الاجتهاد والتجديد بين الضوابط الشرعية والحاجات المعاصرة
حول قضيتي الاجتهاد والتجديد كان هذا الحوار الذي أجرته مجلة ( الأمة ) القطرية مع المؤلف :الاجتهاد من الدين وهو أصل من أصوله التي تثبت حيوية الإسلام وقدرته على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات الحياة المتجددة، فما هي المراحل التاريخية لحركة الاجتهاد، وهل أغلق بابه كما قال بعضهم في عصور معينة، ومن يتحمل مسؤولية هذا الأمر؟ هل هي الدولة العثمانية كما قيل؟
بدأ الاجتهاد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ظهر ذلك في قصة ( صلاة العصر في بنى قريظة ) ، وفي حديث معاذ حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وسأله: بماذا تقض إن عرض لك قضاء: فقال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو. فأقره وأثنى عليه.
وهو حديث مشهور جَوَّد إسناده عدد من الأئمة مثل ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن كثير وغيرهم . . وقد اجتهد عدد من الصحابة في عدد من القضايا في غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه ذلك، فمنهم من أقره على اجتهاده، ومنهم من صحح خطأه.
بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد الصحابة رضي الله عنهم، وواجهوا مشكلات الحياة المتجددة في مجتمعات الحضارات العريقة التي ورثوها بحلول إسلامية اقتبسوها من نصوص الإسلام أو من هديه العام، ووجدوا فيه لكل عقدة حلاً، ولكل داء دواء.
واجتهاد الصحابة في وقائع الحياة وفقههم لدين الله في علاجها، يمثل بحق الفقه الأصيل للإسلام، الذي يتسم بالواقعية، والتيسير، ومراعاة الشريعة لمصالح العباد، دون تجاوز أو افتئات على النصوص.
والناظر في فقه الخلفاء الراشدين، أو في فقه ابن مسعود وابن عباس وعائشة وغيرهم - رضوان الله عليهم - يجد ذلك واضحاً للعيان، ويوقن أن الصحابة هم أفقه الأجيال لروح الإسلام.
ومن الأمثلة على ذلك: موقف عمر ومن معه من فقهاء الصحابة، مثل: علي ومعاذ، حين أبى قسمة أرض العراق على الفاتحين باعتبارها غنيمة لهم أربعة أخماسها، كما هو ظاهر قوله تعالى: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه . . . ) (الأنفال: 41 ) ورأى أن توقف الأرض لمصلحة الأجيال الإسلامية، وقال لمن عارضه: أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء؟!
وقال له علي ومعاذ: انظر أمراً يسع أول الناس وآخرهم!
وقرر بذلك وجوب تكافل الأمة في جميع أجيالها، إلى جوار تكافلها في جميع أقطارها.
- ومثل ذلك موقف عثمان رضي الله عنه من ضالة الإبل، فقد جاء في الحديث الأمر بتركها، وقال لمن سأله عنها: ( مالك ومالها؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتي ربّها )، وهكذا كانت تترك ضوال الإبل في عهد أبى بكر وعمر مرسلة تتناتج، لا يمسها أحد، حتى يجدها صاحبها، فلما كان عهد عثمان، وجد الناس قد تغيروا، وامتدت الأيدي إلى ضوال الإبل، فلم يعد بعضها يصل إلى أصحابها، فرأى المصلحة قد تعينت في التقاطها، فعين راعياً يجمعها ويعرّفها، فإن لم يجد صاحبها باعها وحفظ الثمن له حتى يجيء.
وفى عهد علي رضي الله عنه رأى تضمين الصناع إذا ضاع ما في أيديهم من متاع الناس، مع أن يدهم في الأصل يد أمانة، ولكن علياً قال: لا يصلح الناس إلا ذاك . . لما رأى من تغير أحوال الناس.
وهكذا كان فقه الصحابة في سعة أفقه وواقعيته وتيسيره، مع التزامه بالأصول ولا ريب.
- وقد سار في هذا الاتجاه تلاميذ الصحابة من التابعين الذين كونوا مدارس فقهية في كل الأمصار تعلم وتفتي في النوازل، وتواجه كل حادث بحديث، ومن هذه المدارس أو الجامعات التي نشأت تحت سقوف الجوامع، برز مشاهير الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة مثل: أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، والطبري، وداود الظاهري . .
- وقد كان المجتهدون في القرون الأولى أكثر من أن يُحصروا . . قد تنوعت مشاربهم ومداركهم في استنباط الأحكام، ولكنهم اتفقوا على أن المصدر الأساسي لأحكام الشريعة هو الكتاب والسنة؟ فالكتاب هو الأصل والسنة هي الشارحة والمبينة، ويأتي بعد ذلك المصادر التبعية الأخرى، مثل: الاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع، ورعاية العرف، وشرع من قبلنا، وغيرها مما اختلف فيه الفقهاء، ما بين مثبت وناف، وموسع ومضيق . .
المهم أن الفقه نما واستبحر، وكثرت مسائله الواقعة والمتوقعة أو المفترضة ودُوِّنت كتبه وقُعِّدت قواعده، وضبطت طرائق استنباطه بواسطة ( علم الأصول ) الذي ابتكره المسلمون، ولا يوجد عند أمة مثله، ويعد من مفاخر التراث الإسلامي.
وقد ظل الفقه الإسلامي أساس القضاء والفتوى في المجتمعات الإسلامية كلها، حتى دخل الاستعمار بلاد المسلمين، وعزل الشريعة عن التقنين والقضاء، إلا في دائرة ضيقة هي ما سموه: " الأحوال الشخصية ".
وليس صحيحاً ما يقال: إن الإسلام قد عُطِّل بعد عصر الخلفاء الراشدين، فإن الذي لا شك فيه أن المسلمين طوال اثني عشر قرناً، لم يكن لهم دستور ولا قانون يتحاكمون إليه غير الشريعة الإسلامية، برغم ما حدث من سوء الفهم، أو سوء التطبيق، لأحكامها السمحة.
إغلاق باب الاجتهاد:
أما عن إغلاق باب الاجتهاد فنقول:
أصبحت الدولة العثمانية مشجباً يعلق عليه الكثيرون كل الأخطاء والعثرات في شتى المجالات . . فالواقع أن سيطرة التقليد والتعصب المذهبي وذبول شجرة الاجتهاد المطلق، أمور سبقت الدولة العثمانية، واستشرت في أقطار العالم الإسلامي بنسب متفاوتة، وإن لم يخل عصر من العصور من مجتهدين، حتى وجدنا الإمام السيوطي ( المتوفى 911 هـ ) يعلن أنه بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، ويرجو لنفسه أن يكون مجدد المائة التاسعة، كما هو المشهور في فهم الحديث الوارد في ( التجديد ) ، ويؤلف كتابه ( الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ).
وفي القرن الثاني عشر نجد المجدد الكبير حكيم الإسلام أحمد بن عبد الرحيم المعروف باسم: شاه ولي الله الدهلوي ( المتوفى 1176 هـ ) صاحب ( حجة الله البالغة ) وغيره من الكتب الأصيلة . . وفى القرن الثالث عشر يظهر في اليمن الإمام المجتهد المطلق محمد بن على الشوكاني ( المتوفى 1250 هـ ) والذي تجلى اجتهاده في الفروع والأصول في كتبه ( نيل الأوطار ) و ( السيل الجرار ) و ( الدراري المضيئة ) وشرحه ( الدرر البهية ) و ( إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ).
على أنه من الإنصاف للواقع وللتاريخ أن نقول:
إن الدولة العثمانية اهتمت بالجهاد، أكثر من اهتمامها بالاجتهاد، مع أن القيادة الإسلامية تحتاج إلى كلا الأمرين: الاجتهاد لمعرفة الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد لحمايته والذود عنه . .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" لابد للدين من كتاب هاد، وحديد ناصر . . . " مشيراً إلى قوله تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس . . . ) (الحديد: 25).
وكان اهتمام الدولة العثمانية بالحديد أكثر، أي : بالجانب العسكري أكثر من الجانب الفكري، حتى كانت الصدمة المذهلة بمواجهة نهضة الغرب الحديثة.
يرى بعضهم أن حركة الاجتهاد في العصر الحديث قد بدأها ( جمال الدين الأفغاني ) ، إلا أن تلامذته من بعده عادوا تدريجياً إلى الاقتصار على النص، فأصبحوا أقرب إلى التقليد، وبخاصة محمد رشيد رضا، فهل يمكن وضع هذه الجهود في إطارها المناسب من حركة الاجتهاد؟
هذه المقولة تدل على أن قائلها لم يحط علماً بمدلول الاجتهاد ومجاله وشروطه. ولو أحاط بذلك علماً لعرف أن المسيرة كانت تصاعدية، ولم تنتكس كما زعموا، بل بدأت بالعموميات والمجملات ثم أخذت تتخصص، وبدأت رجراجة ثم شرعت تنضبط، فالشيخ محمد عبده كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأفغاني بحكم ثقافته الأزهرية المتعمقة . . والسيد محمد رشيد رضا كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأستاذ الإمام، بما له من سعة اطلاع على كتب السنة والآثار، وإنتاج المدرسة السلفية، التي يمثلها الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو الذي شن حملاته القوية من مجلته العتيدة " المنار " على الجمود والتقليد، وكتب المقالات الإصلاحية، والفتاوى العلمية التجديدية، خلال ثلث قرن من الزمان، أو يزيد. وذاعت اجتهادات الشيخ رشيد، وفتاواه التجديدية في العالم الإسلامي كله، ولقيت من القبول أكثر مما لقيته اجتهادات شيخه على قلّتها. أما اجتهادات السيد جمال الدين فلا نكاد نعرف له اجتهاداً معيناً، وقد كانت شخصيته شخصية الزعيم " الثائر " الموقظ للعقول، المحرك للمشاعر، المثير للهمم والعزائم، لا شخصية الفقيه المنضبط بأصول وقواعد، وكلٌ ميسر لما خلق له.
وقد أُخِذَ على الشيخ محمد عبده بعض آرائه في تأويل القرآن، كقوله في قصة آدم، وكلامه عن الطير الأبابيل، ونحو ذلك، وعذره أن الحضارة الغربية كانت في أوجها، وكان الانبهار بها على أشده، لذا غلبت النزعة العقلية، ومحاولة إخضاع النص حتى يوافق المفاهيم الجديدة، وتقريب تعاليم الدين من المثقفين بالثقافة الغربية، ولو بالتكلف.
ومن الإنصاف لمن يريد تقويم شخص ما، وتقدير فكره وعمله، أن يضعه في إطاره التاريخي الخاص، لا يعدو به زمانه ومكانه إلى زمانا نحن ومكاننا، فبعض ما يبدو لنا اليوم واضحاً مسلماً، لم يكن كذلك في زمنه، فرحم الله امرءاً أنصف من نفسه، وأعطى كل عامل ما يستحقه، وأقام الشهادة لله.
