إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

    بسم الله الرحمن الرحيم
    -----------



    إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
    فمن بين ظلمات الواقع البئيس الذي يعيشه عالمنا الإسلامي اليوم بدأ فجر الصحوة يسفر عن يوم مشرق يبدد بإذن الله ظلمات الجهل والانحراف.
    ولعل من ألمع صور فجر الصحوة وأحقها بالاستبشار هذا الجيل الطاهر من شباب الأمة الذي بدأ يتوافد على المساجد مودعاً أماكن اللعب والفجور، مقبلاً على دينه مفارقاً لما سواه.
    وهنا يفتر ثغر الأمة عن ابتسامة ملؤها الأمل والاستبشار فهؤلاء بإذن الله هم فرط الأمة وطليعتها.
    لقد أقبل هذا النشء المبارك - بإذن الله - على العلم الشرعي، وعلى منابع الفكر الأصيلة ساعياً للتحصيل، وطالباً للسداد، وأصبحنا نراه يتساءل كثيراً، ويطرح مشكلاته، باحثاً عن العلاج والحل.
    ورواج الكلمة المسموعة والمقروءة والتي تخاطب الشباب دليل على مبلغ النضج والتطلع للتصحيح وهو يفرض على كل من آتاه الله علماً نافعاً، أو رأياً صائباً، أو فكراً مسدداً، أن يشارك في المسيرة، ويساهم في البناء.
    ومن هنا كانت هذه المحاولة المتواضعة تتلمس بعض ما يحتاجه جيل الشباب، وكلي أمل أن لا تكون هذه الخطوة وحيدة أو يتيمة بل أن تكون بداية -بإذنه عز وجل- وتتبعها إصدارات.
    ولدي مادة من ذلك، سواء أكان مما سبق إلقاؤه في الدروس التربوية والمحاضرات أم مما لم يسبق، لكن هذا لا ينقلني إلى مرحلة الاستغناء عن مقترحات الإخوة، ومشاركتهم.
    فهذه - بإذن الله - باكورة سلسلة أخاطب فيها الشباب المقبل على دينه، المتوافد على المساجد.
    فهي ليست خطاباً لذلك القطاع من الشباب المعرض الغافل، وإن كان بحق يحتاج لمن يخاطبه.
    وليست خطاباً لأولئك الذين قطعوا مرحلة في العلم الشرعي وتحصيله ومن ثم فلعلهم لا يجدوا فيها بغيتهم؛ فهي للناشئة والشباب.


    ----------------


    **فهرس الكتاب**

    مقدمة الكتاب
    من أي العصاة أنت؟
    استعظم ذنبك
    إياك ومحقرات الذنوب
    إياك و المجاهرة
    التوبة النصوح الصادقة
    إذا تكرر الذنب فكرر التوبة
    فارق دواعي المعصية
    دوام الاستغفار
    هل تعاهد الله على ترك المعصية؟
    فعل الحسنة بعد السيئة
    تحقيق التوحيد
    لا تفارق الأخيار
    لا تدع الدعوة
    لا تعير غيرك بالذنب
    بين المعصية والمشكلة
    خاتمة






  • #2
    رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش


    جزاكم الله خيرًا وبارك فيكم
    في انتظار رابط التحميل

    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
    وتولني فيمن توليت"

    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

    تعليق


    • #3
      رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

      المشاركة الأصلية بواسطة بذور الزهور مشاهدة المشاركة

      جزاكم الله خيرًا وبارك فيكم
      في انتظار رابط التحميل

      وجزاكم الله مثله أختي الكريمة
      لكن سيتم إستكمال الكتاب في ردود فلا يوجد رابط للتحميل

      تعليق


      • #4
        رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

        مقدمة الكتاب
        -----


        إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:

        فمن هو الذي لا يقع في معصية الله؟!. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". [رواه مسلم 2749].

        وحين حضرت
        أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه الوفاة قال: "كنت كتمت عنكم شيئاً سمعته من رسول الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم". [رواه مسلم 2748، والترمذي 3539].

        وقد قال أيضاً صلى الله عليه وسلم:
        "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون". [رواه الترمذي 2499، وابن ماجه 4251، وأحمد 3/ 198].
        وأي نفس - غير نفوس الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم- ترقى لمنزلة لا تدركها كبوة، أو لا تغلبها شهوة؟!.

