السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مهارات التَّواصُل الاجتماعي
مهارات التَّواصُل الاجتماعي
د. علي الشّبيلي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
اللَّهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وارزقنا الإخلاصَ في القول والعمل.
أمَّا بعد إخوتي الكرام، أخواتي الفاضلات في شتَّى بقاع الأرض، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم بكلِّ خيرٍ.
في هذه اللَّيلة -بإذن الله تعالى- سنبدأ درسًا -إن شاء الله تعالى- من الدُّروس المُهمَّة جدًّا في حياة كلِّ مسلمٍ، كيف لا وهو أحد الأمور التي بُعِث من أجلها رسولُ الهدى -صلى الله عليه وسلم- حينما قال في الحديث الصَّحيح: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
فمرحبًا بكم جميعًا في هذا اللِّقاء الذي سيحمل عنوانًا يتعلَّق بمهارات التَّواصل والعلاقات الاجتماعيَّة؛ لنتعلم ونستفيد كيف نستطيع أن نعيش في هذه الحياة ونتواصل مع القريبين، وكذلك البعيدين، سواء أكان المُقاربون لنا المُتواصِلون معنا أمامنا جسدًا لجسدٍ، وجهًا لوجه، أو كانوا بعيدين عنا.
فنسأل الله -عز وجل- أن يُبارك في هذه اللِّقاءات، وأن يُسددنا فيها، وأن يُعِننا وإيَّاكم فيها على كلِّ خيرٍ.
وأرحب كذلك بإخوتي الكرام الأفاضل في هذا الاستوديو، سائلًا المولى -جل وعلا- أن يُوفِّقني وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ.
أيُّها الإخوة الأفاضل: من نِعَم الله -عز وجل- على الإنسان أن يُوفِّقه لطلب العلم، وإذا أُطلِق العلمُ في كتاب الله وسُنَّة رسوله -صلى الله عليه وسلم- فالمراد به العلم الشَّرعي: علم الكتاب والسُّنة.
ومن المأثور عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنَّه كان يقول: "العلم عمائم يُسْقِطها اللهُ على رأس مَن يشاء".
فهذا العلم -أي العلم الشَّرعي- هو توفيقٌ مَحْضٌ من الله تعالى، فإذا أراد الله بالعبد خيرًا وفَّقه للعلم الشَّرعي، ولذا جاء في الصَّحيح أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
وقال الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله- مُعلِّقًا على هذا الحديث: "وللحديث مفهوم مُخالفة، ومفهوم المُخالفة أنَّ مَن لم يرد اللهُ به خيرًا فلا يُفقهه في الدين".
فإذا وُفِّق العبدُ إلى هذا الأمر، وهو أن يكون عالمًا أو طالبَ علمٍ يستطيع أن يغوصَ في المسائل ويبحث في بطون الكتب ويُخرِج هذا العلم وينشره للناس؛ لا شكَّ أنَّ هذا خيرٌ عظيمٌ.
ولهذا يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أيضًا في الحديث الآخر: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، فالإنسان يتعلَّم ويُعلِّم، ولا يقف حدُّه عند التَّعلُّم فقط؛ بل ينشره كذلك للآخرين.
لذا نحن في هذا الدرس لا شكَّ أننا سنمُر بمواقفَ كثيرةٍ، وسنستشهد بآياتٍ وأحاديث عن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- سواء كانت قوليَّةً أو عمليَّةً، نستنبط من خلالها فقه العلاقات الاجتماعيَّة: كيف نتواصل مع الآخرين؟ كيف نستطيع أن نكسب قلوبَ الآخرين؟ كيف نستطيع أن ننقل المشاعر والمعاني والكلام الذي نُريد أن ننقله للآخرين؟ وما الأسلوب المناسب والجميل الذي يُمكن أن نُحقِّق به وصولًا إلى قلوب الناس بأقل تكلفةٍ وأيضًا بأجمل صورةٍ وأفضل حُلَّةٍ؟
دعوني أبدأ معكم هذا اللِّقاء بقصةٍ ذُكِرت في كتب الأدب والتاريخ، وهي: أنَّ شيخًا كان يُعلِّم مجموعةً من الطلاب، ثم كان الشيخُ إذا انتهت الدُّروس يقول لهم: اذهبوا فانشروا الدَّعوة. وفعلًا ذهبت مجموعةٌ من الطلاب في يومٍ من الأيام فدخلوا أحد المساجد -مسجد جامع- وإذا بالخطيب يخطب خطبة الجمعة بأحاديث كلِّها كذبٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فهؤلاء الطُّلاب الذين جاؤوا ليُطَبِّقوا علمَهم الذي أخذوه من الشيخ غضبوا من هذا الوضع، وقالوا: كيف يكذب هذا الإنسان على النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فقاموا بعد انتهاء الصلاة وقالوا: هذا الرجل الذي خطب يكذب عليكم، ويتكلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بكلامٍ لم يقله -عليه الصَّلاة والسَّلام.
فقام الناسُ وغضبوا على هؤلاء الشَّباب وبدؤوا بضربهم في داخل المسجد؛ لأنَّهم لا يمكن أن يتركوا شيخَهم الذي يُعلِّمهم عشرات السنين ويسمعوا لصبيةٍ أو لشبابٍ صغارٍ لا يزالون في أول الطَّلب، فماذا حصل؟
رجعوا إلى الشَّيخ وهم مضروبون والدِّماء تسيل منهم، فقالوا له: حصل كيت وكيت وكيت.
فقال الشيخُ: دعوني أذهب معكم في الأسبوع القادم وأُرِيكم كيف نستطيع أن نصدَّ شرَّ هذا الإنسان ولكن بأسلوبٍ آخر.
وفعلًا ذهب الشيخُ في الجمعة التالية، وحضر الجمعة، وسمع الخطيبَ وهو يتكلَّم بأحاديث لم يقلها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وكلّها موضوعة ومكذوبة على النبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
فلما انتهت الخطبةُ وانتهت الصلاةُ وصلى هذا الخطيبُ بالناس قام هذا الرجلُ الكبير في السّن وأمسك الميكروفون وتحدَّث إلى الناس وقال: أيُّها الناس، إنَّ إمامَكم هذا رجلٌ صالِحٌ تقِيٌّ، وإنَّ مَن أراد أن ينال الجنَّةَ فليأخذ شعرةً من لحيته.
وفعلًا هجم الناسُ عليه، وبدؤوا بأخذ كلِّ شعر وجهه.
فقد تغيَّر الأسلوبُ فقط، وبغض النَّظر عن الطَّريقة أو الكلام الذي قاله هذا الرجل، لكنَّه استطاع أن يُؤدِّب هذا الإنسانَ بطريقةٍ سهلةٍ.
دعونا نتأمَّل الآن في هذا الكون:
انظروا أيُّها الإخوة: وصل الإسلامُ إلى جنوب الهند وسِيلان وجُزر المَالدِيف، وإلى التِّبْت وسواحل الصِّين، ووصل كذلك للفلبين وجُزر أندونيسيا، وشبه جزيرة الملايو، ووصل إلى أواسط أفريقيا، والسِّنغال، ونيجيريا، والصُّومال، وتنزانيا، ومدغَشْقَر، وزِنْجِبَار، وغيرها من البلاد، وصل بماذا؟
وصل بأخلاق الناس، بسبب تُجَّار مسلمين ودُعاة صادقين، لم يملكوا العلمَ فقط؛ بل ملكوا خُلُقًا استطاعوا به فتح عقول الناس وقلوبهم، ولكن فتحوا قلوبَهم قبل عقولهم، لأنَّك إذا أردتَ أن يستمع إليك الناسُ لابُدَّ أن تُحقِّق شيئًا مُهمًّا جدًّا، وهو أن يُحبُّوك.