الاجتهاد الشرعي فرض كفاية حيناً، وفرض عين حيناً آخر، وله مدلوله ومجاله وشروطه . . هل يمكن تحديد هذه القضايا حتى لا تختلط الأمور. ويدخل باب الاجتهاد من ليس أهلاً له؟
الاجتهاد هو بذل غاية الجهد، واستفراغ غاية الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بطريق النظر وإعمال الفكر، وهو فرض كفاية على الأمة في مجموعها، تأثم إذا لم يتوافر لها عدد من أبنائها يسد حاجتها فيه، وهو فرض عين على من أنس في نفسه الكفاية له، والقدرة عليه، إذا لم يجد في المسلمين من يسد مسده . .
والاجتهاد يعمل في منطقتين:
إحداهما:
منطقة ما لا نص فيه، مما تركه الشارع لنا قصداً منه، رحمة بنا غير نسيان . . ليملأ المجتهدون هذا الفراغ بما يحقق مقصد الشارع، وفق مسالك الاجتهاد التي يتبعها المجتهدون من القياس أو المصلحة المرسلة أو الاستحسان أو استصحاب الحال أو غير ذلك. ومن الملاحظ أن بعض المجالات كثرت فيه النصوص إلى حد التفضيل أحياناً، مثل: العبادات وشؤون الأسرة، لأنها مما لا يكاد يتغير بتغير الزمان والمكان، والحاجة ماسة فيه إلى نصوص ضابطة لمنع التنازع ما أمكن ذلك . . وإلى جانب ذلك توجد مجالات تقل فيها النصوص إلى حد كبير، أو تأتي عامة مجملة، لتدع للناس حرية الحركة في الاجتهاد لأنفسهم - في ضوء الأصول الكلية - وفق مصالح مجتمعهم، وظروف عصرهم، دون أن يجدوا من النصوص المفصلة ما يقيدهم، أو يعوق مسيرتهم، كما في شؤون الشورى ونظام الحكم وقوانين الإجراءات والمرافعات وغيرها . . .
وثانيتهما:
منطقة النصوص الظنية، سواء أكانت ظنية الثبوت، ومعظم الأحاديث النبوية كذلك، أو ظنية الدلالة، ومعظم نصوص القرآن والسنة كذلك. فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو أخذت آية مثل ( آية الطهارة ) في سورة المائدة، وقرأت ما نقل في استنباط الأحكام منها، لرأيت بوضوح صدق ما أقول.
وبجانب هاتين المنطقتين المفتوحتين للاجتهاد، توجد منطقة في الشريعة مغلقة بإحكام، لا يدخلها الاجتهاد، ولا يجد حاجة لدخولها: إنها منطقة القطعيات في الشريعة، مثل وجوب الفرائض الأصلية، كالصلاة والزكاة والصيام، وتحريم المحرمات اليقينية، كالزنى، وشرب الخمر، والربا، وأمهات الأحكام القطعية، كأحاديث المواريث المنصوص عليها بصريح القرآن، وأحكام الحدود والقصاص، وعِدَدِ المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص القطعية في ثبوتها، القطعية في دلالاتها.
هذا النوع من الأحكام - التي لا يدخلها الاجتهاد - هو الذي يجسد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة، فلا يجوز أن تدخل معترك الاجتهاد، ليبحث باحث:
هل يجوز السماح بالخمر من أجل السياح؟
أو نعطل الصيام من أجل زيادة الإنتاج؟
أو نجمد الحج توفيراً للعملة الصعبة؟
أو نعلق الزكاة اكتفاء بالضرائب الوضعية؟
أو نعطل الحدود والقصاص إشفاقاً على المجرمين؟ كأننا أرحم من الله بعباده ! ( قل أأنتم أعلم أم الله . . . ) ( البقرة: 140) .
وهذا هو الذي يجب الاحتراس منه:
أن نجتهد فيما لا يجوز فيه، أو أن يلج باب الاجتهاد من ليس أهلاً له، ولا تتحقق فيه شروطه، وهذا هو الذي دعا بعض العلماء قديماً أن ينادوا بإغلاق باب الاجتهاد، ليسدوا الطريق على الأدعياء والمتطفلين . . على أن باب الاجتهاد سيظل مفتوحاً، ولا يملك أحد إغلاقه بعد أن فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ولا يسع فرداً أو مجموعة من العلماء أن يقولوا في واقعة تعرض عليهم: ليس لنا حق الاجتهاد فيها، لأن الأقدمين لم يقولوا شيئاً في شأنها؟ إذ الشريعة لابد أن تحيط بكل أفعال المكلفين وأن يكون لها حكم في كل واقعة، وهذا ما لا يختلف فيه اثنان.
لابد من توافر شروط محددة فيمن يتصدى للاجتهاد الشرعي؟ فما هي هذه الشروط؟ وهل تنسحب على المجتهدين عموماً، أم أن هناك فرقاً بين من يتصدى للاجتهاد المطلق، ومن يتصدى للاجتهاد الجزئي؟
ليس في الإسلام طبقة خاصة تحتكر الاجتهاد أو تتوارثه، إذ ليس فيه كهنوت ولا( إكليروس ) ، ولكن هناك عالماً متخصصاً يملك أدوات الاجتهاد وتحقق فيه شروطه، فهو الذي يجتهد فيما يعرض عليه من وقائع، ويصدر فيها رأيه بما انتهى إليه اجتهاد، أصاب أو أخطأ.
وشروط المجتهد معروفة ومفصلة في كتب أصول الفقه، منها: شروط علمية ثقافية، مثل: العلم باللغة العربية، والعلم بالكتاب والسنة، والعلم بمواضع الإجماع المتيقن، والعلم بأصول الفقه، وطرائق القياس والاستنباط، والعلم بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية . . وهذا الأخير هو الذي ركَّز عليه الإمام الشاطبي، وجعله سبب الاجتهاد؛ ولابد مع هذا كله أن يكون لديه ملكة الاستنباط، وهي تنمو بممارسة الفقه ومعرفة اختلاف الفقهاء ومداركهم، ولهذا قالوا: " من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه ".
وشرط آخر نبَّه عليه الإمام احمد، وذكره ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين ) وهو:
( معرفة الناس ). وهذا أمر مهم؛ ألا يعيش المجتهد الذي يفتى الناس في برج عاج أو صومعة منعزلة، ويصدر أحكاماً بعيدةً عن الواقع، أو يطبع أحكام عصر انقضى وأناس مضوا، على عصر آخر وأناس آخرين، مُغْفِلاً هذه القاعدة العظيمة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، كما ذكر المحققون.
ويستلزم هذا اطلاع المجتهد على أحوال مجتمعه، وإلمامه بالأصول العامة لثقافة عصره بحيث لا يعيش في واد والمجتمع من حوله في واد آخر، فهو يُسأل عن أشياء، وقد لا يدرى شيئاً عن خلفيتها وبواعثها، وأساسها الفلسفي أو النفسي أو الاجتماعي، فيتخبط في تكييفها والحكم عليها، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره - كما يقول علماء المنطق -.
والمجتهد الحق هو الذي ينظر إلى النصوص والأدلة بعين، وينظر إلى الواقع والعصر بعين أخرى، حتى يوائم بين الواجب والواقع، ويعطي كل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها.
ذكر المحقق ابن القيم أن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية: مَرَّ في زمنه على جماعة من جنود التتار قد استغرقوا في شرب الخمر، فأنكر عليهم بعض أصحابه، فما كان منه إلا أن قال لهم:
دعوهم في سكرهم ولهوهم، فإنما حرَّم الله الخمر؟ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل الأنفس وسفك الدماء!
وهذا يتمشى مع قاعدة مقررة؛ وهي السكوت على منكر ما، مخافة منكر أكبر منه، ارتكاباً لأخف الضررين، وأهون الشرين.
وهناك شرط آخر في المجتهد، وهو شرط ديني أخلاقي، وهو أن يكون عدلاً مرْضِي السيرة، يخشى الله فيما يصدر عنه، ويعلم أنه في فتواه في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يتبع هواه، ولا يبيع دينه بدنياه، فما بالك بدنيا غيره ؟!
وإذا كان الله تعالى قد اشترط العدالة لقبول الشهادة في معاملات الناس فكيف بمن يشهد في دين الله، ويحدث عن الله بأنه أحل كذا، وحرم كذا، وأوجب كذا، ورخّص في كذا.
وهذه الشروط العلمية التي ذكرناها إنما يجب توافرها في حق المجتهد المطلق، أي: الذي يجتهد في جميع أبواب الفقه ومسائله؛ أما المجتهد الجزئي فيكفيه أن يحيط من العلم بما يتعلق بمسألته، بعد أن تكون عنده المؤهلات العلمية العامة، بناء على أن الاجتهاد يتجزأ، وهو القول الراجح عند الأكثرين . .
فيستطيع أستاذ الاقتصاد أن يجتهد في مسألة ما في مجال تخصصه، إذا أحاط بكل ما ورد فيها من نصوص، وما يتعلق بها من اجتهادات، إذا كان لديه المعرفة بأصول الاستدلال وقواعد التعارض والترجيح وغير ذلك.
ثارت مناقشات كثيرة حول قضية الاجتهاد في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى ظهور بعض الاجتهادات المنحرفة في هذا السبيل، وما دام الأمر كذلك فلابد من وضع ضوابط تجب مراعاتها في الاجتهاد الشرعي المعاصر حتى يمكن للمسلمين التعرف على هذه الاتجاهات ونبذها. فما هذه الضوابط في رأيكم؟
الضوابط التي ينبغي مراعاتها في الاجتهاد المعاصر أستطيع أن أجملها في هذه النقاط:
البعد عن منطقة " القطعيات " فمجال الاجتهاد ما كان دليله ظنياً من الأحكام ولا يجوز لنا أن ننساق وراء المتلاعبين الذين يريدون أن يحولوا القطعي إلى ظني والمحكم إلي متشابه . . وبذلك لا يبقى لنا معول نعتمد عليه، ولا أصل نحتكم إليه.
وكما لم نجز تحويل القطعيّ إلى ظنيّ، يجب ألا نحول الظنيّ إلى قطعيّ، ونزعم الإجماع فيما يثبت فيه الخلاف . . فلا يصح أن نشهر سيف الإجماع في وجه كل مجتهد، كما فعل معاصرو ابن تيمية في اختياراته واجتهاداته، مع أن الإمام أحمد قال:
" من ادَّعى الإجماع فقد كذب ما يدريه: لعل الناس اختلفوا وهو لا يدري "
أخشى ما أخشاه هو الهزيمة النفسية أمام الحضارة الوافدة، والاستسلام للواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو واقع لم يصنعه الإسلام، ولم يصنعه المسلمون بل صنعه لهم الاستعمار المتسلط، وفرضه عليهم بالقوة والمكر، وقام هذا الباطل الدخيل، في غفلة من أهل الحق الأصيل، الذي لدى المسلمين.