        ولكن المؤمن مع ذلك يدرك خطورة المعصية وشناعتها، وأنها جرأة على مولاه، وإباق من سيده
        ، وأنه ما من مصيبة في الدنيا إلا بذنب، وهو وإن واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خائف، مشفق، يتمنى ذلك اليوم الذي يفارق فيه الذنب ويتخلص منه.

        لقد كان
        سلف الأمة - أهل الورع والخشية، والزهد والعبادة - يتحدثون كثيراً عن المعصية، ويخشون على أنفسهم من شؤمها، فكيف بنا معشر المخلطين، المذنبين؟!.، كيف بشاب يعيش في هذا العصر، وقد أجلبت الفتن والشهوات عليه بخيلها، ورجلها، وصار يرى بعينه، ويسمع بأذنه صباح مساء ما يدعوه للمعصية ويحثه عليها، وما يؤخره عن الطاعة، ويحجزه عنها. فلا نلومه بعد ذلك إن كان يتساءل في كل مناسبة، ما السبيل للخلاص من المعصية وشؤمها؟!. وما الطريق لمجانبة سبيل العاصين، والسير في ركاب الطائعين المخبتين؟!.

        ولهذا وذاك وعلمي بما يعانيه إخوتي الشباب رأيت أن افتتح هذه السلسلة بالحديث عن سبيل النجاة من شؤم المعصية،
        وهو ليس حديثاً عن أضرارها ومخاطرها، فالحديث عن ذلك كثير ومتداول قد كتب عنه السلف والخلف.
        لكني سأتحدث عن بعض المقترحات التي أرى أنها تعين الشاب بإذن الله على التخفف من شؤم المعصية. وأنا إذ أفتتح هذه السلسلة المباركة آمل أن تكون فألاً طيباً فيخلصني الله مما أعاني منه من شؤم المعاصي وثقلها؛ فالجزاء من جنس العمل. وحين أتحدث في هذا الموضوع فليس ذلك شهادة براءة لي حاشا لله، أو دعوى علم ومعرفة. بل إني أعتقد أن أكثر من يقرأ ما سأكتبه هم أولئك الذين أتقى لله مني وأخشى، وأبعد مني عن المعصية وأبوابها.
        أسأل الله عز وجل أن يجنبني وإخواني شؤم المعصية، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عن من سواه، إنه سميع مجيب.




        تعليق


        • #5
          رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

          من أي العصاة أنت؟
          -------


          قارن أخي الكريم بين هاتين الصورتين:
          • الأولى:
          شاب تتحكم المعصية في قلبه، وتسيطر على تفكيره، فيخطط لها ويعمل جهده وفكره لتحصيل طريق توصل إليها، ثم يسعى لذلك بجوارحه وربما بذل جزءاً من ماله أو جاهه، وحين تفارقها جوارحه لا يزال صداها يتردد في خاطره، فيهيم في ذكراها، وحين يلقى أصحابه فهو يفاخرهم بما عمل، ويجاهر بما اقترف، وحين تفوته فرصة يجتر الحسرات ويعتصر الندم على ما فات. وإن حدثته نفسه بالتوبة فإنما هو خاطر سرعان ما يزول ويذيبه تطلع النفس للمعصية.
          • الثانية:
          شاب يبغض المعصية والعصاة، قد أشغل وقته في طاعة مولاه ولكن تأخذه في لحظة من اللحظات حالة ضعف بشرية فيواقع المعصية وما أن يفارقها حتى يلتهب فؤاده ندماً وحسرة فيتألم ويحزن ويرفع يديه لمولاه تائباً مستغفراً، وما أن يسمع واعظاً حتى يرتجف فؤاده، وقد بدت معصيته بين عينيه، ويظل بعد ذلك يسأل ما المخرج؟!. ما الحل؟!. ويجانب كل طريق يؤديه إلى المعصية، وهكذا حاله وديدنه حين يقارف المعصية.
          ثم هو بعد ذلك يحتقر نفسه ويمقتها، ويشعر أنها بعيدة عن طريق أهل الصلاح ويتهمها بصفات أهل الجهل والنفاق.

