السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحكم الشرعيّ في صلاة الجماعة الثانية في المسجد:
السؤال:
ما الحكم الشرعيّ في صلاة الجماعة الثانية في المسجد؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب:
اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعةالثانية، ولكن قبل ذكر الخلاف، وبيان الراجح والمرجوح، لا بدّ من تحديد الجماعةالّتي اختلفوا فيها.
موضع الخلاف هو في جماعة تقام في مسجد له إمام راتبومؤذّن راتب، أمّا الجماعات الّتي تقام في أيّ مكان:
في دار، أو مسجد طريق، أودكّان؛ فلا مانع من تكرار هذه الجماعة في هذه المواطن.
ويأخذ العلماء الّذين يقولون بكراهة تعدّد الجماعة في مثل هذا المسجد –الّذي له إمام راتب ومؤذّن راتب- هذا الحكمَ من استدلالين اثنين: أحدهما نقليّ من الشارع، والآخر نظريّ وهو تأمّل الرواية، والحكمة من مشروعيّة صلاة الجماعة.
أمّا النقل:
فقد نظروا فوجدواأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظلّ طيلة حياته يصلّي بالناس جماعة في مسجده، ومعذلك فكان الفرد من أصحابه إذا حضر المسجد وقد فاتته الجماعة صلّى وحده ولم ينتظر،ولم يلتفت يمينًا ويسارٍا كما يفعل الناس اليوم يطلبون شخصًا أو أكثر ليصلّي أحدهمبهم إمامًا.
ولم يكن السلف يفعلون شيئًا من هذا؛ فإذا دخل أحدهم المسجد ووجدالناس قد صلّوا صلّى وحده، وهذا ما صرّح به الإمام الشافعيّ في كتابه "الأم ّ" –وكلامه في الواقع من أجمع ما رأيت من كلام الأئمّة في هذه المسألة-
حيث قال:
"وإذادخل جماعةٌ المسجد، فوجدوا الإمام قد صلّى صلّوا فرادى، فإن صلّوا جماعة أجزأتهم صلاتهم، ولكنّي أكره لهم ذلك؛ لأنّه لم يكن من أحوال السلف".
ثمّ قال:
"وأمّا مسجدٌ في قارعة الطريق –ليس له إمامٌ راتب ومؤذّنٌ راتب، فلا بأس من تعدّدالجماعة فيه".
ثمّ قال:
"وإنّا قد حفظنا أنّ جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاتتهم صلاة مع الجماعة، فصلّوا فرادى مع أنّهم كانوا قادرين علىأن يجمعوا فيه مرّة أخرى، لكنّهم لم يفعلوا؛ لأنّهم كرهوا أن يجمعوا في مسجدٍمرّتين"
.
هذا كلام الإمام الشافعيّ، وما ذكره من أنّ الصحابة كانوا يصلّونفرادى إذا فاتتهم صلاة الجماعة ذكره معلّقًا بصيغة الجزم لهذا المعلَّق، ووصلهالحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه المشهور "المصنّف" رواه بإسنادٍ قويٍّ عنالحسن البصريّ أنّ الصحابة كانوا إذا فاتتهم الصلاة مع الجماعة صلّوافرادى.
وذكر هذا المعنى ابن القاسم في
"مدوّنة الإمام مالك"
عن جماعة منالسلف، كنافع مولى ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وغيرهما؛
أنّهم كانوا إذا فاتتهمالصلاة صلّوا فرادى ولم يعيدوها جماعة مرّة أخرى.
وأيضًا روى الإمام الطبرانيّ في
"معجمه الكبير"
بإسنادٍ جيّدٍ عن ابن مسعود أنّه خرج مع صاحبين له منبيته إلى المسجد لصلاة الجماعة، وإذا به يرى الناس يخرجون من المسجد وقد انتهوامنها، فعاد وصلّى بهما إمامًا في بيته؛
فرجوع ابن مسعود –وهو مَن هو في صحبتهللرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي معرفته وفقهه للإسلام- لو كان يعلم مشروعيّةتعدّد الجماعات في المسجد الواحد لدخل بصاحبيه وصلّى بهما جماعة؛ لأنّه يعلم قولالرسول صلّى الله عليه وسلّم "أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة".