لهذا يجب رفض ذلك النوع من الاجتهاد - إن صح أن يسمى اجتهاداً - وهو اجتهاد ( التبرير للواقع ) خاصة إذا كان فيه إرضاء للسلطة الحاكمة، واجتهاد ( التقليد للآخرين ) كاجتهاد الذين يحاولون منع الطلاق وتعدد الزوجات، ومحاربة الملكية الفردية، وتسويغ الفوائد الربوية . . وغيرها.
يجب أن يتحرر المجتهد من الخوف بكل ألوانه، الخوف من سلطان المتسلطين من الحكام، الذين يريدون فتاوى جاهزة دائماً تبرر تصرفاتهم، وتضفي الشرعية على أعمالهم . . والخوف من سلطان الجامدين المقلدين من العلماء، الذين يشنون الغارة على كل اجتهاد جديد، وهم الذين كانوا وراء سجن ابن تيمية ومحنه المتتابعة، فقد كانت محنته رحمه الله منهم لا من السلاطين. وأن يتحرر من الخوف من سلطان الجماهير والعوام الذين يستطيع هؤلاء المقلدون أن يثيروهم على كل رأي مخالف لما ألفوه.
يجب أن نفسح صدورنا للاجتهاد وإن خالف ما نشأنا عليه من آراء، وأن نتوقع الخطأ من المجتهد، ولا نضيق به ذرعاً، لأنه بشر غير معصوم، وقد كان ما حسبناه خطأ هو الصواب بعينه. ورُب رأي رفضه جمهور الناس يوماً، ثم أصبح بعد ذلك هو الرأي المقبول والمرتضى، وليس في الإسلام سلطة ( بابوية ) تقول: هذا الرأي صواب فيغدو صواباً، ويستحق البقاء، وذلك خطأ فيحذف من الوجود ويحكم عله بالإعدام.
هناك قضايا معاصرة يحتاج المسلمون فيها إلى فقه متجدد يحل لهم مشكلاتهم . . ما هي أهم هذه القضايا، وكيف ترى هذه الأمور داخل إطار العملية الاجتهادية؟
نظراً لتغير شؤون الحياة عما كانت عليه في الأعصار الماضية، وتطور مجتمعات اليوم تطوراً هائلاً في الأفكار والسلوك والعلاقات، فإن عصرنا الحاضر أحوج ما يكون إلى الاجتهاد . . وذلك بعد ( الثورة البيولوجية ) و( الثورة التكنولوجية ) التي يشهدها العالم، وكان من جرائها أن طرحت قضايا جديدة كل الجدة مثل: أطفال الأنابيب، وشتل الجنين، وبنوك الأجنة المجمدة، والتحكم في جنس الجنين، وزرع الأعضاء، ونقل الدم . . وما جدَّ في العلاقات الدولية والأنظمة المالية والاقتصادية من أشياء لم يعرفها السابقون، أو عرفوا بعضها في صورة مصغرة جداً.
فهذه وما شابهها تقتضي اجتهاداً جديداً، وهو ما نسميه ( الاجتهاد الإنشائي ) أي: الذي يُصدِر فيه المجتهدون حكماً جديداً، وإن لم يتقدم من قال به من فقهائنا السابقين، ولم ينص عليه أحد؛ مثل زكاة العمارات والمصانع والأسهم والسندات والرواتب، واعتبار الذهب وحده أساس نصاب النقود، وإيجاب زكاة الأرض المستأجرة على كل من المالك والمستأجر: يزكي المستأجر الخارج من زرع أو ثمر طارحاً منه الأجرة، لأنها دَيْنٌ عليه. ويزكي المالك الأجرة . .
وهناك اجتهاد آخر أُسميه " الاجتهاد الانتقائي " وهو اختيار أرجح الأقوال من تراثنا الفقهي العظيم، مما نراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، وأليق بظروف العصر؟ وقد يكون الانتقاء داخل المذاهب الأربعة، مثل ترجيح مذهب أبى حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، وترجيح مذهب الشافعي في إعطاء الفقير كفاية العمر، وترجيح مذهب مالك في إبقاء سهم المؤلفة قلوبهم . . .
وقد يكون الانتقاء من خارج المذاهب الأربعة: فالأئمة الأربعة - على جلالتهم وفضلهم - ليسوا كل الفقهاء، فهناك من عاصرهم من نظرائهم ومن يمكن أن يكون قد تفوق عليهم، وهناك من سبقهم من شيوخهم، وشيوخ شيوخهم من فقهاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ممن هم أفضل منهم بيقين.
فلا حرج في الأخذ بمذهب أحدهم إذا ترجح لدينا باعتبارات شرعية كالأخذ بمذهب عمر رضي الله عنه في التضييق في زواج الكتابيات إذا خيف منهن على نساء المسلمين أو الذرية، أو خيف عدم التدقيق في شرط الإحصان: المنصوص عليه في قوله تعالى: ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب . . . ) (المائدة: 5 ) أي: العفيفات منهن، أو الأخذ بمذهب عطاء في إيجاب المتعة لكل مطلقة، أو الأخذ بمذهب بعض السلف في عدم وقوع الطلاق في حالة الغضب الشديد، وهو ما فسروا به حديث ( لا طلاق في إغلاق ) أو مذهب بعضهم في إيقاع طلاق الثلاث بلفظة واحدة أو في مجلس واحد، طلقة واحدة رجعية فقط، وهو ما أفتى به ابن تيمية وابن القيم، ومثله: عدم إيقاع الطلاق البدعي: أي الطلاق في حالة الحيض، وكذلك الطلاق إذا أريد منه الحمل على شيء أو المنع منه، فيعامل معاملة اليمين، وفيه كفارة يمين.
ونحو ذلك الأخذ بمذهب بعض السلف في وجوب الوصية لمن لا يرث من الأقربين، وعلى أساسه قام في مصر وغيرها قانون " الوصية الواجبة " للأحفاد إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم في حياة والديهم، فلهم نصيب الوالدين بشرط ألا يزيد على الثلث، من باب الوصية، لا من باب الميراث.
ومن ذلك ما رجحه العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر من الإفتاء بمذهب عطاء وطاووس من التابعين، في جواز رمي الجمرات قبل الزوال في الحج، تيسيراً على الناس، ورفعاً للحرج والمشقات الهائلة، التي يتعرض لها الناس من الزحام حول المرمى، إلى حد الهلاك تحت الأقدام.
والاجتهاد الذي نحتاج إليه في عصرنا هو " الاجتهاد الجماعي " الذي يقوم في صورة مجمع فقهي عالمي، يضم الكفايات العلمية العالية، ويصدر أحكامه بعد دراسة وفحص، بشجاعة وحرية، بعيداً عن ضغط الحكومات، وضغط العوام.
ومع هذا أؤكد أنه لا غنى عن الاجتهاد الفردي الذي ينير الطريق أمام الاجتهاد الجماعي بما يقدم من دراسات متأنية مخدومة.
يُتهم بعض الدعاة إلى الإسلام أحياناً بأنهم أنصار للجمود والتشدد، ومعاداة أي تجديد . . فهل يرتبط هذا بحقيقة واقعة، أم أنه يرتبط برغبة أخرى خفية؟ وهل لنا أن نتعرف على الموقف الصحيح للدعاة من قضية التجديد؟
ينقسم الناس بشأن التجديد إلى أصناف ثلاثة:
(1) أعداء التجديد الذين يريدون أن يبقى كل قديم على قدمه، حكمتهم المأثورة: ما ترك الأول للآخر شيئاً! وشعارهم المرفوع: ليس في الإمكان أبدع مما كان!
وهم بجمودهم يقفون في وجه أي تجديد: في العلم، في الفكر، في الأدب، في الحياة، فما بالك بالدين ؟ ! إن مجرد كلمة ( التجديد ) بالنسبة للدين يعتبرونها هرطقة.
وفى مجال الدين وجدت فئتان ينتهي موقفهما إلى " تجميد الإسلام " تحدثت عنهما في بعض ما كتبته في مجلة ( الأمة ) بمناسبة القرن الخامس عشر، وهما: فئة ( مقلدي المذاهب ) المتعصبين لها، الذين يرفضون أي خروج عليها، ولا يعترفون بحق الاجتهاد لفرد ولا لجماعة في هذا العصر، إلا في إطار ما قررته مذاهبهم وحدها، بل في حدود ما حرره المتأخرون من علماء المذهب، وأفتوا به. فلا يجوز الخروج عن الرأي المفتى به في المذهب، إلى أقوال وآراء أخرى داخل المذهب نفسه!
والفئة الأخرى هي التي سميتها " الظاهرية الجدد " وأعني بهم الحرفيين الذين يقفون جامدين عند ظواهر النصوص، ولا يمعنون النظر إلى مقاصدها، ولا يفهمون الجزئيات في ضوء الكليات، ولا غرو أن تراهم يقيمون معارك حامية من أجل أمور هامشية في الدين، وهؤلاء وأولئك قوم مخلصون للإسلام، ولكنهم معه كالأم التي تسببت في موت وليدها بحبسه والإغلاق عليه خوفاً عليه من مس الشمس ولفح الهواء!
(2) ويقابل هؤلاء: الغلاة في التجديد، الذين يريدون أن ينسفوا كل قديم، وإن كان هو أساس هوية المجتمع، ومبرر وجوده، وسر بقائه، كأنما يريدون أن يحذفوا " أمس " من الزمن، ويحذفوا " الفعل الماضي " من اللغة، ويحذفوا: " علم التاريخ " من علوم الإنسان!
وتجديد هؤلاء هو التغريب بعينه، إن قديم الغرب عندهم جديد، فهم يدعون إلى اقتباسه بخيره وشره، وحلوه ومره. وهؤلاء هم الذين سخر منهم الرافعي رحمه الله حين دخل معركته معهم ( تحت راية القرآن ) وقال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر!