لقد أحبَّ أصحابُ محمدٍ محمدًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- فتغلغل حبُّه في قلوبهم، ومن ثَمَّ أصبحت كلُّ عبارةٍ يقولها النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- يضعونها على رؤوسهم، وعلى أعيُنهم، ثم يقومون بتطبيقها. لماذا؟
لأنَّه ملك قلوبَهم -عليه الصَّلاة والسَّلام.
ولذا لاحظوا الآتي: عُتاة المشركين عندما يأتون ويُسلِمون انظر كيف يتعامل معهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حتى يسحرهم بتعامُله؟
فلمَّا أسلم عمرو بن العاص -وعمرو بن العاص هو أحد دُهاة العرب- ولاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاثة أشهر من إسلامه غزوة ذات السَّلاسِل. ثم ماذا حصل؟
في يومٍ من الأيام كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جالسًا، فجاء إليه عمرو بن العاص فقال له: يا رسولَ الله، مَن أحبُّ الناس إليك؟
وهو يتوقَّع من هذا التَّعامُل والخُلُق الحسن والكلام الذي يجده من النبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه أحبُّ إنسانٍ للنبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
فقال النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام: «عَائِشَةُ».
فقال: لستُ عن النِّساء أسألك، ولكن عن الرِّجال.
قال: «أَبُوهَا».
قال: ثم مَن؟
قال: «عُمَر».
قال: ثم مَن؟
قال: «أَبُو عُبَيْدَة».
قال: فسكتُّ مخافة ألا يُسميني.
فهذا الرجل الدَّاهية أُسِرَ بحسن تعامُلٍ من النبي -صلى الله عليه وسلم.
لهذا علينا نحن حملة الشَّريعة، والدُّعاة، وطلاب العلم أن نظهر أمام الناس ليس بالعلم فقط، بل بالعلم والأخلاق التي نكسب بها قلوبَهم، ثم بعد ذلك نستطيع أن نملك عقولَهم بالعلم الذي سنُوصله إليهم.
لاحظوا معي أيضًا -أيُّها الإخوة- شيئًا آخر نحتاج إليه إضافةً لحُسن التَّعامُل، وهو أننا كطلاب علمٍ ودُعاةٍ وخطباء ننقل للناس العلم من خلال الكلام، فتجد الإنسان إمَّا أن يكون خطيبًا، أو شخصًا مثلًا في الفصول الدِّراسيَّة، أو إمامًا للمسجد يُريد أن يُلقِي كلمةً أو درسًا أو نحو ذلك؛ هذا قدرنا نحن كطلاب علمٍ.
إذن نحن ننقل للناس كلامًا، كيف نُوصِل للناس هذا الكلام؟
يمكن أن نُوصله بأسلوبٍ ونأتي بقلوبهم؛ لأننا نُريد أن نُحقِّق هدفًا هو: أن يعود الناسُ إلى دين الله.
كيف نستطيع أن نُعبِّدهم بأسلوبٍ أفضل؟
دعوني أحكي لكم تجربةً شخصيَّةً:
بحكم أني إمام مسجدٍ كنتُ أُمارس أحيانًا جلد الناس، فإذا تأخَّروا عن صلاة الفجر أُمسِك الميكروفون في صلاة المغرب أو العشاء وأبدأ بجلدهم، وأُخبرهم أنَّ مَن ترك الصلاةَ فهو مُنافِقٌ، ولم يكن أحدٌ تفوته الصَّلاةُ في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا المنافقين -صلاة الفجر وصلاة العشاء- كما قال الصَّحابي.
وبدأت بهذا الأسلوب وكنتُ في أول تعيني في المسجد، ثم بعد ذلك رأيتُ الناسَ يفِرُّون مني، فيبتعدون عن صلاة الفجر، وينقص العددُ.
فاستخدمتُ أسلوبًا آخر استفدته من أحد الإخوة، وهو أنني استخدمتُ لغة التَّرغيب بدل لغة التَّرهيب، والتَّرغيب لا شكَّ أنَّه يأتي بأشدِّ الناس قساوةً، بل يأتي بالحيوانات، فالأسد تخاف منه جميعُ الحيوانات، ويهرب منه الرِّجال، حتى الرجل الذي يحمل سلاحًا لا يستطيع أن يقف أمام الأسد، وفجأةً إذا بهذا الأسد أمام الناس في السِّيرك يلعب أمامهم بالكرة، ويدخل بين دوائر مليئة بالنار واللَّهب وغير ذلك. لماذا؟ بالتَّرغيب، فهو لم يأتِ بالضَّرب، إنَّما جاء بقطعة لحمٍ كانت تُعطَى لهذا الأسد حتى أصبح مُهَذَّبًا جميلًا، ونمور تلعب أمام الناس.
إذن -أيُّها الإخوة- نحن نستطيع أن نُحَوِّل الناسَ كما نستطيع أن نُحَوِّل الوحوش.
إذن عندما نُريد أن نتحدث مع الناس نتحدث بأسلوبٍ نُفكِّر فيه قبل أن نُلقيه على الأشخاص، ولا تأخذنا العاطفة، ولهذا -إن شاء الله تعالى- نحن سنتحدث في إحدى اللَّيالي عن كيفية التَّفاعُل دون انفعالٍ، فنتفاعل لكن لا ننفعل؛ لأنَّ هذا الانفعال سيُفْقِد الكلمةَ صدقها، وسيُفْقِد أيضًا المشاعر التي في داخلك صدقَها، ومن ثَمَّ يهربُ الناسُ منَّا عندئذٍ.
نحن أيضًا في هذا اللِّقاء -إن شاء الله- سنتعلم ما الوِعَاء الذي نستطيع أن ننقل به العلمَ للآخرين؟
فعندما أُريد أن أتحدث عن التقوى لابُدَّ أن أسأل نفسي سؤالًا هو: أليس هناك إلا أسلوبًا واحدًا لنقل هذا الموضوع أم هناك أساليب أخرى؟ نجد أنَّ لدينا أساليب كثيرةً جدًّا نستطيع أن نكسب بها قلوبَ أولئك الأشخاص.
لهذا لا شكَّ أننا فتحنا هذه الدُّنيا كلَّها بسبب أنَّه وُجِدَ أُناسٌ يُتقِنون فنَّ التَّعامُل، ومهارات التَّواصُل مع الآخرين، وكسب قلوب البشر، كما ذكرتُ لكم الآن مجموعةً كبيرةً من الناس كانوا في أول أمرهم كُفَّارًا، ثم بسبب تُجَّارٍ ودُعاةٍ صادقين ملكوا قلوبَ الناس.
يا أيُّها الإخوة، أهل كلِّ هذه البلاد التي ذكرتها لكم قبل قليل لم يكونوا يُحسِنون العربية، فهم عَجَمٌ، ومع هذا تحوَّلوا إلى الإسلام بسبب رُؤيتهم لحُسن تعامُلٍ من قِبَل أولئك الأشخاص.
لهذا نُريد أن نُقرر مفهومًا مُهمًّا جدًّا، وهو أنَّك تجد بعض الأشخاص يقولون: يا أخي، إنَّ الله خلقني هكذا عصبي، أنا رجلٌ غَضُوبٌ أغضب بسرعةٍ، ولذلك لا أستطيع أن أتحمَّل هذا الكلام.
لا، لقد جاء في الأثر ويُروى حديثٌ مرفوعٌ أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ»، أي أنَّ الإنسانَ لا يُولَد عالمًا، فلا يأتي في يومٍ وليلةٍ ويُصبح عالمًا، لكن في الحقيقة يتعلَّم.
