فَرَائِضُ الوُضُوءِ:
اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الوَجْهِ وَاليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحَ الرَّأْسَ، وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إلى الكَعْبَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ؛ فَفَرَائِضُ الوُضُوءِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ:
أولاً: غَسْلُ الوَجْهِ بِكَامِلِهِ:
اتَفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الوَجْهِ مَرَّةً مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾.
وروى النسائي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَاسْتَنْشَقَ وَمَضْمَضَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وروى البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَاسْتَنْشَقَ وَمَضْمَضَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَصَبَّ عَلَى وَجْهِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الوَجْهِ بِكَامِلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَحَدُّ الوَجْهِ مِنْ مَبْدَأِ سَطْحِ الجَبْهَةِ إلى أَسْفَلِ الذَّقْنِ، وَمَا بَيْنَ شَحْمَتَيِ الأُذُنَيِنِ.
وَمَعْنَى الغَسْلِ: إِسَالَةُ المَاءِ عَلَى العُضْوِ بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ المَاءُ، وَأَقَلُّ التَّقَاطُرِ قَطْرَتَيْنِ.
وَيُفْتَرَضُ غَسْلُ الحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبَيْنِ، شَعْرَاً وَبَشَرَاً، ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّعْرُ خَفِيفَاً أَو كَانَ كَثِيفَاً.
أَمَّا اللِّحْيَةُ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً تُرَى بَشَرَتُهَا فَيُفْتَرَضُ إِيصَالُ المَاءِ إلى بَشَرَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لَا تُرَى بَشَرَتُهَا، فَيُفْتَرَضُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا، وَلَا يَجِبُ إِيصَالُ المَاءِ إلى بَشَرَتِهَا.
وَالمُسْتَرْسَلُ مِنَ اللِّحْيَةِ الخَارِجُ عَنْ دَائِرَةِ الوَجْهِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُسَمَّى الوَجْهِ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ في أَصَحِّ القَوْلَيْنِ.
وَلَا يَجِبُ إِيصَالُ المَاءِ إلى مَا انْكَتَمَ مِنَ الشَّفَتَيْنِ عِنْدَ الانْضِمَامِ المُعْتَادِ، لِأَنَّ المُنْضَمَّ تَبَعٌ للفَمِ، كَمَا لَا يَجِبُ إِيصَالُ المَاءِ أَيْضَاً إلى بَاطِنِ العَيْنَيْنِ، وَلَو في الغَسْلِ للضَّرَرِ.
ثانياً: غَسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ:
اتَفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الوُضُوءِ، وَفَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾.
وروى الإمام مسلم عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ..... ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ.
وَهَذَا مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى وُجُوبِ غَسْلِ المِرْفَقَيْنِ مَعَ اليَدَيْنِ، لِأَنَّ اليَدَ تَشْمَلُ الكَفَّ، وَالرُّسْغَ، وَالذِّرَاعَ، وَالمِرْفَقَ، وَالعَضُدَ، وَعِنْدَمَا جَاءَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ أَسْقَطَ مَا وَرَاءَهَا.
وروى الدارقطني والبيهقي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدْارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ.
وروى الإمام مسلم عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ.
ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ.
وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْباغِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ».
ثالثاً: مَسْحُ الرَّأْسِ:
اتَفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ في الوُضُوءِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾. وروى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَهُوَ يَصِفُ وُضُوءَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ.
وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَالمَسْحُ هُوَ إِمْرَارُ اليَدِ المُبْتَلَّةِ بِالمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ بِلَا تَسْيِيلٍ.
وَالرَّأْسُ يَشْمَلُ النَّاصِيَةَ ـ مُقَدَّمَ الرَّأْسِ ـ وَالقَذَالَ ـ مُؤَخَّرَ الرَّأْسِ ـ وَالفَوْدَيْنِ ـ جَانِبَا الرَّأْسِ ـ.
الفَوْدُ: مُعْظَمُ شَعْرِ الرَّأْسِ مِمَّا يَلِي الأُذُنَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في المِقْدَارِ المَفْرُوضِ مَسْحُهُ:
1ـ أَمَّا الحَنَفِيَّةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِهِمْ فِيهَا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قُدِّرَ بِمِقْدَارِ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ اليَدِ.
وَذَكَرَ الكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَهُ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضَاً عَنْ أَحْمَدَ.
وَأَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِرُبُعِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا المَالِكيَّةُ، فَقَدْ أَوْجَبُوا مَسْحَ الكُلِّ، وَاسْتِيعَابَ الرَّأْسِ بِالمَسْحِ، وَهُوَ الظّاهِرُ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ.
