شخص أدى الواجبات التي افترضها الله عليه
واجتنب كبائر الذنوب
إلا أنه يرتكب صغائر الذنوب، مثلا (حلق اللحية، واتيان المرأة في الحيض، وصبغ الشعر بالسواد، و...) - عند من يعد هذه من صغائر الذنوب -
هل يقال بأنه قد أتى بالإيمان الواجب؟
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى .
((وَأَمَّا " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " مِنْ الصَّحَابَةِ جَمِيعِهِمْ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَجَمَاهِيرِ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ مِثْلِ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمْ . وَمُحَقِّقِي أَهْلِ الْكَلَامِ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ. هَذَا لَفْظُ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعْنِي بِالْإِيمَانِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَا يُغَايِرُ الْعَمَلَ؛ لَكِنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كُلَّهَا تَدْخُلُ أَيْضًا فِي مُسَمَّى الدِّينِ وَالْإِيمَانِ
وَيَدْخُلُ فِي الْقَوْلِ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَفِي الْعَمَلِ عَمَلُ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ لِمَذْهَبِهِمْ: إنَّ لَهُ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى:
{1} أَرْكَانٍ
{2}وَوَاجِبَاتٍ - لَيْسَتْ بِأَرْكَانِ -
{3}وَمُسْتَحِبَّاتٍ؛
بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْحَجِّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا يُشْرَعُ فِيهِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ مِثْلِ الْإِحْرَامِ وَتَرْكِ مَحْظُورَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنَى وَالطَّوَافِ بِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَبَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ بِهِ وَهُمَا الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ.
ثُمَّ الْحَجُّ مَعَ هَذَا
{1} مُشْتَمِلٌ عَلَى أَرْكَانٍ مَتَى تُرِكَتْ لَمْ يَصِحَّ الْحَجُّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَعَلَى تَرْكِ مَحْظُورٍ مَتَى فَعَلَهُ فَسَدَ الْحَجُّ وَهُوَ الْوَطْءُ
{2}وَمُشْتَمِلٌ عَلَى وَاجِبَاتٍ: مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا وَيَجِبُ مَعَ تَرْكِهَا - لِعُذْرِ أَوْ غَيْرِهِ - الْجُبْرَانُ بِدَمِ كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمَوَاقِيتِ الْمَكَانِيَّةِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِعَرَفَةَ وَكَرَمْيِ الْجِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَتَرْكِ اللِّبَاسِ الْمُعْتَادِ وَالتَّطَيُّبِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
{3} وَمُشْتَمِلٌ عَلَى مُسْتَحِبَّاتٍ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ يَكْمُلُ الْحَجُّ بِهَا؛ فَلَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا وَلَا يَجِبُ دَمٌ مِثْلُ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْإِهْلَالِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ وَسَوْقِ الْهَدْيِ وَذِكْرِ اللَّهِ، وَدُعَائِهِ فِي الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِمَا. وَقِلَّةِ الْكَلَامِ إلَّا فِي أَمْرٍ بِمَعْرُوفِ وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَمَنْ فَعَلَ الْوَاجِبَ وَتَرَكَ الْمَحْظُورَ فَقَدْ أَتَمَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهُوَ مُقْتَصِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْعَمَلِ. لَكِنْ مَنْ أَتَى بِالْمُسْتَحَبِّ فَهُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَتَمُّ مِنْهُ حَجًّا وَهُوَ سَابِقٌ مُقَرَّبٌ وَمَنْ تَرَكَ الْمَأْمُورَ وَفَعَلَ الْمَحْظُورَ لَكِنَّهُ أَتَى بِرُكْنِهِ وَتَرَكَ مُفْسِدَهُ فَهُوَ حَاجٌّ حَجًّا نَاقِصًا يُثَابُ عَلَى مَا فِعْلِهِ مِنْ الْحَجِّ وَيُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ أَصْلُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ مَعَ عُقُوبَتِهِ عَلَى مَا تَرَكَهُ وَمَنْ أَخَلَّ بِرُكْنِ الْحَجِّ أَوْ فِعْلِ مُفْسِدٍ فَحَجُّهُ فَاسِدٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضٌ؛ بَلْ عَلَيْهِ إعَادَتُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَتَنَازَعُ فِي إثَابَتِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ الْفَرْضُ وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ.
فَصَارَ " الْحَجُّ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ " كَامِلًا بالمستحبات وَتَامًّا بِالْوَاجِبَاتِ فَقَطْ وَنَاقِصًا عَنْ الْوَاجِبِ.
وَالْفُقَهَاءُ يُقَسِّمُونَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ إلَى كَامِلٍ وَمُجْزِئٍ؛ لَكِنْ يُرِيدُونَ بِالْكَامِلِ مَا أَتَى بِمَفْرُوضِهِ وَمَسْنُونِهِ وَبِالْمُجْزِئِ مَا اقْتَصَرَ عَلَى وَاجِبِهِ.
فَهَذَا فِي " الْأَعْمَالِ الْمَشْرُوعَةِ ". وَكَذَلِكَ فِي " الْأَعْيَانِ الْمَشْهُودَةِ " فَإِنَّ الشَّجَرَةَ مَثَلًا اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْجِذْعِ وَالْوَرَقِ وَالْأَغْصَانِ وَهِيَ بَعْدَ ذَهَابِ الْوَرَقِ شَجَرَةٌ وَبَعْدَ ذَهَابِ الْأَغْصَانِ شَجَرَةٌ؛ لَكِنْ كَامِلَةٌ وَنَاقِصَةٌ،
فَلْيُفْعَلْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ وَالدِّينِ أَنَّ " الْإِيمَانَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ ":
{1} إيمَانُ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ. وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ والمستحبات: مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ.
{2}وَإِيمَانُ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. وَهُوَ مَا أَتَى فِيهِ بِالْوَاجِبَاتِ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ.
{3}وَإِيمَانُ الظَّالِمِينَ. وَهُوَ مَا يَتْرُكُ فِيهِ بَعْضَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ يَفْعَلُ فِيهِ بَعْضَ الْمَحْظُورَاتِ.
وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاءُ السُّنَّةِ فِي وَصْفِهِمْ " اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ": إنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ إشَارَةً إلَى بِدْعَةِ الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرَةِ بِمُطْلَقِ الذُّنُوبِ
فَأَمَّا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ تَصْدِيقًا بِهِ وَانْقِيَادًا لَهُ؛ فَهَذَا أَصْلُ الْإِيمَانِ الَّذِي مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنِ
وَلِهَذَا تَوَاتَرَ فِي الْأَحَادِيثِ " {أَخْرِجُوا مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} {مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمَانٍ} . وَفِي رِوَايَةِ الصَّحِيحِ أَيْضًا " {مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَيْرٍ} " " {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ}
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ {الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - أَوْ بِضْعَةٌ وَسِتُّونَ أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً - أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ} "
فَعُلِمَ أَنَّ الْإِيمَانَ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ وَأَنَّ قَلِيلَهُ يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مِنْ النَّارِ مَنْ دَخَلَهَا،
لَيْسَ هُوَ كَمَا يَقُولُهُ الْخَارِجُونَ عَنْ مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَالتَّجْزِئَةَ؛ بَلْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: إمَّا أَنْ يَحْصُلَ كُلُّهُ أَوْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ شَيْءٌ.))
تعليق