". فما الّذي منع ابن مسعود أن يصلّي هذه المكتوبة في المسجد؟
عِلْمُهُ أنّه إن صلّاهافي المسجد فسيصلّيها وحده، فرأى أن يجمع بهما في بيته أفضل من أن يصلّي هو ومن معه،كلٌّ على انفرادٍ في المسجد.
فهذه المجموعة من النُقول تؤيّد وجهة نظر الجمهورالّذين كرهوا تعدّد الجماعة في المسجد الموصوف بالصيغة السابقة.
ثمّ لا يعدم الإنسان أن يجد أدلّةً أخرى مع شيء من الاستنباط والنظر الدقيق فيها،
فقد روى الإمامان البخاريُّ ومسلمٌ من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
لقد هممت أن آمر رجلًا فيصلّي بالناس، ثمّ أمر رجالًا فيحتطبون حطبًا، ثمّأخالف إلى أناس يَدَعون الصلاة مع الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم، والّذي نفس محمّدبيده، لو يعلم أحدهم أنّه يجد في المسجد مرماتين حسنتين لشهدهما"؛
ففي هذا الحديث تهديد الرسول صلّى الله عليه وسلّم المتخلّفين عن حضور صلاة الجماعة في المسجدبالتحريق بالنار، فأنا أرى أنّ هذا الحديث وحده يشعرنا بالحكم السابق، أو يشعرنابما ذكر الإمام الشافعيّ ووصله ابن أبي شيبة؛ وهو أنّ الصحابة لم يكونوا يكرّرون الصلاة جماعةً في المسجد، ثمّ جاء هذا الوعيد الشديد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمتخلّفين عن صلاة الجماعة، فأيّ جماعة هذه الّتي هم يتخلّفون عنها، ويترتّب على تخلّفهم عنها هذا الوعيد الشديد؟
فإن قيل:
هي الجماعة الأولى.
قيل:
إذن هذه الجماعة الأخرى غير مشروعة.
وإن قيل:
إنّ هذا الوعيد إنّما يشمل المتخلّف عنكلّ جماعة مهما كان رقمها التسلسليّ، حينئذٍ لم تقم الحجّة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطلقًا عن أيّ متخلّفٍ عن أيّ جماعةٍ؛
لأنّه لو فاجأ بعض المتخلّفين حينما أناب عنه، فجاء إلى بيوتهم فوجدهم يلهون مع نسائهم وأولادهم فأنكر عليهم: لماذا لا تذهبون للصلاة مع الجماعة؟.
فيقولون:
نصلّي مع الجماعة الثانية أوالثالثة، فهل تقوم حجّة للرسول صلّى الله عليه وسلّم عليهم؟ لذلك فإنّ همّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإنابة شخصٍ يقوم مقامه وأن يفاجئ المتخلّفين عن صلاة الجماعةفيحرق عليهم بيوتهم؛ لأكبر دليل على أنّه لم يكن هناك جماعة ثانيةٌ إطلاقًا.
هذابالنسبة إلى النقول الّتي اعتمد عليها العلماء.
أمّا النظر؛
فهو على الوجه الآتي:
صلاة الجماعة قد جاء في فضلها أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور: "صلاةالجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين –وفي رواية: بسبع وعشرين- درجة"، فهذه الفضيلةإنّما جاءت لصلاة الجماعة.
وجاء في بعض الأحاديث
" أنّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى عند الله من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى عند الله من صلاته مع الرجل"
،وهكذا كلّما كثرت الجماعة وأفرادها تضاعف أجرها عند ربّها.
فإذا تذكّرنا هذاالمعنى ثمّ نظرنا عاقبة القول بجواز تكرار الجماعة في المسجد الّذي له إمام راتب،فإنّ هذه العاقبة أسوأ عاقبة بالنسبة لمثل هذا الحكم الإسلاميّ ألا وهو صلاةالجماعة؛
ذلك لأنّ القول بتكرار الجماعة سيؤدّي إلى تقليل عدد الجماعة الأولى، وهذاينقض الحثّ الّذي يفيده حديث:
"صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده..."؛
لأنّ هذا الحديث يحضّ على تكثير الجماعة، والقول بتكرار الجماعة في المسجد يؤدّي –بالضرورة- إلى تقليل عدد أفراد الجماعة الشرعيّة الأولى، وتفريق وحدةالمسلمين.
