الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد......
فقد ورد في كتاب المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية للأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان أستاذ ورئيس قسم الشريعة الإسلامية بكليات الحقوق والآداب والدراسات الإسلامية بجامعة بغداد سابقابحث مفصل عن أحكام الاختلاط ننقل عنه هنا باختصار وتصرف ما يلي :ـ
الاختلاط في اللغة
جاء في "لسان العرب" خَلَط الشيء بالشيء يخلطه خلطًا وخلطه فاختلط: مزجه. وخالط الشيء مخالطة وخلاطًا: مازجه. والخلاط: اختلاط الإبل والناس والمواشي.
المراد من الاختلاط:
نريد بالاختلاط، اختلاط النساء بالرجال، أي: اجتماع بعضهم مع بعض أو اجتماع امرأة مع رجل. وهذا الاجتماع بين المرأة والرجل (وهما أجنبيان) في مكان واحد يترتب عليه عادة وغالبًا مقابلة أحدهما للآخر، أو نظر أحدهما للآخر أو محادثة بينهما. فما حكم هذا الاختلاط من جهة الحظر والإباحة؟
والاختلاط بالمعنى الذي بيناه هل الأصل فيه الحظر أم الإباحة؟ لمعرفة الجواب الصحيح نسأل السؤال التالي: هل المرأة كالرجل تمامًا في الاختلاط مع الرجل الأجنبي منها؟ أي: هل هي في اختلاطها مع رجل أجنبي، كاختلاط رجل مع رجل أجنبي منه دون أي فرق أو اختلاف؟
والجواب: لا، بكل تأكيد، فلم يقل أحد إنها كالرجل في اختلاطها مع الرجل الأجنبي. وحيث أن الأصل في اختلاط الرجل بالرجل الأجنبي هو الإباحة، والمرأة ليست مثله في الاختلاط بالرجل، فالأصل، إذن، في اختلاطها بالرجل هو الحظر وليس الإباحة. وهذا واضح إن شاء الله تعالى.
يجوز الاختلاط في بعض الحالات:-
إن الحظر هو الأصل في اختلاط النساء بالرجال، ولكن يجوز الاختلاط في بعض الحالات للضرورة الشرعية، أو للحاجة الشرعية، أو للمصلحة الشرعية، أو لجريان العادة بهذا الاختلاط، ونذكر فيما يلي هذه الحالات:
-الاختلاط للضرورة
:
من أمثلة الاختلاط للضرورة ما قاله الإمام النووي ، فقد قال رحمه الله تعالى: "وقال أصحابنا: ولا فرق في تحريم الخلوة حيث حرمناها بين الخلوة في صلاة أو غيرها. ويستثنى من هذا كله مواضع الضرورة بأن يجد امرأة أجنبية منقطعة في الطريق أو نحو ذلك، فيباح له استصحابها بل ويلزمه ذلك إذا خاف عليها لو تركها، وهذا لا خلاف فيه". ومن صور الضرورة فرار الرجل الأجنبي بالمرأة تخليصًا لها ممن يري بها الفاحشة، إذا كان الفرار بها هو السبيل لتخليصها. ونحو ذلك من حالات الضرورة
.
- الاختلاط للحاجة:
أ- الاختلاط لإجراء المعاملات الشرعية:
وكما يجوز الاختلاط للضرورة يجوز للحاجة أيضًا، ومن حالات الحاجة، ما يستلزمه إجراء المعاملات المالية الجائزة لها من بيع وشراء وغيرهما، لأن إجراء هذه المعاملات يستلزم عادة اجتماعها مع الرجل للمساومة ورؤية محل العقد، ثم إبرام العقد، ولكن يشترط عدم الخلوة بالرجل لأنها محرمة ، كما يلزمها أن لا تخرج متبذلة، وأن تلتزم حدود الشرع وأحكامه في لباسها وفي كلامها وصوتها مع الآخرين على النحو الذي بيناه من قبل.