وإنَّما العلم كاجتماع النُّقَط، مثل السَّيل فإنَّه يأتي في أول الأمر مطرًا خفيفًا، ثم بعد ذلك يجتمع هذا السَّيلُ ويُغرِق مُدُنًا وبلدانًا.
والعلم نفس الشَّيء؛ فإنَّه يأتي مسألةً ومسألةً، وصفحةً تُقْرَأ، وعشر صفحاتٍ، وكتاب، ونصف كتابٍ، وعشرة كتبٍ، ومئة كتابٍ، وإذا بهذا قد أصبح طالبَ علمٍ يستطيع أن يعيش في هذه المسائل.
وكذلك الأخلاق، فإننا نصل إليها بالتَّدرُّج، فقد يكون الإنسانُ عصبيًّا لكن يُدَرِّب نفسَه، ويُرَوِّض نفسَه.
ولذا فإنَّ من نِعَم الله -عز وجل- علينا قُدرتنا على التَّغيير، فالله يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
دعوني أحكي لكم حكايةً ونحن في هذا الدرس، فهذا أول درسٍ فنُريد أن يكون لطيفًا، ثم بعد ذلك ندخل -إن شاء الله- في المسائل العلميَّة التي تحتاج منا إلى تأنٍّ وكتابةٍ، لكن خذوا مثلًا هذه القصَّة:
يُحْكَى أنَّ اثنين من الشَّباب كانوا في قريةٍ من القُرى، وكانت عندهم مهنةٌ عجيبةٌ وهي سرقة الخِرَاف، فيُصبِح أهلُ القرية وإذا بكلِّ حوشٍ فيه مجموعةٌ كبيرةٌ من الغنم مسروقة، وكان الشَّابان يسرقان الخرافَ بدون صوتٍ، فبدأ أهلُ القرية بتتبُّع السَّارقين حتى وجدوهما في يومٍ من الأيام يسرقان الخِرَاف، فجاؤوا بهما في وسط القرية، واجتمع أهلُ القرية كلّهم، فقالوا لهما: تسرقون خرافنا؟ وبدؤوا بتقريرهم بالتُّهمة، وإذا بهم يعترفون، فقرر أهلُ القرية مُعاقبتهم، فجاؤوا بحديدةٍ وضعوا فيها نارًا، ثم كتبوا على جباههما (س. خ) أي سارق الخِرَاف.
فأحد هذين الشَّابين خرج من القرية، وقال: هؤلاء لا يُقَدِّرون هذه المهارة العظيمة. وهي أنَّه يسرق بدون صوتٍ، فكون الإنسان يسرق ثلاثة أغنامٍ أو أربعة أو خمسة ويُخرِجها من حظيرة الغنم دون أن تُصدِر صوتًا فهذا إبداعٌ، لذلك خرج من القرية ولم يَعُد إليها.
والشَّخص الآخر ماذا فعل؟
قال: أمَّا أنا فسأُحَسِّن من نظرة الناس إليَّ، وسأتغير إلى الأفضل.
وفعلًا عاش مع أهل القرية، وبدل أن كان سارقًا بدأ يتعامل معهم بالحُسنى ويتقرَّب للصِّغار والكبار ويُحسِن التَّعامُل معهم، ويُسلِّم على هذا، ويُهدِي لهذا، ويتصرَّف تصرُّفاتٍ كثيرةً جميلةً ورائعةً، حتى أصبح شخصًا كبيرًا.
وفي يومٍ من الأيام دخل رجلٌ القرية، وإذا به يرى أنَّ هذا الإنسان إذا مرَّ بالصِّغار سلَّموا عليه، والكبار يحترمونه ويُقدِّرونه ويعودون إليه ويستشِيرونه، فمرَّ بهذا الرَّجل واستغرب من وضعه، ثم بعد ذلك وجدوا طاولةً فجلسوا عليها، قال: يا أخي، كلُّ شأنك عجيبٌ، وحبّ الناس لك، لكن أعجب شيءٍ هو هذا الـ(س. خ) التي في جبهتك.
قال: لا أدري، أنا كبرتُ وهذا الـ (س. خ) في جبهتي. ما معناه يا إخوة؟ سارق الخِرَاف.
فماذا قال الرجل؟
طبعًا قام من عنده بعدما رأى هذا التَّصرُّف ورأى حبَّ الناس له، فخرج من عنده وقال: حقًّا أنتَ ساعٍ للخير.
من سارق للخِرَاف إلى ساعٍ للخير.
إذن نحن لدينا قُدرة على التَّحَسُّن، وأن تنقلب حالنا على الأقل من السَّيئ إلى الأحسن، فينبغي أن نُؤكِّد على هذه المسألة، فأن يقول شخصٌ: أنا عصبي، إذن ستبقى هذه العصبيَّة معي إلى قيام السَّاعة.
فهذا ليس صحيحًا، فالأخلاق كما أنَّ منها شيئًا جبليًّا كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- للأحنف بن قيسٍ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ». قال: أهما فيَّ؟ يعني أجبلني الله عليهما؟ قال: «نَعَمْ».
لكن هناك نوعٌ من الأخلاق مُكْتَسَبَة.
ولهذا فإنَّ الأخلاق منها ما هو جبلّيّ يضعه اللهُ في قلب الإنسان، ومنها ما هو مُكْتَسَب يكتسبه الإنسانُ من خلال التَّعامُل ونحو ذلك.
تعالوا -أيُّها الإخوة- الآن ندخل في تعريف الأخلاق:
عندما نريد أن نُعرِّف الخُلُق فمهارات الاتِّصال هي جزءٌ منه، فهي جزءٌ من حُسن الخُلُق، كيف نُعبِّر عن المعاني والمشاعر التي في داخلنا؟ ما القوالب التي نستخدمها؟ هذا جزءٌ كبيرٌ جدًّا من حُسن الأخلاق.
لو سألنا الأحبَّة الكرام: ما المُراد بحُسن الخلق؟ فهل يستطيع أحد الإخوة أن يُجيب؟
تفضَّل.
{حُسن الخُلُق هو: التَّعامُل الجيد والحسن مع الطرف المُقابل، سواء كان أبَ زوجةٍ، أو ما شابه، ويكون فيه نوعٌ من التَّعامُل الرَّاقي -إن صحَّ التَّعبير}.
هذا جيد، فبعض العلماء قالوا: إنَّ حُسن الخلق هو: بذل النَّدى، وكفُّ الأذى. لأنَّ الناس تحتاج منك إلى بذلٍ، وإلى كَفٍّ.
وقبل أن ندخل فعلًا في التَّعريف الرَّئيس فإنَّني أريد أن أُركِّز أيضًا على هذا الأمر: فأغلب الناس -إن لم يكن كلّهم- يريدون أن يتعامل الآخرون معهم بالأخلاق الحسنة، بينما هم لا يُمارسونها. صحيح؟
نأخذ أمثلةً: الأب يريد أبناءه كلَّهم مُطيعين مُؤدَّبين يستأذنون، بينما هو لا يفعل هذا الخُلُق معهم، فنحن ننتهك حُرمات أولادنا في غرفنا دون استئذانٍ! أين الدِّين؟!
الدين -أيُّها الإخوة- لم يقل أنَّه يُفرِّق بين الأب وابنه، ولهذا ستأتينا -إن شاء الله- بعد قليلٍ صفات الأخلاق في الإسلام، وهي عشرة صفاتٍ للأخلاق في الإسلام، وهي أُسس في الأخلاق الإسلاميَّة.