وشيء آخر يقتضيه النظر السليم وهو أن نتذكّر أنّ حديث ابن مسعودفي صحيح مسلم نحو حديث أبي هريرة:
"لقد هممت أن آمر رجلًا فيصلّى بالناس....إلىآخره"، جاء هذا الحديث في حقّ المتخلّفين عن صلاة الجمعة،
فإذا علمنا أنّ ابن مسعود صبّ وعيدًا من نوع واحد على كلّ من يتخلّف عن صلاة الجمعة، وعن صلاة الجماعة، حينئذنعرف أنّ هاتين الصلاتين من حيث التصاقهما بصلاة الجماعة فإنّ هذا الوعيد يعني أنلا جماعة ثانية بعد كلّ من الصلاتين؛
فصلاة الجمعة –حتّى الآن- حافظ على وحدتهاوعلى عدم القول بمشروعيّة تعدّدها في المسجد الواحد جميعُ العلماء على اختلاف مذاهبهم، لذلك تجد المساجد غاصّة بالمصلّين يوم الجمعة،
وإن كان لا يفوتنا أن نتذكّر أنّ من أسباب امتلاء المساجد يوم الجمعة هو أنّ هناك من يحضر الجمعة ولايحضر الصلوات الأخرى، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ امتلاء المساجد يوم الجمعةبالمصلّين سببه أنّ المسلمين لم يتعوّدوا –والحمد لله- أن يكرّروا صلاة الجمعة في المسجد الواحد، فلو أنّ المسلمين عاملوا صلاة الجماعة كما عاملوا صلاة الجمعة وكماكان الأمر عليه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكادت المساجد أن تمتلئ بالمصلّين؛ لأنّ كلّ حريص على الجماعة سيكون قائمًا في ذهنه أنّه إن فاتته الصلاةالأولى، فلا يمكن له أن يتداركها فيما بعد،
فيكون هذا الاعتقاد حافزًا له على الحرص الشديد على صلاة الجماعة، والعكس بالعكس تمامًا، إذا قام في نفس المسلم أنّه إنفاتته هذه الجماعة الأولى فيوجد جماعة ثانية وثالثة...وعاشرة أحيانًا، فهذا ممّاسيضعف همّته وحرصه على الحضور للجماعة الأولى.
بقي لدينا أمران اثنان:
الأوّل:
أن نبيّن أنّ الّذين ذهبوا إلى عدم مشروعيّة الجماعة الثانية علىالتفصيل السابق، وكراهة فعلها، هم جمهور الأئمّة من السلف، وفيهم الأئمّة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعيّ، والإمام أحمد معهم في رواية، لكن هذه الرواية غير مشهورة عند أتباعه اليوم، وإن كان ذكرها أخصّ تلامذته وهو أبو داود السجستانيّ؛ فقدروى عنه في كتاب "مسائل الإمام أحمد" أنّه قال:
"إنّ تكرار الجماعة في المسجدين الحرمين أشدّ كراهة"،
فهذا –من باب التفضيل- يشعرنا بأنّ الكراهة في المساجد الأخرى موجودة بتكرار الجماعة، ولكنّها أشدّ في المسجدين، وهو في هذه الرواية يلتقي مع الأئمّة الثلاثة.
الثاني:
أنّ الرواية الأخرى عن الإمام أحمد والمشهورة عن أتباعه فعمدته فيها هو ومن تابعه من المفسّرين: حديثٌ يرويه الترمذيّ والإمام أحمدوغيرهما من حديث أبي سعيد الخدريّ أنّ رجلًا دخل المسجد والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد صلّى وحوله أصحابه، فأراد هذا الرجل أن يصلّي، فقال عليه الصلاة والسلام:
"ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه"،
وفي رواية لأبي بكر البيهقيّ في "سننه الكبرى":
أنّ هذا الرجل هو أبو بكر الصدّيق، لكنّ هذه الرواية في إسنادها ضعف،والرواية الصحيحة لم يُسَمَّ فيها الرجل،
فقد احتجّوا بهذا الحديث وقالوا:
إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقرّ الجماعة الثانية!