ورد عليهم شاعر الإسلام محمد إقبال بأن " الكعبة لا تجدد بجلب حجارة لها من أوربة "! وأشار إليهم أحمد شوقي - أمير الشعراء - في قصيدته عن الأزهر:
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عُمِّرا من كل ساع في القديم وهدمه وإذا تقدم للبناية قصَّراً
وهذا الصنف والذي قبله هما اللذان شكا منهما الأمير شكيب أرسلان حين قال في كتابه: ( لماذا تأخر المسلمون؟ ) إنما ضاع الدين بين جامد وجاحد، ذلك ينفر الناس منه بجموده، وهذا يضلهم عنه بجحوده.(3) وبين هذين الصنفين يبرز صنف وسط، يرفض جمود الأولين، وجحود الآخرين، يلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، ويقبل التجديد، بل يدعو إليه، وينادي به، على أن يكون تجديداً في ظل الأصالة الإسلامية، يفرق بين ما يجوز اقتباسه، وما لا يجوز، ويميز بين ما يلائم وما لا يلائم.
إنه يدعو إلى أخذ العلم المادي والتقني بكل ما يستطيعه مما تحتاج الأمة إليه، بشرط أن نهضم التكنولوجيا وننشئها، لا أن نشتريها ونظل غرباء عنها!
وهذا هو موقف دعاة الإسلام الحقيقيين: إن شعارهم: الجمع بين القديم النافع والجديد الصالح. الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه . . الثبات على الأهداف والمرونة في الوسائل . . التشديد في الأصول والتيسير في الفروع . . .
بين الاجتهاد والتجديد كمفهوم معاصر صلة، فإذا كان الإسلام يعتبر الاجتهاد أداة لفهم أحكام القرآن والسنة، فهل يقبل الإسلام التجديد كما يقبل الاجتهاد؟ أم أنه ينافي طبيعة الدين الذي جاء ليضبط الحياة بعقائده وقيمه ومفاهيمه وأحكامه، أم أن لكل منهما مجاله الذي يعمل فيه؟
- أدهشني إنكار عالم فاضل نسبة التجديد إلى الدين - في حوار مع أحد الصحفيين - باعتبار أن الدين ثابت لا يتجدد ولا يتطور، ودافعه إلى هذا - فيما أعتقد - خشيته أن يفهم الناس من إطلاق كلمة " تجديد الدين " إعمال يد التغيير فيه بالحذف أو الزيادة، فأراد أن يسد الباب كلية بإنكار مطلق التجديد.
والحقيقة أن الحديث النبوي الشريف قد فصل في هذه القضية، وذلك فيما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم، بإسناد صحيح ( إن الله يبعث لهذه الأمة على راس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ). وليس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول، ولا بعد حكمه حكم.
وكثير من العلماء المخلصين ينكرون أشياء ثابتة؛ لسوء استخدام بعض الناس لها وهم بهذا يعالجون الخطأ بخطأ، والمنهج السليم هو إثبات الثابت، وإعطاؤه التفسير الصحيح، ورد كل فهم أو تفسير خاطئ، أو تطبيق غير سليم.
فتجديد الدين ثابت بالنص، ولكنه ليس هو الاجتهاد بعينه، وإن كان الاجتهاد فرعاً منه، ولوناً من ألوانه، فالاجتهاد تجديد في الجانب الفكري والعلمي أما التجديد فيشمل الجانب الفكري والجانب الروحي، والجانب العملي، وهي الجوانب التي يشملها الإسلام، وهي: العلم والإيمان والعمل.
وأمتنا أحوج ما تكون اليوم إلى من يجدد إيمانها، ويجدد فضائلها، ويجدد معالم شخصيتها، ويعمل على إنشاء جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به جيل الصحابة من قبل، وهو الذي سميناه ( جيل النصر المنشود ) وقد بدأ هذا التجديد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، من أمثال حسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، وأبي الأعلى المودودي رحمهم الله، وعلى من بعدهم أن يكملوا المسيرة ويصححوها حتى يتم الله نوره . . .
للحديث الشريف:( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها )أهمية في القضية، فماذا تعنى كلمة ( مَنْ ) كما وردت في الحديث، وهل تظل عملية ترقب المسلمين لفرد مجدد ملازمة لتفكير المسلم في بداية أو نهاية كل قرن هجري، في ظل الفهم الإسلامي لدور الجماعة في حياة الفرد يبدو أنَّ مفهوم الحديث يحمل المسلم مهمات وتبعات في إطار تجديد أمر الدين . .
- هذا الحديث الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في معرفة السنن والآثار، والطبراني في الأوسط: يمد الأمة بشعاع قوي من الأمل، يطرد عنها ظلام اليأس، ويبعث فيها الروح والأمل في أن الله لا يدعها طويلاً لأنياب الضعف حتى تفترسها، ولا لدخان الهمود حتى يخنقها، ولا لمخالب التمزق حتى تقتلها، بل يهيئ لها بين قرن وآخر، من يجمعها من شتات، ويحييها من موات، ويوقظها من سبات، وهذا بعض معاني التجديد، فهو يجددها بالدين ويجدد بها الدين.
وقد فهم جلُّ شراح الحديث ( كما تبين ذلك من الدراسة السابقة ) أن المراد بـ( مَنْ ) يجدد الدين فيه: فرد واحد، يهبه الله من الفضائل العلمية والخلقية والعملية ما يجدد به شباب الدين، ويعيد إليه الحيوية والقوة، عن طريق علم نافع، أو عمل صالح، أو جهاد كبير، وهذا ما جعلهم يحاولون تحديد هذا ( المجدد ) على رأس كل قرن، فاتفقوا حيناً، واختلفوا حيناً آخر؛ فقد اتفقوا على أن مجدد المائة الأولى: خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز . . ومجدد المائة الثانية: الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ومجدد المائة الخامسة: أبو حامد الغزالي، ومجدد المائة السادسة: ابن دقيق العيد، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافاً شاسعاً.
وأرى أن ( مَنْ ) في الحديث، وفى لغة العرب عامة تدل على الجمع، كما تدل على المفرد، وهي هنا تدل على الجمع كذلك، فمن يجدد الدين في كل قرن ليس بالضرورة فرداً معيناً، بل جماعة من الناس، قد يكون منهم العلماء، ومنهم الولاة، ومنهم القواد، ومنهم المربون . . وقد يكونون في بلد واحد، وقد يكونون في عدد من البلاد، وقد يعمل كل منهم وحده في مجاله، وقد يتعاونون فيما بينهم فيما يشبه الرابطة أو الجمعية، وقد يكون تجديد بعضهم في مجال الدعوة والثقافة، وآخر أو آخرين في مجال الفقه، وجماعة في مجال التربية والتكوين، وغيرهم في مجال الإصلاح الاجتماعي، وفئة أخرى في المجال الاقتصادي، وخامسة في المجال السياسي. ولا مانع من تعدد هذه المجالات واختلاف ألوان العمل والتجديد، على أن يكون اختلاف تنوع وتخصص، لا اختلاف تضاد وتناقض، أعني: أن يكون هناك تكامل وتناسق وتعاون بين هذه الأنواع المختلفة من العمل، بحيث يكمل بعضها بعضاً، ويشد بعضا أزر بعض لا أن ينكر بعضها على الآخر، أو يعوق بعضها بعضاً فيؤدي ذلك إلى ضعفها جميعاً وقوة أعدائها.
إن ربط التجديد بفرد واحد فذّ، يجعل الناس يعيشون على أمل ظهوره، وكل ما عليهم انتظاره حتى تنشق الأرض عنه ليجدد ما عجزوا عنه، هذا سر تعلق الجماهير بفكرة " المهدي المنتظر " والذي أراه أن يُربط التجديد بجماعة أو مدرسة أو حركة، يقوم كل مسلم غيور فيها بنصيبه في موكب التجديد، ويسهم على قدر طاقته في مسيرته، ولا يصبح السؤال إذن متى يظهر المجدد للدين؟ بل يكون: ماذا أعمل لتجديد الدين؟
في عالمنا الإسلامي ارتبط التجديد والمجددون باتجاهات مختلفة، ودعاوى باطلة من علمانية، أو إلحاد خفي، لتجريد المسلمين من حقيقة دينهم، فهل هذا هو التجديد، وهؤلاء هم المجددون؟
تسمية هؤلاء بـ " المجددين " تسمية خاطئة، هؤلاء " مبددون " لا مجددون، لأنهم لا يمتون إلى التجديد الحقيقي بصلة، فتجديد شيء يعني العودة به إلى ما كان عليه عند بدايته وظهوره لأول مرة، وترميم ما أصابه من خلل على مر العصور، مع الإبقاء على طابعه الأصيل، وخصائصه المميزة، هذا ما نصنعه في أي قصر أو بناء أثري عريق نريد تجديده، فلا نسمح بتغيير طبيعته، وتبديل جوهر، أو شكله أو ملامحه، بل نحرص كل الحرص على الرجوع به إلى عهده الأول، أما إذا هدمناه وأقمنا مكانه بناءً شامخاً على الطراز الحديث، فهذا ليس من التجديد في شيء.
والذين أشرت إليهم في سؤالك هم من هذا النوع الذي يريد هدم ( الجامع ) القديم ليقيم على أنقاضه ( كنيسة ) حديثة، بكل مقوماتها وخصائصها، إلا أنه كتب عليها اسم ( جامع )!
والذي سمى هؤلاء " مجددين " إنما هو الاستعمار وتلاميذه وعملاؤه من المستشرقين والمنصَّرين، وتسميتهم الحقيقة ( عبيد الفكر الغربي )، فهم لا يرقون ليكونوا تلاميذ الفكر الغربي، فإن التلميذ يناقش أستاذه، وقد يخالفه ويرد عليه، ولكن موقف هؤلاء من الفكر الغربي هو التبعية والعبودية، التي ترى أن كل ما يؤمن به الغرب هو الحق، وكل ما يقوله فهو صدق، وكل ما يفعله فهو جميل ! ويستوي في هذا عبيد اليمين وعبيد اليسار، فمنبع الجميع واحد، وكلهم فرع من الشجرة الملعونة في القرآن والتوراة والإنجيل: شجرة المادية الخبيثة التي تفرغ الإنسان من الروح، والحياة من الإيمان، والمجتمع من هداية الله؛ وقد كشف زيف هؤلاء من أدعياء التجديد أستاذنا الدكتور محمد البهي - رحمه الله - في كتابه القيم " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي "
المجدد الحقيقي هو الذي يجدد الدين بالدين وللدين، أما من يريد تجديد الدين من خارجه، أي: بمفاهيم مستوردة وأفكار دخيلة، ويجدده لمصلحة الغرب أو الشرق فهو أبعد ما يكون عن التجديد الحق . .
حول قضيتي الاجتهاد والتجديد كان هذا الحوار الذي أجرته مجلة ( الأمة ) القطرية مع المؤلف :
الاجتهاد من الدين وهو أصل من أصوله التي تثبت حيوية الإسلام وقدرته على إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات الحياة المتجددة، فما هي المراحل التاريخية لحركة الاجتهاد، وهل أغلق بابه كما قال بعضهم في عصور معينة، ومن يتحمل مسؤولية هذا الأمر؟ هل هي الدولة العثمانية كما قيل؟
بدأ الاجتهاد منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما ظهر ذلك في قصة ( صلاة العصر في بنى قريظة ) ، وفي حديث معاذ حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وسأله: بماذا تقض إن عرض لك قضاء: فقال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد برأيي ولا آلو. فأقره وأثنى عليه.