          فهو ممن قال الله فيهم:(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). [آل عمران: 135].

          فبالله عليك هل يستويان؟!.
          وأيهما أقرب إلى رحمة الملك العلام والتواب الرحيم؟!.


          وإلى هذا المعنى أشار
          الحافظ ابن القيم رحمه الله فقال: "والله تعالى إنما يغفر للعبد إذا كان وقوع الذنب منه على وجه غلبة الشهوة وقوة الطبيعة، فيواقع الذنب مع كراهته له من غير إصرار في نفسه، فهذا ترجى له مغفرة الله وصفحه وعفوه، لعلمه تعالى بضعفه وغلبة شهوته له وأنه يرى كل وقت مالا صبر له عليه. فهو إذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خاضع لربه، خائف، مختلج في صدره شهوة النفس الذنب وكراهة الإيمان له، فهو يجيب داعي النفس تارة، وداعي الإيمان تارات. فأما من بنى أمره على أن لا يقف عن ذنب ولا يقدم خوفاً ولا يدع لله شهوة، وهو فرح مسرور يضحك ظهراً لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يخاف عليه أن يحال بينه وبين التوبة ولا يوفق لها". [مفتاح دار السعادة 1/ 283].
          وقال:
          "الفرح بالمعصية دليل على شدة الرغبة فيها، والجهل بقدر من عصاه، والجهل بسوء عاقبتها وعظم خطرها. ففرحه بها غطى عليه ذلك كله، وفرحه بها أشد ضرراً عليه من مواقعتها. والمؤمن لا تتم له لذة بمعصية أبداً ولا يكمل بها فرحه، بل لا يباشرها إلا والحزن مخالط لقلبه، ولكن سكر الشهوة يحجبه عن الشعور به. ومتى خَلِيَ قلبه من هذا الحزن، واشتدت غبطته وسروره فليتهم إيمانه، وليبك على موت قلبه، فإنه لو كان حياً لأحزنه ارتكابه للذنب، وغاظه وصعب عليه، ولا يحس القلب بذلك، فحيث لم يحس به فما لجرح بميت إيلام". [مدارج السالكين 1/ 201].

          وروى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن السماك أنه قال:
          "أصبحت الخليقة على ثلاثة أصناف: صنف من الذنب تائب، موطن لنفسه على هجران ذنبه، لا يريد أن يرجع إلى شيء من سيئته هذا المبرِّز، وصنف يذنب ثم يندم، ويذنب ويحزن، ويذنب ويبكي، هذا يرجى له ويخاف عليه، وصنف يذنب ولا يندم ولا يحزن، ويذنب ولا يبكي فهذا الكائن الحائد عن طريق الجنة إلى النار". [سنن البيهقي، برقم 7156].

          وروى عن يونس بن العوام بن الحوشب أنه قال:
          "كان يقال الابتهاج بالذنب أشد من ركوبه". [سنن البيهقي، برقم 7157].

          فراجع نفسك - أخي الكريم - وانظر حالك مع معصية الله عز وجل. هل أنت ممن يفرح بالمعصية ويبحث عنها ويسعى لها؟!.
          وإياك أن تنسيك لذة الشهوة مرارة الخطيئة، وأن تحرق نار الهوى بذرة الإيمان والصلاح في قلبك.


          تعليق


          • #6
            رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

            استعظم ذنبك
            -------

            المؤمن التقي الذي يخاف مولاه ويعظمه يستعظم ذنبه ويكبر في نفسه تقصيره في جنب الله. وبقدر إيمان المرء وتعظيمه لله تعظم لديه معصيته وتكبر عنده خطيئته.
            يصف الله عباده المتقين بقوله: (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). [الذاريات 17-18].
            وفي آية أخرى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ). [آل عمران 16-17]. فرغم ما هم عليه من تقوى وعبادة وإنفاق وقيام الليل إلا أنهم يستغفرون الله في الوقت الذي يرونه أقرب للإجابة.

            ويصور حال المؤمن مع المعصية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه تصويراً دقيقاً بالغاً فيقول: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فقال به هكذا - قال أبو شهاب بيده فوق أنفه -". [رواه البخاري 6308].

            قال ابن أبي جمرة: "الحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة". [فتح الباري 11/ 105].
            وقال المحب الطبري: "إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية". [فتح الباري 11/ 105].

