أنقل لكم هذا الموضوع الهام
وقد أعجبنى كثيرا لما فيه من فائدة عظيمة أرجو الله تعالى أن تنفعنا جميعا
«عِلْمُ الوَرَق» إيضاحٌ وتصحيحٌ
مُهَنَّد بن حسين المعتبي
22/4/1434 هـ
أحمدك ربي علَّمتَ بالقلم، علَّمتَ الإنسانَ ما لم يعلم، وأصلِّي وأسلِّمُ على النبيِّ الأميِّ أخشى الناسِ لله، وأتقاهم له؛ أما بعد:
فإنَّ من عرفَ شرفَ العلمِ ومنزلتَه وفضلَه؛ لم يقضِ نهمتَه منه، وما رجا زيادةً في حياتهِ رجاءَه الزيادة في العلم، فللعلمِ لذَّةٌ يعجز ذو البيانِ عن الإفصاح عن كُنهِها، فكيفَ لو اقترن العلمُ بالقربى من الله التي هي آكدُ ثمارِ العلم النافع؟!
وإنَّ الكُتُبَ -واللهِ- لهي روضةُ العقلاء، ونزهة الفضلاء، ودَوحة النبلاء، وغذاء الألبَّاء، ولذلك كانت السلاحَ المعرفيَّ للأوائل، وكانت لهم الرَّفيقَ، والجليسَ، والمحدِّثَ، والنَّديمَ، والأنيس.. ونثروا في مدحها المقطوعات، وقرضوا في الثناء عليها المنظومات!
وطالبُ العلمِ مهما جالسَ الشيوخ والعُقلاء، وحضرَ مجالسَ العلمِ لدى العلماء= لا يمكنه بحالٍ أن يستغني عن القراءةِ والعُكُوفِ عليها إن رامَ التحقيقَ وجودَة البناء، فللعلماء إشاراتٌ تخلو منها الكُتُب، وللكُتُبِ مَلَكاتٌ ليست عند الرِّجال، والمعادلة تكامليَّة.
وإنَّك لتبتهِجُ أشدَّ البهجةِ وأنتَ ترى الإقبالَ من طلبةِ العلم يزدادُ على اقتناءِ الكُتبِ والعناية بها، والتوسُّعِ في الاطلاع، مما أثمرَ نماءً في الملَكات، وزكاءً في المعلومات، وبناءً للعقليَّةِ الناقدة، والبصيرة النافذة.
إلاَّ أنَّ هذه البهجةَ يشوبُها كدَرٌ ومنغِّصاتٌ، لعلَّك تشاركني ذلك -أخي القارئ- ولو تنظيرًا، أبثُّها في هذه المقالةَ التصحيحيَّة، ومن اللهِ أستلهمُ الصوابَ والسَّداد، وأعتذرُ إن زدتُ في النقول والاستطراد.
إنَّ التذكيرَ بأنَّ هناك فروقًا بين التُّحَفِ والمزهريَّات، والكُتُبِ والمجلَّداتِ= تذكيرٌ بمعلومٍ، وتقريرٌ لواضح، لكنْ قد يعزُبُ ذلك عن الذهنِ مع الغَدوةِ والرَّوحةِ والإدلاج، كما قد يعزُبُ عن الإنسانِ أنه خُلِقَ من نطفةٍ أمشاج، فإذا ذُكِّرَ تذكَّر!
لا بأسَ، فإنعامُ النظرِ وتجوُّلُ الفِكَرِ في ما هو مُتقرِّرٌ؛ سبيلٌ للتحرُّرِ من التبعيَّة المطلقة للسائد، والمسايرةِ حيثُ تسيرُ الرِّياح.
ومما نشأ قبلَ قُرونٍ ظاهرةُ «عِشْقِ الكُتُب»، وتطوَّرت هذه الظاهرة في تلك القرونِ، وقُرِّرَت كثيرًا، ونالت حظًّا من كُتبِ التراجم، وعُرِفَ بها خلقٌ من الكُتبيين والورَّاقةِ وبعضِ العلماء على اختلاف تخصُّصاتهم، ثم جُمِعت أخبارُهم وعجائبهم لدى المتأخرين بهذه العُنواناتِ «عُشَّاق الكُتُب»، فأورثت هذه المعاني لدى كثيرٍ من شُداةِ العِلمْ قداسةً للكتابِ لذاتِه، وأنَّ الكُتُبَ في نفسها غايةٌ، وجمعَها -مجرَّدةً- رعايةٌ، وتناسى كثيرٌ منهم شروطَ التحصيلِ وآفاتِه، وقانونَ العلمِ وغاياته، فتضخَّمَ لديهم تعظيمُ «عِلْمِ الوَرَق»!