وهو حديث مشهور جَوَّد إسناده عدد من الأئمة مثل ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن كثير وغيرهم . . وقد اجتهد عدد من الصحابة في عدد من القضايا في غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه ذلك، فمنهم من أقره على اجتهاده، ومنهم من صحح خطأه.
بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد الصحابة رضي الله عنهم، وواجهوا مشكلات الحياة المتجددة في مجتمعات الحضارات العريقة التي ورثوها بحلول إسلامية اقتبسوها من نصوص الإسلام أو من هديه العام، ووجدوا فيه لكل عقدة حلاً، ولكل داء دواء.
واجتهاد الصحابة في وقائع الحياة وفقههم لدين الله في علاجها، يمثل بحق الفقه الأصيل للإسلام، الذي يتسم بالواقعية، والتيسير، ومراعاة الشريعة لمصالح العباد، دون تجاوز أو افتئات على النصوص.
والناظر في فقه الخلفاء الراشدين، أو في فقه ابن مسعود وابن عباس وعائشة وغيرهم - رضوان الله عليهم - يجد ذلك واضحاً للعيان، ويوقن أن الصحابة هم أفقه الأجيال لروح الإسلام.
ومن الأمثلة على ذلك: موقف عمر ومن معه من فقهاء الصحابة، مثل: علي ومعاذ، حين أبى قسمة أرض العراق على الفاتحين باعتبارها غنيمة لهم أربعة أخماسها، كما هو ظاهر قوله تعالى: ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه . . . ) (الأنفال: 41 ) ورأى أن توقف الأرض لمصلحة الأجيال الإسلامية، وقال لمن عارضه: أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شيء؟!
وقال له علي ومعاذ: انظر أمراً يسع أول الناس وآخرهم!
وقرر بذلك وجوب تكافل الأمة في جميع أجيالها، إلى جوار تكافلها في جميع أقطارها.
- ومثل ذلك موقف عثمان رضي الله عنه من ضالة الإبل، فقد جاء في الحديث الأمر بتركها، وقال لمن سأله عنها: ( مالك ومالها؟ معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتي ربّها )، وهكذا كانت تترك ضوال الإبل في عهد أبى بكر وعمر مرسلة تتناتج، لا يمسها أحد، حتى يجدها صاحبها، فلما كان عهد عثمان، وجد الناس قد تغيروا، وامتدت الأيدي إلى ضوال الإبل، فلم يعد بعضها يصل إلى أصحابها، فرأى المصلحة قد تعينت في التقاطها، فعين راعياً يجمعها ويعرّفها، فإن لم يجد صاحبها باعها وحفظ الثمن له حتى يجيء.
وفى عهد علي رضي الله عنه رأى تضمين الصناع إذا ضاع ما في أيديهم من متاع الناس، مع أن يدهم في الأصل يد أمانة، ولكن علياً قال: لا يصلح الناس إلا ذاك . . لما رأى من تغير أحوال الناس.
وهكذا كان فقه الصحابة في سعة أفقه وواقعيته وتيسيره، مع التزامه بالأصول ولا ريب.
- وقد سار في هذا الاتجاه تلاميذ الصحابة من التابعين الذين كونوا مدارس فقهية في كل الأمصار تعلم وتفتي في النوازل، وتواجه كل حادث بحديث، ومن هذه المدارس أو الجامعات التي نشأت تحت سقوف الجوامع، برز مشاهير الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة مثل: أبى حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، والأوزاعي، والطبري، وداود الظاهري . .
- وقد كان المجتهدون في القرون الأولى أكثر من أن يُحصروا . . قد تنوعت مشاربهم ومداركهم في استنباط الأحكام، ولكنهم اتفقوا على أن المصدر الأساسي لأحكام الشريعة هو الكتاب والسنة؟ فالكتاب هو الأصل والسنة هي الشارحة والمبينة، ويأتي بعد ذلك المصادر التبعية الأخرى، مثل: الاستحسان والاستصلاح وسد الذرائع، ورعاية العرف، وشرع من قبلنا، وغيرها مما اختلف فيه الفقهاء، ما بين مثبت وناف، وموسع ومضيق . .
المهم أن الفقه نما واستبحر، وكثرت مسائله الواقعة والمتوقعة أو المفترضة ودُوِّنت كتبه وقُعِّدت قواعده، وضبطت طرائق استنباطه بواسطة ( علم الأصول ) الذي ابتكره المسلمون، ولا يوجد عند أمة مثله، ويعد من مفاخر التراث الإسلامي.
وقد ظل الفقه الإسلامي أساس القضاء والفتوى في المجتمعات الإسلامية كلها، حتى دخل الاستعمار بلاد المسلمين، وعزل الشريعة عن التقنين والقضاء، إلا في دائرة ضيقة هي ما سموه: " الأحوال الشخصية ".
وليس صحيحاً ما يقال: إن الإسلام قد عُطِّل بعد عصر الخلفاء الراشدين، فإن الذي لا شك فيه أن المسلمين طوال اثني عشر قرناً، لم يكن لهم دستور ولا قانون يتحاكمون إليه غير الشريعة الإسلامية، برغم ما حدث من سوء الفهم، أو سوء التطبيق، لأحكامها السمحة.
إغلاق باب الاجتهاد:
أما عن إغلاق باب الاجتهاد فنقول:
أصبحت الدولة العثمانية مشجباً يعلق عليه الكثيرون كل الأخطاء والعثرات في شتى المجالات . . فالواقع أن سيطرة التقليد والتعصب المذهبي وذبول شجرة الاجتهاد المطلق، أمور سبقت الدولة العثمانية، واستشرت في أقطار العالم الإسلامي بنسب متفاوتة، وإن لم يخل عصر من العصور من مجتهدين، حتى وجدنا الإمام السيوطي ( المتوفى 911 هـ ) يعلن أنه بلغ مرتبة الاجتهاد المطلق، ويرجو لنفسه أن يكون مجدد المائة التاسعة، كما هو المشهور في فهم الحديث الوارد في ( التجديد ) ، ويؤلف كتابه ( الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض ).
وفي القرن الثاني عشر نجد المجدد الكبير حكيم الإسلام أحمد بن عبد الرحيم المعروف باسم: شاه ولي الله الدهلوي ( المتوفى 1176 هـ ) صاحب ( حجة الله البالغة ) وغيره من الكتب الأصيلة . . وفى القرن الثالث عشر يظهر في اليمن الإمام المجتهد المطلق محمد بن على الشوكاني ( المتوفى 1250 هـ ) والذي تجلى اجتهاده في الفروع والأصول في كتبه ( نيل الأوطار ) و ( السيل الجرار ) و ( الدراري المضيئة ) وشرحه ( الدرر البهية ) و ( إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ).
على أنه من الإنصاف للواقع وللتاريخ أن نقول:
إن الدولة العثمانية اهتمت بالجهاد، أكثر من اهتمامها بالاجتهاد، مع أن القيادة الإسلامية تحتاج إلى كلا الأمرين: الاجتهاد لمعرفة الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد لحمايته والذود عنه . .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
" لابد للدين من كتاب هاد، وحديد ناصر . . . " مشيراً إلى قوله تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس . . . ) (الحديد: 25).
وكان اهتمام الدولة العثمانية بالحديد أكثر، أي : بالجانب العسكري أكثر من الجانب الفكري، حتى كانت الصدمة المذهلة بمواجهة نهضة الغرب الحديثة.
يرى بعضهم أن حركة الاجتهاد في العصر الحديث قد بدأها ( جمال الدين الأفغاني ) ، إلا أن تلامذته من بعده عادوا تدريجياً إلى الاقتصار على النص، فأصبحوا أقرب إلى التقليد، وبخاصة محمد رشيد رضا، فهل يمكن وضع هذه الجهود في إطارها المناسب من حركة الاجتهاد؟
هذه المقولة تدل على أن قائلها لم يحط علماً بمدلول الاجتهاد ومجاله وشروطه. ولو أحاط بذلك علماً لعرف أن المسيرة كانت تصاعدية، ولم تنتكس كما زعموا، بل بدأت بالعموميات والمجملات ثم أخذت تتخصص، وبدأت رجراجة ثم شرعت تنضبط، فالشيخ محمد عبده كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأفغاني بحكم ثقافته الأزهرية المتعمقة . . والسيد محمد رشيد رضا كان أقرب إلى الانضباط بمحكمات الشرع من شيخه الأستاذ الإمام، بما له من سعة اطلاع على كتب السنة والآثار، وإنتاج المدرسة السلفية، التي يمثلها الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو الذي شن حملاته القوية من مجلته العتيدة " المنار " على الجمود والتقليد، وكتب المقالات الإصلاحية، والفتاوى العلمية التجديدية، خلال ثلث قرن من الزمان، أو يزيد. وذاعت اجتهادات الشيخ رشيد، وفتاواه التجديدية في العالم الإسلامي كله، ولقيت من القبول أكثر مما لقيته اجتهادات شيخه على قلّتها. أما اجتهادات السيد جمال الدين فلا نكاد نعرف له اجتهاداً معيناً، وقد كانت شخصيته شخصية الزعيم " الثائر " الموقظ للعقول، المحرك للمشاعر، المثير للهمم والعزائم، لا شخصية الفقيه المنضبط بأصول وقواعد، وكلٌ ميسر لما خلق له.
وقد أُخِذَ على الشيخ محمد عبده بعض آرائه في تأويل القرآن، كقوله في قصة آدم، وكلامه عن الطير الأبابيل، ونحو ذلك، وعذره أن الحضارة الغربية كانت في أوجها، وكان الانبهار بها على أشده، لذا غلبت النزعة العقلية، ومحاولة إخضاع النص حتى يوافق المفاهيم الجديدة، وتقريب تعاليم الدين من المثقفين بالثقافة الغربية، ولو بالتكلف.
ومن الإنصاف لمن يريد تقويم شخص ما، وتقدير فكره وعمله، أن يضعه في إطاره التاريخي الخاص، لا يعدو به زمانه ومكانه إلى زمانا نحن ومكاننا، فبعض ما يبدو لنا اليوم واضحاً مسلماً، لم يكن كذلك في زمنه، فرحم الله امرءاً أنصف من نفسه، وأعطى كل عامل ما يستحقه، وأقام الشهادة لله.