فنحن نريد أن يتعامل معنا الناسُ بالكلمة الطَّيبة، بينما نحن نتعامل معهم بالكلمة السَّيئة، ونريد أن لا يرفع إنسانٌ صوتَه علينا، بينما نحن نُمارِس رفع الصَّوت عليه.
دعوني أحكي لكم أيضًا حكايةً في هذا اللِّقاء الذي قلنا فيه أنَّه مُقدِّمة نحتاج فيها إلى نوعٍ من إدخال السُّرور عليكم وعلى الإخوة الذين يُشاهدوننا الآن، والذين سيستمعون -إن شاء الله- بعد ذلك:
في يومٍ من الأيام كان هناك رجلًا مُزارعًا ليس له في الدنيا إلا بقرة تُخرِج له حليبًا، ثم يستخرج من هذا الحليب سمنًا، ويبيعه في المدينة لتاجرٍ من التُّجَّار، وكلّ مرةٍ يأتي له بكراتٍ من السَّمن ويقول: هذه كرات يا سيدي من السَّمن أبيعها عليك، وكلّ كرةٍ ألف جرام. فيأخذها هذا التَّاجر ويبيعها على الناس.
وفي يومٍ من الأيام كان التَّاجرُ جالسًا ليس عنده أيُّ أشغالٍ فقام ووزن الكُرات، فوزن الكرة الأولى وإذا بها تسعمئة جرام، والكيلو ألف جرام، ووزن الثانية فوجدها تسعمئة، ووزن الثالثة فوجدها تسعمئة، ووزن الرابعة فوجدها تسعمئة. فقال: يالله! كلّ هذه السّنين وهذا المُزارع يغُشّني، لأنتقمَنَّ من هذا الرجل.
وفعلًا جاء الرجلُ المُزارع بعد فترةٍ وقال: سيدي هذه مجموعة من الكُرات أُريد أن أبيعها لك.
قال: تبعها لنا، دعنا نزنها. فجاء بالكرة الأولى ووزنها وإذا بها تسعمئة جرام وليست ألفًا، ووزن الثانية فوجدها تسعمئة، والثالثة تسعمئة. وكلّ الكُرات تسعمئة جرام، فقال: تغشني هذه السّنين أيُّها السَّارق؟
وبدأ هذا التَّاجر بسَبِّ هذا الرجل المزارع الفقير الذي ليس له في الدنيا إلا هذه الكُرات التي يبيعها في القرية، أو يبيعها في المدينة على هذا التَّاجر.
فماذا حصل؟
قال: سيدي، صبرًا، هل تذكر كيلو السُّكر الذي اشتريته منك قبل سنة؟
قال: نعم.
قال: أنا أزن كُرات السَّمن على كيلو السُّكر الذي أعطيتني.
مَن السَّارق؟ في الحقيقة هو التَّاجر الأول. أليس كذلك؟
لو عامل هذا الإنسان بالخُلُق الحسن والعدل لوجد عدلًا، ولكنَّه غشَّ هنا فغُشَّ هناك.
نفس القضية، حياتنا مبنية على هذا الأمر، فالجزاء من جنس العمل، وقلوب الناس مثل مكينة الصَّراف التي يضع الناسُ فيها أموالَهم، فأنت تُودِع في هذه الماكينات مبلغًا كبيرًا تستطيع سحبه بعد ذلك، فإذا أودعنا في قلوب الناس كلمات جميلةً، وعبارات حانيةً، وهدوءًا في التَّعامل، ورِفْقًا، وعدم رفع صوتٍ أو غضب.
تمر بالإنسان أحيانًا بعضُ الأشياء التي قد تُغضبه، لكن المؤمن رجَّاعٌ للحق.
لهذا فإنَّ ذكر بعض الأشياء والتَّصرُّفات التي هي من التَّعامُل الرَّاقي ونحو ذلك جزءٌ من الأخلاق بلا شكٍّ.
يقول بعضُ العلماء: بذل النَّدَى وكَفُّ الأذى.
يمكن أن نُعَرِّف الأخلاق عمومًا فنقول: هي التَّحلِّي بالفضائل، والتَّخَلِّي عن الرَّذائل، على هدي الإسلام وشرعه القويم.
إذن هي أن يتحلَّى الإنسانُ بالفضائل، وأن يتخلَّى عن الرَّذائل، لكن على هدي الإسلام وشرعه القويم، فهذا الضَّابط مُهمٌّ جدًّا يا إخواني، على هدي الإسلام وشرعه القويم. كيف؟ لماذا أصلًا ذكرنا هذا الضَّابط؟ لماذا قيل: على هدي الإسلام؟
لأنَّ هناك مسألةٌ مُهمَّةٌ جدًّا وهي: ما منبع الأخلاق ومقياسها؟ فإذا أردنا أن نقيس أخلاقَ الناس نُحاكمهم إلى ماذا؟ هل نُحاكمهم إلى عقولهم؟ أم إلى ضمائرهم؟ أم إلى شرع الله -عز وجل؟
هذه المسألة بحثها كُتَّاب الأخلاق، وتحدَّثوا عنها بعُمْقٍ. لماذا؟ لأنَّ هناك شيءٌ مطروحٌ من قديمٍ وبعد سقوط الكنيسة -كما سيأتينا بعد قليل- في العالم الغربي، فأرادوا أن يستبدلوا شيئًا يجعلوه ضابطًا لأخلاق الناس بدلًا عن الكنيسة بعد سقوطها.
تعالوا ننظر في أقوال العلماء أو المدارس في الدنيا في منبع الأخلاق ومقياسها:
جعلوا منبع الأخلاق أو المقياس الذي يمكن أن تُقاس عليه أخلاق الناس لنرى هل هذا الخُلُق حسنٌ أو غير حسنٍ خمسة أمورٍ:
أولها: قالوا: لكي نعرف هل هذا الخُلُق حسنٌ أو غير حسنٍ ننظر إلى أعراف المجتمع، فإن كان مُوافِقًا لأعراف المجتمع وما اتَّفق عليه الناسُ فبها ونِعْمَت، وإن كان يُخالِف أعرافَ المجتمع فنقول هنا: إنَّه لا يكون خُلُقًا حسنًا.
طيب، ما المُراد بأعراف المجتمع؟
المُراد بأعراف المجتمع: هي مجموعة القواعد التي درج الناسُ عليها جيلًا بعد جيلٍ، فأنت تُلاحِظ أحيانًا في بعض البلدان -مثل إفريقيا أو غابات الأمازون ونحو ذلك- أنَّ هناك عندهم نظامٌ تعارفوا عليه في هذه القبيلة أو المنطقة، دعونا نذكر مثالًا:
أهل بورنو –وهي منطقة من المناطق الموجودة على الكرة الأرضية- لا يمكن أن يتزوَّج الشَّخصُ عندهم –فهذا عُرفٌ عندهم- إلا أن يأتي بجُمجُمةٍ لفتاته -جُمجُمة إنسانٍ- من أين يأتي بجمجمةٍ؟!
هناك أناسٌ أيضًا آخرون -وهم أهل سيراليون- إذا أرادوا انتخاب ملكٍ ماذا يفعلون به؟ يأتون به في ساحةٍ كبيرةٍ، ثم يضربونه كلّهم، فإن تحمَّل أصبح ملكًا، وإن لم يتحمَّل وسقط لا يجعلونه ملكًا!
مَن يتحمَّل ضرب ألف شخصٍ أو ألفين يجتمعون على شخصٍ ثم يضربونه؟!