دَلِيلُهُمَا أَنَّ البَاءَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾. زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ﴾. في آيَةِ التَّيَمُّمِ، فَالاتِّفَاقُ قَائِمٌ في التَّيَمُّمِ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: إِنَّ المَفْرُوضَ مَا يُسَمَّى مَسْحَاً قَلَّ أَو كَثُرَ، وَلَو شَعْرَةً أَو شَعَرَاتٍ.
دَلِيلُهُمْ: أَنَّ البَاءَ هُنَا للتَّبْعِيضِ، وَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى القَلِيلِ وَالكَثِيرِ.
وَدَلِيلُ الحَنَفِيَّةِ: أَنَّ البَاءَ للإِلْصَاقِ، وَيَكُونُ المَعْنَى: امْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ مُلْصَقَةً بِرُؤُوسِكُمْ، وَالقَاعِدَةُ أَنَّ البَاءَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى المَمْسُوحِ اقْتَضَتْ اسْتِيعَابَ آلَةِ المَسْحِ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الآلَةِ اقْتَضَتْ اسْتِيعَابَ المَمْسُوحِ، وَهُنَا دَخَلَتْ عَلَى المَمْسُوحِ، فَتَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الآلَةِ وَهِيَ اليَدُ، وَاسْتِيعَابُ اليَدِ لَا يَسْتَغْرِقُ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ الرَّأْسِ، فَيَكُونُ هُوَ المَطْلُوبَ بِالآيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضَاً بِحَدِيثِ الإمام البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُبَاطَةَ (مَوْضِعٌ يُلْقَى فِيهِ الكُنَاسَةُ وَغَيْرُهَا) قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمَاً، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ.
وفي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
وَأَجَابَ الحَنَفِيَّةُ عَلَى اسْتِدْلَالِ المَالِكِيَّةِ بِأَنَّ البَاءَ لَيْسَتْ زَائِدَةً، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ خِلَافُ الأَصْلِ، وَلِأَنَّ الاسْتِيعَابَ في التَّيَمُّمِ لَمْ يَثْبُتْ مِنَ النَّصِّ، بَلْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ المَشْهُورَةِ.
كَمَا أَجَابَ الحَنَفِيَّةُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مَسْحَ شَعْرَةٍ أَو شَعَرَاتٍ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ المَسْحِ.
رابعاً: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلى الكَعْبَيْنِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ إلى أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ الظَّاهِرَتَيْنِ السَّلِيمَتَيْنِ، غَيْرِ المَسْتُورَتَيْنِ بِخُفٍّ أَو جَبِيرَةٍ إلى الكَعْبَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ في حَدِيثٍ سُئِلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الوُضُوءِ، فَقَالَ: ـ «ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ».
وروى الترمذي عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلِ الْأَصَابِعَ».
وروى الترمذي عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الوُضُوءِ؟
قَالَ: «أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ».
فَغَسْلُ القَدَمَيْنِ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَاً. رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فَتَوَاعَدَهَا بِالنَّارِ لِعَدَمِ طَهَارَتِهِمَا، وَلَو كَانَ المَسْحُ كَافِيَاً لَمَا تَوَاعَدَ مَنْ تَرَكَ غَسْلَ عَقِبَيْهِ، كَمَا أَنَّ جَعْلَ الكَعْبَيْنِ غَايَةً للغَسْلِ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ الفَرْضَ هُوَ الغَسْلُ لَا المَسْحُ، لِأَنَّ المَسْحَ لَمْ تُحَدَدْ لَهُ غَايَةٌ في الشَّرْعِ.
وَإِنَّمَا وَلِيَتِ الأَرْجُلُ للرُّؤُوسِ لَا لِأَنَّهَا تُمْسَحُ، بَلْ للتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ المَطْلُوبَ هُوَ الاقْتِصَادُ في صَبِّ المَاءِ عَلَيْهَا، وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلَاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الطُّهُورُ؟
فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَاً، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَاً، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثَاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَاً ثَلَاثَاً.
ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ـ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ ـ» رواه أبو داود.
وَالمَفْرُوضُ في هَذِهِ الأَعْضَاءِ هُوَ الغَسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً، مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ الأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَسُنَّةٌ.
وَالرِّجْلُ تَتَنَاوَلُ القَدَمَ وَالسَّاقَ وَالفَخِذَ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾. أَسْقَطَتْ مَا وَرَاءَ الكَعْبَيْنِ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ في الوُضُوءِ، لَا يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ بَيَانَ المُرَادِ بِالآيَةِ.
وَالكَعْبَانِ: هُمَا العَظْمَانِ النَّاتِئَانِ في الجَانِبَيْنِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ.