الاجتهاد الشرعي فرض كفاية حيناً، وفرض عين حيناً آخر، وله مدلوله ومجاله وشروطه . . هل يمكن تحديد هذه القضايا حتى لا تختلط الأمور. ويدخل باب الاجتهاد من ليس أهلاً له؟
الاجتهاد هو بذل غاية الجهد، واستفراغ غاية الوسع في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها بطريق النظر وإعمال الفكر، وهو فرض كفاية على الأمة في مجموعها، تأثم إذا لم يتوافر لها عدد من أبنائها يسد حاجتها فيه، وهو فرض عين على من أنس في نفسه الكفاية له، والقدرة عليه، إذا لم يجد في المسلمين من يسد مسده . .
والاجتهاد يعمل في منطقتين:
إحداهما:
منطقة ما لا نص فيه، مما تركه الشارع لنا قصداً منه، رحمة بنا غير نسيان . . ليملأ المجتهدون هذا الفراغ بما يحقق مقصد الشارع، وفق مسالك الاجتهاد التي يتبعها المجتهدون من القياس أو المصلحة المرسلة أو الاستحسان أو استصحاب الحال أو غير ذلك. ومن الملاحظ أن بعض المجالات كثرت فيه النصوص إلى حد التفضيل أحياناً، مثل: العبادات وشؤون الأسرة، لأنها مما لا يكاد يتغير بتغير الزمان والمكان، والحاجة ماسة فيه إلى نصوص ضابطة لمنع التنازع ما أمكن ذلك . . وإلى جانب ذلك توجد مجالات تقل فيها النصوص إلى حد كبير، أو تأتي عامة مجملة، لتدع للناس حرية الحركة في الاجتهاد لأنفسهم - في ضوء الأصول الكلية - وفق مصالح مجتمعهم، وظروف عصرهم، دون أن يجدوا من النصوص المفصلة ما يقيدهم، أو يعوق مسيرتهم، كما في شؤون الشورى ونظام الحكم وقوانين الإجراءات والمرافعات وغيرها . . .
وثانيتهما:
منطقة النصوص الظنية، سواء أكانت ظنية الثبوت، ومعظم الأحاديث النبوية كذلك، أو ظنية الدلالة، ومعظم نصوص القرآن والسنة كذلك. فوجود النص لا يمنع الاجتهاد كما يتوهم واهم، بل تسعة أعشار النصوص أو أكثر قابل للاجتهاد وتعدد وجهات النظر، حتى القرآن الكريم ذاته يحتمل تعدد الأفهام في الاستنباط منه، ولو أخذت آية مثل ( آية الطهارة ) في سورة المائدة، وقرأت ما نقل في استنباط الأحكام منها، لرأيت بوضوح صدق ما أقول.
وبجانب هاتين المنطقتين المفتوحتين للاجتهاد، توجد منطقة في الشريعة مغلقة بإحكام، لا يدخلها الاجتهاد، ولا يجد حاجة لدخولها: إنها منطقة القطعيات في الشريعة، مثل وجوب الفرائض الأصلية، كالصلاة والزكاة والصيام، وتحريم المحرمات اليقينية، كالزنى، وشرب الخمر، والربا، وأمهات الأحكام القطعية، كأحاديث المواريث المنصوص عليها بصريح القرآن، وأحكام الحدود والقصاص، وعِدَدِ المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهن، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص القطعية في ثبوتها، القطعية في دلالاتها.
هذا النوع من الأحكام - التي لا يدخلها الاجتهاد - هو الذي يجسد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة، فلا يجوز أن تدخل معترك الاجتهاد، ليبحث باحث:
هل يجوز السماح بالخمر من أجل السياح؟
أو نعطل الصيام من أجل زيادة الإنتاج؟
أو نجمد الحج توفيراً للعملة الصعبة؟
أو نعلق الزكاة اكتفاء بالضرائب الوضعية؟
أو نعطل الحدود والقصاص إشفاقاً على المجرمين؟ كأننا أرحم من الله بعباده ! ( قل أأنتم أعلم أم الله . . . ) ( البقرة: 140) .
وهذا هو الذي يجب الاحتراس منه:
أن نجتهد فيما لا يجوز فيه، أو أن يلج باب الاجتهاد من ليس أهلاً له، ولا تتحقق فيه شروطه، وهذا هو الذي دعا بعض العلماء قديماً أن ينادوا بإغلاق باب الاجتهاد، ليسدوا الطريق على الأدعياء والمتطفلين . . على أن باب الاجتهاد سيظل مفتوحاً، ولا يملك أحد إغلاقه بعد أن فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ولا يسع فرداً أو مجموعة من العلماء أن يقولوا في واقعة تعرض عليهم: ليس لنا حق الاجتهاد فيها، لأن الأقدمين لم يقولوا شيئاً في شأنها؟ إذ الشريعة لابد أن تحيط بكل أفعال المكلفين وأن يكون لها حكم في كل واقعة، وهذا ما لا يختلف فيه اثنان.
لابد من توافر شروط محددة فيمن يتصدى للاجتهاد الشرعي؟ فما هي هذه الشروط؟ وهل تنسحب على المجتهدين عموماً، أم أن هناك فرقاً بين من يتصدى للاجتهاد المطلق، ومن يتصدى للاجتهاد الجزئي؟
ليس في الإسلام طبقة خاصة تحتكر الاجتهاد أو تتوارثه، إذ ليس فيه كهنوت ولا( إكليروس ) ، ولكن هناك عالماً متخصصاً يملك أدوات الاجتهاد وتحقق فيه شروطه، فهو الذي يجتهد فيما يعرض عليه من وقائع، ويصدر فيها رأيه بما انتهى إليه اجتهاد، أصاب أو أخطأ.
وشروط المجتهد معروفة ومفصلة في كتب أصول الفقه، منها: شروط علمية ثقافية، مثل: العلم باللغة العربية، والعلم بالكتاب والسنة، والعلم بمواضع الإجماع المتيقن، والعلم بأصول الفقه، وطرائق القياس والاستنباط، والعلم بمقاصد الشريعة وقواعدها الكلية . . وهذا الأخير هو الذي ركَّز عليه الإمام الشاطبي، وجعله سبب الاجتهاد؛ ولابد مع هذا كله أن يكون لديه ملكة الاستنباط، وهي تنمو بممارسة الفقه ومعرفة اختلاف الفقهاء ومداركهم، ولهذا قالوا: " من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه ".
وشرط آخر نبَّه عليه الإمام احمد، وذكره ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين ) وهو:
( معرفة الناس ). وهذا أمر مهم؛ ألا يعيش المجتهد الذي يفتى الناس في برج عاج أو صومعة منعزلة، ويصدر أحكاماً بعيدةً عن الواقع، أو يطبع أحكام عصر انقضى وأناس مضوا، على عصر آخر وأناس آخرين، مُغْفِلاً هذه القاعدة العظيمة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال والعرف، كما ذكر المحققون.
ويستلزم هذا اطلاع المجتهد على أحوال مجتمعه، وإلمامه بالأصول العامة لثقافة عصره بحيث لا يعيش في واد والمجتمع من حوله في واد آخر، فهو يُسأل عن أشياء، وقد لا يدرى شيئاً عن خلفيتها وبواعثها، وأساسها الفلسفي أو النفسي أو الاجتماعي، فيتخبط في تكييفها والحكم عليها، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره - كما يقول علماء المنطق -.
والمجتهد الحق هو الذي ينظر إلى النصوص والأدلة بعين، وينظر إلى الواقع والعصر بعين أخرى، حتى يوائم بين الواجب والواقع، ويعطي كل واقعة حكمها المناسب لمكانها وزمانها وحالها.
ذكر المحقق ابن القيم أن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية: مَرَّ في زمنه على جماعة من جنود التتار قد استغرقوا في شرب الخمر، فأنكر عليهم بعض أصحابه، فما كان منه إلا أن قال لهم:
دعوهم في سكرهم ولهوهم، فإنما حرَّم الله الخمر؟ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء تصدهم الخمر عن قتل الأنفس وسفك الدماء!
وهذا يتمشى مع قاعدة مقررة؛ وهي السكوت على منكر ما، مخافة منكر أكبر منه، ارتكاباً لأخف الضررين، وأهون الشرين.
وهناك شرط آخر في المجتهد، وهو شرط ديني أخلاقي، وهو أن يكون عدلاً مرْضِي السيرة، يخشى الله فيما يصدر عنه، ويعلم أنه في فتواه في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا يتبع هواه، ولا يبيع دينه بدنياه، فما بالك بدنيا غيره ؟!
وإذا كان الله تعالى قد اشترط العدالة لقبول الشهادة في معاملات الناس فكيف بمن يشهد في دين الله، ويحدث عن الله بأنه أحل كذا، وحرم كذا، وأوجب كذا، ورخّص في كذا.
وهذه الشروط العلمية التي ذكرناها إنما يجب توافرها في حق المجتهد المطلق، أي: الذي يجتهد في جميع أبواب الفقه ومسائله؛ أما المجتهد الجزئي فيكفيه أن يحيط من العلم بما يتعلق بمسألته، بعد أن تكون عنده المؤهلات العلمية العامة، بناء على أن الاجتهاد يتجزأ، وهو القول الراجح عند الأكثرين . .
فيستطيع أستاذ الاقتصاد أن يجتهد في مسألة ما في مجال تخصصه، إذا أحاط بكل ما ورد فيها من نصوص، وما يتعلق بها من اجتهادات، إذا كان لديه المعرفة بأصول الاستدلال وقواعد التعارض والترجيح وغير ذلك.
ثارت مناقشات كثيرة حول قضية الاجتهاد في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى ظهور بعض الاجتهادات المنحرفة في هذا السبيل، وما دام الأمر كذلك فلابد من وضع ضوابط تجب مراعاتها في الاجتهاد الشرعي المعاصر حتى يمكن للمسلمين التعرف على هذه الاتجاهات ونبذها. فما هذه الضوابط في رأيكم؟
الضوابط التي ينبغي مراعاتها في الاجتهاد المعاصر أستطيع أن أجملها في هذه النقاط:
البعد عن منطقة " القطعيات " فمجال الاجتهاد ما كان دليله ظنياً من الأحكام ولا يجوز لنا أن ننساق وراء المتلاعبين الذين يريدون أن يحولوا القطعي إلى ظني والمحكم إلي متشابه . . وبذلك لا يبقى لنا معول نعتمد عليه، ولا أصل نحتكم إليه.
