بسم الله الرحمن الرحيم
يعيش طالب العلم المعاصر في زخم الحياة وتطلباتها وتعقيداتها، داخل دوَّامة تأخذ من وقته وعمره شيئاً طويلاً.
لربَّما يُصاب بالضجر في النهار والأرق في الليل، وهو يلوم نفسه ويُقرِّعها يوماً إثر يوم لعدم إعطائه للعلم وقتاً يتفرغ إليه على الوجه الذي يستحقه؛ لتحصيل شموس المعارف، وإدراك كُليَّات الشريعة، وضبط مسائل العلم وتفصيلاته الكثيرة.
كُلُّ طالب علم في زمننا فإنَّه سيشهدُ حِراكاً علمياً مُتطوراً، ومسائل مُعاصرة تتعلَّق بقضايا الشريعة والفكر والواقع، ويرى أنَّ العلم والمعرفة بات السلاح الوحيد الذي يُؤهله للتأثير في حركة الحياة، ومسيرة الأمم.
ويُحاسب طالب العلم نفسه وهو يراها تحبو في طلب العلم، فالأيام تمضي، والأعوام تنقضي، ولم يلحظ في نفسه تقدماً واضحاً في العلوم، بل قد يُطارد معارض الكتاب الدوليَّة، ويُسافر لأجلها، ويقوم بشراء (الكراتين) من الكتب والمجلدات، لكنَّ مصيرها الغامض أن تبقى على رفوف المكتبة ولربما علاها الغبار، أو علتها كتب أخرى قد اشتراها؛ والحال واحدة فلا قراءة علميَّة منتظمة، ولا مطالعة منهجيَّة دائمة، بسبب انشغالاته المتكاثرة، مع أنَّه يعلم أنَّ العلم الشرعي لا يُدركه بحق إلا من تفرَّغ له، ولا يدركه بصدق إلاَّ من أعطاه ثمرة قلبه وانصباب فؤاده إليه، وإلاَّ فلا!
· إنَّما العلم لمن تفرَّغ له:
نُقِلَ عن الخضر أنَّه قال لموسى - عليه الصلاة والسلام -: " يا موسى، تفرغ للعلم إن كنت تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له " [1]، والرواية وإن كانت ضعيفة بمرَّة، إلاَّ أنَّ الكلمة الواردة فيه تدل على عمق المغزى منها: " فإنَّما العلم لمن تفرَّغ له ".
إنَّ كلَّ من يعرف حقيقة العلم واتساعه، يشهد بأنَّ تحصيل العلم لا يُنال براحة الجسم، فمن طلب الراحة فاتته الراحة، والنعيم لا يُدرك بالنعيم، فمن يطلب العلم بجديَّة واحترافيَّة، سيكون متفانياً في طلبه وتحصيل معارفه، وهذا يتطلّب منه تفرغاً في بداية طلبه للعلم، وتفرغاً منه بين كل فينة وأخرى للقراءة العلمية لمن تصدَّى للتعليم أو الدعوة.
إنَّنا بحاجة ماسّة للتفرغ لطلب العلم لعدَّة قضايا مُهمَّات:
1) كثرة المنقطعين عن العلم وقلَّة المنقطعين للعلم!
2) يتفرَّس عدد من كبار رجالات العلم والتربية في كثير من الدول المتقدمة علمياً في وجوه طلبتهم وينتخبون بعضهم للتحصيل العلمي ويهيئون لهم الأجواء الكاملة لنهضة أمَّتهم، وأمَّتنا أولى بذلك!
3) قلَّة المنبِّهين والمنتبهين لهذه القضية فعلى كثرة من يتحدث عن أهمية العلم وطلبه وضرورة تحصيل المعارف إلاَّ أنَّ القليل منهم من يتحدث عن ضرورة التفرغ العلمي.
4) أنَ التفرغ العلمي هو الذي يصنع طالب العلم، وقلَّما نبحث في سيرة إمام في العلم علا نجمه وبلغ كعبه في العلم مبلغه إلاَّ نجد أنَّه قد تفرَّغ للعلم مُدَّة من الزمن.
5) انشغال كثير من طلبة العلم بالمهم عن الأهم، وضياع كثير من أوقاتهم في شبكات التواصل الاجتماعي، أو كثرة اللقاءات والزيارات بينهم ، والفائدة المرجوَّة من ذلك ليست بالفائدة التي يطمعون بها لنيل العلوم.
---------------------------------
[1] أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه زكريا بن يحيى الوقار، قال ابن عدي: كان يضع الحديث، فالحديث لا يصح.
يتبع إن شاء الله تعالى
تعليق