المداومون على طلب العلم قليل فكن منهم
من أشرف الأعمال القيام بفرض الكفاية في تحمل العلم وأدائه، والبعض ربما ظن أن من يقوم بذلك كثير، وربما أضعف ذلك همته وأوهن نهمته، ولربما انصرف عن طلب العلم بالكلية.ولعل البعض يقول: انظر إلى حِلَق كبار المشايخ، فإن الحضور كثير، فيُقال له: النجباء منهم المداومون قليل، والمستمرون على الطلب وأداء العلم ونشره أقل، ولا يسلم من الشواغل إلا العدد اليسير جداً، فلذلك احرص أن تكون منهم.
قال شعيب بن حرب(1) : ((كنا نطلب الحديث أربعة آلاف، فما أنجب إلا أربعة)).
وقال أبو داود الطيالسي(2) : ((كنت دوماً بباب شعبة، وكان المسجد ملآن، قال: فخرج شعبة فاتكّأ عليَّ، وقال: يا سليمان، ترى هؤلاء كلهم يخرجون محدِّثين؟ قلت: لا ، قال: صدقت، ولا خمسة . قلت: خمسة! قال: نعم، يكتب أحدهم في صغره، ثم إذا كبر تركه، ويكتب أحدهم في صغره، ثم إذا كبر يشتغل بالفساد. وقال: فجعل يردد عليَ، قال أبو داود: ثم نظرت بعد، فما خرج منهم خمسة)).
وقال الفريابي: ((قال لي سفيان الثوري-وقد اجتمع الناس عليه-فقال لي: يا محمد، ترى هؤلاء ما أكثرهم، ثلث يموتون، وثلث يتركون هذا الذي تسمعونه، ومن الثلث الآخر ما أقل من ينجب)) (3).
هذا فضلاً عن الندرة من المتقنين للعلوم،قال الإمام البخاري رحمه الله(4): ((أفضل المسلمين رجل أحيا سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أميتت، فاصبروا يا أصحاب السنن رحمكم الله، فإنكم أقل الناس)).
قال الخطيب البغدادي رحمه الله معلِّقًا(5) : ((قول البخاري: ((إن أصحاب السنن أقل الناس)) عنى به الحفاظ للحديث، العالمين بطرقه، المميِزين لصحيحه من سقيمه، وقد صدق رحمه الله في قوله، لأنك إذا اعتبرت...، لم تجد بلداً من بلدان الإسلام يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل مصره إليه، ويُعوِّلون في فتاويهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به، مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزَّته، وقلة من ينجب فيه من سامعيه وكتبته.
وقد كان العلم في وقت البخاري غضًّا طرياًّ، والارتسام به محبوباً شهياًّ، والدواعي إليه أكبر، و الرغبة فيه أكثر، وقال هذا القول الذي حكيناه عنه، فكيف نقول في هذا الزمان؟ مع عدم الطالب وقلة الراغب، وكأن الشاعر وصف قلة المتخصصين من أهل زماننا في قوله:
وقد كنا نَعُدُّهُمُ قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
(1)الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع(92113/1-رقم)
(2)الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع ( 113/1-رقم93)
(3)الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع(114/1-رقم94)
(4)الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع(113/1-رقم90)
(5)الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع(112/1،113)
(5)الجامع لأخلاق الراوي و آداب السامع(112/1،113)
نقلاً من كتاب: النُبَذُ في آداب طلب العلم
لفضيلة الشيخ حمد بن إبراهيم العُثمان-حفظه الله-
تعليق