وكما لم نجز تحويل القطعيّ إلى ظنيّ، يجب ألا نحول الظنيّ إلى قطعيّ، ونزعم الإجماع فيما يثبت فيه الخلاف . . فلا يصح أن نشهر سيف الإجماع في وجه كل مجتهد، كما فعل معاصرو ابن تيمية في اختياراته واجتهاداته، مع أن الإمام أحمد قال:
" من ادَّعى الإجماع فقد كذب ما يدريه: لعل الناس اختلفوا وهو لا يدري "
أخشى ما أخشاه هو الهزيمة النفسية أمام الحضارة الوافدة، والاستسلام للواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة، وهو واقع لم يصنعه الإسلام، ولم يصنعه المسلمون بل صنعه لهم الاستعمار المتسلط، وفرضه عليهم بالقوة والمكر، وقام هذا الباطل الدخيل، في غفلة من أهل الحق الأصيل، الذي لدى المسلمين.
لهذا يجب رفض ذلك النوع من الاجتهاد - إن صح أن يسمى اجتهاداً - وهو اجتهاد ( التبرير للواقع ) خاصة إذا كان فيه إرضاء للسلطة الحاكمة، واجتهاد ( التقليد للآخرين ) كاجتهاد الذين يحاولون منع الطلاق وتعدد الزوجات، ومحاربة الملكية الفردية، وتسويغ الفوائد الربوية . . وغيرها.
يجب أن يتحرر المجتهد من الخوف بكل ألوانه، الخوف من سلطان المتسلطين من الحكام، الذين يريدون فتاوى جاهزة دائماً تبرر تصرفاتهم، وتضفي الشرعية على أعمالهم . . والخوف من سلطان الجامدين المقلدين من العلماء، الذين يشنون الغارة على كل اجتهاد جديد، وهم الذين كانوا وراء سجن ابن تيمية ومحنه المتتابعة، فقد كانت محنته رحمه الله منهم لا من السلاطين. وأن يتحرر من الخوف من سلطان الجماهير والعوام الذين يستطيع هؤلاء المقلدون أن يثيروهم على كل رأي مخالف لما ألفوه.
يجب أن نفسح صدورنا للاجتهاد وإن خالف ما نشأنا عليه من آراء، وأن نتوقع الخطأ من المجتهد، ولا نضيق به ذرعاً، لأنه بشر غير معصوم، وقد كان ما حسبناه خطأ هو الصواب بعينه. ورُب رأي رفضه جمهور الناس يوماً، ثم أصبح بعد ذلك هو الرأي المقبول والمرتضى، وليس في الإسلام سلطة ( بابوية ) تقول: هذا الرأي صواب فيغدو صواباً، ويستحق البقاء، وذلك خطأ فيحذف من الوجود ويحكم عله بالإعدام.
هناك قضايا معاصرة يحتاج المسلمون فيها إلى فقه متجدد يحل لهم مشكلاتهم . . ما هي أهم هذه القضايا، وكيف ترى هذه الأمور داخل إطار العملية الاجتهادية؟
نظراً لتغير شؤون الحياة عما كانت عليه في الأعصار الماضية، وتطور مجتمعات اليوم تطوراً هائلاً في الأفكار والسلوك والعلاقات، فإن عصرنا الحاضر أحوج ما يكون إلى الاجتهاد . . وذلك بعد ( الثورة البيولوجية ) و( الثورة التكنولوجية ) التي يشهدها العالم، وكان من جرائها أن طرحت قضايا جديدة كل الجدة مثل: أطفال الأنابيب، وشتل الجنين، وبنوك الأجنة المجمدة، والتحكم في جنس الجنين، وزرع الأعضاء، ونقل الدم . . وما جدَّ في العلاقات الدولية والأنظمة المالية والاقتصادية من أشياء لم يعرفها السابقون، أو عرفوا بعضها في صورة مصغرة جداً.
فهذه وما شابهها تقتضي اجتهاداً جديداً، وهو ما نسميه ( الاجتهاد الإنشائي ) أي: الذي يُصدِر فيه المجتهدون حكماً جديداً، وإن لم يتقدم من قال به من فقهائنا السابقين، ولم ينص عليه أحد؛ مثل زكاة العمارات والمصانع والأسهم والسندات والرواتب، واعتبار الذهب وحده أساس نصاب النقود، وإيجاب زكاة الأرض المستأجرة على كل من المالك والمستأجر: يزكي المستأجر الخارج من زرع أو ثمر طارحاً منه الأجرة، لأنها دَيْنٌ عليه. ويزكي المالك الأجرة . .
وهناك اجتهاد آخر أُسميه " الاجتهاد الانتقائي " وهو اختيار أرجح الأقوال من تراثنا الفقهي العظيم، مما نراه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع ومصالح الخلق، وأليق بظروف العصر؟ وقد يكون الانتقاء داخل المذاهب الأربعة، مثل ترجيح مذهب أبى حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، وترجيح مذهب الشافعي في إعطاء الفقير كفاية العمر، وترجيح مذهب مالك في إبقاء سهم المؤلفة قلوبهم . . .
وقد يكون الانتقاء من خارج المذاهب الأربعة: فالأئمة الأربعة - على جلالتهم وفضلهم - ليسوا كل الفقهاء، فهناك من عاصرهم من نظرائهم ومن يمكن أن يكون قد تفوق عليهم، وهناك من سبقهم من شيوخهم، وشيوخ شيوخهم من فقهاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ممن هم أفضل منهم بيقين.
فلا حرج في الأخذ بمذهب أحدهم إذا ترجح لدينا باعتبارات شرعية كالأخذ بمذهب عمر رضي الله عنه في التضييق في زواج الكتابيات إذا خيف منهن على نساء المسلمين أو الذرية، أو خيف عدم التدقيق في شرط الإحصان: المنصوص عليه في قوله تعالى: ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب . . . ) (المائدة: 5 ) أي: العفيفات منهن، أو الأخذ بمذهب عطاء في إيجاب المتعة لكل مطلقة، أو الأخذ بمذهب بعض السلف في عدم وقوع الطلاق في حالة الغضب الشديد، وهو ما فسروا به حديث ( لا طلاق في إغلاق ) أو مذهب بعضهم في إيقاع طلاق الثلاث بلفظة واحدة أو في مجلس واحد، طلقة واحدة رجعية فقط، وهو ما أفتى به ابن تيمية وابن القيم، ومثله: عدم إيقاع الطلاق البدعي: أي الطلاق في حالة الحيض، وكذلك الطلاق إذا أريد منه الحمل على شيء أو المنع منه، فيعامل معاملة اليمين، وفيه كفارة يمين.
ونحو ذلك الأخذ بمذهب بعض السلف في وجوب الوصية لمن لا يرث من الأقربين، وعلى أساسه قام في مصر وغيرها قانون " الوصية الواجبة " للأحفاد إذا مات آباؤهم أو أمهاتهم في حياة والديهم، فلهم نصيب الوالدين بشرط ألا يزيد على الثلث، من باب الوصية، لا من باب الميراث.
ومن ذلك ما رجحه العلامة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر من الإفتاء بمذهب عطاء وطاووس من التابعين، في جواز رمي الجمرات قبل الزوال في الحج، تيسيراً على الناس، ورفعاً للحرج والمشقات الهائلة، التي يتعرض لها الناس من الزحام حول المرمى، إلى حد الهلاك تحت الأقدام.
والاجتهاد الذي نحتاج إليه في عصرنا هو " الاجتهاد الجماعي " الذي يقوم في صورة مجمع فقهي عالمي، يضم الكفايات العلمية العالية، ويصدر أحكامه بعد دراسة وفحص، بشجاعة وحرية، بعيداً عن ضغط الحكومات، وضغط العوام.
ومع هذا أؤكد أنه لا غنى عن الاجتهاد الفردي الذي ينير الطريق أمام الاجتهاد الجماعي بما يقدم من دراسات متأنية مخدومة.
يُتهم بعض الدعاة إلى الإسلام أحياناً بأنهم أنصار للجمود والتشدد، ومعاداة أي تجديد . . فهل يرتبط هذا بحقيقة واقعة، أم أنه يرتبط برغبة أخرى خفية؟ وهل لنا أن نتعرف على الموقف الصحيح للدعاة من قضية التجديد؟
ينقسم الناس بشأن التجديد إلى أصناف ثلاثة:
(1) أعداء التجديد الذين يريدون أن يبقى كل قديم على قدمه، حكمتهم المأثورة: ما ترك الأول للآخر شيئاً! وشعارهم المرفوع: ليس في الإمكان أبدع مما كان!
وهم بجمودهم يقفون في وجه أي تجديد: في العلم، في الفكر، في الأدب، في الحياة، فما بالك بالدين ؟ ! إن مجرد كلمة ( التجديد ) بالنسبة للدين يعتبرونها هرطقة.
وفى مجال الدين وجدت فئتان ينتهي موقفهما إلى " تجميد الإسلام " تحدثت عنهما في بعض ما كتبته في مجلة ( الأمة ) بمناسبة القرن الخامس عشر، وهما: فئة ( مقلدي المذاهب ) المتعصبين لها، الذين يرفضون أي خروج عليها، ولا يعترفون بحق الاجتهاد لفرد ولا لجماعة في هذا العصر، إلا في إطار ما قررته مذاهبهم وحدها، بل في حدود ما حرره المتأخرون من علماء المذهب، وأفتوا به. فلا يجوز الخروج عن الرأي المفتى به في المذهب، إلى أقوال وآراء أخرى داخل المذهب نفسه!
والفئة الأخرى هي التي سميتها " الظاهرية الجدد " وأعني بهم الحرفيين الذين يقفون جامدين عند ظواهر النصوص، ولا يمعنون النظر إلى مقاصدها، ولا يفهمون الجزئيات في ضوء الكليات، ولا غرو أن تراهم يقيمون معارك حامية من أجل أمور هامشية في الدين، وهؤلاء وأولئك قوم مخلصون للإسلام، ولكنهم معه كالأم التي تسببت في موت وليدها بحبسه والإغلاق عليه خوفاً عليه من مس الشمس ولفح الهواء!
(2) ويقابل هؤلاء: الغلاة في التجديد، الذين يريدون أن ينسفوا كل قديم، وإن كان هو أساس هوية المجتمع، ومبرر وجوده، وسر بقائه، كأنما يريدون أن يحذفوا " أمس " من الزمن، ويحذفوا " الفعل الماضي " من اللغة، ويحذفوا: " علم التاريخ " من علوم الإنسان!
وتجديد هؤلاء هو التغريب بعينه، إن قديم الغرب عندهم جديد، فهم يدعون إلى اقتباسه بخيره وشره، وحلوه ومره. وهؤلاء هم الذين سخر منهم الرافعي رحمه الله حين دخل معركته معهم ( تحت راية القرآن ) وقال: إنهم يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر!