هذا عُرْفٌ الآن عندهم، هل نقول للعالم كلِّه: لابُدَّ أن يكون هذا العُرْفُ سائدًا؟
كان في الجاهلية مثلًا عُرْفُ وأد البنات، وشرب الخُمُور، والرِّبا، وكان عُرْفًا عندهم، ولهذا لا يمكن أن نقيس الناسَ على حسب الأعراف. لماذا؟
لأنَّ الأعراف تختلف باختلاف الزمان والمكان، فأعراف الناس الآن في قبيلةٍ إفريقيَّةٍ بعيدةٍ عنا، أو في غابات الأمازون عند أولئك الناس الذين ليس لديهم حتى ملابس تسترهم في الغابات الإفريقية المُكتشفة في غابات الأمازون، فهؤلاء لهم أعرافٌ خاصَّة بهم، هل نقول: لابُدَّ أن تُعمم على الناس كلِّهم؟
لا شكَّ أنَّ هذا ليس بصحيحٍ، والنَّاس تختلف، والبشر كذلك يختلفون، بل هذا يُؤدِّي إلى ماذا؟ يُؤدِّي إلى الجُمُود وعدم التَّقدُّم، فالناس تتطور ولا تبقى على أخلاق وأعراف أُممٍ سابقةٍ، ولذلك يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 170]، فالله -عز وجل- عاب على كفَّار قريش وعلى الجاهلية أنَّ عُرْف الشِّرك الذي تعارفوا عليه سنين عددًا أصبح هو الأصل عندهم في حياتهم، ويُريدون أن يُحاكِموا الناسَ إلى هذا ولا يرجعون إلى شرع الله.
المنبع الثاني، أو المقياس الثاني: قالوا: لكي ننظر إلى أخلاق الناس نُحاكمهم إلى الضَّمير الإنساني.
ما معنى الضَّمير؟
قالوا: هو قوَّة خفيَّة تنبع من نفس الإنسان تُوضِّح له طريق الخير، وتُبين له أيضًا سبيل الشَّر وتُحذِّره منه، فهو شيءٌ داخل الإنسان.
طيب، نسأل هؤلاء الذين يقولون الضمير سؤالًا فنقول: نحتكم إلى ضمير مَن؟
قد يكون ضمير بعض الناس ميتًا فيُصبح عنده القتل مثل شرب الماء، بينما ضمير أشخاصٍ آخرين حيٌّ ورقيقٌ. فماذا يحصل؟
تجد أنَّ هناك تناقضٌ كبيرٌ جدًّا في مسألة الضَّمير؛ لأنَّه لا يمكن أن يكون الضَّميرُ مُوحَّدًا عند هؤلاء الخلق.
ثم هناك شيءٌ آخر: إنَّ الضمير شيءٌ مُبْهَمٌ في داخل النَّفس، ليس له قاعدة شرعيَّة، أو تجربة وخبرة يمكن أن يتحاكم الناسُ إليها، فهذه الأشياء المُبْهَمَة لا يمكن إعادة الناس إليها.
ثم إننا في قضية الضَّمير نحتاج إلى أن ننتبه لها -يا إخوة- فهي فكرة غربيَّة مولِدًا ومنشأً وتربيةً وكل شيءٍ، فإنَّه لما سقطت الكنيسةُ أراد الغربيُّون أن يجعلوا بديلًا يرجع الناسُ إليه في أخلاقهم وتعامُلاتهم اليومية، فقالوا: الضَّمير الإنساني.
ولا شكَّ أنَّ هذا لا يمكن الرُّجوع إليه؛ لأنَّ ضمير ذي الخمسين سنة غير ضمير ذي الثَّامنة عشرة، أو العشرين، وضمير صاحب المئة سنة الذي لديه حكمة وتجربة وحنكة في الحياة لا يمكن أن يكون مثل هذا الشَّخص؛ لذلك لا يمكن أن تُحاكم إليه الصَّغير ولا الكبير.
وبالمناسبة، هذا جاء خاطرًا في ذهني الآن على قضية كبر السِّن، فدائمًا الكبير لديه من الخبرة والمعرفة ما لا يوجد عند الصِّغار، لهذا أعجبني أحد الأدباء المشهورين في مصر، فقد ذهب مرةً إلى السِّيرك وكان معه أحد طلابه في الجامعة، فكان الجميع في السِّيرك يضحكون، والأستاذ هذا الكبير في السِّن لا يضحك، ساكت، فيقول له طالبه: لماذا لا تضحك يا سيدي؟ ألا ترى كيف تفعل الفيلة؟
تُرَى ماذا قال الرجل؟
قال: خبرة السّنين يا بني.
خبرة السنين، هذا صحيحٌ، فالإنسان كلَّما كبر كلَّما زاده الله -عز وجل- حنكةً وتجربةً وخبرةً ورزانةً وهدوءًا، ولذلك فإنَّ الشرع لا يجعل الأنبياء يُبْعَثُون إلا على رأس أربعين سنة. لماذا؟ لأنَّه سن النُّضج، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ [الأحقاف: 15]، قمة العقل والرَّزانة.
ولهذا ستُلاحظون يومًا ما يا شباب -وحتى الإخوة الذين يسمعوننا الآن والأخوات- أنَّ الإنسان في سنِّ الأربعين تكون لديه من القواعد الاجتماعيَّة والرَّزانة ما لا يوجد عند الشَّخص الصَّغير، ويُعبِّر عن الأمور بأقلّ ما يمكن التَّعبير به، بخلاف الشَّخص الآخر.
هناك مقياس ثالث، وهو: اللَّذة والمنفعة:
إذن المقياس الأول هو أعراف المجتمع، والثاني: الضمير الإنساني، والثالث: اللَّذة والمنفعة.
قالوا: ما يُحقق لك المنفعة الماديَّة يكون خيرًا، وما يُحقق لك ألمًا وضررًا ماديًّا يكون شرًّا.
وهذا غير صحيحٍ، فهذا المذهب -أيُّها الإخوة- لا يعتني بالأشياء غير الماديَّة، فمثلًا الإيثار والكرم والتَّعاطُف، هذه الأخلاق لا يعترف بها هذا المذهب. لماذا؟ لأنَّك عندما تُكرِم إنسانًا وتدفع له مبلغًا كبيرًا من مالك، في الحقيقة أنت تتضرر ماديًّا؛ لأنَّ المال الذي لديك ينقُص، فعلى هذا المذهب يُقال: لا تُكرِم أحدًا.
وابن القيم -رحمه الله- له عبارة جميلة، فيقول: أصول الأخلاق أربعة إذا اجتمعت في الإنسان تأتي بقيَّةُ الأخلاق طواعيةً. مَن يعرفها؟ ما أصول الأخلاق؟
تفضَّل يا شيخ.
{الصدق، والأمانة}.
يقول ابنُ القيم: "الكرم، والصَّبر، والصِّدق، والعِفَّة"، إذا توفَّرت في الإنسان جاءت بقيَّةُ الأخلاق طواعيةً.
إذن: اللَّذة والمنفعة لا يمكن أن تكون أبدًا مقياسًا لأخلاق الناس؛ لأنَّ هناك أُناسٌ عُظماء ضحُّوا بأنفسهم من أجل شعوبهم، ولم تتحقق لهم أيُّ فائدةٍ ماديَّةٍ في الدنيا.
أيضًا هناك مذهبٌ رابعٌ جعلوا مقياسه العقل البشري: قالوا: ما يراه العقلُ خيرًا فهو خيرٌ، وما يراه العقلُ شرًّا فهو شرٌّ.
ونسألهم السؤال التالي: إذا كان العقلُ هو مقياس الأخلاق، فإلى عقل مَن نحتكم؟ هل عقل الأب أو الجد أو جدّ الجد؟ أو إلى عقل الشَّاب؟ أو إلى عقل الفتاة؟ أو إلى عقل المرأة الكبيرة في السّن؟ أو إلى عقل كبير القبيلة؟ أو إلى السيد؟
لا أحد يعرف!
