بسم الله الرحمن الرحيــم
من كتاب "الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه" لأبي هلال العسكري
1- والاجتهاد فيما يُكْسبُ العز، ويزيد في النباهة والقدر - راحة العاقل، والتواني عنه عادة الجاهل.
من كتاب "الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه" لأبي هلال العسكري
1- والاجتهاد فيما يُكْسبُ العز، ويزيد في النباهة والقدر - راحة العاقل، والتواني عنه عادة الجاهل.
وقلت في نحو ذلك:
وساهر الليل في الحاجات نائمُهُ وواهب المال عند المَحْل كاسِبُهُ
وقلت في نحو ذلك:
وليغدُ في تعب يَرُحْ في راحة إن الأمور مُريحُها كالمُتْعِبِ
وقلت:
ألا لا يَذمَّ الدهر من كان عاجزاً ولا يعذِلِ الأقدار من كان وانيا فمن لم تُبَلّغْه المعاليَ نَفْسُهُ فغير جدير أن ينال المعاليا
2- ومِثْل العلو في المكارم مِثْل الصعود في الثنايا والقُلَل، و لايكون إلا بشق النفس، ومن ظن أنه ينعم في قصد الذرى، والتوقل في القذفات العلا، فقد ظن باطلاً، وتوهم محالاً.
3- وقال الجاحظ: العلم عزيز الجانب، لا يعطيك بعضه، حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك كنت من إعطائه إياك البعض على خطر.
وقد صدق؛ فكم من راغب مجتهد في طلبه لا يحظى منه بطائل على طول تعبه،ومواصلة دأبه ونصبه؛ وذلك إذا نقص ذكاؤه، وكَلَّ ذهنُه، ونَبَتْ قريحتُه.
والفهم إنما يكون مع اعتدال آلته، فإذا عدم الاعتدال لم يكن قبول، كالطينة إذا كانت يابسة ، أو مُنْحلَّةً ، لم تقبل الختم، وإنما تقبله في حال اعتدالها.
وإذا أكدى الطالب مع الاجتهاد فكيف يكون مع الهوينى والفتور؟!
4- وإن كنت -أيها الأخ- ترغب في سمو القدر، ونباهة الذكر، وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزاً لا تَثْلِمه الليالي والأيام، ولا تَتحيَّفُه الدهور والأعوام، وهيبةً بغير سلطان، وغنىً بلا مال، ومنفعةً بغير سلاح، وعلاءاً من غيرِ عشيرة، وأعواناً من غير أجرٍ، وجنداً بلا ديوان وفرض - فعليك بالعلم؛ فاطلبه في مظانه تأتِك المنافع عفواً، وتلق ما تعتمد منها صفواً.
واجتهد في تحصيله ليالي قلائل، ثم تذوَّقْ حلاوة الكرامة مدة عمرك، وتمتع بلذة الشرف فيه بقية أيامك، واستبق لنفسك الذكر به بعد وفاتك.
5- وإذا تدبرت قول أمير المؤمنين علي-رضي الله عنه- فقال: "قيمة كل امرئ مايحسنه" كنت حقيقاً بالاجتهاد في طلب العلم أَوَانَ قدرتك عليه، غير معذور في التواني عنه، والتقصير فيه؛ لأن العاقل لا يعتمد تخسيس قيمته، ولا يغفل عما يرفع من قدره.
6- وقال بعض الأوائل: لا يتم العلم إلا بستة أشياء:
(1) ذهن ثاقب. (2) وزمان طويل. (3) وكِفاية.
(4) وعمل كثير. (5) ومعلِّم حاذق. (6) وشهوة(أي نحو العلم).
وكلما نقص من هذه الستة شيء نقص بمقداره من العلم.