والجواب على هذا الاستدلال هو أن نلاحظ أنّ الجماعة الّتي تضمّنها الحديث هي غير الجماعة الّتي يجري حولهاالسؤال، فإنّ الجماعة الّتي تضمّنها الحديث هي جماعة إنسان دخل المسجد بعد الجماعةالأولى، ويريد أن يصلّي وحده، فحضّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه الّذين كانوا قد صلّوا معه أن يقوم أحدهم فيتطوّع ويصلّي نافلة، ففعل، وكذلك وقع؛ فهذه الجماعة مؤلّفة من شخصين:
إمام ومأموم، الإمام مفترض والمأموم متنفّل، فمن هو الّذي عقد هذه الجماعة؟ لولا المتنفّل ما كان هناك جماعة، إذن هذه جماعة تطوّع وتنفّل،وليست جماعة فريضة، والخلاف إنّما يدور حول جماعة فريضة ثانية، ولهذا فإنّ الاستدلال بحديث أبي سعيد على موضع النزاع غير صحيح،
والّذي يؤكّد هذا أنّ الحديث يقول:
"ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه"، وهذه الحادثة –الّتي وقعت- فيهامتصدِّق، وفيها متصدَّقٌ عليه، فلو سألنا أقلّ الناس فهمًا وعلمًا: مَن المتصدِّق؟ومَن المتصدَّق عليه؟ سيكون الجواب: المتصدِّق هو المتنفّل الّذي صلّى الفريضة وراءرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمتصدَّق عليه هو الّذي جاءمتأخّرًا.
السؤال نفسه إذا طرحناه في الجماعة الّتي هي موضع النزاع: دخل ستّة أو سبعة المسجد، فوجدوا الإمام قد صلّى فأمّهم أحدهم وصلّى بهم جماعة ثانية،فمَن هو المتصدِّق من هؤلاء، ومن هو المتصدَّق عليه؟ لا أحد يستطيع أن يقول كمااستطاع أن يقول في الصورة الأولى، فهذه الجماعة الّتي دخلت بعد صلاة الإمام كلّهم يصلّي فرض الوقت، ليس هناك متصدِّق ولا متصدَّق عليه،
وسرّ هذا واضح في الصورةالأولى: المتصدّق هو الرجل المتنفّل الّذي صلّى وراء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكتبت صلاته بسبع وعشرين درجة، فهو إذن غنيّ وبإمكانه أن يتصدّق على غيره، والّذي صلّى إمامًا –ولولا ذلك المتصدِّق عليه لصلّى وحيدًا- فقير، وهو بحاجة إلى من يتصدّق عليه؛ لأنّه لم يكتسب ما اكتسب المتصدِّق عليه .
وواضح سبب كون هذامتصدِّقًا وهذا متصدَّقًا عليه، أمّا في صورة النزاع فالصورة غير واضحة؛ لأنّهم كلّهم فقراء، كلّهم فاتتهم فضيلة الجماعة الأولى فلا ينطبق قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
"ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه"، فعلى مثل هذه الحالة لا يصحّ الاستدلال بهذه الحادثة، ولا على هذه المسألة الّتي هي موضع البحث.
ونضمّ جهة أخرى من استدلالهم هي قوله عليه الصلاة والسلام:
"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّبسبع وعشرين درجة"، فاستدلّوا بإطلاق؛ أي أنّهم فهموا أنّ (أل) في كلمة (الجماعة) للشمول؛ أي أنّ كلّ صلاة جماعة في المسجد تفضل صلاة الفذّ،
ونحن نقول بناءً على الأدلّة السابقة: إنّ (أل) هذه ليست للشمول، وإنّما هي للعهد، أي أنّ صلاة الجماعةالّتي شرعها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وحضّ الناس عليها، وأمر الناس بها، وهدّدالمتخلّفين عنها بحرق بيوتهم، ووصف من تخلّف عنها بأنّه من المنافقين – هي صلاةالجماعة الّتي تَفْضُلُ صلاة الفذّ، وهي الجماعة الأولى،
والله تعالى أعلم.