لذلك كان المذهبُ الخامس هو الصَّحيح.
إذن كم ذكرنا من مذاهب؟
أربعة:
- أعراف المجتمع. - والضَّمير الإنساني.
- واللَّذة والمنفعة. - والعقل البشري.
- أمَّا الخامس فهو: الإسلام:
وهذا هو المنبع الصَّحيح، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى- عنا: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، فالله -سبحانه وتعالى- يعرف النَّفس البشريَّة، ويعرف أسرارها، ويعرف عيوبها، ويعرف ما فيها من نقاط قوَّةٍ ونقاط ضعفٍ كذلك، ولذلك عمل سياجًا من الأخلاق يتحاكم إليه الناسُ كلّهم.
ما الذي جعل الناس يُسْلِمُون على مرِّ العصور؟
هي هذه الأخلاق الإسلاميَّة التي لا يمكن أن يختلف فيها اثنان، فلا يمكن أن يختلف اثنان في الأخلاق الإسلاميَّة التي جاء بها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وأصول بعض هذه الأخلاق موجودة في الجاهلية.
ولهذا تقول السيدة عائشة: "إنَّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- بُعِثَ وفي العرب بضع وستون خصلة من خِصَال الخير، زادها الإسلامُ قوة". فجاء النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وزادها، ولهذا جاء في الحديث: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ».
دعونا الآن نقف وقفةً يسيرةً في الحديث عن الآتي:
في واقعنا اليوم عندما تجلس في أيِّ مجتمعٍ تجد أنَّ الناسَ يشكون من ضعف الأخلاق، كسُوء تعامل الزوج مع زوجته والعكس، وسُوء تعامل الأب مع أولاده والعكس، وسوء تعامل الرَّئيس مع مرؤوسيه والعكس أيضًا، وتعامل الأهل مع الخادم أو الخادمة، وتعامل الناس بعضهم مع بعضٍ.
دعوني أضرب لكم مثالًا:
تصور لو أنَّ إنسانًا الآن عند إشارة المرور، والإشارة مُضيئة بالضَّوء الأحمر، ثم أضاءت بالضَّوء الأخضر، ثم هو واقفٌ في مكانه لم يتحرك، والناس من ورائه ماذا يفعلون؟ هل يمكن لإنسانٍ أن يصبر وراءه؟ مُستحيل.
فالناس الآن خاصَّةً مع الأرقام التي تأتي على إشارات المرور لا يصبرون، فإذا بقيت ثلاثة أرقام أو اثنان يُسابقون حتى يطير الإنسانُ ويخرج من دائرة الإضاءة الحمراء.
أُعطيكم موقفًا حدث لي في إحدى البلدان: كنتُ عند إشارة المرور، وكنا نسأل شخصًا بجوارنا عن عنوانٍ ما، فبدأ يصف لنا وكانت الإشارة حمراء، ثم اخضرَّت الإشارة ونحن في مكاننا وهو يصف لنا، ولم نتحرك حتى انتهت وأصبحت حمراء، والناس من ورائنا لم نسمع بوقًا واحدًا من الخلف أو اعتراضًا.
بينما في بعض البلاد الإسلاميَّة توقَّع أي شيءٍ يمكن أن يأتيك، هذا بخلاف السَّب والشَّتم، وهذه الأشياء مفروغٌ منها، لكن هل سيأتي حجر؟ أو تأتي قارُورة عصير على رأسك أو على السَّيارة، لا أحد يدري. لماذا؟ لأن عندنا أزمة أخلاقٍ عالية جدًّا.
ولهذا نحتاج إلى أن نُسلِّط الضَّوء على الأخلاق؛ لأنَّ مهارات التَّواصُل الاجتماعي التي نتحدث عنها والعلاقات الاجتماعيَّة لماذا ضَعُفت في الناس؟ بسبب أنَّ هناك أزمةُ أخلاقٍ على مستوى العالم العربي، والعالم الإسلامي، وعلى مستوانا الشَّخصي، ونحن نُريد أن نبدأ بدوائر ضيِّقة ثم نتوسَّع يا إخوان.
طيب، لو سألتُ الإخوة الكرام: ما الأسباب التي أدَّت إلى ضعف العلاقة الأخلاقيَّة؟ أو ضعف العلاقات الاجتماعيَّة بين الناس؟ أو ضعف التَّواصُل؟ أو ضعف حُسن الخُلُق بين الناس؟
دعوني أسمع منكم يا شباب.
لماذا ضعف الاعتناءُ بالجانب الأخلاقي؟
{الابتعاد عن هدي النبي -عليه الصَّلاة والسلام}.
الابتعاد عن هدي النبي -عليه الصلاة والسلام- جميل.
إذن النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- لا شكَّ أنَّه أرسى الكثير من الأخلاق؛ بل أرسى الأخلاقَ كلَّها، وكان -عليه الصَّلاة والسَّلام- قُرآنًا يسير في الأرض، أي أنَّه يتخلَّق بأخلاق القرآن، ولهذا لما سُئِلَت عائشةُ عن خُلُق النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان خُلُقُه القرآن".
فكُفَّار قريشٍ في الصَّباح يقولون له: ساحر، كاهن، كذَّاب، شاعر. وفي المساء يأتون بأموالهم ويضعونها عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا قمة التَّناقُض!
ففي الصباح يسُبُّونه، ثم يأتون بأموالهم إليه في المساء؛ لأنَّهم لا يجدون أحدًا يمكن أن يستأمنوه على هذه الأموال إلا النبي -صلى الله عليه وسلم.
طيب، كلامكم في الصباح! سبّكم للنبي -صلى الله عليه وسلم!
هم يعرفون في دواخلهم أنَّه نبيٌّ صادقٌ -عليه الصلاة والسلام.
إذن: القضية الأولى: ابتعاد الناس عن الهدي النَّبوي، نضرب مثالًا في هذه القضية: كنتُ أقول دائمًا في أكثر من حلقةٍ أنَّ كلَّ إنسانٍ عنده أسنان، فهل أسنانكم عورة؟
وأنتم -أيُّها الإخوة والأخوات في كلِّ مكانٍ تسمعونني الآن- هل أسنانكم عورة؟
طبعًا لا، ليست بعورةٍ.
لكن إذا دخل الإخوةُ إلى بيوتهم فإنَّهم يُغلِقون الأبواب بعد دخولهم مباشرةً، فأسناننا ليست عورةً، نحتاج إلى ابتسامةٍ.
لماذا ذكرت هذا المثال؟
تقول عائشةُ عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بسَّامًا ضحَّاكًا". أي مع أهله في داخل البيت: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ».
إذن هذه ممارسة يوميَّة كان يفعلها النبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهل نحن نُطبِّقها؟ هل نحن نتعامل بها مع الناس؟
النبي -عليه الصَّلاة والسلام- يقول: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»، وهناك أُناس ليس لديهم أموال كي يبذُلوا، فيمكن أن يبني بعضُ الناس مسجدًا، ويمكن أن يُعمِّروا مدرسةً، ويمكن أن يكفُلوا أيتامًا، ويمكن أن يطبعوا مصاحفَ أو غيرها، لكن أين الكلمة الطَّيبة؟!
ولهذا دائمًا أقول للإخوة والأخوات: الكلمة الطَّيبة عطر اللِّسان، فأنت عندما تذهب لتشتري عطرًا تقول للبائع: أعطني عطرًا يدوم ورائحته نفَّاذة.