>>>>>>>>>>>>>
فَرَائِضُ الوُضُوءِ المُخْتَلَفِ فِيهَا:
ذَكَرْنَا في أَحْكَامَ فَرَائِضِ الوُضُوءِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الفُقَهَاءِ، وَهِيَ غَسْلُ الوَجْهِ، وَغَسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَغَسْلُ القَدَمَيْنِ إلى الكَعْبَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، هَذِهِ الفَرَائِضُ مُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَمُجْمَعٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا.
أَمَّا الفَرَائِضُ المُخْتَلَفُ فِيهَا:
أولاً: النِّيَّةُ:
اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ النِّيَّةِ في الوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ الوُضُوءُ إِلَّا بِهَا، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. وَالإِخْلَاصُ هُوَ عَمَلُ القَلْبِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالأَمْرُ بِهِ يَقْتَضِي الوُجُوبَ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» رواه الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلَيْسَ المُرَادُ صُورَةَ العَمَلِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا المُرَادُ أَنَّ حُكْمَ العَمَلِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الحَدِيثِ: لَا يَكُونُ العَمَلُ شَرْعِيَّاً يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ إِلَّا بِالنِّيَّةِ.
وَلِأَنَّ الوُضُوءَ طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ، فَلَمْ يَصِحَّ بِلَا نِيَّةٍ.
وَلِأَنَّ الوُضُوءَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ فَوَجَبَتْ فِيهِ النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ.
وَخَالَفَ الحَنَفِيَّةُ جُمْهُورَ الفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: النِّيَّةُ في الوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ شَرْطَاً وَلَا فَرْضَاً، بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾. أَمَرَ اللهُ تعالى بِالغَسْلِ وَالمَسْحِ مُطْلَقَاً عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ المُطْلَقِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ عَلَى اسْتِعْمَالِ المُطَهِّرِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ للطَّهَارَةِ، وَالمَاءُ مُطَهِّرٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقَالَ تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورَ"ا﴾.
وَقَالُوا: إِنِ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ عِبَادَةً، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَقَعُ عِبَادَةً، لَكِنَّهُ يَقَعُ وَسِيلَةً إلى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ، فَالوُضُوءُ عِنْدَهُمْ وَسِيلَةٌ للصَّلَاةِ، وَلَيْسَ مَقْصُودَاً لِذَاتِهِ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا بِصِحَّةِ وُضُوءِ المُتَبَرِّدِ، وَالمُنْغَمِسِ في المَاءِ للسِّبَاحَةِ أَو للنَّظَافَةِ، أَو لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ.
ثانياً: المُوَالَاةُ:
المُوَالَاةُ تَعْنِي غَسْلَ الأَعْضَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ، بِحَيْثُ لَا يَجِفُّ العُضْوُ الأَوَّلُ قَبْلَ الشُّرُوعِ في الثَّانِي، وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ المُوَالَاةِ في الوُضُوءِ.
ذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلى أَنَّ المُوَالَاةَ في الوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رواه الإمام مالك عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بَالَ بِالسُّوقِ؛ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ. ثُمَّ دُعِيَ لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا.
وَقَالُوا: التَّفْرِيقُ في غَسْلِ الأَعْضَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنَ امْتِثَالِ الأَمْرِ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
وَلِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ فِي تَطْهِيرٍ فَجَازَ كَالتَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ.
وَذَهَبَ المَالِكِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ إلى القَوْلِ بِوُجُوبِ المُوَالَاةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالآيَةِ الكَرِيمَةِ آيَةِ الوُضُوءِ: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
وَقَالُوا: مُطْلَقُ الأَمْرِ مِنَ اللهِ تعالى يَقْتَضِي الفَوْرَ وَالتَّعْجِيل، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّأْجِيلِ، وَلِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عَلَى الوَلَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَلَاةً إِلَّا بِهِ» يَعْنِي بِمِثْلِهِ في الوَلَاءِ. رواه ابن ماجه عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وروى الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلَاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» فَرَجَعَ، ثُمَّ صَلَّى.
ثالثاً: التَّرْتِيبُ:
التَّرْتِيبُ، وَمَعْنَاهُ تَطْهِيرُ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ وَاحِدَاً بَعْدَ وَاحِدٍ حَسْبَ التَّرْتِيبِ الوَارِدِ في النَّصِّ القُرْآنِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَو سُنَّةٌ؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ إلى أَنَّ التَّرْتِيبَ في الوُضُوءِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالآيَةِ الكَرِيمَةِ، وَقَالُوا: الآيَةُ أَدْخَلَتِ المَسْحَ بَيْنَ الغَسْلَيْنِ، وَقُطِعَ حُكْمُ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ ـ يَعْنِي قُطِعَ غَسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِالمَسْحِ ـ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ إِيجَابَ التَّرْتِيبِ، وَلَو لَمْ يَكُنِ التَّرْتِيبُ وَاجِبَاً لَمَا قُطِعَ النَّظِيرُ عَنْ نَظِيرِهِ.
