الأَمَانَةُ العِلْمِيَة |
|
عبد الله بن سُليمان العُتَيِّق |
حمداً لك اللهمَّ أن خصصتنا بمكارم الأخلاق ، و شكراً دائماً لك يا مولانا على ما مننتَ به علينا من محامد الأعراق ، و صلاةً كاملةً على سيدنا محمدٍ المُعطِّر ذكرُه الآفاق ، و سلاماً تاماً لجنابه الشريف ما التأمَ نورٌ و هدى بعناق ، و على آله البُراءِ من النفاق ، و على أصحابه ذوي المفاخر و من حذا حذوهم باتفاق . أما بعد : فإنَّ من أبرزِ خصالِ طالب العلم تمتعه بالأمانة العلمية ، و التي بها يَثِقُ الناسُ بما يحويه من علم ، و يعرفون مدى تأثره بالعلم ، و قيمة العلم التزكوية . و هذه الأمانة حثَّ عليها العلماءُ قديماً ، و جاءت بها النصوصُ قبلُ ، و حين نخصُّ بها السالكين طريق العلم فإن أمانتهم العلمية منقسمةٌ إلى أقسامٍ عِدَّةٍ : القسمُ الأول : الأمانةُ في الأخذ للعلم . القسمُ الثاني : الأمانةُ في النقل . القِسمُ الثالث : الأمانةُ في الطَّرْح . القسمُ الأول الأمانةُ في الأخذ للعلم و هذا القسمُ مما عمَّ الإهمالُ له من قِبَلِ كثيرين من طلاب العلوم ، فلا ترى _ غالباً _ أثراً لأمانةِ طلبِ العلم لديهم ، و أمانة الطلب تتلخَّصُ في أشياءَ : أولها : سلوك الطريقِ المعروفة ، فإن للعلم طرقةً معلومةً سلكها العلماء ، و اعتنوا بتقرير أصولها و قواعدها ، و أما السلوك لطريقة لمْ تُسْلَكْ و لم تُطْرَقْ فلا يَمتُّ إلى الأمانةِ بشيء . و الأمانةُ العلمية هنا ترتكزُ على قاعدة مهمةٍ وهي : التدرُّجُ ، و هو التنقُّلُ من الفاضل إلى الأفضل ، و من الصغير إلى الكبير ، و ذلك عبرَ مَدْرَجٍ معروفٍ في السلك التعليمي ، و أشار إلى ذلك العلامة ابنُ خلدون " المقدمة " ( ص / 531-532) فقال _ رحمه الله _ : اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج ، شيئاً فشيئاً و قليلاً قليلاً ، يُلْقي عليه أولاً مسائل من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب ، و يقرِّبُ له في شرحها على سبيل الإجمال و يُراعي في ذلك قوة عقله و استعداده لقبول ما يُورَدُ عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن ، و عند ذلك يحصل له ملَكَةٌ في ذلك العلم إلا أنها جزيئة و ضعيفة . وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات ، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم . أهـ _ بطولِهِ _. ثانيها : الاعتمادُ على متنٍ مُعتمدٍ ، فليس أخذُ المتون مما يفتقرُ إلى استحسان الطالب ، و لا إلى استلذاذه به ، و إنما أخذُ المتون و قراءتها مُقَنَّنٌ بقوانين و قواعدَ عند أهل العلم ، و على هذا كان جَرْيُهم في الإقراء و التدريس . قال العلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده " ترتيب العلوم " ( ص 80 ): المنقول من سيرهم ، و المتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة و هي مسائلها المشهورة . أهـ. و من الغلطِ في الطلب إغفالُ هذه الخاصية في