فالكلمة الطَّيبة هي التي تجتمع فيها هاتان الخصلتان، فتدوم في قلبك، ورائحتها جميلة فوَّاحَة رائعة تبقى في نفسك فتشع عليها، فبمجرد أن يراك أحدٌ يعرف أنَّك أنت صاحب تلك الكلمة الجميلة.
دعونا نعمل اختبارًا على أنفسنا: في الأربعة وعشرين ساعة السَّابقة كم كلمة طيبة نطقنا بها لإخواننا وأهلينا وأقاربنا؟
بل خُذ شيئًا آخر: كم كلمة طيبة وجَّهناها لأنفسنا نحن؟ نحن نجلد أنفسَنا من الصَّباح للمساء، كم نحمل من السُّموم في دواخلنا؟ هذه السُّموم ماذا تقول؟ تقول أننا فاشلين لا نستطيع أن نُقَدِّم شيئًا، ونحن غير ناجحين، ولا يمكن أن ننجح في الحياة.
حتى متى سنُخاطِب أنفسَنا بهذا الخطاب؟!
أنفسنا بحاجةٍ إلى كلمةٍ طيبةٍ، وبحاجةٍ إلى حُسن تعامُلٍ.
قبل أن نذهب للناس لابُدَّ أن تكون نفوسُنا مُستَقِرَّةً هادئةً مُرتاحةً، حسنة الظَّن بالله -سبحانه وتعالى- ثم نتعامل مع الآخرين.
كم كلمة طيبة نستخدمها في تويتر، أو في الفيس بوك، أو في التَّعليق على بعض المقالات والأخبار؟
فإذا قرأت بعض المقالات أو الأخبار في بعض المواقع فانظر للتَّعليقات الموجودة في الأسفل كي تعرف أنَّ الناس فقدوا جانبًا كبيرًا من الأخلاق الشَّرعية، فلا تجد إلا السَّبَّ والشَّتم واللَّعن للكاتب والجدّ السَّادس عشر له أيضًا، والسابع عشر، والثامن عشر. لماذا؟! أين الأخلاق الإسلاميَّة عند هؤلاء الأشخاص؟!
إذن أول قضيَّةٍ ما تفضَّلتم به وهو: ضعف الارتباط بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم.
أمَّا الأمر الثاني فدعوني أقوله، ثم الثالث آخذه منكم -إن شاء الله- فالأمر الثاني هو: سلبية المُؤسَّسات الفاعلة في المجتمع:
الآن لدينا كم مُؤسَّسة في المجتمع تعمل على الناس؟
ثلاث، هذه المُؤسَّسات الكبيرة جدًّا هي: المدرسة والإعلام والأسرة. هذه مُؤسَّسات تصنع أجيالًا، وتبني أخلاقًا وقِيَمًا.
هذه المُؤسَّسات في تناقُضٍ: فأنت تبني في البيت والإعلام يهدم! وأنت تصنع خُلُقًا في المنزل، ويذهب الطفلُ إلى المدرسة فينهدم هذا الخُلُق كلّه بالكامل!
الإعلام -أيُّها الإخوة- يُقدِّم صورةً مُشَوَّهةً للأخلاق الإسلاميَّة، فأنت تُحدِّث ولدك عن العِفَّة مثلًا، ثم تجد في الإعلام أو في مقاطع اليُوتيوب أو غيرها شيئًا يندى له الجبين، كالفيديو كليب، ماذا يفعلون في الفيديو كليب؟ يُسَلِّطون هذه الكاميرات على مفاتن الفتاة، وعلى مفاتن هذه المُغنية.
انظر لمقاطع اليوتيوب، انظر للأفلام والمُسلسلات وغيرها التي تهدم الأخلاقَ تمامًا، فأنت تتحدث عن العِفَّة وهم يتحدَّثون عن الخيانة الزَّوجية، ويرون أنَّ المرأة التي تخون وتتفنَّن في هذه الخيانة وتستطيع أن تُعاشِر عشرات الأشخاص دون علم زوجها هي البطلة.
فالبطل مَن هو؟ الكذَّاب، المُجْرِم، السَّارق الذي يضرب الناس، والذي يستطيع أن يتحايل على كثيرٍ من الخلق ويأخذ أموالَهم.
هل هذه هي أخلاق الإسلام؟
لا شكَّ أنَّ الإعلام قدَّم صورةً نمطيَّةً سيئةً عن كثيرٍ من الأخلاق، ولهذا دائمًا نحن نقول: افهم ولا تَذُوب، افهم الناسَ، واستَفِد منهم، لكن لا تذوب في أخلاقهم، لا تحمل أشياء هي ليست لك، ولا تليق بك أيضًا كمسلمٍ، وما صُنِعَ في الصين لا يصلح لشباب المسلمين، فلا تصلح بالضَّرورة هذه الأخلاق لبلادنا، نعم هناك قدرٌ مُشتَرَكٌ قد يكون في بعض الأخلاق، لكن كثيرًا من الأخلاق لا تتناسب معنا أبدًا.
إذن: لدينا أمران:
- البُعْد عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم.
- والأمر الثاني: سلبية المؤسسات الفاعلة في المجتمع: المدارس، والإعلام، والمساجد أيضًا تُقدِّم طرحًا تستطيع أن تكسب به قلوبَ الخلق إضافةً إلى الأسرة.
أعطونا أيضًا شيئًا آخر يا شباب، وهو الأمر الثالث. تفضَّل.
{التَّعلُّق بالدنيا}.
التَّعلُّق بالدنيا:
فإذا تعلَّق الناسُ بالدنيا وبحثوا عن المال والمال فقط، إذن فالغاية تُبرر الوسيلة، فيمكن للإنسان أن يكذب، ويمكن للإنسان أن يفعل أيَّ شيءٍ، فيتنازل عن كثيرٍ من أخلاقيَّاته، المُهم أن يُصبح صاحبَ مالٍ.
خذوا مثالًا: شخصٌ مُسلمٌ تَقِيٌّ صلى الفجر في يومٍ ما، ثم تعرض إلى عملية رشوةٍ، هنا ستظهر الأخلاق، هل هذه الصَّلاة تُؤثِّر فعلًا فيه وتجعله مُسلمًا حقًّا أم هو ممن يقولون: ما دامت الرِّشوةُ قد جاءت مرةً واحدةً فخذها ثم تُبْ إلى الله؟!
لكن قد تكون هذه المرة هي القاضية التي تُفْضَح بها في الدنيا، والتي أيضًا تجد عذابك عليها في الآخرة.
لهذا لا يمكن أن تصلح الدنيا إلا بصلاح الدين، ولهذا كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول على المنبر: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي».
وإن شاء الله في يومٍ من الأيام سنتحدَّث عن مسألةٍ مُهمَّةٍ جدًّا، ولعلي أُشير إليها إشارةً سريعةً، وهي:
أي مجتمعٍ مسلمٍ، وأي دولةٍ مسلمةٍ، وأي إنسانٍ مُسلمٍ، وأي أسرةٍ مُسلمةٍ لابُدَّ أن يضبطوا خمسةَ أمورٍ في حياتهم، فإذا ضُبِطَت هذه الخمسة أشياء يستطيعوا أن يعيشوا في هذه الدنيا بتوافُقٍ مع مبادئهم وقِيَمِهم وأخلاقهم -بإذن الله تعالى.
ما هذه الخمسة؟
أمَّا أولها -أيُّها الإخوة- فهو: مَن أنا؟
الثاني: أُشْبِه مَن أنا؟
الثالث: مَن أتبع؟
الرابع: ماذا أفعل؟
الخامس: ما قيمة ما أفعله؟
نأخذها لكن بطريقةٍ أخرى:
"مَن أنا؟" تحديد الهُويَّة.
"أُشْبِه مَن أنا؟" تحديد الانتماء.