            أخي الكريم: لو وضعت نفسي وإياك على ميزان ابن مسعود رضي الله عنه عنه، وكيف نرى معاصينا وذنوبنا ففي أي الكفتين ترانا نكون؟!. أنحن من أولئك الذين يرون ذنوبهم كالجبال أم من الذين يرونه كالذباب؟!.
            وهذه الحساسية المرهفة والوجل من الذنب واستعظامه ليست صفة اختص بها ابن مسعود رضي الله عنه بل صفة غالبة عند عامة الرعيل الأول.
            ففي البخاري عن غيلان عن أنس رضي الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا نعد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم الموبقات". [رواه البخاري 6492].

            ويقف المسلم أمام هذا الأثر مشدوهاً متسائلاً. يقول ذلك أنس رضي الله عنه لأحد التابعين وأحد تلامذته مصوراً النسبة بين رؤية أولئك لذنوبهم ورؤية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .،، ويتساءل في نفسه ماذا عسى أن تكون ذنوب أولئك التابعين؟!. وكيف تكون النسبة بين رؤيتنا لذنوبنا وتقصيرنا وبين ذاك الجيل؟!. وماذا عسى أنساً رضي الله عنه أن يقول لو رأى ما نحن عليه؟!.

            والشعور نفسه نلمسه عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إذ يقول: "إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات". [رواه ابن أبي عاصم في الزهد 69، وأبو نعيم في الحلية 1/ 279].
            وهو أيضاً عند خير الأمة وأبرها بعد نبيها صلى الله عليه وسلم . فقد دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- وهو آخذ بلسانه وهو يقول: "لساني أوردني الموارد". [رواه ابن أبي عاصم في الزهد 18، 19، 22، وابن أبي شيبة 9/ 66، وأبو نعيم في الحلية 1/ 33].

            في غزوة الحديبية جاء المسلمون وهم في شوق ولهف لبيت الله فصدهم المشركون وصالحهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، فوقع في نفوس أصحابه ما وقع فجاء عمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: ألست نبي الله حقاً؟!. قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟!. قال: بلى، قال: فلم نعطى الدنية في ديننا إذاً؟!. قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟!. قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟!. قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومُطوِّف به، فأتى عمر رضي الله عنه أبا بكر فقال له نحواً من ذلك، فأجابه بمثل ما أجابه به صلى الله عليه وسلم. [رواه البخاري 2732، ومسلم 1785 من وجه آخر بنحوه].
            ترى ما الدافع لعمر رضي الله عنه أن يراجع النبي صلى الله عليه وسلم ويناقشه، أليس الرغبة في نصرة الدين والطواف بالبيت وعبادة الله؟!.
            لكنه رضي الله عنه ما يلبث أن يستفيق ويعدَّ هذه المراجعة ذنباً فيجتهد في الأعمال الصالحة علها أن تكفر عنه. يقول رضي الله عنه فعملت لذلك أعمالاً. وفي رواية ابن إسحاق:
            "وكان عمر يقول مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ".
            قال الحافظ ابن حجر:
            "وإنما عمل الأعمال المذكورة لهذه وإلا فجميع ما صدر منه كان معذوراً فيه بل هو مأجور لأنه مجتهد فيه". [فتح الباري 11/ 347].
            فإذا كانت هذه سيرة القوم فيما اجتهدوا فيه فكيف بمن يأتي المعصية عياناً؟!.
            ويصور عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه نفس المؤمن حين يواقع الخطأ هذا التصوير فيقول: "لنفس المؤمن أشد ارتكاضاً من الخطيئة من العصفور حين يقذف به". [رواه ابن المبارك في الزهد 72].
            ولعلك أن تشاركني الفهم أن هناك فرقاً بين ما يراه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما خطيئة وبين ما نراه نحن كذلك.
            وقد ينصرف نظر المرء إلى صغر الخطيئة فينبه بلال بن سعد إلى هذا المسلك إذ يقول: "
            لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى من عصيت". [رواه ابن المبارك في الزهد 71، والبيهقي في شعب الإيمان 7159].