وَقَالُوا: كُلُّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ مُرَتَّبَاً مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ المَوَاطِنِ التي حَكَوْهَا، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيَانٌ للوُضُوءِ المَأْمُورِ بِهِ في الآيَةِ.
وَقَالُوا: الوُضُوءُ عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ مُتَغَايِرَةٍ يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ.
وَذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ وَالمَالِكِيَّةُ إلى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ، وَلَيْسَ مِنْ أَرْكَانِهِ وَلَا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ آيَةَ الوُضُوءِ، وَأَمَرَ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ، وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالوَاوِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَكَيْفَمَا غَسَلَ المُتَوَضِّئُ أَعْضَاءَهُ كَانَ مُمْتَثِلَاً لِأَمْرِ اللهِ تعالى، وَلَو كَانَ التَّرْتِيبُ مَقْصُودَاً لَعَطَفَهُ بِالفَاءِ، أَو بِثُمَّ.
روى الإمام البخاري عَنْ حُمْرَانَ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَاً وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثَاً، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَقَالُوا: الوُضُوءُ طَهَارَةٌ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا تَرْتِيبٌ كَالجَنَابَةِ، وَكَتَقْدِيمِ اليَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ.
وروى الدارقطنيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أُبَالِي إِذَا أَتْمَمْتُ وُضُوئِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ.
رابعاً: الدَّلْكُ:
الدَّلْكُ، وَمَعْنَاهُ: إِمْرَارُ اليَدِ عَلَى العُضْوِ بَعْدَ صَبِّ المَاءِ عَلَيْهِ وَقَبْلَ جَفَافِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ الدَّلْكِ في الوُضُوءِ، هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ ـ الحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ ـ إلى أَنَّ الدَّلْكَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ، وَقَالُوا: آيَةُ الوُضُوءِ لَمْ تَأْمُرْ بِالدَّلْكِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الدَّلْكُ بِالسُّنَّةِ.
وَلِأَنَّ الذينَ رَوَوُا وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ التَّدْلِيكَ.
وَذَهَبَ المَالِكِيَّةُ إلى أَنَّ التَّدْلِيكَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَقَالُوا: إِنَّ مُجَرَّدَ إِصَابَةِ المَاءِ العُضْوَ لَا يُعَدُّ غَسْلَاً لَهُ، وَقَاسُوا طَهَارَةَ الحَدَثِ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الحَقِيقِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالدَّلْكِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ اسْتِيعَابُ المَاءِ للأَعْضَاءِ المَطْلُوبِ غَسْلُهَا بِمُجَرَّدِ الغَسْلِ فَقَدْ حَصَلَ المَطْلُوبُ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الاسْتِيعَابُ إِلَّا بِالدَّلْكِ عِنْدَهَا يُصْبِحُ الدَّلْكُ وَاجِبَاً، وَخَاصَّةً العَقِبَ في الشِّتَاءِ خَاصَّةً، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
هذا، والله تعالى أعلم.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.
موقع احمد شريف النعسان
اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الوَجْهِ وَاليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحَ الرَّأْسَ، وَغَسْلَ الرِّجْلَيْنِ إلى الكَعْبَيْنِ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ؛ فَفَرَائِضُ الوُضُوءِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ:
أولاً: غَسْلُ الوَجْهِ بِكَامِلِهِ:
اتَفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ الوَجْهِ مَرَّةً مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾.
وروى النسائي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَاسْتَنْشَقَ وَمَضْمَضَ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وروى البيهقي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: تَوَضَّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ فَاسْتَنْشَقَ وَمَضْمَضَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَصَبَّ عَلَى وَجْهِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الوَجْهِ بِكَامِلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَحَدُّ الوَجْهِ مِنْ مَبْدَأِ سَطْحِ الجَبْهَةِ إلى أَسْفَلِ الذَّقْنِ، وَمَا بَيْنَ شَحْمَتَيِ الأُذُنَيِنِ.
وَمَعْنَى الغَسْلِ: إِسَالَةُ المَاءِ عَلَى العُضْوِ بِحَيْثُ يَتَقَاطَرُ المَاءُ، وَأَقَلُّ التَّقَاطُرِ قَطْرَتَيْنِ.
وَيُفْتَرَضُ غَسْلُ الحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبَيْنِ، شَعْرَاً وَبَشَرَاً، ظَاهِرَاً وَبَاطِنَاً، سَوَاءٌ أَكَانَ الشَّعْرُ خَفِيفَاً أَو كَانَ كَثِيفَاً.
