الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ خاتم النَّبيِّين وعلى آله وأصحابه والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين... وبعد
فقد انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة (الصَّلاة على الكرسي) في أكثر المساجد، مع قدرة الكثير من المصلِّين على الصَّلاة قائمًا.
لذا قمت بجمع آراء بعض العلماء بشأن أحكام الصَّلاة على الكرسي في الصَّلاة المكتوبة وقرأتها على فضيلة الشَّيخ/ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه الله- وأسأل الله -تعالى- أن ينفع بها ويهدينا إلى سواء السَّبيل.
حكم الصَّلاة قاعدًا
عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: كانت بي بواسير فسألت النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» [رواه البخاري 1117].
قال ابن قدامه المقدسي في المغني: "أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام، له أن يصلِّي جالسًا".
قال النَّووي في المجموع: "أجمعت الأمَّة على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعدًا ولا إعادة عليه، قال أصحابنا: ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام؛ لأنَّه معذورٌ، وقد ثبت في صحيح البخاري أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» [رواه البخاري 2996].
قال الشَّوكاني في نيل الأوطار: "وحديث عمران يدلُّ على أنَّه يجوز لمن حصل له عذر لا يستطيع معه القيام أن يصلِّي قاعدًا ولمن حصل له عذر لا يستطيع معه القعود أن يصلِّي على جنبه".
حكم من صلَّى الفريضة جالسًا وهو قادرٌ على القيام
قال ابن قدامه المقدسي: "ومن قدر على القيام وعجز عنِ الرُّكوع أوِ السُّجود لم يسقط عنه القيام، ويصلِّي قائمًا فيؤمئ بالرُّكوع ثمَّ يجلس فيؤمئ بالسُّجود، وبهذا قال الشَّافعي لقوله -تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «صلِّ قائمًا» [رواه البخاري 1117]؛ ولأنَّ القيام ركنٌ لمن قدر عليه فلزمه الإتيان به كالقراءة، والعجز عن غيره لا يقتضي سقوطه كما لو عجز عن القراءة. انتهى
فتاوى أهل العالم المعاصرين حول حكم الصَّلاة على الكرسي
ولو أجد أثناء بحثي أنَّ أحدًا من أهل العلم الأقدمين والسَّلف السَّابقين قد أجاز صلاة غير القادر على الكرسي، وإنَّما جاء في كلام المفتيين المحدثين وإليك الفتاوى الَّتي صدرت حديثًا بهذا الشَّأن:
قال الشَّيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "الواجب على من صلَّى جالسًا على الأرض أو على الكرسي أن يجعل سجوده اخفض من ركوعه والسُّنَّة له أن يجعل يديه على ركبتيه في حال الركوع أمَّا في السُّجود فالواجب أن يجعلهما على الأرض إن استطاع، فإن لم يستطع جعلهما على ركبتيه، لما ثبت عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين، والرُّكبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثِّياب والشَّعر» [ متفقٌ عليه].
ومن عجز عن ذلك وصلَّى على كرسي فلا حرج في ذلك قول الله -سبحانه وتعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغابن: 16]، وقول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» [رواه البخاري 7288]" انتهى.
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "المصلِّي على كرسي إذا كان يترك الجلوس أوِ السُّجود مع القدرة عليه فصلاته باطلةٌ لتركه ركن من أركان الصَّلاة".
قال د.أحمد ذياب شويدح -رابطة علماء فلسطين-: "اتفق الفقهاء على أنَّ القيام ركنٌ في صلاة الفرض للقادر عليه؛ لقوله -تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقد أخرج البخاري حديثًا لعمران بن حصين لما أصابه البواسير، وبناءً على ذلك فإنَّ كان الجالس على الكرسي قادرًا على القيام دون مشقَّةٍ كثيرةٍ لم تصح صلاته لفوات ركنٍ منها وينبغي عليه أن يحاول القيام ولو أثناء قراءة الفاتحة فقط، ومن كان قادرًا على أن يصلِّي على الأرض فالأولى أن يصلِّي على الكرسي؛ لأنَّه قد يفوته عمل السُّجود وهو قادر عليه فلا تصح صلاته، ومن لا يستطيع الرُّكوع كمصاب القدم أو القدمين ويجلس أرضًا أو على كرسي فلا يجوز له ترك السُّجود وهو قادر عليه فكل ركنِ له أحواله الخاصَّة به فقد يستطيع المريض القيام ولا يستطيع الرُّكوع، وقد يستطيع الرُّكوع ولا يستطيع السُّجود، أو لا يستطيع الرُّكوع ويستطيع السُّجود فلابد أن يؤدي ما يستطيعه من تلك الأركان وإلا لم تصح صلاته لفوات ركنٍ منها.