الحكم الشرعيّ في صلاة الجماعة الثانية في المسجد:
السؤال:
ما الحكم الشرعيّ في صلاة الجماعة الثانية في المسجد؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب:
اختلف الفقهاء في حكم صلاة الجماعةالثانية، ولكن قبل ذكر الخلاف، وبيان الراجح والمرجوح، لا بدّ من تحديد الجماعةالّتي اختلفوا فيها.
موضع الخلاف هو في جماعة تقام في مسجد له إمام راتبومؤذّن راتب، أمّا الجماعات الّتي تقام في أيّ مكان:
في دار، أو مسجد طريق، أودكّان؛ فلا مانع من تكرار هذه الجماعة في هذه المواطن.
ويأخذ العلماء الّذين يقولون بكراهة تعدّد الجماعة في مثل هذا المسجد –الّذي له إمام راتب ومؤذّن راتب- هذا الحكمَ من استدلالين اثنين: أحدهما نقليّ من الشارع، والآخر نظريّ وهو تأمّل الرواية، والحكمة من مشروعيّة صلاة الجماعة.
أمّا النقل:
فقد نظروا فوجدواأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظلّ طيلة حياته يصلّي بالناس جماعة في مسجده، ومعذلك فكان الفرد من أصحابه إذا حضر المسجد وقد فاتته الجماعة صلّى وحده ولم ينتظر،ولم يلتفت يمينًا ويسارٍا كما يفعل الناس اليوم يطلبون شخصًا أو أكثر ليصلّي أحدهمبهم إمامًا.
ولم يكن السلف يفعلون شيئًا من هذا؛ فإذا دخل أحدهم المسجد ووجدالناس قد صلّوا صلّى وحده، وهذا ما صرّح به الإمام الشافعيّ في كتابه "الأم ّ" –وكلامه في الواقع من أجمع ما رأيت من كلام الأئمّة في هذه المسألة-
حيث قال:
"وإذادخل جماعةٌ المسجد، فوجدوا الإمام قد صلّى صلّوا فرادى، فإن صلّوا جماعة أجزأتهم صلاتهم، ولكنّي أكره لهم ذلك؛ لأنّه لم يكن من أحوال السلف".
ثمّ قال:
"وأمّا مسجدٌ في قارعة الطريق –ليس له إمامٌ راتب ومؤذّنٌ راتب، فلا بأس من تعدّدالجماعة فيه".
ثمّ قال:
"وإنّا قد حفظنا أنّ جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاتتهم صلاة مع الجماعة، فصلّوا فرادى مع أنّهم كانوا قادرين علىأن يجمعوا فيه مرّة أخرى، لكنّهم لم يفعلوا؛ لأنّهم كرهوا أن يجمعوا في مسجدٍمرّتين"
.
هذا كلام الإمام الشافعيّ، وما ذكره من أنّ الصحابة كانوا يصلّونفرادى إذا فاتتهم صلاة الجماعة ذكره معلّقًا بصيغة الجزم لهذا المعلَّق، ووصلهالحافظ أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه المشهور "المصنّف" رواه بإسنادٍ قويٍّ عنالحسن البصريّ أنّ الصحابة كانوا إذا فاتتهم الصلاة مع الجماعة صلّوافرادى.
وذكر هذا المعنى ابن القاسم في
"مدوّنة الإمام مالك"
عن جماعة منالسلف، كنافع مولى ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وغيرهما؛
أنّهم كانوا إذا فاتتهمالصلاة صلّوا فرادى ولم يعيدوها جماعة مرّة أخرى.
وأيضًا روى الإمام الطبرانيّ في
"معجمه الكبير"
بإسنادٍ جيّدٍ عن ابن مسعود أنّه خرج مع صاحبين له منبيته إلى المسجد لصلاة الجماعة، وإذا به يرى الناس يخرجون من المسجد وقد انتهوامنها، فعاد وصلّى بهما إمامًا في بيته؛
فرجوع ابن مسعود –وهو مَن هو في صحبتهللرسول صلّى الله عليه وسلّم، وفي معرفته وفقهه للإسلام- لو كان يعلم مشروعيّةتعدّد الجماعات في المسجد الواحد لدخل بصاحبيه وصلّى بهما جماعة؛ لأنّه يعلم قولالرسول صلّى الله عليه وسلّم "أفضل صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة".