أَمَّا اللِّحْيَةُ، فَإِنْ كَانَتْ خَفِيفَةً تُرَى بَشَرَتُهَا فَيُفْتَرَضُ إِيصَالُ المَاءِ إلى بَشَرَتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيفَةً لَا تُرَى بَشَرَتُهَا، فَيُفْتَرَضُ غَسْلُ ظَاهِرِهَا، وَلَا يَجِبُ إِيصَالُ المَاءِ إلى بَشَرَتِهَا.
وَالمُسْتَرْسَلُ مِنَ اللِّحْيَةِ الخَارِجُ عَنْ دَائِرَةِ الوَجْهِ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُسَمَّى الوَجْهِ، وَيَجِبُ غَسْلُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ في أَصَحِّ القَوْلَيْنِ.
وَلَا يَجِبُ إِيصَالُ المَاءِ إلى مَا انْكَتَمَ مِنَ الشَّفَتَيْنِ عِنْدَ الانْضِمَامِ المُعْتَادِ، لِأَنَّ المُنْضَمَّ تَبَعٌ للفَمِ، كَمَا لَا يَجِبُ إِيصَالُ المَاءِ أَيْضَاً إلى بَاطِنِ العَيْنَيْنِ، وَلَو في الغَسْلِ للضَّرَرِ.
ثانياً: غَسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ:
اتَفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ غَسْلَ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الوُضُوءِ، وَفَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾.
وروى الإمام مسلم عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ ..... ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ.
وَهَذَا مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الأُمَّةُ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى وُجُوبِ غَسْلِ المِرْفَقَيْنِ مَعَ اليَدَيْنِ، لِأَنَّ اليَدَ تَشْمَلُ الكَفَّ، وَالرُّسْغَ، وَالذِّرَاعَ، وَالمِرْفَقَ، وَالعَضُدَ، وَعِنْدَمَا جَاءَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ أَسْقَطَ مَا وَرَاءَهَا.
وروى الدارقطني والبيهقي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَوَضَّأَ أَدْارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ.
وروى الإمام مسلم عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتَّى أَشْرَعَ فِي السَّاقِ.
ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ.
وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ إِسْباغِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكمْ فَلْيُطِلْ غُرَّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ».
ثالثاً: مَسْحُ الرَّأْسِ:
اتَفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ في الوُضُوءِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَفَرْضٌ مِنْ فُرُوضِهِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾. وروى الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ وَهُوَ يَصِفُ وُضُوءَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ.
وَأَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، وَالمَسْحُ هُوَ إِمْرَارُ اليَدِ المُبْتَلَّةِ بِالمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ بِلَا تَسْيِيلٍ.
وَالرَّأْسُ يَشْمَلُ النَّاصِيَةَ ـ مُقَدَّمَ الرَّأْسِ ـ وَالقَذَالَ ـ مُؤَخَّرَ الرَّأْسِ ـ وَالفَوْدَيْنِ ـ جَانِبَا الرَّأْسِ ـ.
الفَوْدُ: مُعْظَمُ شَعْرِ الرَّأْسِ مِمَّا يَلِي الأُذُنَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في المِقْدَارِ المَفْرُوضِ مَسْحُهُ:
1ـ أَمَّا الحَنَفِيَّةُ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَصْحَابِهِمْ فِيهَا، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قُدِّرَ بِمِقْدَارِ ثَلَاثِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ اليَدِ.
وَذَكَرَ الكَرْخِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَهُ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ أَيْضَاً عَنْ أَحْمَدَ.
وَأَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِرُبُعِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا المَالِكيَّةُ، فَقَدْ أَوْجَبُوا مَسْحَ الكُلِّ، وَاسْتِيعَابَ الرَّأْسِ بِالمَسْحِ، وَهُوَ الظّاهِرُ عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ.
دَلِيلُهُمَا أَنَّ البَاءَ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾. زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ﴾. في آيَةِ التَّيَمُّمِ، فَالاتِّفَاقُ قَائِمٌ في التَّيَمُّمِ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ، فَقَالُوا: إِنَّ المَفْرُوضَ مَا يُسَمَّى مَسْحَاً قَلَّ أَو كَثُرَ، وَلَو شَعْرَةً أَو شَعَرَاتٍ.
دَلِيلُهُمْ: أَنَّ البَاءَ هُنَا للتَّبْعِيضِ، وَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى القَلِيلِ وَالكَثِيرِ.
