الحديث: إشارة إلي من يخرج في سبيل الله، في الغزو، والجهاد في سبيل الله، فإن له أجر ممشاه، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم : (( ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا ولا شعبا إلا وهم معكم)).




    ويدل لهذا قوله تعالي: ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
    سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:120/121).




    ونظير هذا : أن الرجل إذا توضأ في بيته فأسبغ الوضوء ، ثم خرج إلي المسجد؛ لا
    يخرجه إلا الصلاة؛ فإنه لا يخطو خطوة إلا رفع الله له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة.
    وهذا من فضل الله - عز وجل - أن تكون وسائل العمل فيها هذا الأجر الذي بينه
    الرسول صلي الله عليه وسلم . والله الموفق . اهـ .



    وعن أبي معن بن يزيد بن الخنس- رضي الله عنهم - وهو وأبوه وجده صحابيون، قال: كان أبي - يزيد - اخرج دنانير يتصدق بها، فوضعها عند رجل في المسجد، فجئت فاخذتها، فآتيته بهان فقال: والله ما إياك أردت فخاصمته إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: (( لك ما نويت يا يزيد ولك ما أخذت يا مغن))(22) رواه البخاري).




    الشرح


    هذا الحديث الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - في قصة معن بن يزيد وأبيه - رضي الله عنهما -، أن أباه يزيد أخرج دراهم عند رجل في المسجد ليتصدق بها على الفقراء ، فجاء ابنه معن فأخذها ، وربما يكون ذلك الرجل الذي وكل فيها لم يعلم أنه ابن يزيد. ويتحمل أنه أعطاه لأنه من المستحقين.
    فبلغ ذلك أباه يزيد، فقال له: (( ما إياك أردت _ أي ما أردت أن أتصدق بهذه الدراهم عليك - فذهب إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال النبي صلي الله عليه وسلم : (( لك يا يزيد ما نويت، ولك يا معن ما أخذت)).
    فقوله عليه الصلاة والسلام: (( لك يا يزيد ما نويت)) يدل على أن الأعمال بالنيات ، وأن الإنسان إذا نوي الخير حصل له، وإن كان يزيد لم ينو أن يأخذ هذه الدراهم ابنه، لكنه أخذها؛ وابنه من المستحقين؛فصارت له، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم : (( لك يا معن ما أخذت)).



    ففي هذا الحديث : دليل لما ساقه المؤلف من أجله أن الأعمال بالنيات، وأن الإنسان يكتب له أجر ما نوي؛ وإن وقع الأمر على خلاف ما نوي، وهذه القاعدة لها فروع كثيرة:


    منها
    : ما ذكره العلماء رحمهم الله أن الرجل لو أعطي زكاته شخصاً يظن أنه من أهل الزكاة ، فتبين أنه غني وليس من أهل الزكاة فإن زكاته تجزئ ، وتكون مقبولة تبرأ به ذمته؛ لأنه نوي أن يعطيها من هو أهل لها، فإذا نوي فله نيته.


    ومنها
    : أن الإنسان لو أراد أن يوقف - مثلاً- بيتلً صغيراً، فقال: وقفت بيتي الفلاني، وأشار إلي الكبير، لكنه، لكنه خلاف ما نواه بقلبه، فإنه على ما نوي وليس على ما سبق به لسانه.


    ومنها
    : لو ان إنساناً جاهلاً لا يعرف الفرق بين العمرة والحج ، فحج مع الناس، فقال لبيك حجاً، وهو يريد عمرة يتمتع بها إلي الحج؛ فإنه له ما نوي ، مادام أن قصده يريد العمرة، لكن قال لبيك حجاً مع هؤلاء الناس، فله ما نوي، ولا يضر سبق لسانه بشيء.


    ومنها أيضاً
    : لو قال الإنسان لزوجته: أنت طالق؛ ويريد أنت طالق من قيد لا من نكاح، فله ما نوي، ولا تطلق بذلك زوجته.
    فهذا الحديث له فوائد كثيرة وفروع منشرة في أبواب زوجته.



    ومن فوائد هذا الحديث
    : أنه يجوز للإنسان أن يتصدق على ابنه، والدليل على هذا أن النبي صلي الله عليه وسلم أمر بالصدقة وحث عليها، فأرادت زينب- زوجة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنها - أن تتصدق بشيء من مالها، فقال لها زوجها أنا وولدك أحق من تصدقت عليه - لأنه كان فقيراً- رضي الله عنه - فقالت: لا حتى اسال النبي صلي الله عليه وسلم فقال: (( صدق ابن مسعود زوجك وولدك أحق من تصدقت به عليهم))(23)



    ومن فوائد الحديث:
    أنه يجوز أن يعطي الإنسان ولده من الزكاة، بشرط أن لا يكون في ذلك إسقاط لواجب عليه.
    يعني مثلاً: لو كان الإنسان عنده زكاة وأراد أن يعطيها ابنه، من أجل أن لا يطالبه بالنفقة؛ فهذا لا يجزي؛ لأنه أراد بإعطائه أن يسقط واجب نفقته.

    أما لو أعطاه ليقضي ديناً عليه؛ مثل أن يكون على الابن حادث، ويعطيه أبوه من الزكاة ما يسدد به هذه الغرامة؛ فإن ذلك لا بأس به، وتجزئه من الزكاة، لأن ولده أقرب الناس إليه؛ وهو الآن لم يقصد بهذا إسقاط واجب عليه، إنما قصد بذلك إبراء ذمة ولده؛ لا الإنفاق عليه، فإذا كان هذا قصده فإن الزكاة تحل له. والله اعلم
    التعديل الأخير تم بواسطة *أمة الرحيم*; الساعة 15-02-2015, 12:38 AM. سبب آخر: بعض التنسيق

  • #2
    رد: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين

    بارك الله فيكم وربنا يجعلها في ميزان حسناتكم
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

    تعليق


    • #3
      رد: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين

      جزاكم الله خيرًا


      قال الشيخ الألباني رحمه الله: إن هذا الطريق طويل ونحن نمشي فيه مشي السلحفاة لايهمنا أن نصل المهم أن نموت علي الطريق

      تعليق


      • #4
        رد: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين

        جزاكم الله خيرا

        نفع الله بكم

        يا الله
        علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

        تعليق


        • #5
          رد: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين

          جزاكم الله خيرًا
          سبحان الله ....الحمدلله ....الله أكبر ....لا اله الا الله
          غــرفة العنــاية الإيمــانية المركـزة ’’ بادرى بالـدخــول ’’



          تعليق


          • #6
            رد: شرح رياض الصالحين لابن عثيمين

            جزاكم الله خيرًا ،،،

            تعليق

            يعمل...
            X