التعليم ، فإن إهمالَها مما يسبب تخبطُّاً في التعلُّم ، درى ذلك من دراهُ و جهلَه من جهلَه . ثالثها : لزومُ عالمٍ مُحْسِنٍ للعلم ، قال ابنُ جماعة _ رحمه الله _ " التذكرة " ( 169_170 ) : و لْيَحْذر من الاعتماد في ذلك _ أي : استشراحُ المتون _ على الكتبِ أبداً ، بل يعتمدُ في كلِّ فنٍّ مَنْ هو أحسنُ تعليماً له ، و أكثرُ تحقيقاً فيه و تحصيلاً منه ، و أخبرهم بالكتاب الذي قرأه . أ،هـ. و هذا النقلُ من ابن جماعةَ _ رحمه الله _ يفيدنا أموراً ثلاثة : أولها : النهي عن استشراح المتون من الكتبِ دون الأخذ عن الأشياخ . ثانيها : الأخذُ عن الشيخ المتقن للفن ، المحقق فيه . ثالثها : كون العالم خبيراً بالكتاب ، ففرقٌ كبيرٌ بين علم العالم بالفن و معرفته بالكتاب و اصطلاحاته ، فمن العلماء من هو إمامٌ في فنه و قد لا يتقنُ التعامل مع كتابٍ من كتب الفن ، و لعل الأقرب لمراد ابن جماعة هو أنه إذا عُدِمَ العالم بالفن فلا أقلَّ من أن يكون متقناً للمتن . إننا نرى كثيراً من السالكين دربَ التعلم مُغْفِلِيْنَ هذه الأمانة الطلبية ، و من نتاجِ ذلك أن بانت منهم شذوذاتٍ في العلم لا يُعرفُ منزعها ، و لا يُدرى مصدرها . القسمُ الثاني الأمانةُ في النقل مما جرتْ عليه عوائدُ أهل العلم النقلُ عن الكتبِ ، و الأخذِ عنها ، و لا غرْوَ في ذلك فهنَّ لِقاحُ الفُهوم ، و نبراسُ العقول . و أيضاً جَرْيُ العادةِ بالنقلِ عن الأشياخ ، و هي ما يُسمى بـ ( الملفوظات ) أو ( المشافهات ) و هي غالباً ما تكون من نفيسِ ما يكون من النقلِ . و حيثُ كانت بتلك المكانة ، و حاظِيَةٌ بهاتيك المتانة ، إلا أنه انتابها من الخيانة ما انتابها ، و اعتراها من الإخلال ما اعتراها . فقد بُلِيَتْ العلومُ بسُرَّاقها ، و انفلتت سطوة خُرَّاقها ، فلا ترى علماً إلا مخروقاً ، و لا فناً إلا مفتوقاً ، و الآكلةُ تعبَثُ ، و السباعُ تنهش . و لستُ إلا مريداً التَّعَرُّضَ لحالِ السُرَّاق ، الذين كشفَ عورتهم ، و أبان سوأتهم نفرٌ مباركٌ من فضلاء أهل العلوم ، منهم الشيخ : حسان عبد المنان في كتابه الماتع المفيد " السرقات العلمية " ، و كذلك ما كتبه الشيخ : صالح الحُصَيِّن في " هل للتأليف حقٌّ شرعي ؟ " ، و " حقوق المِلكية الفكرية " لـ : أ.د . بركات محمد مراد ، و غيرها . فإننا ننظرُ إلى سوقهم فإذا هي رائجةٌ ، و إلى بضاعتهم فهي رابحة ، و لكن أين لها الربح المعنوي ؟ ، و أين لها النجاءُ من التَبِعَة يوم القيامة ؟ إن كثرتَهم من أقوى دلائل الخيانة في الطلب ، و من أدلِّ ما نظفرُ به عليهم في بيان سوءِ المقصد ، و ما كان هذا من عوائد السالفين ، و من مناهج العلماء العاملين ، و العارفُ بسيَرِهم دارٍ بذلك . و قد تُنُوْقِلَتْ كلمةٌ غَدتْ مثلاً : من بَرَكَةِ العلم و شُكرِهِ عَزوهُ إلى قائله . انظر : " المُزهر " ( 2/231) . النقلُ نوعان : الأول : نقلٌ بالنَّصِّ ، و هذا غالبُ ما عليه الأكثرون ، و لِيُلاحَظ فيه : الحرصُ على أن يكون النقلُ معتمداً من قِبَلِ المنقولِ منه ، و الاعتمادُ قسمان : القسمُ الأول : اعتمادُ قولٍ هو العمدةُ فيما قرره المؤلفُ ، فبعضٌ _ كثيرٌ _ من العلماء يتخذون أقوالاً تُنقلُ عنهم و تنتشرُ في آفاق الأرض ، ثم يتغيَّرُ رأي العالمِ إلى غيره ، و محلُّ قولهِ الأخير محلاّن : الأول : كتابٌ يؤلفه هو مؤخراً فيُعتمدُ عنه . الثاني : تقرير طلابه ذلك عنه في كتبهم . القسم الثاني : النظرُ في تقارير طلابه الأثبات عنه ، فلصوق الطالب بشيخه ، و لزومه درسه ، مما يتأكدُ فيه كينونةُ ما يقرره الطالب مُعتمد شيخه . مع مراعاة الطالبِ من حيثُ : تمام الضبط ، و كمال الديانة ، و إتقان النقلِ ، و موافقةُ الأقران . النوعُ الثاني : نقلٌ بالمعنى ، و هذا لا عيبَ فيه إذا كان مُقيَّداً بقيدين اثنين : أولهما : عدم وجود النقلِ نصاً ، أو تعسرَ ، أو كان ملفوظاً علمياً لا مكتوباً . ثانيهما : الفهم الصحيح للكلام المنقول ، فإذا صحَّ الفهمُ للمنقولِ معنى فحسنٌ جميل . إلا أننا بُليَ زماننا بأقوامٍ أخلوا بكلا الأمرين ، فلا راعوا نقلاً نصياً ، و لا صانوا المعاني من سَوْءَةِ فهومهم فخانوا العلم و أهله بفهوم منكوسة ، طوى عليها الزمان بساط الردى و الغَيِ . و ( الأمانة العلمية ) لفقدانها صورٌ عِدَّةٌ : الأولى : الزيادة على النقل دون الإشارة لها . فكثيراً ما يُدْرِجُ بعضُ النُّقَّال من بعض المصادر كلاماً ليس من ضمن المنقول ، و يعزُبُ عنهم _ و هذا نادرٌ ، و إلا فالأكثرُ الإهمالُ المُتعمَّد _ تبيانُ ذاك المُدرج ، فيفهم من يقرأ أن ذلك من ضمن الكلام الأصل المنقول . و هذا لا يستريبُ عاقلٌ في مدى لصوقهِ بالخيانة العلمية ، إذ بعضهم يدفعه إلى ذلك أمورٌ سيئة ، منها : أولاً : اتهامٌ للمنقولِ عنه بأنه ذو منهج منحلٍ ، و معتقدٍ فاسد ، و غير ذلك من التهم المُلْصَقة بالمنقول عنه . و صاحب هذا العمل قد جمع إلى الخيانة الاتهام ، و بئس العملان . ثانياً : التغرير بالمتلقي للمنقول _ المَزِيْدِ عليه _ في كونه كلاماً و نقلاً عن فلان ، و هذه كثيراً ما يقعُ فيها كثيرٌ من المشتغلين بالتأليف ، و الذين ينهجون منهجاً مُطَّرَحاً بين قومهم . و هؤلاء جمعوا : خيانةً ، و كذباً ، و تغريراً ، و الله المستعان . الثانية : النَّقْصُ من النصِّ إخلالاً به . مُتَعارَفٌ لدى الفضلاء أن نقلَ الكلام بتمامه و كمالِه محمَدَةٌ و منقبة ، و الإنْقاصُ منه سوءٌ و مذمة ، و كونهما في العلوم أشدُّ و أعظمُ . عَمَدَ بعضُ منْ قلَّتْ أمانته ، و ضعُفَتْ ديانته إلى بَتْرِ النُّقول ، و فَتْقِ الكلام ، إخلالاً به ، و إفساداً لمعناه . و جرَّهم إلى هذا الصنيع المَشِيْن عند أولي النُّهى و العقل أسباب على رأسها اثنان : الأول : الحسدُ ، فكم رأينا أقواماً أخلوا بالأمانة العلمية في النقول بباعثِ الحسد ، و لا يتفقُ ذا مع تزكيةِ العلم لقلبِ صاحبه ، و لكن في زمن تطويع العلم للأهواء حدِّثْ و لا حرج