أمَّا في صلاة النَّافلة فيجوز الجلوس فيها لعذرٍ أو لغير عذرٍ؛ لقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «من صلَّى قائمًا فهو أفضل، ومن صلَّى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلَّى نائمًا فله نصف أجر القاعد» [رواه البخاري 1116].
قال المجلس الإسلام للإفتاء ببيت المقدس: "إنِ استطاع أن يبدأ قائمًا وجب عليه القيام، فإن استطاع الرُّكوع وجب عليه قائمًا ويجلس على الكرسي للسُّجود، فإن لم يستطع يجلس عند الرُّكوع والسُّجود ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وإذا عجز عن الوقوف أو القعود على الأرض جلس على الكرسي وأومأ بالرُّكوع فإنِ استطاع السُّجود سجد فإن لم يستطع السُّجود أومأ، وإذا كان يستطيع الجلوس على الأرض وصلَّى على الكرسي لا تصح صلاته؛ لمخالفته لحديث وفعل الرَّسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في صلاته على الأرض قاعدًا".
كيفية وضع الكرسي في الصَّفِّ
ذكر العلماء -رحمهم الله- أنَّ العبرة فيمن صلَّى جالسًا مساواة الصَّفَّ بمقعدته، فلا يتقدَّم أو يتأخَّر عنِ الصَّفِّ بها؛ لأنَّها الموضع الَّذي يستقر عليه البدن.
جاء في الموسوعة الفقهيَّة: يتشرط لصحة الاقتداء (أي اقتداء المأموم بالإمام) ألا يتقدم المقتدي إمامه في الموقف عن جمهور الفقهاء (الحنفيَّة والشَّافعية والحنابلة) والاعتبار في التَّقدُّم أو عدمه للقائم بالعقب وهو مؤخر القدم لا الكعب فلو تساويا في العقب وتقدمت أصابع المأموم لطول قدمه لا يضر والعبرة بالتَّقدُّم بالآلية للقاعدين وبالجنب للمضجعين.
وقد سئل فضيلة الشَّيخ بن عثيمين -رحمه الله-: الَّذي يصلِّي على الكرسي في المسجد هل يجعل أرجل الكرسي الخلفيَّة بمحاذاة أرجل المصلِّين أم يجعل أرجله الأماميَّة بمحاذاة أرجل المصلِّين ؟ فأجاب -رحمه الله-: "يجعل أرجل الكرسي الخلفيَّة بمحاذاة أرجل المصلِّين".
سئل الشَّيخ -رحمه الله-: لكن لو قام سيكون متقدمًا على الصَّفِّ فأجاب -رحمه الله-: "هو ليس بقائمٍ (فيجعل) عجيزته موازية لأرجل المصلِّين".
قال د. أحمد ذياب شويدح -رابطة علماء فلسطين-: "وإذا عجز المصلِّي عنِ القيام فصلَّى جالسًا كانت استقامة الصَّفِّ في حقِّه بالمناكب لا بالأقدام ولا عبرة لأجل الكرسي حتَّى لا يضيق على يقف في الصَّفِّ الثَّاني، ولأنَّ هذا مقام المصلِّي جالسًا على الأرض بين الصُّفوف والأجدر أن يأخذ أطراف الصُّفوف لا منتصفها فهو أيسر له وأقوم للصَّف من الخلل".
المكان الصَّحيح في الصَّلاة لمن يجلس على الكرسي
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "إنَّ المصلِّي على الكرسي لم نعثر ما يدلُّ على ارتباطه بمكانٍ معينٍ في الصَّفِّ، وبالتَّالي فله الصَّلاة في أي مكانٍ فيه، ولكن ينبغي أن يحرص على الانسجام في الصَّفِّ وألا يؤدي وجوده إلى حدوث فرجه إلى جواره في الصَّفِّ أو عدم تسويته".
قال المجلس الإسلامي للإفتاء -بيت المقدس-: "إذا صلَّى في جماعةٍ صلَّى في الصُّفوف المتأخِّرة على يسارها ولا يقطع الصُّفوف وخاصَّة الصَّف الأوَّل".
صلاة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مرضه
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مرضه الَّذي مات فيه: «مروا أبا بكر أن يصلِّي بالنَّاس» وصلَّى النَّبي خلفه قاعدًا [رواه البخاري 713].
عن أنس بن مالك قال: "كان آخر صلاة صلاها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وعليه برد متوشحًا به وهو قاعد" [مسند أحمد].