            أما سليمان بن حبيب - رحمه الله - فقال: "إن الله إذا أراد بعبده خيراً جعل الإثم وبيلاً [وبيلاً: أي: وخيم. وطعام وبيل: يخاف وباله، أي: سوء عاقبته].. فإذا أراد بعبده شراً خضر له [خضر له:حسّنه في عينه]" . [رواه ابن المبارك في الزهد 70].

            ويعظم احتقار الذنب عند الأوزاعي فيقول: "كان يقال من الكبائر أن يعمل الرجل الذنب يحتقره". [رواه البيهقي في شعب الإيمان 7153].
            وقال أيضاً: "الإصرار أن يعمل الرجل الذنب فيحتقره". [رواه البيهقي في شعب الإيمان 7154].

            إن استعظام الذنب - أخي الكريم - يتولد منه لدى صاحبه استغفار وتوبة، وبكاء وندم، وإلحاح على الله عز وجل بالدعاء وسؤاله تخليصه من شؤمه ووباله. وما يلبث أن يولد دافعاً قوياً يمكِّن صاحبه من الانتصار على شهوته والسيطرة على هواه.
            أما أولئك الذين يحتقرون الذنب فيشعر أحدهم بالندم ويعزم على التوبة، لكنها عزيمة ضعيفة سرعان ما تنهار مرة أخرى أمام دواعي المعصية.


            تعليق


            • #7
              رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

              إياك ومحقرات الذنوب
              -----------

              ويلحق بما مضى من استعظام الذنب الخوف من محقرات الذنوب، فيحذر منها صلى الله عليه وسلم ويضرب لها مثلاً بليغاً.
              فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
              "إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه". [رواه أحمد 5/ 331، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان 7267، وقال ابن حجر في الفتح 11/ 329: أخرجه أحمد بسند حسن].
              وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:
              "إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها". [رواه أحمد 1/ 402، والطبراني].
              وهو تشبيه بليغ من أفصح الناس صلى الله عليه وسلم لشؤم اجتماع الذنوب على العبد، فالعود لا يصنع شيئاً والثاني كذلك.. لكنها حين تجتمع تصبح حطباً يشعل النار وينضج العشاء.

              ولهذا يوصي ابن المعتز بذلك مقتبساً هذا المعنى:


              خـل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
              واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
              لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى



              ويحذر صلى الله عليه وسلم زوجه عائشة رضي الله عنها من ذلك قائلاً لها: "يا عائشة، إياك ومحقرات الأعمال؛ فإن لها من الله طالباً". [رواه ابن ماجه 4243، والدارمي 2626، وقال في الزوائد: إسناده صحيح.رجاله ثقات].
              وفي حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع للناس: أي يوم هذا... ألا وإن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبدا،ً ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به". [رواه ابن ماجه 3055].

              وتتكرر وصايا سلف الأمة في التحذيـر من المحقرات وبيان خطـورة ذلك على المرء.
              قال كعب: "إن العبد ليذنب الذنب الصغير ولا يندم عليه ولا يستغفر منه، فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه ويستغفر منه، فيصغر عند الله عز وجل حتى يغفر له". [رواه البيهقي في شعب الإيمان 7151].
              وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "بقدر ما يصغر الذنب عندك كذا يعظم عند الله وبقدر ما يعظم عندك كذا يصغر عند الله". [رواه البيهقي في شعب الإيمان 7152].
              وعن الحسن - رحمه الله - أنه قال: "من عمل حسنة وإن صغرت أورثته نوراً في قلبه، وقوة في عمله، وإن عمل سيئة وإن صغرت فاحتقرها أورثته ظلماً في قلبه وضعفاً في عمله". [رواه البيهقي في شعب الإيمان 7219].

              وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: "إن الرجل ليعمل الحسنة يتكل عليها، ويعمل المحقرات حتى يأتي الله وقد أخطرته، وإن الرجل ليعمل السيئة فيغرق منها حتى يأتي الله آمناً". [رواه البيهقي في شعب الإيمان 7266، ونسبه ابن حجر في الفتح إلى أسد بن موسى في الزهد].
              قال ابن القيم -رحمه الله-: "إذا عرف هذا فاستقلال العبد المعصية عين الجرأة على الله، وجهل بقدر من عصاه، وبقدر حقه؛ وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها، وخفت على قلبه؛ وذلك نوع مبارزة". [مدارج السالكين 1/ 290].
              فكم - أخي الكريم - من كلمة لا نلقي لها بالاً: سخرية بمسلم أو همز له، أو وقوع في عرضه، أو كلمة غير صادقة، نضيف لها نظرة عابرة، وتقصيراً في واجب لا نعبأ به وهكذا حتى يتولد منها سيل جارف. وبعد ذلك نسأل: لماذا قلوبنا قاسية؟!.