7- قال أبو هلال: فإذا كان العلم مؤنساً في الوحدة، ووطناً في الغربة،وشرفاً للوضيع، وقوةً للضعيف، ويساراً للمُقْتِر، ونباهة للمغمور، حتى يلحقه بالمشهور المذكور - كان من حقه أن يُؤْثَرَ على أنفس الأعلاق، ويقدم على أكرم العقد، ومن حق من يعرفه حق معرفته أن يجتهد في التماسه؛ ليفوز بفضيلته؛ فإن من كانت هذه خصاله كان التقصير في طلبه قصوراً، والتفريط في تحصيله لا يكون إلا بعدم التوفيق، ومن أقصر عنه أو قَصَّر دونه فليأذن بخسران الصفقة، وليقرَّ بقصور الهمة، وليعترف بنقصان المعرفة، وليعلم أنه غُبِن الحظَّ الأوفر، وخُدع عن النصيب الأجزل، وباع الأرفع بالأدون، ورضي بالأخس عوضاً عن الأنفس، وذلك هو الضلال البعيد.
8- ولِفَضْلِ العلم ما ذلت في التماسه الأعزاء، وتواضع الكبراء، وخضع لأهله ذوو الأحلام الراجحة، والنفوس الأبية، والعقول السليمة، واحتملوا فيه الأذى، وصبروا على المكروه، ومن طلب النفيس خاطر بالنفيس، وصبر على الخسيس.
9- قال أبو هلال: سميت الرياح: المؤتفكات؛ لأنها لا تتماسك، وأصل هذه الكلمة عدم التماسك، وسمي الكذب إفكاً؛ إذ كان يدل على نفسه بالفساد والبطلان، كأنه لا يتماسك.
10- وقال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك، كان أجهل ما يكون.
قال الشيخ أبو هلال: ونحو هذا ما قلته:
أُحَقِّرُنفسي وهي نفس جليلة تَكَنَّفها من جانبيها الفضائلُ أحاول منها أن تزيد فترتقي إلى حيث لا يسمو إليه المحاول وإن أنت لم تبغِ الزيادة في العلا فأنت على النقصان منهن حاصل
11- وقيل لبزْرجمهر: بم جمعت هذا العلم الكثير؟!
قال: ببكور كبكور الغراب، وحرص كحرص الخنزير، وصبر كصبر الحمار.
ونحو هذا قول شعبة وقد قيل له: ما بال حديثك نقِيَّاً؟!
قال: لِتَرْكِيَ العصائد بالغدوات.
12- إن الكتب لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلاً، ولا البليد ذكياً،ولكن الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ، وتفتق، وترهف.
ومن أراد أن يعلم كل شيء فينبغي لأهله أن يداووه؛ فإن ذلك إنما تصور له لشيء اعتراه.
13- وقال الزهري: إن الرجل ليطلب وقَلْبُه شِعْبٌ من الشعاب، ثم لا يلبث أن يصير وادياً، لا يوضع فيه شيء إلا التهمة.
قلنا: يريد أن أول الحفظ شديد يشق على الإنسان، ثم إذا اعتاد سهل.
ومصداق ذلك ما أخبرنا به الشيخ أبو أحمد، عن الصُّولي، عن الحارث بن أسامة قال: كان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق إلا القلب؛فإنه كلما أفرغ فيه اتسع.
وقال أبو السمح الطائي: كنت أسمع عمومتي في المجلس ينشدون الشعر، فإذا استعدتهم زجروني وسبوني، وقالوا: تسمع شيئاً ولا تحفظه!
قال الشيخ: وكان الحفظ يتعذر عليّ حين ابتدأت أرومه، ثم عودته نفسي، إلى أن حفظت قصيدة رؤبة:
*وقاتم الأعماق خاوي المخترق* في ليلة وهي قريب من مائتي بيت.
وقد قال الشعبي: ما وضعت سوداء في بيضاء قطُّ، ولا حدثني أحدٌ بحديثٍ فاحتجتُ إلى أن يعيده علي.
14- وينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يُسمع نفسه؛ فإن ما سمعته الأذن رسخ في القلب؛ ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرأه، وإذاكان المدروس مما يفسح طرق الفصاحة، ورفع به الدارس صوته زادت فصاحته.
15- وحكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النبط فتىً فصيحَ اللهجة، حسنَ البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لُكْنة أهل جلدته! فقال: كنت أعمِد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأرفع صوتي بها في قراءتها، فما مر لي إلا زمان قصير، حتى صرت إلى ما ترى.
16- وحكي لي عن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم، فإنه أثبت للحفظ، وأذهب للنوم.
وكان يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ والفهم، وكان بعضهم يقرأ الكتاب، ثم يذاكر به حرفاً حرفاً، كأن قارئاً يقرؤه عليه، فيفسره له.
17- واعلم أن الذكاء، وجودة القريحة، وثقوب الذهن جواهر نفيسةٌ، فإذا طلب صاحبها العلم فبلغ مبلغاً فقد حفظ جمالها على نفسه، وأحرز منفعتها لها.
ومن ترك الطلب حتى كَلَّ ذهنه، وعميت فطنته، وتبلدت قريحته، مع إدبار عمره - كان كمن عَمَد إلى ما عنده من الياقوت والدر فرضَّه، وأبطل الجَمَال والنفعَ به.
وإذا كان ما جمعته من العلم قليلاً، وكان حفظاً كثرت المنفعة به، وإذا كان كثيراً غير محفوظ قلت منفعته.
18- وقال المنصور بن المهدي للمأمون: أيحسن بمثلي أن يتعلم؟
فقال: والله لأن تموت طالباً للعلم خيرٌ من أن تموت قانعاً بالجهل.
19- وحكي عن ثعلب أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوةٍ،شرط عليه أن يوسع له مقدار مِسْوَرة؛ يضع فيها كتاباً ويدرس.
20- وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف، أو خبطته دابةٌ.
21- وحكي عن بعضهم أنه كان يشد في وسطه خيطاً إذا قام من الليل يدرسُ؛ خوفاً من أن يسقط إذا نعس.
22- وكان ابن الفرات لا يترك كل يوم إذا أصبح أن يحفظ شيئا وإن قل.
وكان بعضهم يقول: متى تبلغ من العلم مبلغاً يُرْضى، وأنت تؤثر النوم على الدرس، والأكل على القراءة؟
23- وكان الأصمعي يحفظ اثنتي عشرة ألف أرجوزة، فيها ما كان عدد أبياتها المائة والمائتين.
24- قال الشيخ أبو هلال: وعند الحكماء أن من تبرم بالعلم والعلماء، ومن يقدر على حفظ العلم والأدب، وهو مقصر فيه - فليس بإنسان كاملٍ، والكاملُ مِنَ الناس مَنْ عرف فضل العلم، ثم إن قدر عليه طلبه.
25- وقال الحسن: من ترك طلب العلم؛ حياءً ألبسه الجهل سرباله، ومن رق وجهه رق علمه.
وقال الخليل: منزلة الجهل بين الحياء والأنفة.
26- قال أبو هلال: وجعل الحكماء منزلة العلماء مثل منزلة الملوك.
فقالوا: من أدب الداخل على العالم أن يسلم على أصحابه عامةً، ويخصه بالتحية، ويجلس قدامه، ولا يشير بيده، ولا يغمز بعينه، ولا يقول بخلاف قوله، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يسارَّ في مجلسه، ولا يُلِحَّ عليه إذا كسل،ولا يعرض عن كلامه، فإنه بمنزلة النخلة، لا يزال يَسْقُطُ عليك منها شيء ينفعك.
27- وكان الخليل يقول: أثقل ساعات علي ساعة آكل فيها!
28- قال أبو هلال: ولو أن الجاهل تبين نقيصة الجهل من نفسه - لفزع إلى مفارقته بالكد في التعلم، ولكنه كآكل الثوم، لا يشم من نفسه نتنه، وإنما يشمه غيره، ويتأذى به سواه.
29- والفضيحة بالجهل عظيمةٌ، والغبن به كثيرٌ لو عرفه الجاهل.
30- ولا يرضى بالجهل إلا من هانت عليه نفسه، فلا يبالي أن يهجى، ويُسْتَخَفَّ به، ويُسخر منه، وأدنى حقه منه ذلك.
تعليق