". فما الّذي منع ابن مسعود أن يصلّي هذه المكتوبة في المسجد؟
عِلْمُهُ أنّه إن صلّاهافي المسجد فسيصلّيها وحده، فرأى أن يجمع بهما في بيته أفضل من أن يصلّي هو ومن معه،كلٌّ على انفرادٍ في المسجد.
فهذه المجموعة من النُقول تؤيّد وجهة نظر الجمهورالّذين كرهوا تعدّد الجماعة في المسجد الموصوف بالصيغة السابقة.
ثمّ لا يعدم الإنسان أن يجد أدلّةً أخرى مع شيء من الاستنباط والنظر الدقيق فيها،
فقد روى الإمامان البخاريُّ ومسلمٌ من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
لقد هممت أن آمر رجلًا فيصلّي بالناس، ثمّ أمر رجالًا فيحتطبون حطبًا، ثمّأخالف إلى أناس يَدَعون الصلاة مع الجماعة فأحرّق عليهم بيوتهم، والّذي نفس محمّدبيده، لو يعلم أحدهم أنّه يجد في المسجد مرماتين حسنتين لشهدهما"؛
ففي هذا الحديث تهديد الرسول صلّى الله عليه وسلّم المتخلّفين عن حضور صلاة الجماعة في المسجدبالتحريق بالنار، فأنا أرى أنّ هذا الحديث وحده يشعرنا بالحكم السابق، أو يشعرنابما ذكر الإمام الشافعيّ ووصله ابن أبي شيبة؛ وهو أنّ الصحابة لم يكونوا يكرّرون الصلاة جماعةً في المسجد، ثمّ جاء هذا الوعيد الشديد من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمتخلّفين عن صلاة الجماعة، فأيّ جماعة هذه الّتي هم يتخلّفون عنها، ويترتّب على تخلّفهم عنها هذا الوعيد الشديد؟
فإن قيل:
هي الجماعة الأولى.
قيل:
إذن هذه الجماعة الأخرى غير مشروعة.
وإن قيل:
إنّ هذا الوعيد إنّما يشمل المتخلّف عنكلّ جماعة مهما كان رقمها التسلسليّ، حينئذٍ لم تقم الحجّة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مطلقًا عن أيّ متخلّفٍ عن أيّ جماعةٍ؛
لأنّه لو فاجأ بعض المتخلّفين حينما أناب عنه، فجاء إلى بيوتهم فوجدهم يلهون مع نسائهم وأولادهم فأنكر عليهم: لماذا لا تذهبون للصلاة مع الجماعة؟.
فيقولون:
نصلّي مع الجماعة الثانية أوالثالثة، فهل تقوم حجّة للرسول صلّى الله عليه وسلّم عليهم؟ لذلك فإنّ همّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بإنابة شخصٍ يقوم مقامه وأن يفاجئ المتخلّفين عن صلاة الجماعةفيحرق عليهم بيوتهم؛ لأكبر دليل على أنّه لم يكن هناك جماعة ثانيةٌ إطلاقًا.
هذابالنسبة إلى النقول الّتي اعتمد عليها العلماء.
أمّا النظر؛
فهو على الوجه الآتي:
صلاة الجماعة قد جاء في فضلها أحاديث كثيرة منها الحديث المشهور: "صلاةالجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين –وفي رواية: بسبع وعشرين- درجة"، فهذه الفضيلةإنّما جاءت لصلاة الجماعة.
وجاء في بعض الأحاديث
" أنّ صلاة الرجل مع الرجل أزكى عند الله من صلاته وحده وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى عند الله من صلاته مع الرجل"
،وهكذا كلّما كثرت الجماعة وأفرادها تضاعف أجرها عند ربّها.
فإذا تذكّرنا هذاالمعنى ثمّ نظرنا عاقبة القول بجواز تكرار الجماعة في المسجد الّذي له إمام راتب،فإنّ هذه العاقبة أسوأ عاقبة بالنسبة لمثل هذا الحكم الإسلاميّ ألا وهو صلاةالجماعة؛
ذلك لأنّ القول بتكرار الجماعة سيؤدّي إلى تقليل عدد الجماعة الأولى، وهذاينقض الحثّ الّذي يفيده حديث:
"صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده..."؛
لأنّ هذا الحديث يحضّ على تكثير الجماعة، والقول بتكرار الجماعة في المسجد يؤدّي –بالضرورة- إلى تقليل عدد أفراد الجماعة الشرعيّة الأولى، وتفريق وحدةالمسلمين.