قال المجلس الإسلامي للافتاء -بيت المقدس-: "لم ينقل عن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- صلاته في مرضه على كرسي أو سريرٍ أو دكةٍ، وكانت هذه كلّها موجودة في زمن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا يمنعه الحياء أو الكبر من الصَّلاة قاعدًا على الأرض وهو قادرٌ، ويصلِّي على كرسي إيماءً؛ لأنَّ صلاته تكون باطلةٌ".
الصَّلاة على كرسي أفضل أمِ الصَّلاة على الأرض
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "فالقيام في الصَّلاة المفروضة ركنٌ من أركانها لا تجزئ بدونه، ولا ينتقل المصلِّي إلى الصَّلاة جالسًا إلا بعد عجزة عن القيام ففي صحيح البخاري عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: كانت بي بواسير فسألت النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الصَّلاة، فقال: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» [رواه البخاري 1117].، فإذا تحقق العجز عن القيام جاز له أن يصلِّي جالسًا لكن جلوسه هذا لا يبرر تركه للسُّجود؛ لأنَّ السجود ركنٌ من أركان الصَّلاة لا تجزئ بدونه، وبالتَّالي فلا تجزئ صلاته على كرسي إذا ترتب عليها تركه للسُّجود، وأمَّا النافلة فيجوز للقادر على القيام أن يصلِّيها جالسًا وله نصف أجر القائم، ولكن عليه أن يسجد على الأرض إذا أمكن ذلك مع التَّنبيه على أنَّ المصلِّي جالسًا له هيئتان مفصلتان فصَّلهما الإمام النَّووي في المجموع قائلًا: "وأمَّا القعود الَّذي هو بدل القيام وفي موضعه ففي الأفضل منه قولان ووجهان: أصحُّ القولين وهو أصحُّ الجميع يقعد مفترشًا وهو رواية المزني وغيره، وبه قال أبو حنيفة وزفر (والثَّاني) متربعًا وهو رواية البويطي وغيره، وبه قال مالك والثَّوري والليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وذكر المصنف دليلها وأحد الوجهين متوركًا حكاه إمام الحرمين والغزالي في البسيط وغيرهما؛ لأنَّه أعون للمصلِّي والثَّاني: يقعد ناصبًا ركبته اليمنى جالسًا على اليسرى وهو مشهور عند الخراسانين واختاره القاضي حسين لأنَّه أبلغ في الأدب".
نوعيَّة الكرسي الَّذي يستخدمه المصلي للصلاة عليه في المسجد
ممَّا ينبغي التَّنبيه عليه على من يصلِّي على الكرسي في المسجد أن يختار كرسي لا يشغل ولا يأخذ حيزًا أو مكانًا أكثر من جسمه في الصَّلاةٍ ولا كرسيًّا كبيرًا.
الصَّلاة خلف إمامٍ مقعدٍ على كرسي
قال الشَّيخ بن عثيمين -رحمه الله-: "صلِّ مع هذا المقعد الَّذي يصلِّي جالسًا؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «إنَّما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلَّى قائما فصلُّوا قيامًا، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمد، وإذا صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون» [رواه البخاري 689 ومسلم 411]"، وذكر الشَّيخ بن عثيمين -رحمه الله-: "أنَّه لا دليل على أنَّه لا يصح أن يأتم القادر على القيام بالعاجز عنه".
حكم الصَّلاة على الكراسي في آخر المسجد بمسافاتٍ كبيرةٍ عن صفوف المصلِّين
الأدلة المرغِّبة في الصَّفِّ الأوَّل لم تفرق بين القائم والقاعد فالمسلمون جميعًا مأمورون بالمنافسة في الصَّف الأوَّل وليس لأحدٍ أن يمنع من أراد الخير من فعله، ولكن إذا كان قعود صاحب الكرسي في الصَّفِّ يحدث فرجةً أو خللًا فيه فتوقي ذلك أحسن ويمكن أن يصلِّي عن يمين الصف وشماله بحيث لا تحدث فرجه في الصَّفِّ.
وأقول أنَّ الأحاديث الواردة بتسوية الصُّفوف واتصالها وتقاربها لم تفرق بين القائم والقاعد وقد حدَّد العلماء أين يصفُّ الَّذي يصلِّي على كرسي (كما سبق) وهذه الأحاديث الواردة بتسوية الصُّفوف:
عنِ النُّعمان بن بشير قال: قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» [رواه البخاري 717 ومسلم 436].
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أنَّه قدم المدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟ قال: "ما أنكرت شيئًا إلا أنَّكم لا تقيمون الصُّفوف".
عن أنس أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «سووا صفوفكم، فإنَّ تسوية الصُّفوف من إقامة الصَّلاة» [رواه البخاري 723].
ولقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإنِّي أراكم من وراء ظهري» [رواه البخاري 719]، وقال أنس وهو راوي الحديث: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه".