              تعليق


              • #8
                رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

                إياك و المجاهرة
                ---------


                كما أن الطاعات تتفاوت مراتبها ودرجاتها بحسب الأعمال ذاتها، وبحسب العامل، والوقت، والسر والجهر، فالمعاصي كذلك. فالمعصية الواحدة يختلف إثمها ووزرها بحسب العامل، وحرمة الزمان، والمكان، والجهر والإسرار.
                وقد دلت النصوص الشرعية على أن المعصية التي يستتر بها صاحبها أخف جرماً من التي يعلنها.

                فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
                "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه". [رواه البخاري 6069، ومسلم 2990].
                وبوب البخاري - رحمه الله - على هذا الحديث (باب: ستر المؤمن على نفسه). وأورد في الباب أيضاً حديث ابن عمر رضي الله عنهما:
                "أن رجلاً سأله: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟!. قال: يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا؟!. فيقول: نعم. ويقول عملت كذا وكذا؟!. فيقول: نعم. فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم". [رواه البخاري 6070].

                فحين يبتلى الله أحداً من عباده فتغلبه نفسه الأمارة بالسوء ويدعوه هواه لمقارفة معصية، وارتكاب حرمة وقد خلا عن الناس وأرخى على نفسه الستار، حينها فعليه أن يستتر بستر الله ولا يهتك هذا السياج.
                إنّ المؤمن الذي يخاف مولاه، ويعظمه ويجله، إنه وإن أوقعته نفسه في المعصية وقارف ما قارف فهو يمقت هذه المعصية وما يذكره بها من قريب أو بعيد، فكيف يحدث الناس أنه عمل وعمل؟!.
                ومن باب: (يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا) ما يسلكه بعض من الشباب حين يلقى صفيه وأخاه فيحدثه لا مفاخراً ومبارزاً لله بالعصيان بل مغلفاً ذلك بغلاف الشكوى ومعللاً بعلة السؤال عن الحل والبحث عن المخرج.

                وهذا المسلك علاوة على ما فيه من مخالفة الأدب الشرعي، وهتك لستر الله فهو تكريس للقدوة السيئة أو تهوين للمعصية أمام الآخرين. فحين يصاب صاحبه بالداء نفسه فيقارفها أو غيرها يلتمس العزاء والعذر لتقصيره بتذكير نفسه أن فلاناً يواقعها، وأن كثيراً من الشباب كذلك إن لم يكن عامتهم. هذا ما يقوله بلسان حاله، إن لم يكن بلسان مقاله.
                وعلاوة على المجاهرة والقدوة السيئة، فصاحبه حين يقارف هذه المعصية سيبادله الشكوى، ويشاركه النجوى فيشتركان مبدأ الأمر في التشاكي والتألم، ثم تتحول القضية إلى تعاون على الإثم والعدوان ومشاركة في العصيان.

                وكم كان هذا المسلك سبباً في انحراف البعض من الشباب بعد استقامتهم وضلالهم بعد هدايتهم.

                وقد يدخل ضمن باب عملت البارحة، شكوى الشاب لمن هو فوقه سناً وعلماً ممن يراه في مسائه وصباحه، وهي وإن كانت شكوى للعلاج والاستفتاء إلا أنها خلاف الآداب الشرعية ومنطق الحياء الذي لا يأتي إلا بخير.
                وما تلبث الأيام أن تدور دورتها ويفارق الأخ صبوته، ويتخلى عن معصية مولاه، فيشعر أن هذه الصورة قد نقشت في ذاكرة صاحبه وستبقى لا تمحوها الأيام ولا يطمرها النسيان.

                ولهذا جاء التوجيه النبوي الكريم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها فمن ألم فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز وجل". [رواه الحاكم 4/ 425]
                .

                وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وكان شهد بدراً، وهو أحد النقباء ليلة العقبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: "بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولاتزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء الله عفا عنه وإن شاء عاقبه. فبايعناه على ذلك". [رواه البخاري 18].

                أما ما نقل من مجيء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له شاكين وقوعهم في بعض الذنوب فهي حالات خاصة فالقاعدة خلاف ذلك. ثم يبدو من سياق بعض هذه الأحداث أن الرجل ربما كان يجهل أن له توبة، أو يسأل عن الكفارة وماذا يلزمه. بل وفي بعض هذه الحوادث إنكار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على السائل وأمره بالاستتار مما يدل على أن هذا هو الأصل المتقرّر لديهم وما يخرج عن ذلك كله يبقى حالة خاصة لا تشغب على القاعدة العامة.

                فالأولى بالشاب حين يبتلى بالمعصية أن يستتر بستر الله، وأن يجاهد نفسه على ترك المعصية ما استطاع، وحين يصعب الأمر عليه ويحتاج لمن يعينه ويضيء له الطريق فله بديل في سؤال من لا يعرفه مشافهة أو مهاتفة أو كتابة، أو من يعرفه لكن لا تربطه به تلك الصلة، أو البحث فيما قيل عنها من أهل العلم مكتوباً أو مسجلاً.
                أما حين تنغلق جميع هذه الأبواب ويرى نفسه بين خيارين: استمراء المعصية وإهلاكها له أو استشارة صاحبه القريب ممن سيجد عنده العلاج والدواء بإذن الله، فتبقى حالة نادرة، ولا يجوز أن تكون قاعدة عامة وهدياً راتباً، والله أعلم.


                تعليق


                • #9
                  رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

                  التوبة النصوح الصادقة
                  ------------

                  الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده وهو عز وجل عليم بهم وبطباعهم: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). [الملك: 14]. لقد علم الله سبحانه أن الناس بشر مهما بلغوا من التقوى والصلاح والورع فلابد أن يقارفوا بعض ما حرم عز وجل.
                  ولهذا فتح الله لعباده باب التوبة ودعاهم إليها:
                  (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). [النور: 31].
                  والحديث - أخي الكريم - عن التوبة طويل وقد أسهب فيها أهل العلم، لكن أشير لك إشارات عاجلة مما أرى أنك تحتاج للتذكير بها.


                  • أولاً: فرح الرب بتوبة عبده:
                  فالأمر لا يقف عند حد الدعوة إلى التوبة والوعد بقبولها والحث عليها ؛ وهو وحده كاف للمسلم في حثه ودفعه لها، لكن الله عز وجل يحب توبة العبد ويفرح بها.
                  ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
                  "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح". [رواه البخاري 6309، ومسلم 2747 من حديث أنس. ومن حديث ابن مسعود، ورواه مسلم من حديث البراء، ومن حديث النعمان بن بشير، والترمذي من حديث أبي هريرة].

                  قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "فما الظن بمحبوب لك تحبه حباً شديداً أسره عدوك، وحال بينك وبينه، وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب، ويعرضه لأنواع الهلاك، وأنت أولى به منه، وهو غرسك وتربيتك، ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد، فلم يفجأك إلا وهو على بابك يتملقك، ويترضّاك، ويستعينك، ويمرغ خديه على تراب أعتابك. فكيف يكون فرحك به وقد اختصصته لنفسك، ورضيته لقربك، وآثرته على سواه؟!. هذا ولست الذي أوجدته وخلقته، وأسبغت عليه نعمك، والله عز وجل هو الذي أوجد عبده وخلقه وكونه، وأسبغ عليه نعمه؛ وهو يحب أن يتمها عليه فيصير مظهراً لنعمه، قابلاً لها، شاكراً لها، محباً لوليها، مطيعاً له عابداً له، معادياً لعدوه، مبغضاً له، عاصياً له". [مدارج السالكين 1/ 237238].


                  وما أجمل تلك الحكاية التي ساقها ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين حيث قال: "وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق من سيده. فرأى في بعض السكك باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤيه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً. فوجد الباب مرتجاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدى، أين تذهب عنى؟!. ومن يؤيك سواي؟!. ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وإرادتي الخير لك؟!. ثم أخذته ودخلت. فتأمل قول الأم: لا تحملنى بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة. وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ".