وشيء آخر يقتضيه النظر السليم وهو أن نتذكّر أنّ حديث ابن مسعودفي صحيح مسلم نحو حديث أبي هريرة:
"لقد هممت أن آمر رجلًا فيصلّى بالناس....إلىآخره"، جاء هذا الحديث في حقّ المتخلّفين عن صلاة الجمعة،
فإذا علمنا أنّ ابن مسعود صبّ وعيدًا من نوع واحد على كلّ من يتخلّف عن صلاة الجمعة، وعن صلاة الجماعة، حينئذنعرف أنّ هاتين الصلاتين من حيث التصاقهما بصلاة الجماعة فإنّ هذا الوعيد يعني أنلا جماعة ثانية بعد كلّ من الصلاتين؛
فصلاة الجمعة –حتّى الآن- حافظ على وحدتهاوعلى عدم القول بمشروعيّة تعدّدها في المسجد الواحد جميعُ العلماء على اختلاف مذاهبهم، لذلك تجد المساجد غاصّة بالمصلّين يوم الجمعة،
وإن كان لا يفوتنا أن نتذكّر أنّ من أسباب امتلاء المساجد يوم الجمعة هو أنّ هناك من يحضر الجمعة ولايحضر الصلوات الأخرى، ولكن ممّا لا شكّ فيه أنّ امتلاء المساجد يوم الجمعةبالمصلّين سببه أنّ المسلمين لم يتعوّدوا –والحمد لله- أن يكرّروا صلاة الجمعة في المسجد الواحد، فلو أنّ المسلمين عاملوا صلاة الجماعة كما عاملوا صلاة الجمعة وكماكان الأمر عليه في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لكادت المساجد أن تمتلئ بالمصلّين؛ لأنّ كلّ حريص على الجماعة سيكون قائمًا في ذهنه أنّه إن فاتته الصلاةالأولى، فلا يمكن له أن يتداركها فيما بعد،
فيكون هذا الاعتقاد حافزًا له على الحرص الشديد على صلاة الجماعة، والعكس بالعكس تمامًا، إذا قام في نفس المسلم أنّه إنفاتته هذه الجماعة الأولى فيوجد جماعة ثانية وثالثة...وعاشرة أحيانًا، فهذا ممّاسيضعف همّته وحرصه على الحضور للجماعة الأولى.
بقي لدينا أمران اثنان:
الأوّل:
أن نبيّن أنّ الّذين ذهبوا إلى عدم مشروعيّة الجماعة الثانية علىالتفصيل السابق، وكراهة فعلها، هم جمهور الأئمّة من السلف، وفيهم الأئمّة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعيّ، والإمام أحمد معهم في رواية، لكن هذه الرواية غير مشهورة عند أتباعه اليوم، وإن كان ذكرها أخصّ تلامذته وهو أبو داود السجستانيّ؛ فقدروى عنه في كتاب "مسائل الإمام أحمد" أنّه قال:
"إنّ تكرار الجماعة في المسجدين الحرمين أشدّ كراهة"،
فهذا –من باب التفضيل- يشعرنا بأنّ الكراهة في المساجد الأخرى موجودة بتكرار الجماعة، ولكنّها أشدّ في المسجدين، وهو في هذه الرواية يلتقي مع الأئمّة الثلاثة.
الثاني:
أنّ الرواية الأخرى عن الإمام أحمد والمشهورة عن أتباعه فعمدته فيها هو ومن تابعه من المفسّرين: حديثٌ يرويه الترمذيّ والإمام أحمدوغيرهما من حديث أبي سعيد الخدريّ أنّ رجلًا دخل المسجد والرسول صلّى الله عليه وسلّم قد صلّى وحوله أصحابه، فأراد هذا الرجل أن يصلّي، فقال عليه الصلاة والسلام:
"ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه"،
وفي رواية لأبي بكر البيهقيّ في "سننه الكبرى":
أنّ هذا الرجل هو أبو بكر الصدّيق، لكنّ هذه الرواية في إسنادها ضعف،والرواية الصحيحة لم يُسَمَّ فيها الرجل،
فقد احتجّوا بهذا الحديث وقالوا:
إنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أقرّ الجماعة الثانية!