لستُ هنا أزهِّدُ في الكِتابِ، وأنَّى لي ذلك، لكنني أحاول إبداءَ نظرةٍ خاصَّةٍ في هذه المسألةِ ليست ببِدْعٍ من الرأي، وهي قابلةٌ للخلافِ والوِفاق.
ما رأيتَ أضرَّ بكثيرٍ من أذكياءِ الطَّلبة، وأبطالِ الحَلَبةِ في ميادين العلم والدَّعوة والفِكر والثقافة= من إيثارِ «عِلْمِ الوَرَقِ» على حقائقِ العلمِ، وأصولِ المعارف. تجِدُ الواحدَ ربَّما يشتري الكتابَ حياءً أن لا يراهُ أصحابُه مقتنيًا له، وهل هناك أعجبُ في العلم من مجاملةِ الإنسانِ غيرَه في خاصَّةِ نفسِه وما يحتاجُ إليه؟!
ورُبَّما أصابه خِزيٌ وعارٌ أن يُذكرَ عنده مؤلِّفٌ أو كتابٌ لم يسمعْ به من قبلُ، وتمرُّ عليه في المجلسِ نفسهِ معارفُ ومسائلُ لم يسمع بها أو يتصوَّرها بلهَ أن يفهمها ويُتقنها، ولا يشعر برُبعِ الخزي الذي يشعر به عند عدم معرفته كتابًا أو مؤلِّفًا، وما ذاك إلاَّ من تضخُّمِ «عِلمِ الوَرق» في النُّفوس!
فلو نظرتَ لحال الجاحظِ الذي يُعدُّ من كبار «عُشَّاق الكُتُب»؛ لبان لك أنَّ عشقَهُ عشقُ انكبابٍ لا عشقَ جمعٍ وتكثُّر، وقد قال عنه ياقوت كما في [المعجم 2/ 217] نقلاً معاصرٍ له: «لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ مَن أحبَّ الكُتُبَ والعُلومَ أكثرَ من الجاحظ، فإنه لم يقع بيدهِ كتابٌ قطُّ إلا استوفى قراءتَه كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورَّاقين، ويبيت فيها للنَّظر!».
هل أدركنا معنى (إلاَّ استوفى قراءتَه كائنًا ما كان)، وأين هذا ممن لا همَّ له إلاَّ القُنيةَ فقط، وتكثير الرُّفوفِ، والكفاية -إن ساعدته الهمَّة- بالنظر في المقدِّمات والفهارس، ولمحاتٍ من بطنِ الكتاب؟!
ومن عللِ استكثارِ بعضِهم طلبُ الرُّقيِّ في الإيمان والصَّلاحِ، كما هو حالُ سلمان بن عبد الحميد الحمويِّ الحنبليِّ [805 هـ] من شيوخِ ابن حجر، حيثُ يقولُ ردًّا على زوجِه، وقد لامته على ذهاب ماله في الكُتُب:
كُنَّا إلى زمنِ ما قبلَ شُهرةِ معارضِ الكُتُب نسمعُ من يشتكي من عدمِ تمكنِّه من القراءة، والجرد الأوَّلي، والنظرة الفاحصة للكتاب المشترَى، وأصبحنا اليومَ نسمعُ من يشتكي من عدم تمكُّنِه من إخراجِ الكُتُبِ من الأكياس، أو إزالة القرطاس، أو وضع اسمه على غلاف الكتابِ بلهَ النظر والتأمل فيه، وازداد الأمرُ أن تسمع من يقول لك في المعرض الجديد: كتبي التي اشتريتُها من المعرض الماضي لم أنظر فيها إلى الآن، وبعضهم نسي ما اشتراه، واشترى نُسخًا أُخرى من كُتبٍ موجودةٍ في مكتبته!
هذا الحسين بن منصور اليمني يقول [كما في (آداب المعلمين والمتعلمين)]: (ينبغي لطالب العلم إن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ... ولا يجعل تحصيلَها وكثرتَها حظَّه من العلم، وجمعَها نصيبَه من الفهم).