ورد عليهم شاعر الإسلام محمد إقبال بأن " الكعبة لا تجدد بجلب حجارة لها من أوربة "! وأشار إليهم أحمد شوقي - أمير الشعراء - في قصيدته عن الأزهر:
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من آبائهم أو عُمِّرا من كل ساع في القديم وهدمه وإذا تقدم للبناية قصَّراً
وهذا الصنف والذي قبله هما اللذان شكا منهما الأمير شكيب أرسلان حين قال في كتابه: ( لماذا تأخر المسلمون؟ ) إنما ضاع الدين بين جامد وجاحد، ذلك ينفر الناس منه بجموده، وهذا يضلهم عنه بجحوده.(3) وبين هذين الصنفين يبرز صنف وسط، يرفض جمود الأولين، وجحود الآخرين، يلتمس الحكمة من أي وعاء خرجت، ويقبل التجديد، بل يدعو إليه، وينادي به، على أن يكون تجديداً في ظل الأصالة الإسلامية، يفرق بين ما يجوز اقتباسه، وما لا يجوز، ويميز بين ما يلائم وما لا يلائم.
إنه يدعو إلى أخذ العلم المادي والتقني بكل ما يستطيعه مما تحتاج الأمة إليه، بشرط أن نهضم التكنولوجيا وننشئها، لا أن نشتريها ونظل غرباء عنها!
وهذا هو موقف دعاة الإسلام الحقيقيين: إن شعارهم: الجمع بين القديم النافع والجديد الصالح. الانفتاح على العالم دون الذوبان فيه . . الثبات على الأهداف والمرونة في الوسائل . . التشديد في الأصول والتيسير في الفروع . . .
بين الاجتهاد والتجديد كمفهوم معاصر صلة، فإذا كان الإسلام يعتبر الاجتهاد أداة لفهم أحكام القرآن والسنة، فهل يقبل الإسلام التجديد كما يقبل الاجتهاد؟ أم أنه ينافي طبيعة الدين الذي جاء ليضبط الحياة بعقائده وقيمه ومفاهيمه وأحكامه، أم أن لكل منهما مجاله الذي يعمل فيه؟
- أدهشني إنكار عالم فاضل نسبة التجديد إلى الدين - في حوار مع أحد الصحفيين - باعتبار أن الدين ثابت لا يتجدد ولا يتطور، ودافعه إلى هذا - فيما أعتقد - خشيته أن يفهم الناس من إطلاق كلمة " تجديد الدين " إعمال يد التغيير فيه بالحذف أو الزيادة، فأراد أن يسد الباب كلية بإنكار مطلق التجديد.
والحقيقة أن الحديث النبوي الشريف قد فصل في هذه القضية، وذلك فيما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم، بإسناد صحيح ( إن الله يبعث لهذه الأمة على راس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ). وليس بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول، ولا بعد حكمه حكم.
وكثير من العلماء المخلصين ينكرون أشياء ثابتة؛ لسوء استخدام بعض الناس لها وهم بهذا يعالجون الخطأ بخطأ، والمنهج السليم هو إثبات الثابت، وإعطاؤه التفسير الصحيح، ورد كل فهم أو تفسير خاطئ، أو تطبيق غير سليم.
فتجديد الدين ثابت بالنص، ولكنه ليس هو الاجتهاد بعينه، وإن كان الاجتهاد فرعاً منه، ولوناً من ألوانه، فالاجتهاد تجديد في الجانب الفكري والعلمي أما التجديد فيشمل الجانب الفكري والجانب الروحي، والجانب العملي، وهي الجوانب التي يشملها الإسلام، وهي: العلم والإيمان والعمل.
وأمتنا أحوج ما تكون اليوم إلى من يجدد إيمانها، ويجدد فضائلها، ويجدد معالم شخصيتها، ويعمل على إنشاء جيل مسلم يقوم في عالم اليوم بما قام به جيل الصحابة من قبل، وهو الذي سميناه ( جيل النصر المنشود ) وقد بدأ هذا التجديد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، من أمثال حسن البنا، وعبد الحميد بن باديس، وأبي الأعلى المودودي رحمهم الله، وعلى من بعدهم أن يكملوا المسيرة ويصححوها حتى يتم الله نوره . . .
للحديث الشريف:( إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها )أهمية في القضية، فماذا تعنى كلمة ( مَنْ ) كما وردت في الحديث، وهل تظل عملية ترقب المسلمين لفرد مجدد ملازمة لتفكير المسلم في بداية أو نهاية كل قرن هجري، في ظل الفهم الإسلامي لدور الجماعة في حياة الفرد يبدو أنَّ مفهوم الحديث يحمل المسلم مهمات وتبعات في إطار تجديد أمر الدين . .
- هذا الحديث الذي رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في معرفة السنن والآثار، والطبراني في الأوسط: يمد الأمة بشعاع قوي من الأمل، يطرد عنها ظلام اليأس، ويبعث فيها الروح والأمل في أن الله لا يدعها طويلاً لأنياب الضعف حتى تفترسها، ولا لدخان الهمود حتى يخنقها، ولا لمخالب التمزق حتى تقتلها، بل يهيئ لها بين قرن وآخر، من يجمعها من شتات، ويحييها من موات، ويوقظها من سبات، وهذا بعض معاني التجديد، فهو يجددها بالدين ويجدد بها الدين.
وقد فهم جلُّ شراح الحديث ( كما تبين ذلك من الدراسة السابقة ) أن المراد بـ( مَنْ ) يجدد الدين فيه: فرد واحد، يهبه الله من الفضائل العلمية والخلقية والعملية ما يجدد به شباب الدين، ويعيد إليه الحيوية والقوة، عن طريق علم نافع، أو عمل صالح، أو جهاد كبير، وهذا ما جعلهم يحاولون تحديد هذا ( المجدد ) على رأس كل قرن، فاتفقوا حيناً، واختلفوا حيناً آخر؛ فقد اتفقوا على أن مجدد المائة الأولى: خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز . . ومجدد المائة الثانية: الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ومجدد المائة الخامسة: أبو حامد الغزالي، ومجدد المائة السادسة: ابن دقيق العيد، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافاً شاسعاً.
وأرى أن ( مَنْ ) في الحديث، وفى لغة العرب عامة تدل على الجمع، كما تدل على المفرد، وهي هنا تدل على الجمع كذلك، فمن يجدد الدين في كل قرن ليس بالضرورة فرداً معيناً، بل جماعة من الناس، قد يكون منهم العلماء، ومنهم الولاة، ومنهم القواد، ومنهم المربون . . وقد يكونون في بلد واحد، وقد يكونون في عدد من البلاد، وقد يعمل كل منهم وحده في مجاله، وقد يتعاونون فيما بينهم فيما يشبه الرابطة أو الجمعية، وقد يكون تجديد بعضهم في مجال الدعوة والثقافة، وآخر أو آخرين في مجال الفقه، وجماعة في مجال التربية والتكوين، وغيرهم في مجال الإصلاح الاجتماعي، وفئة أخرى في المجال الاقتصادي، وخامسة في المجال السياسي. ولا مانع من تعدد هذه المجالات واختلاف ألوان العمل والتجديد، على أن يكون اختلاف تنوع وتخصص، لا اختلاف تضاد وتناقض، أعني: أن يكون هناك تكامل وتناسق وتعاون بين هذه الأنواع المختلفة من العمل، بحيث يكمل بعضها بعضاً، ويشد بعضا أزر بعض لا أن ينكر بعضها على الآخر، أو يعوق بعضها بعضاً فيؤدي ذلك إلى ضعفها جميعاً وقوة أعدائها.
إن ربط التجديد بفرد واحد فذّ، يجعل الناس يعيشون على أمل ظهوره، وكل ما عليهم انتظاره حتى تنشق الأرض عنه ليجدد ما عجزوا عنه، هذا سر تعلق الجماهير بفكرة " المهدي المنتظر " والذي أراه أن يُربط التجديد بجماعة أو مدرسة أو حركة، يقوم كل مسلم غيور فيها بنصيبه في موكب التجديد، ويسهم على قدر طاقته في مسيرته، ولا يصبح السؤال إذن متى يظهر المجدد للدين؟ بل يكون: ماذا أعمل لتجديد الدين؟
في عالمنا الإسلامي ارتبط التجديد والمجددون باتجاهات مختلفة، ودعاوى باطلة من علمانية، أو إلحاد خفي، لتجريد المسلمين من حقيقة دينهم، فهل هذا هو التجديد، وهؤلاء هم المجددون؟
تسمية هؤلاء بـ " المجددين " تسمية خاطئة، هؤلاء " مبددون " لا مجددون، لأنهم لا يمتون إلى التجديد الحقيقي بصلة، فتجديد شيء يعني العودة به إلى ما كان عليه عند بدايته وظهوره لأول مرة، وترميم ما أصابه من خلل على مر العصور، مع الإبقاء على طابعه الأصيل، وخصائصه المميزة، هذا ما نصنعه في أي قصر أو بناء أثري عريق نريد تجديده، فلا نسمح بتغيير طبيعته، وتبديل جوهر، أو شكله أو ملامحه، بل نحرص كل الحرص على الرجوع به إلى عهده الأول، أما إذا هدمناه وأقمنا مكانه بناءً شامخاً على الطراز الحديث، فهذا ليس من التجديد في شيء.
والذين أشرت إليهم في سؤالك هم من هذا النوع الذي يريد هدم ( الجامع ) القديم ليقيم على أنقاضه ( كنيسة ) حديثة، بكل مقوماتها وخصائصها، إلا أنه كتب عليها اسم ( جامع )!
والذي سمى هؤلاء " مجددين " إنما هو الاستعمار وتلاميذه وعملاؤه من المستشرقين والمنصَّرين، وتسميتهم الحقيقة ( عبيد الفكر الغربي )، فهم لا يرقون ليكونوا تلاميذ الفكر الغربي، فإن التلميذ يناقش أستاذه، وقد يخالفه ويرد عليه، ولكن موقف هؤلاء من الفكر الغربي هو التبعية والعبودية، التي ترى أن كل ما يؤمن به الغرب هو الحق، وكل ما يقوله فهو صدق، وكل ما يفعله فهو جميل ! ويستوي في هذا عبيد اليمين وعبيد اليسار، فمنبع الجميع واحد، وكلهم فرع من الشجرة الملعونة في القرآن والتوراة والإنجيل: شجرة المادية الخبيثة التي تفرغ الإنسان من الروح، والحياة من الإيمان، والمجتمع من هداية الله؛ وقد كشف زيف هؤلاء من أدعياء التجديد أستاذنا الدكتور محمد البهي - رحمه الله - في كتابه القيم " الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي "
المجدد الحقيقي هو الذي يجدد الدين بالدين وللدين، أما من يريد تجديد الدين من خارجه، أي: بمفاهيم مستوردة وأفكار دخيلة، ويجدده لمصلحة الغرب أو الشرق فهو أبعد ما يكون عن التجديد الحق . .
تعليق