قال العلامة الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله في كتابه القيم حلية طالب العلم :
تلقي العلم عن الأشياخ:
الأصل في الطلب أن يكون بطريق التلقين والتلقي عن الأساتيذ، والمثافنة **** للأشياخ، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف وبطون الكتب، والأول من باب أخذ النسيب عن النسيب الناطق،
وهو المعلم أما الثاني عن الكتاب، فهو جماد، فأنى له اتصال النسب؟
وقد قيل:"من دخل في العلم وحده؛ خرج وحده"(1)؛ أي: من دخل في طلب العلم بلا شيخ؛ خرج منه بلا علم، إذ العلم صنعة، وكل صنعة تحتاج إلى صانع، فلا بد إذاً لتعلمها من معلمها الحاذق.
وهذا يكاد يكون محل إجماع كلمة من أهل العلم؛ إلا من شذ مثل: علي بن رضوان المصري الطبيب (م سنة 453هـ)، وقد رد عليه علماء عصره ومن بعدهم.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته له(2):
"ولم يكن له شيخ، بل اشتغل بالأخذ عن الكتب، وصنف كتاباً في تحصيل الصناعة من الكتب، وأنها أوفق من المعلمين، وهذا غلط"1هـ.
وقد بسط الصفدي في "الوافي" الرد عليه، وعند الزبيدي في "شرح الإحياء" عن عدد من العلماء معللين له بعدة علل؛ منها ما قاله ابن بطلان في الرد عليه(3)
السادسة: يوجد في الكتاب أشياء تصد عن العلم، وهى معدومة عند المعلم، وهى التصحيف العارض من اشتباه الحروف مع عدم اللفظ، والغلط بزوغان البصر، وقلة الخبرة بالإعراب، أو فساد الموجود منه، وإصلاح الكتاب،
وكتابة ما لا يقرأ، وقراءة ما لا يكتب، ومذهب صاحب الكتاب، وسقم النسخ، ورداءة النقل، وإدماج القارئ مواضع المقاطع، وخلط مبادئ التعليم، وذكر ألفاظ مصطلح عليه في تلك الصناعة،
وألفاظ يونانية لم يخرجها الناقل من اللغة، كالنوروس، فهذه كلها معوقة عن العلم، وقد استراح المتعلم من تكلفها عند قراءته على المعلم، وإذا كان الأمر على هذه الصورة،
فالقراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه، وهو ما أردنا بيانه ، قال الصفدي: ولهذا قال العلماء: لا تأخذ العلم من صحفي ولا من مصحفي، يعنى: لا تقرأ القرآن على من قرأ من المصحف ولا الحديث وغيره على من أخذ ذلك من الصحف "ا هـ.
والدليل المادي القائم على بطلان نظرة ابن رضوان: أنك ترى آلاف التراجم والسير على اختلاف الأزمان ومر الأعصار وتنوع المعارف، مشحونة بتسمية الشيوخ والتلاميذ ومستقل من ذلك ومستكثر، وانظر شذرة من المكثرين عن الشيوخ حتى بلغ بعضهم الألوف كما في "العزاب" من "الإسفار" لراقمه.
وكان أبو حيان محمد يوسف الأندلسي (م سنة 745 هـ)(4) إذا ذكر عنده ابن مالك، يقول:"أين شيوخه ؟".
"وقال الوليد(5):
كان الأوزاعي يقول: كان هذا العلم كريماً يتلاقاه الرجال بينهم، فلما دخل في الكتب، دخل فيه غير أهله.
وروى مثلها ابن المبارك عن الأوزاعي.
ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل، ولا سيما في ذلك العصر، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال،
وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم، بخلاف الرواية من كتاب محرر" اهـ.
ولابن خلدون مبحث نفيس في هذا، كما في "المقدمة" (6)له.
ولبعضهم:
من لم يشافه عالماً بأصوله ... ... فيقينه في المشكلات ظنون
وكان أبو حيان كثيراً ما ينشد:
يظن الغمر أن الكتب تهدى ... ... أخاً فهم لإدراك العلوم
وما يدرى الجهول بأن فيها ... ... غوامض حيرت عقل الفهيم
إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ... ضللت عن الصراط المستقيم
وتلتبس الأمور عليك حتى ... ... تصير أضل من "توما الحكيم"
__________
(1) -"الجواهر والدرر" للسخاوي (1/58).
(2) -"سير أعلام النبلاء"(18/105). وانظر:"شرح الإحياء"(1/66)، و"بغية الوعاة" (1/131،286)،
و"شذرات الذهب (5/11)، و"الغنية" للقاضي عياض (ص16-17).
(3) -"شرح الإحياء"(1 / 66
(4) - مقدمة التحقيق لكتاب "الغنية" للقاضى عياض (ص16 - 17).
(5) -"السير"(7 / 114).
(6) - (4 / 1245).
(2) -"سير أعلام النبلاء"(18/105). وانظر:"شرح الإحياء"(1/66)، و"بغية الوعاة" (1/131،286)،
و"شذرات الذهب (5/11)، و"الغنية" للقاضي عياض (ص16-17).
(3) -"شرح الإحياء"(1 / 66
(4) - مقدمة التحقيق لكتاب "الغنية" للقاضى عياض (ص16 - 17).
(5) -"السير"(7 / 114).
(6) - (4 / 1245).
منقول
ملحوظة: **معنى كلمة مثافنة: مجالسة
تعليق