وللهِ درُّ مفخرةِ الجنوب، العالِم الشابِّ حافظٍ الحكمي رحمه الله [1377 هـ] إذ يقولُ:
لكنَّ العذرَ الطازج لأكثر هؤلاء: هذه مراجعُ للبحث، فأصبحت كُلَّ مكتبتِه مراجع!
أعتقدُ أننا اليومَ -بعدَ الإعلامِ الجديد- لسنا بأحوجَ لإرشاد الناس للقراءة منا إلى ترشيدِ القراءة، وتقرير أنَّ مجرَّدَ جمعِ الكُتُبِ قد أصبح هوايةً كهوايةِ جمع الطوابع، وأنَّ اقتناءَ الكُتبِ فرعٌ عن الحاجةِ المعرفيَّة، وثمرةٌ لمعرفةِ مقامات العلوم والفنون، وقد رأيتُ من كتبَ في (تويتر) يسأل عن سُبُلِ طلب العلم، والمنهجيَّة فيه، ثمَّ هو بعد ستة أشهرٍ يُغرِّدُ عن الكُتُب، وجديد النُّسخِ، والطبعاتِ والمؤلفات، وحديثِ الكُتُبِ الفكريَّة، والروايات، والأدب، ويزور المكتبات في الأسبوع أربع مرات، فعلمتُ أنه قد تضخَّم عنده (عِلْمُ الوَرَق)، واكتفى به!
وأمَّا أسبابُ إيثار (عِلمِ الوَرَق) على حقائق العلمِ؛ فكثيرةٌ، لكنَّ أهمَّها في نظري: الاسترواحُ بها، والتخفُّفُ من عِبءِ العلوم، ومشقَّةِ التحصيل، وخداعُ النفسِ بأنَّها سالكةٌ دربَ العِلْم الأصيل!
فإنَّ للنظرِ في تفاريق المؤلفات، والاكتفاء بالتصوُّرات البدائيَّة للكتب على اختلافها، واقتناصِ بعض الفوائدِ من هُنا وهناك= لذَّةً معرفيَّة توهِمُ صاحبَها بتصوُّرِ الإحاطة بها، وهذا من أضرِّ الأمور بطالبِ العلم، وقد حذَّر منها العقَلاء قديمًا وحديثًا، فإنَّهم لما علموا أنَّ النظر في أصول العلوم والمسائلِ وتحصيلها يحتاجُ جِدًّا وجَلَدًا وصبرًا= أدركوا أن طالبَ العلمِ سيتحيَّل بهذه الوسائلِ للتهرُّبِ من مشقَّة العلم!
كيف إذا أدركنا أنَّ هذا الإقبالَ الكبير على الكُتُبِ بلا انضباطٍ، وإنما مجاراتٌ للموجة والموضةِ= عائقٌ كبيرٌ من عوائق حيازة العلم!
وبعضُ الأحبَّة يسأل: بكم ستشتري كُتبًا من معرضِ هذا العام؟
وهذا السُّؤال غلطٌ، فالكُتُبُ هي التي تفرضُ نفسَها على المال، ولا يُفرَضُ المالُ عليها، فقد يحتاج الزائرُ أن يشتري بـ 5000 ريال، وقد تحصلُ الكفايةُ بأن يشتري بـ 500 ريال، وإنما الشَّأن في التخطيط وتصوُّرِ الاحتمالات، وتقدير أمور الطوارئ بالاستعداد.
وقد عقدَ ابنُ خلدون في مقدِّمته فصلاً في أنَّ كثرةَ التآليفِ في العلومِ عائقةٌ عن التحصيل!
وهذا الأديبُ عباس العقَّاد يحمد الله أنه لم يتيسر له شراءُ الكُتُبِ في مبتدأ قراءاته، فيقول في [أنا، ص 39-40]: (وأحمدُ الله أنَّ شراءَ الكُتُبِ عن سَعةٍ لم يكن لازمًا في أيَّام صِباي للاطِّلاع على أوائل المعرفة الأدبيَّة، بل على المعرفة الأدبيَّة في مراحلها المتقدِّمة) وكان لفقره يشتري الكُتُبَ دينًا على أقساط، فيتابعُ: (وبهذهِ الطَّريقةِ قرأتُ: العقد الفريد، وثمرات الأوراق، والمستطرف، والكشكول، والمخلاة، ومقامات الحريري، وبعض الدواوين)!
