الأَمَانَةُ العِلْمِيَة
بقلم /عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق
حمداً لك اللهمَّ أن خصصتنا بمكارم الأخلاق ، و شكراً دائماً لك يا مولانا على ما مننتَ به علينا من محامد الأعراق ، و صلاةً كاملةً على سيدنا محمدٍ المُعطِّر ذكرُه الآفاق ، و سلاماً تاماً لجنابه الشريف ما التأمَ نورٌ و هدى بعناق ، و على آله البُراءِ من النفاق ، و على أصحابه ذوي المفاخر و من حذا حذوهم باتفاق .
أما بعد :
فإنَّ من أبرزِ خصالِ طالب العلم تمتعه بالأمانة العلمية ، و التي بها يَثِقُ الناسُ بما يحويه من علم ، و يعرفون مدى تأثره بالعلم ، و قيمة العلم التزكوية .
و هذه الأمانة حثَّ عليها العلماءُ قديماً ، و جاءت بها النصوصُ قبلُ ، و حين نخصُّ بها السالكين طريق العلم فإن أمانتهم العلمية منقسمةٌ إلى أقسامٍ عِدَّةٍ :
القسمُ الأول : الأمانةُ في الأخذ للعلم .
القسمُ الثاني : الأمانةُ في النقل .
القِسمُ الثالث : الأمانةُ في الطَّرْح .
القسمُ الأول
الأمانةُ في الأخذ للعلم
و هذا القسمُ مما عمَّ الإهمالُ له من قِبَلِ كثيرين من طلاب العلوم ، فلا ترى _ غالباً _ أثراً لأمانةِ طلبِ العلم لديهم ، و أمانة الطلب تتلخَّصُ في أشياءَ :
أولها : سلوك الطريقِ المعروفة ، فإن للعلم طرقةً معلومةً سلكها العلماء ، و اعتنوا بتقرير أصولها و قواعدها ، و أما السلوك لطريقة لمْ تُسْلَكْ و لم تُطْرَقْ فلا يَمتُّ إلى الأمانةِ بشيء .
و الأمانةُ العلمية هنا ترتكزُ على قاعدة مهمةٍ وهي : التدرُّجُ ، و هو التنقُّلُ من الفاضل إلى الأفضل ، و من الصغير إلى الكبير ، و ذلك عبرَ مَدْرَجٍ معروفٍ في السلك التعليمي ، و أشار إلى ذلك العلامة ابنُ خلدون " المقدمة " ( ص / 531-532) فقال _ رحمه الله _
: اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج ، شيئاً فشيئاً و قليلاً قليلاً ، يُلْقي عليه أولاً مسائل من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب ، و يقرِّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال و يُراعي في ذلك قوة عقله و استعداده لقبول ما يُورَدُ عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن ، و عند ذلك يحصل له ملَكَةٌ في ذلك العلم إلا أنها جزيئة و ضعيفة .
وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات ، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً.
ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم . أهـ _ بطولِهِ _.
ثانيها : الاعتمادُ على متنٍ مُعتمدٍ ، فليس أخذُ المتون مما يفتقرُ إلى استحسان الطالب ، و لا إلى استلذاذه به ، و إنما أخذُ المتون و قراءتها مُقَنَّنٌ بقوانين و قواعدَ عند أهل العلم ، و على هذا كان جَرْيُهم في الإقراء و التدريس .
قال العلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده " ترتيب العلوم " ( ص 80 ): المنقول من سيرهم ، و المتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة و هي مسائلها المشهورة . أهـ.
و من الغلطِ في الطلب إغفالُ هذه الخاصية في التعليم ، فإن إهمالَها مما يسبب تخبطُّاً في التعلُّم ، درى ذلك من دراهُ و جهلَه من جهلَه .
ثالثها : لزومُ عالمٍ مُحْسِنٍ للعلم ، قال ابنُ جماعة _ رحمه الله _ " التذكرة " ( 169_170 ) : و لْيَحْذر من الاعتماد في ذلك _ أي : استشراحُ المتون _ على الكتبِ أبداً ، بل يعتمدُ في كلِّ فنٍّ مَنْ هو أحسنُ تعليماً له ، و أكثرُ تحقيقاً فيه و تحصيلاً منه ، و أخبرهم بالكتاب الذي قرأه . أ،هـ.
و هذا النقلُ من ابن جماعةَ _ رحمه الله _ يفيدنا أموراً ثلاثة :
أولها : النهي عن استشراح المتون من الكتبِ دون الأخذ عن الأشياخ .
ثانيها : الأخذُ عن الشيخ المتقن للفن ، المحقق فيه .