ب- الاختلاط لحاجة مباشرة أعمال القضاء:
يجوز للمرأة أن تتولى القضاء في غير الحدود على رأي الحنفية، أو في جميع القضايا بما فيها الحدود عند الظاهرية والإمام الطبري، ومن المعلوم أن مباشرة وظيفة القضاء تستلزم أن تقتضي اجتماعها بالرجال من مُدعين أو مُدّعى عليهم، ولكن يجب أن تحذر من الخلو بهم وهذا ممكن، ولا تقتضيه أعمال القضاء بالضرورة.
ج- الاختلاط لغرض تحمل الشهادة:
يجوز للمرأة أن تكون شاهدة في قضايا الأموال وحقوقها، قال تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه..?، إلى قوله تعالى:
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء. )
وتحمل المرأة الشهادة يستلزم حضورها ما تشهد عليه من معاملة، وقد تكون بين رجلين أو أكثر، فيجوز لها هذا الحضور وما يقتضيه من اجتماعها بأطراف المعاملة من الرجال.
د- الاختلاط لغرض أعمال الحسبة:
ذكر الإمام ابن حزم في "المحلي" أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ولى (الشفاء) – وهي امرأة من قومه –السوق. أي: ولاها الحسبة في السوق، لتأمر بالمعروف من أعمال السوق وتنهي عن منكرات السوق، هذا يستلزم مخالطتها لأهل السوق من الرجال الأجانب حتى تقوم بالاحتساب عليهم.
هـ- الاختلاط لغرض خدمة الضيوف:
يجوز للمرأة أن تجتمع مع الضيوف الأجانب إذا كان معها زوجها، وكانت هناك حاجة مشروعة لوجودها وحضورها؛ لأن وجود زوجها معها يمنع الخلوة بالأجنبي، وفي واجب الضيافة الذي يستلزم قضاؤه وجود الزوجة فيجوز وجودها ولو أدى إلى اجتماعها واختلاطها بالضيوف. وقد دل على هذا الجواز –جواز اختلاطها بالأجانب –لهذه الحاجة الحديث الشريف الذي أخرجه إمام المحدثين البخاري – رحمه الله تعالى-، وقد جاء فيه: "لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعامًا ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بلت تمرات في تور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته فسقته، تتحفه بذلك".
وقد جاء في شرح هذا الحديث: "وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه عند الأمن من الفتنة، ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك. وفيه جواز إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه".
و- الاختلاط لغرض إكرام الضيف بالأكل معه:
ويجوز للمرأة أن تأكل مع زوجها ومع الضيف إكرامًا له أو لغرض مشروع، فقد جاء في "صحيح مسلم" في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يُضيف هذا الليلة رحمه الله؟ فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى أهله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني. قال فعلليهم بشيء، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل: فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج حتى تطفئيه. قال فقعدوا وأكل الضيف، فلما أصبح، غدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة".
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: "هذا الحديث مشتمل على فوائد كثيرة.. منها الاحتيال في إكرام الضيف إذا كان يمتنع منه – أي من الأكل-، رفقًا بأهل المنزل لقوله: أطفئ السراج وأريه أنا نأكل، فإنه لو رأي قلة الطعام وأنهما لا يأكلان معه، لامتنع من الأكل". ومعنى ذلك أن الأنصاري وامرأته جلسًا مع ضيفهما للأكل معه وإن لم يأكل فعلاً؛ إيثارًا للضيف على نفسيهما، فأنزل
الله تعالى فيهما في كتابه العزيز
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة)
وفي الحديث أيضًا فضيلة الإيثار.
وهذا كله يدل على جواز أكل الزوجة وزوجها مع الضيف، وإنما جاز هذا الاختلاط لحاجة إكرام الضيف والقيام بواجب ضيافته.
ز- الاختلاط في السيارة العمومية لحاجة استعمالها:
يجوز للمرأة الخروج من بيتها لقضاء أشغالها المشروعة وإن استلزم ذلك اختلاطها بالأجانب، كأن تخرج من بيتها لزيارة أبويها، أو شراء شيء لها، أو ذهاب إلى المستشفى للعلاج، أو إلى الحمام عند الحاجة إليه، فتضطر إلى ركوب السيارة العمومية فيحصل اختلاطها بالراكبين من الرجال فتجلس بجنب أحدهم أو تقف بجنبه، وقد يحصل الاختلاط في المستشفى عند مراجعة الطبيب أو عند أخذ الدواء ونحو ذلك. وهذا الاختلاط تسوغه الحاجة المشروعة.