أرأيتَ الآن كيف أنَّ التوسُّعَ في شراءِ الكُتبِ في مبتدأ الأمر ووسطه - وإن أفادَ - يُضيِّعُ كثيرًا من أصول العلوم المهمَّة؟!
يتابعُ العقَّادُ ليصلَ إلى قاعدةٍ من أنفعِ قواعدِ العلمِ والمعرفة، فيقول: (هذه الندرة من الكُتب التي تيسرت لي أيَّام التلمذة وما بعدها علَّمتني دُستورًا للمطالعةِ أدين به إلى الآن، وخلاصته؛ أنَّ كتابًا تقرؤه ثلاثَ مرَّاتٍ أنفعُ من ثلاثةِ كُتُبٍ تقرأ كُلّاً منها مرَّةً واحدة)!
وهذا ابنُ جماعةَ الكنانيُّ يضعُ يدَه على الجُرحِ، فيقول ناصحًا [كما في (تذكرة السامع والمتكلم)]: (وكذلك يَحْذَرُ [أي طالبُ العلمِ] في ابتداءِ طلبه من المطالعاتِ في تفاريقِ المصنَّفاتِ؛ فإنه يضيِّعُ زمانَه، ويُفَرِّقُ ذهنَه، بل يُعطى الكتابَ الذي يقرؤه، أو الفنَّ الذي يأخذه كليَّتَهُ حتى يُتقِنَه).
وإنَّ الكُتُبَ -واللهِ- لهي روضةُ العقلاء، ونزهة الفضلاء، ودَوحة النبلاء، وغذاء الألبَّاء، ولذلك كانت السلاحَ المعرفيَّ للأوائل، وكانت لهم الرَّفيقَ، والجليسَ، والمحدِّثَ، والنَّديمَ، والأنيس.. ونثروا في مدحها المقطوعات، وقرضوا في الثناء عليها المنظومات!
وطالبُ العلمِ مهما جالسَ الشيوخ والعُقلاء، وحضرَ مجالسَ العلمِ لدى العلماء= لا يمكنه بحالٍ أن يستغني عن القراءةِ والعُكُوفِ عليها إن رامَ التحقيقَ وجودَة البناء، فللعلماء إشاراتٌ تخلو منها الكُتُب، وللكُتُبِ مَلَكاتٌ ليست عند الرِّجال، والمعادلة تكامليَّة.
وإنَّك لتبتهِجُ أشدَّ البهجةِ وأنتَ ترى الإقبالَ من طلبةِ العلم يزدادُ على اقتناءِ الكُتبِ والعناية بها، والتوسُّعِ في الاطلاع، مما أثمرَ نماءً في الملَكات، وزكاءً في المعلومات، وبناءً للعقليَّةِ الناقدة، والبصيرة النافذة.
إلاَّ أنَّ هذه البهجةَ يشوبُها كدَرٌ ومنغِّصاتٌ، لعلَّك تشاركني ذلك -أخي القارئ- ولو تنظيرًا، أبثُّها في هذه المقالةَ التصحيحيَّة، ومن اللهِ أستلهمُ الصوابَ والسَّداد، وأعتذرُ إن زدتُ في النقول والاستطراد.
فصــــــلٌ
إنَّ التذكيرَ بأنَّ هناك فروقًا بين التُّحَفِ والمزهريَّات، والكُتُبِ والمجلَّداتِ= تذكيرٌ بمعلومٍ، وتقريرٌ لواضح، لكنْ قد يعزُبُ ذلك عن الذهنِ مع الغَدوةِ والرَّوحةِ والإدلاج، كما قد يعزُبُ عن الإنسانِ أنه خُلِقَ من نطفةٍ أمشاج، فإذا ذُكِّرَ تذكَّر!
لا بأسَ، فإنعامُ النظرِ وتجوُّلُ الفِكَرِ في ما هو مُتقرِّرٌ؛ سبيلٌ للتحرُّرِ من التبعيَّة المطلقة للسائد، والمسايرةِ حيثُ تسيرُ الرِّياح.