ثالثها : كون العالم خبيراً بالكتاب ، ففرقٌ كبيرٌ بين علم العالم بالفن و معرفته بالكتاب و اصطلاحاته ،
فمن العلماء من هو إمامٌ في فنه و قد لا يتقنُ التعامل مع كتابٍ من كتب الفن ، و لعل الأقرب لمراد ابن جماعة هو أنه إذا عُدِمَ العالم بالفن فلا أقلَّ من أن يكون متقناً للمتن .
إننا نرى كثيراً من السالكين دربَ التعلم مُغْفِلِيْنَ هذه الأمانة الطلبية ، و من نتاجِ ذلك أن بانت منهم شذوذاتٍ في العلم لا يُعرفُ منزعها ، و لا يُدرى مصدرها .
يـــــتـــبــــع
الأمانةُ في الأخذ للعلم
و هذا القسمُ مما عمَّ الإهمالُ له من قِبَلِ كثيرين من طلاب العلوم ، فلا ترى _ غالباً _ أثراً لأمانةِ طلبِ العلم لديهم ، و أمانة الطلب تتلخَّصُ في أشياءَ :
أولها : سلوك الطريقِ المعروفة ، فإن للعلم طرقةً معلومةً سلكها العلماء ، و اعتنوا بتقرير أصولها و قواعدها ، و أما السلوك لطريقة لمْ تُسْلَكْ و لم تُطْرَقْ فلا يَمتُّ إلى الأمانةِ بشيء .
و الأمانةُ العلمية هنا ترتكزُ على قاعدة مهمةٍ وهي : التدرُّجُ ، و هو التنقُّلُ من الفاضل إلى الأفضل ، و من الصغير إلى الكبير ، و ذلك عبرَ مَدْرَجٍ معروفٍ في السلك التعليمي ، و أشار إلى ذلك العلامة ابنُ خلدون " المقدمة " ( ص / 531-532) فقال _ رحمه الله _
: اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج ، شيئاً فشيئاً و قليلاً قليلاً ، يُلْقي عليه أولاً مسائل من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب ، و يقرِّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال و يُراعي في ذلك قوة عقله و استعداده لقبول ما يُورَدُ عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن ، و عند ذلك يحصل له ملَكَةٌ في ذلك العلم إلا أنها جزيئة و ضعيفة .
وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات ، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً.
ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم . أهـ _ بطولِهِ _.
ثانيها : الاعتمادُ على متنٍ مُعتمدٍ ، فليس أخذُ المتون مما يفتقرُ إلى استحسان الطالب ، و لا إلى استلذاذه به ، و إنما أخذُ المتون و قراءتها مُقَنَّنٌ بقوانين و قواعدَ عند أهل العلم ، و على هذا كان جَرْيُهم في الإقراء و التدريس .
قال العلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده " ترتيب العلوم " ( ص 80 ): المنقول من سيرهم ، و المتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة و هي مسائلها المشهورة . أهـ.
و من الغلطِ في الطلب إغفالُ هذه الخاصية في التعليم ، فإن إهمالَها مما يسبب تخبطُّاً في التعلُّم ، درى ذلك من دراهُ و جهلَه من جهلَه .
ثالثها : لزومُ عالمٍ مُحْسِنٍ للعلم ، قال ابنُ جماعة _ رحمه الله _ " التذكرة " ( 169_170 ) : و لْيَحْذر من الاعتماد في ذلك _ أي : استشراحُ المتون _ على الكتبِ أبداً ، بل يعتمدُ في كلِّ فنٍّ مَنْ هو أحسنُ تعليماً له ، و أكثرُ تحقيقاً فيه و تحصيلاً منه ، و أخبرهم بالكتاب الذي قرأه . أ،هـ.
و هذا النقلُ من ابن جماعةَ _ رحمه الله _ يفيدنا أموراً ثلاثة :
أولها : النهي عن استشراح المتون من الكتبِ دون الأخذ عن الأشياخ .
ثانيها : الأخذُ عن الشيخ المتقن للفن ، المحقق فيه .
ثالثها : كون العالم خبيراً بالكتاب ، ففرقٌ كبيرٌ بين علم العالم بالفن و معرفته بالكتاب و اصطلاحاته ،
فمن العلماء من هو إمامٌ في فنه و قد لا يتقنُ التعامل مع كتابٍ من كتب الفن ، و لعل الأقرب لمراد ابن جماعة هو أنه إذا عُدِمَ العالم بالفن فلا أقلَّ من أن يكون متقناً للمتن .
إننا نرى كثيراً من السالكين دربَ التعلم مُغْفِلِيْنَ هذه الأمانة الطلبية ، و من نتاجِ ذلك أن بانت منهم شذوذاتٍ في العلم لا يُعرفُ منزعها ، و لا يُدرى مصدرها .
يـــــتـــبــــع
تعليق