وَدَلِيلُ الحَنَفِيَّةِ: أَنَّ البَاءَ للإِلْصَاقِ، وَيَكُونُ المَعْنَى: امْسَحُوا أَيْدِيَكُمْ مُلْصَقَةً بِرُؤُوسِكُمْ، وَالقَاعِدَةُ أَنَّ البَاءَ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى المَمْسُوحِ اقْتَضَتْ اسْتِيعَابَ آلَةِ المَسْحِ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الآلَةِ اقْتَضَتْ اسْتِيعَابَ المَمْسُوحِ، وَهُنَا دَخَلَتْ عَلَى المَمْسُوحِ، فَتَقْتَضِي اسْتِيعَابَ الآلَةِ وَهِيَ اليَدُ، وَاسْتِيعَابُ اليَدِ لَا يَسْتَغْرِقُ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ الرَّأْسِ، فَيَكُونُ هُوَ المَطْلُوبَ بِالآيَةِ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضَاً بِحَدِيثِ الإمام البخاري عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سُبَاطَةَ (مَوْضِعٌ يُلْقَى فِيهِ الكُنَاسَةُ وَغَيْرُهَا) قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمَاً، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ.
وفي رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، حَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى نَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ، ثُمَّ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
وَأَجَابَ الحَنَفِيَّةُ عَلَى اسْتِدْلَالِ المَالِكِيَّةِ بِأَنَّ البَاءَ لَيْسَتْ زَائِدَةً، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ خِلَافُ الأَصْلِ، وَلِأَنَّ الاسْتِيعَابَ في التَّيَمُّمِ لَمْ يَثْبُتْ مِنَ النَّصِّ، بَلْ ثَبَتَ بِالأَحَادِيثِ المَشْهُورَةِ.
كَمَا أَجَابَ الحَنَفِيَّةُ عَلَى اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مَسْحَ شَعْرَةٍ أَو شَعَرَاتٍ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ المَسْحِ.
رابعاً: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلى الكَعْبَيْنِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ المَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ إلى أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ الظَّاهِرَتَيْنِ السَّلِيمَتَيْنِ، غَيْرِ المَسْتُورَتَيْنِ بِخُفٍّ أَو جَبِيرَةٍ إلى الكَعْبَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
وروى الإمام مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ في حَدِيثٍ سُئِلَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الوُضُوءِ، فَقَالَ: ـ «ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ».
وروى الترمذي عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَوَضَّأْتَ فَخَلِّلِ الْأَصَابِعَ».
وروى الترمذي عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الوُضُوءِ؟
قَالَ: «أَسْبِغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ».
فَغَسْلُ القَدَمَيْنِ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَاً. رواه الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
فَتَوَاعَدَهَا بِالنَّارِ لِعَدَمِ طَهَارَتِهِمَا، وَلَو كَانَ المَسْحُ كَافِيَاً لَمَا تَوَاعَدَ مَنْ تَرَكَ غَسْلَ عَقِبَيْهِ، كَمَا أَنَّ جَعْلَ الكَعْبَيْنِ غَايَةً للغَسْلِ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ الفَرْضَ هُوَ الغَسْلُ لَا المَسْحُ، لِأَنَّ المَسْحَ لَمْ تُحَدَدْ لَهُ غَايَةٌ في الشَّرْعِ.
وَإِنَّمَا وَلِيَتِ الأَرْجُلُ للرُّؤُوسِ لَا لِأَنَّهَا تُمْسَحُ، بَلْ للتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ المَطْلُوبَ هُوَ الاقْتِصَادُ في صَبِّ المَاءِ عَلَيْهَا، وَقَدْ صَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَجُلَاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الطُّهُورُ؟
فَدَعَا بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَاً، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَاً، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثَاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّاحَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ، وَمَسَحَ بِإِبْهَامَيْهِ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ، وَبِالسَّبَّاحَتَيْنِ بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَاً ثَلَاثَاً.
ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ ـ أَوْ ظَلَمَ وَأَسَاءَ ـ» رواه أبو داود.
وَالمَفْرُوضُ في هَذِهِ الأَعْضَاءِ هُوَ الغَسْلُ مَرَّةً وَاحِدَةً، مَسْحُ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ الأَمْرَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، أَمَّا الزِّيَادَةُ فَسُنَّةٌ.
وَالرِّجْلُ تَتَنَاوَلُ القَدَمَ وَالسَّاقَ وَالفَخِذَ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾. أَسْقَطَتْ مَا وَرَاءَ الكَعْبَيْنِ.
وَقَدْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ في الوُضُوءِ، لَا يَجْحَدُهُ مُسْلِمٌ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَفِعْلُهُ بَيَانَ المُرَادِ بِالآيَةِ.
وَالكَعْبَانِ: هُمَا العَظْمَانِ النَّاتِئَانِ في الجَانِبَيْنِ عِنْدَ مِفْصَلِ السَّاقِ.