ومما نشأ قبلَ قُرونٍ ظاهرةُ «عِشْقِ الكُتُب»، وتطوَّرت هذه الظاهرة في تلك القرونِ، وقُرِّرَت كثيرًا، ونالت حظًّا من كُتبِ التراجم، وعُرِفَ بها خلقٌ من الكُتبيين والورَّاقةِ وبعضِ العلماء على اختلاف تخصُّصاتهم، ثم جُمِعت أخبارُهم وعجائبهم لدى المتأخرين بهذه العُنواناتِ «عُشَّاق الكُتُب»، فأورثت هذه المعاني لدى كثيرٍ من شُداةِ العِلمْ قداسةً للكتابِ لذاتِه، وأنَّ الكُتُبَ في نفسها غايةٌ، وجمعَها -مجرَّدةً- رعايةٌ، وتناسى كثيرٌ منهم شروطَ التحصيلِ وآفاتِه، وقانونَ العلمِ وغاياته، فتضخَّمَ لديهم تعظيمُ «عِلْمِ الوَرَق»!
لستُ هنا أزهِّدُ في الكِتابِ، وأنَّى لي ذلك، لكنني أحاول إبداءَ نظرةٍ خاصَّةٍ في هذه المسألةِ ليست ببِدْعٍ من الرأي، وهي قابلةٌ للخلافِ والوِفاق.
ما رأيتَ أضرَّ بكثيرٍ من أذكياءِ الطَّلبة، وأبطالِ الحَلَبةِ في ميادين العلم والدَّعوة والفِكر والثقافة= من إيثارِ «عِلْمِ الوَرَقِ» على حقائقِ العلمِ، وأصولِ المعارف. تجِدُ الواحدَ ربَّما يشتري الكتابَ حياءً أن لا يراهُ أصحابُه مقتنيًا له، وهل هناك أعجبُ في العلم من مجاملةِ الإنسانِ غيرَه في خاصَّةِ نفسِه وما يحتاجُ إليه؟!
ورُبَّما أصابه خِزيٌ وعارٌ أن يُذكرَ عنده مؤلِّفٌ أو كتابٌ لم يسمعْ به من قبلُ، وتمرُّ عليه في المجلسِ نفسهِ معارفُ ومسائلُ لم يسمع بها أو يتصوَّرها بلهَ أن يفهمها ويُتقنها، ولا يشعر برُبعِ الخزي الذي يشعر به عند عدم معرفته كتابًا أو مؤلِّفًا، وما ذاك إلاَّ من تضخُّمِ «عِلمِ الوَرق» في النُّفوس!
فإذا فتَّشْتَه عن علمِـهِ قال علمي يا خليلي في السَّفَطْ
في كراريسَ جيادٍ أُحكِمَتْ وبِخَطٍّ أيِّ خَـطٍّ أيِّ خـطّْ
فإذا قلتَ له هاتِ إذنْ حكَّ لِحيَيْهِ جميعًا وامْتَخَطْ!
وهذا من آثار تقديسِ الكُتُبِ كأوراق، ثمَّ تجده لا يفترُ من ذكرِ أخبار «عُشَّاق الكُتُب» ولو تأمَّل أحوالَ أكثر الموصوفين بذلك؛ لرأى شاسعَ البَونِ، وعظيمَ الفَرْق!في كراريسَ جيادٍ أُحكِمَتْ وبِخَطٍّ أيِّ خَـطٍّ أيِّ خـطّْ
فإذا قلتَ له هاتِ إذنْ حكَّ لِحيَيْهِ جميعًا وامْتَخَطْ!
فلو نظرتَ لحال الجاحظِ الذي يُعدُّ من كبار «عُشَّاق الكُتُب»؛ لبان لك أنَّ عشقَهُ عشقُ انكبابٍ لا عشقَ جمعٍ وتكثُّر، وقد قال عنه ياقوت كما في [المعجم 2/ 217] نقلاً معاصرٍ له: «لم أرَ قطُّ ولا سمعتُ مَن أحبَّ الكُتُبَ والعُلومَ أكثرَ من الجاحظ، فإنه لم يقع بيدهِ كتابٌ قطُّ إلا استوفى قراءتَه كائناً ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الورَّاقين، ويبيت فيها للنَّظر!».
هل أدركنا معنى (إلاَّ استوفى قراءتَه كائنًا ما كان)، وأين هذا ممن لا همَّ له إلاَّ القُنيةَ فقط، وتكثير الرُّفوفِ، والكفاية -إن ساعدته الهمَّة- بالنظر في المقدِّمات والفهارس، ولمحاتٍ من بطنِ الكتاب؟!