ح- الاختلاط للقيام بأعمال الجهاد:
ومن أمثلة هذا النوع من الاختلاط اشتراك النساء في الجهاد، بأن يقمن بنقل الماء إلى المقاتلين ومداواة الجرحى منهم، ونحو ذلك من الأعمال وكلها جائزة ومشروعة، وإن استلزمت أو اقتضت مخالطة النساء للرجال؛ لأن هذه الأعمال تحقق مصلحة شرعية أذن الشرع الإسلامي للنساء بالقيام بها، ويدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن الربيع بنت معوذ قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى المدينة"، وروى البخاري "أن عائشة وأم سليم – رضي الله عنهما – كانتا تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها ، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم".
وفي "صحيح مسلم" عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحى".
ط- الاختلاط لغرض استماع الوعظ والإرشاد:
ومن اجتماع المرأة بالرجل للمصلحة الشرعية، اجتماع الرجل بالنساء لوعظهن وتعليمهن أمور الدين، سواء كان وحده أو كان معه شخص آخر، فقد روى الإمام البخاري عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فصلى ركعتين لم يصل قبل ولا بعد، ثم مال على النساء ومعه بلال فوعظهن وأمرهن أن يتصدقن، فجعلت المرأة تلقي القلب والخُرْص".
ك- الاختلاط لجريان العادة به:
قال المواق- وهو من فقهاء المالكية- في "الموطأ": "هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم أو مع غلامها؟ قال الإمام مالك: لا باس بذلك على وجه ما يعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يواكله". فالمرأة يجوز لها أن تأكل مع زوجها ومع من اعتاد أن يأكل معه، وكذلك يجوز لها أن تأكل مع من عرف عن المرأة أنها تأكل معه، كما لو كانت تأكل مع قريب لها غير ذي محرم منها.
ولكن هذا الجواز لجريان العادة به يجب أن تلتزم المرأة عند مباشرته بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية في لباسها، وكلامها، وصوتها، وما تبديه من زينتها، وفي نظرها الأجنبي، وفي نظر الأجنبي لها.
ل- ما جرت به العادة من الاختلاط في الوقت الحاضر:
ومن الاختلاط الذي جرت به العادة في وقتنا الحاضر اختلاط النساء بالرجال، في بعض أوساط المجتمع، وذلك في زيارة الأقارب بعضهم لبعض في المناسبات، أو في زيارة الأصدقاء بعضهم لبعض في المناسبات، أو في زيارة الأصدقاء بعضهم بعض في المناسبات أيضًا، فيحصل اختلاط بين النساء والرجال حيث يجلسون جميعًا في غرفة واحدة، وقد يأكلون جميعًا على مائدة واحدة، فهذا النوع من الاختلاط جائز، إذا التزم الجميع فيه بالآداب الإسلامية والأحكام الشرعية المتعلقة باللباس والكلام والنظر وستر ما يجب ستره شرعًا من البدن بالنسبة للنساء والرجال، فعلى المرأة مثلاً أن تلبس اللباس الشرعي الذي بينا أوصافه، وأن لا تبدي من بدنها إلا الوجه والكفين، وأن يكون كلامها وصوتها على النحو الذي بيناه، أن يكون نظرها إلى الرجال خاليًا من الشهوة وكذا يجب أن يكون نظر الرجال إليهن، وأن لا تكون خلوة الرجل بالمرأة، وهذا الذي نشترطه لجواز هذا الاختلاط يشمل الأقارب كأبناء العم والخال، وأبناء العمة والخالة، فهؤلاء بمنزلة الأجانب بالنسبة لاجتماع المرأة بالرجل وبالنسبة للباسها وما تبديه من بدنها، فلا يجوز التساهل معهم في هذه الأمور بحجة أنهم من الأقارب، وقد بينا هذا من قبل. فإذا لم يحصل التزام بهذه الحدود والأحكام الشرعية فلا يجوز هذا الاختلاط.
والله أعلم
الباكي..................
تعليق