>>>>>>>>>>>>>
فَرَائِضُ الوُضُوءِ المُخْتَلَفِ فِيهَا:
ذَكَرْنَا في أَحْكَامَ فَرَائِضِ الوُضُوءِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الفُقَهَاءِ، وَهِيَ غَسْلُ الوَجْهِ، وَغَسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ، وَغَسْلُ القَدَمَيْنِ إلى الكَعْبَيْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً، هَذِهِ الفَرَائِضُ مُتَّفَقُ عَلَيْهَا وَمُجْمَعٌ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا.
أَمَّا الفَرَائِضُ المُخْتَلَفُ فِيهَا:
أولاً: النِّيَّةُ:
اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ النِّيَّةِ في الوُضُوءِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ إلى أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لَا يَصِحُّ الوُضُوءُ إِلَّا بِهَا، لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾. وَالإِخْلَاصُ هُوَ عَمَلُ القَلْبِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَالأَمْرُ بِهِ يَقْتَضِي الوُجُوبَ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» رواه الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلَيْسَ المُرَادُ صُورَةَ العَمَلِ فَإِنَّهَا تُوجَدُ بِلَا نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا المُرَادُ أَنَّ حُكْمَ العَمَلِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الحَدِيثِ: لَا يَكُونُ العَمَلُ شَرْعِيَّاً يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ إِلَّا بِالنِّيَّةِ.
وَلِأَنَّ الوُضُوءَ طَهَارَةٌ مِنْ حَدَثٍ تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ، فَلَمْ يَصِحَّ بِلَا نِيَّةٍ.
وَلِأَنَّ الوُضُوءَ عِبَادَةٌ ذَاتُ أَرْكَانٍ فَوَجَبَتْ فِيهِ النِّيَّةُ كَالصَّلَاةِ.
وَخَالَفَ الحَنَفِيَّةُ جُمْهُورَ الفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: النِّيَّةُ في الوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ شَرْطَاً وَلَا فَرْضَاً، بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾. أَمَرَ اللهُ تعالى بِالغَسْلِ وَالمَسْحِ مُطْلَقَاً عَنْ شَرْطِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُ المُطْلَقِ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَحُصُولُ الطَّهَارَةِ لَا يَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ بَلْ عَلَى اسْتِعْمَالِ المُطَهِّرِ في مَحَلٍّ قَابِلٍ للطَّهَارَةِ، وَالمَاءُ مُطَهِّرٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ المَاءَ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» رواه الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَقَالَ تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورَ"ا﴾.
وَقَالُوا: إِنِ اتَّصَلَتْ بِهِ النِّيَّةُ يَقَعُ عِبَادَةً، وَإِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ النِّيَّةُ لَا يَقَعُ عِبَادَةً، لَكِنَّهُ يَقَعُ وَسِيلَةً إلى إِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِحُصُولِ الطَّهَارَةِ، فَالوُضُوءُ عِنْدَهُمْ وَسِيلَةٌ للصَّلَاةِ، وَلَيْسَ مَقْصُودَاً لِذَاتِهِ.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا بِصِحَّةِ وُضُوءِ المُتَبَرِّدِ، وَالمُنْغَمِسِ في المَاءِ للسِّبَاحَةِ أَو للنَّظَافَةِ، أَو لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ.
ثانياً: المُوَالَاةُ:
المُوَالَاةُ تَعْنِي غَسْلَ الأَعْضَاءِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ، بِحَيْثُ لَا يَجِفُّ العُضْوُ الأَوَّلُ قَبْلَ الشُّرُوعِ في الثَّانِي، وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ المُوَالَاةِ في الوُضُوءِ.
ذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلى أَنَّ المُوَالَاةَ في الوُضُوءِ سُنَّةٌ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِمَا رواه الإمام مالك عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا بَالَ بِالسُّوقِ؛ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ. ثُمَّ دُعِيَ لِجَنَازَةٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهَا حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا.
وَقَالُوا: التَّفْرِيقُ في غَسْلِ الأَعْضَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنَ امْتِثَالِ الأَمْرِ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
وَلِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ فِي تَطْهِيرٍ فَجَازَ كَالتَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ.
وَذَهَبَ المَالِكِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ إلى القَوْلِ بِوُجُوبِ المُوَالَاةِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالآيَةِ الكَرِيمَةِ آيَةِ الوُضُوءِ: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
وَقَالُوا: مُطْلَقُ الأَمْرِ مِنَ اللهِ تعالى يَقْتَضِي الفَوْرَ وَالتَّعْجِيل، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّأْجِيلِ، وَلِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عَلَى الوَلَاءِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَلَاةً إِلَّا بِهِ» يَعْنِي بِمِثْلِهِ في الوَلَاءِ. رواه ابن ماجه عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وروى الإمام مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَجُلَاً تَوَضَّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ» فَرَجَعَ، ثُمَّ صَلَّى.