ومن عللِ استكثارِ بعضِهم طلبُ الرُّقيِّ في الإيمان والصَّلاحِ، كما هو حالُ سلمان بن عبد الحميد الحمويِّ الحنبليِّ [805 هـ] من شيوخِ ابن حجر، حيثُ يقولُ ردًّا على زوجِه، وقد لامته على ذهاب ماله في الكُتُب:
وقائلةٍ أنفقتَ في الكُتْبِ ما حوتْ * يمينُك من مالٍ فقلتُ: دعيني
لعلِّي أرى فيها كتابًا يدلُّني * لأخذ كتابي آمنًا بيميني!
وهذه غايةٌ من أشرفِ الغاياتِ وأجلِّها.
فصـــلٌ
لعلِّي أرى فيها كتابًا يدلُّني * لأخذ كتابي آمنًا بيميني!
وهذه غايةٌ من أشرفِ الغاياتِ وأجلِّها.
فصـــلٌ
كُنَّا إلى زمنِ ما قبلَ شُهرةِ معارضِ الكُتُب نسمعُ من يشتكي من عدمِ تمكنِّه من القراءة، والجرد الأوَّلي، والنظرة الفاحصة للكتاب المشترَى، وأصبحنا اليومَ نسمعُ من يشتكي من عدم تمكُّنِه من إخراجِ الكُتُبِ من الأكياس، أو إزالة القرطاس، أو وضع اسمه على غلاف الكتابِ بلهَ النظر والتأمل فيه، وازداد الأمرُ أن تسمع من يقول لك في المعرض الجديد: كتبي التي اشتريتُها من المعرض الماضي لم أنظر فيها إلى الآن، وبعضهم نسي ما اشتراه، واشترى نُسخًا أُخرى من كُتبٍ موجودةٍ في مكتبته!
هذا الحسين بن منصور اليمني يقول [كما في (آداب المعلمين والمتعلمين)]: (ينبغي لطالب العلم إن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ... ولا يجعل تحصيلَها وكثرتَها حظَّه من العلم، وجمعَها نصيبَه من الفهم).
وللهِ درُّ مفخرةِ الجنوب، العالِم الشابِّ حافظٍ الحكمي رحمه الله [1377 هـ] إذ يقولُ:
بِبَيتِ الشَّيخِ كُتْبٌ ما شراها * وجمَّعها ولكنْ ما قراها
وطابتْ نفسُهُ منها بسلوى * إذا فتح المكانَ بأن يراها
فوا أسفي على الأيامِ ضاعتْ * سُدًى وقضى على نفسٍ كراها
وطابتْ نفسُهُ منها بسلوى * إذا فتح المكانَ بأن يراها
فوا أسفي على الأيامِ ضاعتْ * سُدًى وقضى على نفسٍ كراها
لكنَّ العذرَ الطازج لأكثر هؤلاء: هذه مراجعُ للبحث، فأصبحت كُلَّ مكتبتِه مراجع!
أعتقدُ أننا اليومَ -بعدَ الإعلامِ الجديد- لسنا بأحوجَ لإرشاد الناس للقراءة منا إلى ترشيدِ القراءة، وتقرير أنَّ مجرَّدَ جمعِ الكُتُبِ قد أصبح هوايةً كهوايةِ جمع الطوابع، وأنَّ اقتناءَ الكُتبِ فرعٌ عن الحاجةِ المعرفيَّة، وثمرةٌ لمعرفةِ مقامات العلوم والفنون، وقد رأيتُ من كتبَ في (تويتر) يسأل عن سُبُلِ طلب العلم، والمنهجيَّة فيه، ثمَّ هو بعد ستة أشهرٍ يُغرِّدُ عن الكُتُب، وجديد النُّسخِ، والطبعاتِ والمؤلفات، وحديثِ الكُتُبِ الفكريَّة، والروايات، والأدب، ويزور المكتبات في الأسبوع أربع مرات، فعلمتُ أنه قد تضخَّم عنده (عِلْمُ الوَرَق)، واكتفى به!
فَصْـــلٌ
وأمَّا أسبابُ إيثار (عِلمِ الوَرَق) على حقائق العلمِ؛ فكثيرةٌ، لكنَّ أهمَّها في نظري: الاسترواحُ بها، والتخفُّفُ من عِبءِ العلوم، ومشقَّةِ التحصيل، وخداعُ النفسِ بأنَّها سالكةٌ دربَ العِلْم الأصيل!