بمفاسد ذويه . الثاني : الخيانة و المخادعة للمسلمين ، يُبْتَرُ كلامٌ ليُسْتَشْهَدَ به على منحىً فاسد ، و نِحلةٍ عوجاء ، و في تمامِ الكلامِ نَقْضٌ للمُسْتَدَلِّ به عليه . و مُعاشِرُ الحال بصير بالمُراد . الثالثة : تَنْكيسُ الفهمِ ، و تغييرُ المُراد . قد يكون النقلُ تامَّاً غيرَ ذي نقصٍ و لكن يعتريه إخلالٌ بأمانة الإيضاح ، فيأتي الناقلُ شارحاً النقلَ ، كاشفاً عن معناه غلطاً و خطأً . و هذا قد يكون عمداً و قد يكون خطأً . الرابعة : عدمُ المُراعاة للاصطلاحات التي دَرَجَ عليها صاحبُ الكلام المنقولِ عنه ، و معرفةُ اصطلاحات المؤلف من خلال طريقين : الأولى : إيضاحُه ذلك ، و تبيينه ، كما هو المعتاد من أئمة العلم ، و يُراعى الاصطلاح المُشْكِل فهو محلُّ الزلل . الثانية : ما عليه مذهبُ العالم سواءً : عقيدةً ، أو فقهاً ، أو حديثاً ، أو نحواً ... . فمراعاة الاصطلاحات كافٍ في ضمان أمانةِ النقلِ ، و البُعد عن الخيانةِ فيه ، و منْ يدري ؟! . فائدةٌ : قالَ العلامة عبد الفتاح أبو غدةَ _ رحمه الله _ " تصحيحُ الكتب " ( ص 100 ) : 5_ الإحالةُ غير السديدة : جرتْ عادةُ بعضِ الكاتبين أو المعلقين على الكتب اليوم ، أن يوردوا نصاً من كتاب ، لإيضاح المقام ، أو لتصويب خطأ في الكلام ، و يختمون الكلام الذي نقلوه بقولهم : انظر كتاب كذا ، و يُسمون الكتاب الذي نقلوا النص منه ، و يذكرون الجزء و الصفحة . و هذا النوع من التوثيق لا غبار عليه و لا نقد فيه من حيث هو توثيق . و إنما يُنتقدُ منه الجملة التي يختمون بها النص ، و هي قولهم : ( انظر كتاب كذا ) . فيستعملون ( انظر كذا ) لمجرد الإحالة إلى الكتاب المنقولِ منه ، و هذا التعبير خطأ في هذا الموضع ، لأن كلمة ( انظر ) تقتضي أن يكون في الموضع المحال إليه للنظر فيه شيء مفيدٌ زائد على النص الذي نقلوه أو المذكور ، ليستزيد منه الباحثُ فائدة لم تذكر في النص المنقول أمامه . أما إذا كان المُراد من ( انظر ) مجرَّدَ الإحالة إلى المصدر المنقول منه ، فلا ينبغي استعمالُ ( انظر ) ، بل ينبغي أن يقال عند ختام النص المنقول : ( من كتاب كذا ) ، أو نحوُ هذا ، دون أمرٍ بالنظر . أ.هـ . القِسمُ الثالث الأمانةُ في الطَّرْح هذا القسمُ من أكثرِ الأقسام انتشاراً بين المنتسبين إلى العلم و المعارف ، و ما أكثرَ زلَلَهُم في هذا المحلِّ ، و ما أشدَّ استغفالهم لأنفسهم و لغيرهم . و المُتَبَصِّرُ في أحوالِ القوم المعرفيين يرى ظهورَ ذلك بيناً واضحاً ، فليس بالخافي الغائب ، يأتي أنبلهم فيلقي ما في جعبتهِ من معرفةٍ بين أقوام سلبهم منه حُسْنُ لفظه ، و جمالُ طرْحه ، و في التحقيق ليس بمن يُحفَلُ به ، و لا ممن يُفرَحُ بطرحه ، و لكن استخفاف القوم سبيلُ طاعة . و ( الأمانة العلميةُ ) في الطرحِ تُفْتَقَدُ في محلَّيْن : المحلُّ الأول : التأهل . و أعني به : كون الطارحِ متأهلاً لأن يكون موضعاً لأخذ العلم عنه . و التأهلُ نوعان : أولهما : تأهُّلُ تعليمٍ . و يُرادُ به كونُ الرجلِ متأهلاً لأن يكون طارحاً للعلم بين مستحقيه ، و هذه الأهليةُ جهتان : الأولى : أهليةُ علمٍ ، بأن يكون على علمٍ بما يطرحهُ مشهوداً له فيه ، متقناً لمسائلِه ، قال ابنُ جماعة _ رحمه الله _ " التذكرة " ( 169_170 ) : بل يعتمدُ في كلِّ فنٍّ مَنْ هو أحسنُ تعليماً له ، و أكثرُ تحقيقاً فيه و تحصيلاً منه ، و أخبرهم بالكتاب الذي قرأه . أ.هـ. و المُشاهَدُ الآن في أحوال المتصدرين للتعلم تراهم لم يُتقِنوا أصولَ الفنِّ الذي يُدرِّسُونه ، فضلاً عن التحقيق في الفن ذاته ، بل ربما لم يَفْقَه المتن و لم يفهمه ، و غايةُ جَهدِه أن جعلَ في ضمائمِ مؤهلاته ورقةً يفخَرُ بها بغير حقٍّ و أدب . و ما صنيعُ هؤلاء إلا خِيانةً للعلم و أهله ، و غُروراً بمجموع ذهنه . الثانية : أهليةُ سِنٍّ ، أخذَ أهل العلم بأن التعليم لا يكون إلا في بلوغِ سِنٍّ مُعَينةٍ إذا بلغها الرجل تصدَّرَ للتعليم ، و لهم في ذلك إعلالٌ ، و حاصلُه علتان : أولاهما : عدمُ النُّضْج ، حيث لا يكون تمام العقل إلا في الأربعين حيثُ سنُّ الأشدِّ . الثانية : الاحتقارُ الذي يَلْحَقُ الحَدَثَ ، قال ابن المُعتزِّ : جهلُ الشبابِ معذور ، و علمه محقور (1). إلا أن المُعتمَدَ هو الفهمُ للعلم لا السِّنُّ ، و التراجُمُ مليئةٌ بأخبارِ من تأهلَ للإفتاء و التعليم في الصِّغَر ، و الأخذ بالقولةِ الشهيرة في النهي عن الأخذ من الأصاغر يُرادُ بها صغارُ العلم أو المبتدعة . إذا بانَ هذا فإن من الإخلال بـ ( الأمانة العلمية ) تَصدُّرُ من لم يتأهل في العلم للتعليم ، و ما أكثرهم في هذا الزمان _ لا كثرهم الله _ ، و ما يفسدونه أكثر مما يُصلحونه . النوعُ الثاني : تأهُّلُ استنباط . معلومٌ أن الله تعبدنا بما في كتابه ، و ما جاءت به سنة نبيه _ صلى الله عليه وسلم _ ، على وَفْقِ ما قرره الفقهاء العالمون ، و هذا أمرٌ مُسَلَّمٌ به عند الأغلبين ، و لا يماري فيه إلا أحمق جاهل . و أولئك العلماءُ الفقهاءُ هم المتأهلون للنظرِ في الوحيين استنباطاً منهما للأحكام الشرعية ، فكان المكلفون بالنسبة لأدلة الشرع قسمين : الأول : قادرٌ على الأخذ للأحكام من أدلتها بطريق الاجتهاد ، و هؤلاء هم المجتهدون . الثاني : بخلافهم ، و هم المقلدون . و هذه القسمة هي التي سلكها كثيرٌ من أهل العلم و الفقه في سائر الأزمنة و الأمكنة ، و لم يخالفها إلا قوم لا خلاق لهم من علم و فقه . فالمجتهد الناظرُ في الكتاب و السنة نظرَ استنباطٍ و استخراجٍ للأحكام هو من توافرت فيه شروط : 1- مَعْرِفَةٌ بالكِتَابِ ، و المُرادُ إدْرَاكُ فِقْه آياتِ الكتاب ، و الإلمامُ بمعانيها ، و المُتَعَيِّنُ منها آياتُ الأحكام . 2- مَعْرِفَةٌ بالسُّنَّة ، و هي كالسابق في حَدِّ المُراد . 3- مَعْرِفَةٌ باللغَةِ العربيَّة ، و القَدْرُ الواجبُ معرِفَتُهُ منها هو ما يتمكَّنُ منه معرفةُ دلالاتِ الألفاظِ و معانيها عند النزاع و الخلاف . 