"مَن أتبع؟" تحديد المرجعيَّة.
"ماذا أفعل؟" تحديد الأهداف المرحليَّة.
"ما قيمة ما أفعله؟" تحديد الهدف الاستراتيجي.
نُعِيد الخمسة لكن سأسمعها منكم:
أول شيءٍ: "مَن أنا؟" ما المُراد بها؟
{تحديد الهُويَّة}.
تحديد الهُويَّة. جميل، إذن أي أمَّةٍ لابُدَّ أن تكون لها هُويَّة، ولذلك نحن لا نذوب في الآخرين -كما ذكرنا قبل قليلٍ.
كيف نُشَكِّل الهُويَّة؟
بثلاثة أشياء، فإذا أردت أن تُشَكِّل هُويَّة مجتمعٍ أو أُمَّةٍ فلابُدَّ أن تُشَكِّلها بثلاثة أمورٍ:
- عقيدة.
- ولغة.
- وتاريخ.
الآن أليس ديننا عالميًّا؟
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً﴾ [الأنبياء: 107]، وقال أيضًا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28]، ولكي يفهموا الدِّين لابُدَّ من إيصال اللُّغة العربية إليهم حتى يستطيعوا استيعاب هذه النُّصوص الشَّرعية الموجودة في الكتاب والسُّنة. أليس كذلك؟
الثاني: أُشْبِه مَن أنا؟ تحديد ماذا؟
{تحديد الانتماء}.
تحديد الانتماء، أحسنتَ.
فلابُدَّ أن يكون للإنسان انتماءٌ صغير، وانتماءٌ كبير، وانتماء للأُمَّة أيضًا، لذلك من الخطأ الذي يُمارَس الآن محاولة بتر الناس عن أُمَّتهم، كأن يكون في بلدٍ غير بلدك قتلٌ، فيقولون لك: ما دخلك؟ المهم أنَّك تجلس في بيتك، فعش حياتك مع أسرتك.
وهذا غير صحيح، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وكما جاء في الحديث: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ».
الثالث: "مَن أتبع؟" تحديد المرجعيَّة، فأُمَّة بدون مرجعيَّة تعيش في هواء، والله -عز وجل- يقول: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 71]، إذن لابُدَّ للإنسان من مرجعيَّة، وما المرجعيَّة؟
يقول الغربيُّون مثلًا: إنَّ المرجعيَّة في الأخلاق هي الضَّمير الإنساني، والعقل، واللَّذة، والمنفعة، وأعراف المجتمع.
ونحن نقول: لا، إنَّ المرجعيَّة دائمًا... ما هي؟
{الإسلام}.
الكتاب والسُّنة، لكن في قضايا الأخلاق لابُدَّ لنا من مرجعيَّتين، وهذه مسألة مهمَّةٌ جدًّا لابُدَّ للإخوة والأخوات أن ينتبهوا لها.
أمَّا الأولى: فهي مرجعيَّة معصُومة، فلابُدَّ من مرجعيَّة معصُومة.
وأمَّا الثانية: فمرجعيَّة غير معصُومة.
إذا كان عندي معصومٌ فما الحاجة إلى غير المعصوم؟
نأخذ مثالًا: الآن أب مثلًا في المنزل، عنده مجموعةٌ من الأبناء، لكن يُدَخِّن، فيأتي الأبناءُ ويقولون: أنت تُدَخِّن يا أبي، ونحن سنُدَخِّن مثلك. فيقول لهم: حرام.
فيقولون له: إذن لماذا تُدَخِّن إذا كان حرامًا؟ فماذا يفعل؟
يقول لهم: يا أبنائي، أنا ابتُلِيت، وأنا مرجعيَّة غير معصومةٍ، لكن نرجع للمرجعيَّة المعصُومة التي هي لي ولكم.
لهذا ربطنا الله -عز وجل- دائمًا بالمرجعيَّة المعصُومة، فإذا حصل خللٌ من الناس نرجع إلى الأصل الذي يمنعنا من الانحراف أو الانجراف في أيِّ شيءٍ.
ولذلك فالمرجعيَّة غير المعصُومة فائدتها في أمرٍ مُهمٍّ جدًّا وهو القُدوة، فالمرجعيَّة غير المعصُومة تُمَثِّل الصُّورة الحقيقيَّة للإسلام على حسب قدرها وجُهدها.
الأمر الرابع: ماذا أفعل. تحديد الهدف المرحلي.
طيب، لو سألتكم يا شباب: ما أهداف الإنسان في الدنيا؟
تفضَّل.
{طاعة الله -عز وجل- بفعل الأوامر، واجتناب النَّواهي، وطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم}.
لا، هي الحقيقة ثلاثة أهداف، فأهداف المؤمن في الدنيا ثلاثة أهداف، هي:
- إصلاح الدين. - إصلاح الدنيا. - إصلاح الآخرة.
قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي». هذه مسألةٌ مُهمَّةٌ جدًّا.
لهذا فإنَّ الإسلام اليوم لا شكَّ أنَّه قويٌّ في ذاته، ولكن لم يجد حملةً له؛ لأننا أخطأنا في مسألةٍ مُهمَّةٍ جدًّا أرجو أن تنتبهوا لها كثيرًا يا شباب: فالإسلام له خطَّان مُتوازِيان: جانب عبادي، وجانب حضاري.
نحن الآن تجد عندنا جانبًا عباديًّا، فأُناس كثيرون يُصلُّون، لكن ليس عندنا جانب حضاري، وهو عمارة الأرض، والممارسات اليوميَّة، والأخلاق، أي أن تكون لدينا ثقافة مجتمعيَّة يوميَّة تُمارَس، فهذا ليس موجودًا للأسف الشَّديد.
في بعض البلدان التي أعطاها اللهُ -عز وجل- الدنيا تجد عندهم ثقافةً مُجتمعيَّة يوميَّة، كثقافة النَّظافة، والنِّظام، وإدارة الوقت، واحترام النِّظام، وتطبيق النِّظام، وأشياء كثيرة جدًّا في حياتهم هم فيها قمَّة، كما قال الله -عز وجل- عنهم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: 7].
لهذا نحن نحتاج إلى أن ننتبه إلى هذين الأمرين: الجانب العبادي، والجانب الحضاري، فيجب علينا كما نحرص على عبادتنا أن نحرص على ممارستنا اليوميَّة وأخلاقيَّاتنا في التَّعامل مع الآخرين.
ولهذا فإننا -إن شاء الله- في هذه الدُّروس سنقف وقفات كثيرةً في مسألة العلاقات الاجتماعيَّة، فسنتحدث عن أهميَّتها، وكيف يمكن أن نزرعها، ومهارات التَّواصُل مع الزَّوجة، ومع الوالدين، ومع الخدم، ومع الأبناء، وكلّ هذه الأمور -إن شاء الله- سيكون لها لقاءات قادمة -بإذن الله تعالى.
وقد كان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ»، ونحن نقول في ختام هذه الحلقة: اللَّهُمَّ اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيِّئها، لا يصرف عنَّا سيِّئها إلا أنت.
سعدتُ بكم أيُّها الإخوة في هذا اللِّقاء، وكذلك أنتم أيُّها الإخوة والأخوات خلف الشَّاشة، أسأل الله -عز وجل- أن يُوفِّقني وإيَّاكم لكلِّ خيرٍ، وعلى أمل اللِّقاء بكم -إن شاء الله تعالى- في لقاءاتٍ أخرى مُتجدِّدةٍ حول هذا الموضوع -مهارات التَّواصُل في العلاقات الاجتماعية- شكر الله للجميع حُسن استماعهم وإنصاتهم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمَّدٍ.
تعليق