فإنَّ للنظرِ في تفاريق المؤلفات، والاكتفاء بالتصوُّرات البدائيَّة للكتب على اختلافها، واقتناصِ بعض الفوائدِ من هُنا وهناك= لذَّةً معرفيَّة توهِمُ صاحبَها بتصوُّرِ الإحاطة بها، وهذا من أضرِّ الأمور بطالبِ العلم، وقد حذَّر منها العقَلاء قديمًا وحديثًا، فإنَّهم لما علموا أنَّ النظر في أصول العلوم والمسائلِ وتحصيلها يحتاجُ جِدًّا وجَلَدًا وصبرًا= أدركوا أن طالبَ العلمِ سيتحيَّل بهذه الوسائلِ للتهرُّبِ من مشقَّة العلم!
كيف إذا أدركنا أنَّ هذا الإقبالَ الكبير على الكُتُبِ بلا انضباطٍ، وإنما مجاراتٌ للموجة والموضةِ= عائقٌ كبيرٌ من عوائق حيازة العلم!
وبعضُ الأحبَّة يسأل: بكم ستشتري كُتبًا من معرضِ هذا العام؟
وهذا السُّؤال غلطٌ، فالكُتُبُ هي التي تفرضُ نفسَها على المال، ولا يُفرَضُ المالُ عليها، فقد يحتاج الزائرُ أن يشتري بـ 5000 ريال، وقد تحصلُ الكفايةُ بأن يشتري بـ 500 ريال، وإنما الشَّأن في التخطيط وتصوُّرِ الاحتمالات، وتقدير أمور الطوارئ بالاستعداد.
وقد عقدَ ابنُ خلدون في مقدِّمته فصلاً في أنَّ كثرةَ التآليفِ في العلومِ عائقةٌ عن التحصيل!
وهذا الأديبُ عباس العقَّاد يحمد الله أنه لم يتيسر له شراءُ الكُتُبِ في مبتدأ قراءاته، فيقول في [أنا، ص 39-40]: (وأحمدُ الله أنَّ شراءَ الكُتُبِ عن سَعةٍ لم يكن لازمًا في أيَّام صِباي للاطِّلاع على أوائل المعرفة الأدبيَّة، بل على المعرفة الأدبيَّة في مراحلها المتقدِّمة) وكان لفقره يشتري الكُتُبَ دينًا على أقساط، فيتابعُ: (وبهذهِ الطَّريقةِ قرأتُ: العقد الفريد، وثمرات الأوراق، والمستطرف، والكشكول، والمخلاة، ومقامات الحريري، وبعض الدواوين)!
أرأيتَ الآن كيف أنَّ التوسُّعَ في شراءِ الكُتبِ في مبتدأ الأمر ووسطه - وإن أفادَ - يُضيِّعُ كثيرًا من أصول العلوم المهمَّة؟!
يتابعُ العقَّادُ ليصلَ إلى قاعدةٍ من أنفعِ قواعدِ العلمِ والمعرفة، فيقول: (هذه الندرة من الكُتب التي تيسرت لي أيَّام التلمذة وما بعدها علَّمتني دُستورًا للمطالعةِ أدين به إلى الآن، وخلاصته؛ أنَّ كتابًا تقرؤه ثلاثَ مرَّاتٍ أنفعُ من ثلاثةِ كُتُبٍ تقرأ كُلّاً منها مرَّةً واحدة)!
وهذا ابنُ جماعةَ الكنانيُّ يضعُ يدَه على الجُرحِ، فيقول ناصحًا [كما في (تذكرة السامع والمتكلم)]: (وكذلك يَحْذَرُ [أي طالبُ العلمِ] في ابتداءِ طلبه من المطالعاتِ في تفاريقِ المصنَّفاتِ؛ فإنه يضيِّعُ زمانَه، ويُفَرِّقُ ذهنَه، بل يُعطى الكتابَ الذي يقرؤه، أو الفنَّ الذي يأخذه كليَّتَهُ حتى يُتقِنَه).
آهٍ لو عملنا بهذهِ فقط، لكُنَّا على غير ما نحن عليه بمفاوز!
_________________
يتبع بأمر الله
تعليق