ثالثاً: التَّرْتِيبُ:
التَّرْتِيبُ، وَمَعْنَاهُ تَطْهِيرُ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ وَاحِدَاً بَعْدَ وَاحِدٍ حَسْبَ التَّرْتِيبِ الوَارِدِ في النَّصِّ القُرْآنِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾.
اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ، هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَو سُنَّةٌ؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ إلى أَنَّ التَّرْتِيبَ في الوُضُوءِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالآيَةِ الكَرِيمَةِ، وَقَالُوا: الآيَةُ أَدْخَلَتِ المَسْحَ بَيْنَ الغَسْلَيْنِ، وَقُطِعَ حُكْمُ النَّظِيرِ عَنِ النَّظِيرِ ـ يَعْنِي قُطِعَ غَسْلُ اليَدَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ بِالمَسْحِ ـ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ إِيجَابَ التَّرْتِيبِ، وَلَو لَمْ يَكُنِ التَّرْتِيبُ وَاجِبَاً لَمَا قُطِعَ النَّظِيرُ عَنْ نَظِيرِهِ.
وَقَالُوا: كُلُّ مَنْ حَكَى وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَكَاهُ مُرَتَّبَاً مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَكَثْرَةِ المَوَاطِنِ التي حَكَوْهَا، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيَانٌ للوُضُوءِ المَأْمُورِ بِهِ في الآيَةِ.
وَقَالُوا: الوُضُوءُ عِبَادَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى أَفْعَالٍ مُتَغَايِرَةٍ يَرْتَبِطُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيبُ.
وَذَهَبَ الحَنَفِيَّةُ وَالمَالِكِيَّةُ إلى أَنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ، وَلَيْسَ مِنْ أَرْكَانِهِ وَلَا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى ذَكَرَ آيَةَ الوُضُوءِ، وَأَمَرَ بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الوُضُوءِ، وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِالوَاوِ، وَهِيَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، فَكَيْفَمَا غَسَلَ المُتَوَضِّئُ أَعْضَاءَهُ كَانَ مُمْتَثِلَاً لِأَمْرِ اللهِ تعالى، وَلَو كَانَ التَّرْتِيبُ مَقْصُودَاً لَعَطَفَهُ بِالفَاءِ، أَو بِثُمَّ.
روى الإمام البخاري عَنْ حُمْرَانَ، مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَاً وَيَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَاً، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثَاً، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَقَالُوا: الوُضُوءُ طَهَارَةٌ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا تَرْتِيبٌ كَالجَنَابَةِ، وَكَتَقْدِيمِ اليَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ.
وروى الدارقطنيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هِنْدَ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا أُبَالِي إِذَا أَتْمَمْتُ وُضُوئِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ.
رابعاً: الدَّلْكُ:
الدَّلْكُ، وَمَعْنَاهُ: إِمْرَارُ اليَدِ عَلَى العُضْوِ بَعْدَ صَبِّ المَاءِ عَلَيْهِ وَقَبْلَ جَفَافِهِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهَاءُ في حُكْمِ الدَّلْكِ في الوُضُوءِ، هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَمْ سُنَّةٌ؟
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الفُقَهَاءِ ـ الحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ ـ إلى أَنَّ الدَّلْكَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الوُضُوءِ، وَقَالُوا: آيَةُ الوُضُوءِ لَمْ تَأْمُرْ بِالدَّلْكِ، وَلَمْ يَثْبُتِ الدَّلْكُ بِالسُّنَّةِ.
وَلِأَنَّ الذينَ رَوَوُا وُضُوءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ التَّدْلِيكَ.
وَذَهَبَ المَالِكِيَّةُ إلى أَنَّ التَّدْلِيكَ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الوُضُوءِ، وَقَالُوا: إِنَّ مُجَرَّدَ إِصَابَةِ المَاءِ العُضْوَ لَا يُعَدُّ غَسْلَاً لَهُ، وَقَاسُوا طَهَارَةَ الحَدَثِ عَلَى إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ الحَقِيقِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالدَّلْكِ.
وَالصَّوَابُ أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ اسْتِيعَابُ المَاءِ للأَعْضَاءِ المَطْلُوبِ غَسْلُهَا بِمُجَرَّدِ الغَسْلِ فَقَدْ حَصَلَ المَطْلُوبُ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الاسْتِيعَابُ إِلَّا بِالدَّلْكِ عِنْدَهَا يُصْبِحُ الدَّلْكُ وَاجِبَاً، وَخَاصَّةً العَقِبَ في الشِّتَاءِ خَاصَّةً، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
هذا، والله تعالى أعلم.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.
موقع احمد شريف النعسان
تعليق