                  وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟!. فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه. فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به. فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها. ووراء هذا ما تجفوا عنه العبارة وتدق عن إدراكه الأذهان". [مدارج السالكين 1/ 235236].



                  • ثانياً: بادر المعصية بالتوبة:
                  حين تقع في المعصية وتلم بها فبادر بالتوبة وسارع إليها، وإياك والتسويف والتأجيل. فالأعمار بيد الله عز وجل، وما يدريك لو قد دعيت للرحيل فأجبت النداء، وودعت الدنيا وقدمت على مولاك مذنباً عاصياً.
                  ثم إن التسويف والتأجيل قد يكون مدعاة لاستمراء الذنب والرضا بالمعصية، ولئن كنت الآن تملك الدافع للتوبة وتحمل الوازع عن المعصية فقد يأتيك وقت تبحث فيه عن هذا الدافع وتستحث هذا الوازع فلا يجيبك.
                  لقد كان العارفون بالله عز وجل يعدون تأخير التوبة ذنباً آخر ينبغي أن يتوبوا منه. قال العلامة ابن القيم: "منها أن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرضٌ على الفور، ولا يجوز تأخيرها، فمتى أخرها عصى بالتأخير، فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبةٌ أخرى وهي توبته من تأخير التوبة، وقل أن تخطر هذه ببال التائب، بل عنده أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيءٌ آخر، وقد بقي عليه التوبةُ من تأخير التوبة". [مدارج السالكين 1/ 297].



                  • ثالثاً: تذلل بين يدي مولاك:
                  يدرك أغلب العصاة أنه واقع في معصية الله، وأن التوبة فرض عليه؛ لكن من منهم يقدر الله حق قدره، ويخشاه، ويتذلل بين يديه؟!.
                  وعجباً لنا نمتع أنفسنا بلذة المعاصي وشهواتها وننغمس في أوحالها، وبعد ذلك لا تزيد توبتنا أن تكون استغفاراً باللسان، ونحن غافلون سادرون. ومن ثم فالتائب ما لم يلازم محراب الإنابة، ويسلك سبيل الخاشعين، ويخبت لمولاه؛ فليعد النظر في صدق توبته.
                  وهو جانب أنى لابن القيم رحمه الله أن يغفله لذا فقد قال: "ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضاً: كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ولا تكون لغير المذنب، ولا تحصل بجوع ولا رياضة، ولا حب مجرد إنما هي أمر وراء هذا كله تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة، قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً، كحال عبد آبق من سيده، فأخذ فأحضر بين يديه، ولم يجد من ينجيه من سطوته، ولم يجد منه بداً، ولاعنه غناءً، ولا منه مهرباً، وعلم أن حياته، وسعادته، وفلاحه، ونجاحه في رضاه عنه، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده، وشدة حاجته إليه، وعلمه بضعفه وعجزه، وقوة سيده، وذله وعز سيده. فيجتمع من هذه الأحوال كسرة، وذل وخضوع ما أنفعها للعبد، وما أجدى عائدها عليه، وما أعظم جبره بها، وما أقربه بها من سيده. فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة، والخضوع، والتذلل، والإخبات، والانطراح بين يديه، والاستسلام له فلله ما أحلى قوله في هذه الحال " أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني، وفقري إليك. هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك. عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك، ولا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.


                  يا من ألوذ به فيما أأمله ** ومن أعوذ به فيما أحاذره
                  لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ** ولا يهيضون عظماً أنت جابره
                  فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة، فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته، وليرجع إلى تصحيحها، فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة، وما أسهلها باللسان والدعوى، وما عالج الصادق شيئاً أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله". أهـ. [مدارج السالكين 1/ 207208].


                  تعليق


                  • #10
                    رد: كتاب: سبيل النجاة من شؤم المعصية... د/محمد بن عبدالله الدويش

                    جزاكم الله خيرًا ونفع بكم
                    كتاب مفيد وطيب

                    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                    وتولني فيمن توليت"

                    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                    تعليق

                    يعمل...
                    X