4- مَعْرِفَةُ مواقِعِ الإجماع ، و عِلَّةُ هذه المَعْرِفَةِ التَّحَرُّزُ من القولِ بما يُخالِفُ الإجماع . 5- مَعْرِفَةُ النَّاسخِ و المَنسوخ . 6- مَعْرِفَةُ أصولِ الجَرْحِ و التعديل ، و ذلك ليكُوْنَ كلامُهُ في الرجالِ مبنيَّاً على أصولٍ أصَّلَها القوم . 7- مَعْرِفَةُ أصولِ الفِقْهِ ، و هو واجبُ التَّعرُّفِ في حَقِّ المُجْتَهِد _ كما قاله شيخُ الإسلام _ (2). قال الإمامُ الزرْكشي _ رحمه الله _ : و الحاصلُ أنه لابدَّ أن يكون محيطاً بأدلة الشرع في غالب الأمر ، متمكناً من اقتباس الأحكام منها ، عارفاً بحقائقها و رُتَبِها ، عالماً بتقديم ما يتقدم منها و تأخير ما يتأخر ، و قد عبَّرَ الشافعي _ رحمه الله _ عن الشروط كلها بعبارةٍ وجيزةٍ جامعةٍ فقال : من عرف كتاب الله نصاً و استنباطاً استحقَّ الإمامةَ في الدين . أ.هـ .(3) فهذهِ شُرُوْطٌ قرَّرَها العُلماءُ في مَنْ لَه أهلِيَّةُ الحُكْمِ على نصوصِ الشَّرْعِ ، فمتى كان تواجُدُها في العالمِ كان مُؤَهلاً لتلك الرُّتْبَة . و متَى تَخلَّفَتْ كان له الأخذ بِقَوْلِ مَنْ نالَها و أدْرَكَها ، و اعتَبَرَ العُلماءُ قَوْلَهُ وَ رَأْيَه . إيقاظٌ : هذا كله في المجتهد المطلق ، أما مَنْ يَجْتهدُ في بعض المسائل فإنما يحتاجُ إلى قوةٍ تامةٍ في النوع الذي هو مجتهدٌ فيه (4). فَمِنَ الخيانة للعلم في مجال الطرح أن يتصدر للاستنباط من ليس أهلاً له ، فيُفتي ، و يُرجِّحُ ، و يختارُ ، و هو ليس بشيءٍ يُذكر في العلم . و لم يذكر الفقهاء هذه الشروط عبثاً و لعباً ، و إنما ذكروها صوناً للشريعة من عبَثِ عابثٍ ، و لعب لاعبٍ ، و من لم يَفْقَه مرادهم أساءَ بهم الظن ، و حمَّلَ كلامهم مفاسدَ الظنون . مسألةٌ : هل المجتهد المستقل موجودٌ الآن ؟ باب الاجتهاد لم يُغْلَق و القول بإغلاقه صعبٌ جداً ، و لكن المتأهل لرتبة الاجتهاد المستقل من الصعب وجودهم . قال ابن الصلاح _ رحمه الله _ : و منذُ دهرٍ طويلٍ طُويَ بساط المفتي المستقل المطلق ، و المجتهد المستقل .أ.هـ (5) فائدةٌ : قال ابن السمعاني : المفتي من استكملَ فيه ثلاث شرائط : الاجتهاد ، و العدالةُ ، و الكف عن الترخيص ، و التساهل . و للمتساهل حالتان : إحداهما : أن يتساهل في طلب الأدلة و طرق الأحكام ، و يأخذ بمباديء النظر و أوائل الفكر ، فهذا مقصر في حق الاجتهاد ، و لا يحل له أن يفتي ، و لا يجوز أن يُسْتفتى . و الثانية : أن يتساهل في طلب الرخص و تأوُّلِ الشُبَه ، فهذا متجوز في دينه ، و هو آثَمُ من الأول . أ.هـ . (6) تنبيهٌ : ( الفقيه ) و ( المجتهد ) و ( المفتي ) كلها بمعنى ، فلا تفارق بينها ، قال الزركشي _ رحمه الله _ : ( المفتي ) هو : الفقيه . [ السابق ] . و انظر إلى حالِ أكثر من تصدَّرَ للاستنباط ، و الإفتاءِ ، و الاختيار ، و الترجيح هل هو ممن تأهل للعلم على وَفْقِ ما قرَّرَه الفقهاءُ الأعلام ؟ . إنما تَرَجُّلٌ في ميدان العلوم من غير كفاءةٍ ، و تبصَّرْ كيف أصبحت الشواذُ العلمية تنبتُ لنا في كل آنٍ و حين . و لو كان الأمرُ حكايةً لفتاوي أئمةٍ معتبرين على هذه الكفاءة الفقهية لكان الوقع هيناً ، لكن الأمر أن زعمَ كلٌّ أن الأمر لا يعدوْ إلا أن يكون : هم رجال و نحن رجال ، فصارع الأئمة ، و ناقض الفتاوي ، و صادم الأصول و القواعد ، و ما يضر الجبل نطح الوعل . ليسَ أمرُ الفُتْيا _ و هي من أمور المجتهد _ مقتصراً على معرفةِ آيةٍ و حديثٍ ، و قولِ فقيهٍ و غيرها بل الأمرُ أشدُّ و أخطر ، قال الإمام أبو المعالي الجُوَيْنِي _ رحمه الله _ : مَن حفظَ نصوصَ الشافعي و أقوال لناس بأسرها غيرَ أنه لا يعرف حقائقها و معانيها لا يجوزُ له أن يَجْتهدَ و يقيس ، و لا يكون من أهل الفتوى ، و لو أفتى به لا يجوز . أ.هـ . (7) هذا هو المَحلُّ الأوَّلُ من محلَّيْ فقدِ ( الأمانة العلمية ) تَشَعَّبَ بنا الحديث فيه لِعِظَمِ انتشاره في أوساط القوم ، و لخطورة اغترار البعضِ بما أوتيه من معرفةِ إمرار اللفظ على الفصيحِ في الإعراب ، مع لحوقِ فهمه مجانبةَ الصواب . المَحلُّ الثاني : عدمُ الأخذ بمُعتمداتِ أهل الفنون في فنونهم ، و قد مرَّ تَكراره ، و لمناسبته أعدته ، و مراعاةُ هذا الشيء مهمٌ جداً ، إذ ربما يَطرحُ المتصدِّرُ كلاماً على أنه مُعتمدُ أهل الفنِّ و ليس بذاك ، فإن الفنون قد حُرِّرَتْ و عُنِيَ بها من قِبَلِ أهلها ، و تواضعوا على ألفاظٍ هُنَّ اصطلاحات لهم يفهمون من خلالها مسائلَ الفن . و من هذا أن يعتني الطارحُ للعلم ، و المتصدرُ لنشره _ إن كان أهلاً _ بمتونهم المعتبرة ، قال العلامة المرعشي الشهير بساجقلي زاده : ( المنقول من سيرهم ، و المتبادر من كلماتهم في مؤلفاتهم أنهم تناولوا متون الفنون المعتبرة و هي مسائلها المشهورة ) أهـ (8). و إهمالها ضَرْبٌ من الخيانة لـ ( الأمانة العلمية ) . و بتمامِ الحديثِ عن هذا المحل يكون الانتهاءُ من تقريرِ صُورِ ضياع ( الأمانة العلمية ) ، و بيان شيءٍ من مفاسدِ ذلك التضييع لها . و لعل في تمامها يكون وَعْظُ قائمِ القلبِ بمراجعةِ النفس ، و محاسبة الذات ، و السعي في حفظ ( الأمانة العلمية ) من أن تضيعَ أكثرَ و أكثرَ . حمى الله العلم و أهله ، و صانهم من عبثِ العابثين ، و تلاعب الباطلين . و الله أعلمُ ، و صلى الله و سلَّم على سيدنا و نبينا محمد ، و على آله و صحبه . -------------------------------- (1) انظر : " فتح المغيث " ( 233:3 ) . (2) راجع : " التحبير شرح التحرير " ( 8/3865 ) ، " البحر المحيط " ( 6/199 ) . (3) " البحر المحيط " ( 6/205 ) . (4) " البحر المحيط " ( 6/205 ) . (5) " أدب المفتي و المستفتي " ( ص 91 ) ، و مثله : " المجموع " ( 1/71 ) ، " صفة المفتي و المستفتي " ( ص 17 ) ، " البحر المحيط " ( 6 / 207 ) مهم . (6) " البحر المحيط " ( 6/ 305 ) . (7) " البحر المحيط " ( 6/ 307 ) . (8) " ترتيب العلوم " ( ص 80 ) . |
منقول
تعليق