والجواب على هذا الاستدلال هو أن نلاحظ أنّ الجماعة الّتي تضمّنها الحديث هي غير الجماعة الّتي يجري حولهاالسؤال، فإنّ الجماعة الّتي تضمّنها الحديث هي جماعة إنسان دخل المسجد بعد الجماعةالأولى، ويريد أن يصلّي وحده، فحضّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه الّذين كانوا قد صلّوا معه أن يقوم أحدهم فيتطوّع ويصلّي نافلة، ففعل، وكذلك وقع؛ فهذه الجماعة مؤلّفة من شخصين:
إمام ومأموم، الإمام مفترض والمأموم متنفّل، فمن هو الّذي عقد هذه الجماعة؟ لولا المتنفّل ما كان هناك جماعة، إذن هذه جماعة تطوّع وتنفّل،وليست جماعة فريضة، والخلاف إنّما يدور حول جماعة فريضة ثانية، ولهذا فإنّ الاستدلال بحديث أبي سعيد على موضع النزاع غير صحيح،
والّذي يؤكّد هذا أنّ الحديث يقول:
"ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه"، وهذه الحادثة –الّتي وقعت- فيهامتصدِّق، وفيها متصدَّقٌ عليه، فلو سألنا أقلّ الناس فهمًا وعلمًا: مَن المتصدِّق؟ومَن المتصدَّق عليه؟ سيكون الجواب: المتصدِّق هو المتنفّل الّذي صلّى الفريضة وراءرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمتصدَّق عليه هو الّذي جاءمتأخّرًا.
السؤال نفسه إذا طرحناه في الجماعة الّتي هي موضع النزاع: دخل ستّة أو سبعة المسجد، فوجدوا الإمام قد صلّى فأمّهم أحدهم وصلّى بهم جماعة ثانية،فمَن هو المتصدِّق من هؤلاء، ومن هو المتصدَّق عليه؟ لا أحد يستطيع أن يقول كمااستطاع أن يقول في الصورة الأولى، فهذه الجماعة الّتي دخلت بعد صلاة الإمام كلّهم يصلّي فرض الوقت، ليس هناك متصدِّق ولا متصدَّق عليه،
وسرّ هذا واضح في الصورةالأولى: المتصدّق هو الرجل المتنفّل الّذي صلّى وراء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وكتبت صلاته بسبع وعشرين درجة، فهو إذن غنيّ وبإمكانه أن يتصدّق على غيره، والّذي صلّى إمامًا –ولولا ذلك المتصدِّق عليه لصلّى وحيدًا- فقير، وهو بحاجة إلى من يتصدّق عليه؛ لأنّه لم يكتسب ما اكتسب المتصدِّق عليه .
وواضح سبب كون هذامتصدِّقًا وهذا متصدَّقًا عليه، أمّا في صورة النزاع فالصورة غير واضحة؛ لأنّهم كلّهم فقراء، كلّهم فاتتهم فضيلة الجماعة الأولى فلا ينطبق قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم:
"ألا رجل يتصدّق على هذا فيصلّي معه"، فعلى مثل هذه الحالة لا يصحّ الاستدلال بهذه الحادثة، ولا على هذه المسألة الّتي هي موضع البحث.
ونضمّ جهة أخرى من استدلالهم هي قوله عليه الصلاة والسلام:
"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّبسبع وعشرين درجة"، فاستدلّوا بإطلاق؛ أي أنّهم فهموا أنّ (أل) في كلمة (الجماعة) للشمول؛ أي أنّ كلّ صلاة جماعة في المسجد تفضل صلاة الفذّ،
ونحن نقول بناءً على الأدلّة السابقة: إنّ (أل) هذه ليست للشمول، وإنّما هي للعهد، أي أنّ صلاة الجماعةالّتي شرعها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وحضّ الناس عليها، وأمر الناس بها، وهدّدالمتخلّفين عنها بحرق بيوتهم، ووصف من تخلّف عنها بأنّه من المنافقين – هي صلاةالجماعة الّتي تَفْضُلُ صلاة الفذّ، وهي الجماعة الأولى،
والله تعالى أعلم.
تعليق