عن أنس أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «راصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق» [رواه النَّسائي 814 وصحَّحه الألباني].
قال السّندي -رحمه الله-: "قوله «راصوا صفوفكم» بانضمام بعضكم إلى بعض على السَّواء، «وقاربوا بينها» أي: اجعلوا ما بين صفَّين من الفصل قليلًا، بحيث يقرب بعض الصُّفوف إلى بعضٍ".
وقال المناوي -رحمه الله-: "«وقاربوا بينها» بحيث لا يسع بين كلِّ صفين صف آخر حتَّى لا يقدر الشَّيطان أن يمرَّ بين أيديكم".
عن أنس أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «أتموا الصَّفَّ الأوَّل ثمَّ الَّذي يليه..» [رواه النَّسائي 817 وصحَّحه الألباني].
وسئل الشَّيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ما حكم الصَّلاة الَّتي نصليها في فناء المسجد؟ علمًا بأنَّ الفناء في المسجد تابعٌ له؟
فأجاب: الصَّلاة في فناء المسجد إذا كان جميع المصلِّين صلُّوا فيه فلا أشكال في جوازها، وأما إذا كان المصلُّون يصلون في داخل المسقوف وهؤلاء صاروا في خارج فيقال: خالفتم السُّنَّة، لأنَّ السُّنَّة أن تتقارب الصُّفوف بعضها من بعضٍ، وأن لا يصلُّوا في مكان والإمام يصلِّي في مكانٍ آخرٍ، لكن صلاتهم على كلِّ تقديرٍ صحيحةٌ (فتاوى نور على الدَّرب).
وقال الشَّيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ومن تسوية الصُّفوف: التَّقارب فيما بينها وبين الإمام لأنَّهم جماعةٌ، والجماعة مأخوذة من الاجتماع: ولا اجتماع كامل مع التَّباعد فكلَّما قربت الصُّفوف بعضها إلى بعضٍ، وقربت إلى الإمام كان أفضل وأجمل ونحن نرى في بعض المساجد أنَّ بين الإمام وبين الصَّفِّ الأوَّل ما يتسع لصفٍّ أو صفِّين أي أنَّ الإمام يتقدَّم كثيرًا وهذا فيما أظنُّ صادر عن الجهل فالسُّنَّة للإمام أن يكون قريبًا من المأمومين، وللمأمومين أن يكونوا قريبين من الإمام وأن يكون كلّ صفِّ قريبًا من الصَّفِّ الآخر. (وحد القرب أن يكون بينهما مقدار ما يسع للسجود وزيادة يسيرة) (الشَّرح الممتع).
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "فتسوية الصُّفوف تكون بإلصاق المنكب بالمنكب والكعب بالكعب ففي صحيح البخاري: باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصَّفِّ، وقال النَّعمان بن بشير: "رأيت الرَّجل منَّا يلزق كعبه بكعب صاحبه"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "واستدل بحديث النَّعمان هذا على أنَّ المراد بالكعب في آية الوضوء العظم النَّاتئ من جانبي الرَّجل وهو عند ملتقى السَّاق والقدم وهو الَّذي يمكن أن يلزق بالَّذي جنبه خلافًا لمن ذهب أن المراد بالكعب مؤخر القدم وهو قول شاذ ينسب إلى بعضٍ الحنفيَّة ولم يثبته محققوهم وأثبته بعضهم في مسألة الحجِّ لا الوضوء".
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "مكان صلاة الجالس واسع فله أن يصلِّي وراء الإمام مباشرةً أو في طرف الصَّفِّ أو في أيِّ جهةٍ منه، فالأمر في ذلك واسع فالشَّخص الَّذي يصلِّي بعيدًا على كرسي عليه أن يسعى جهده حتَّى يتصل بالصَّفِّ ولا يصلِّي بعيدًا عنه لما في ذلك من تقطيع الصُّفوف فقد قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ومن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله» [رواه أبو داود 666 والنَّسائي 818 وصحَّحه الألباني].
وبناءً على ذلك: مادام مكان صلاة الجالس واسع ولا يوجد دليلٌ أو نص لمكان جلوسه وله أن يجلس في أيِّ مكانٍ خلال الصَّفِّ أو في طرفي الصَّفِّ بشرط تسوية الصُّفوف، ووضع الكراسي في نهاية المسجد ووجود فراغ بين الصُّفوف يعتبر مخالفة ٌلأحاديث الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفتاوى العلماء لما فيها من انقطاع الصُّفوف وعدم تراصها ومساواتها وعدم الخلل.
فالأولى أن يقوموا في الصُّفوف إلا أن يخافوا أذية المصلين فالأجدر أطراف الصُّفوف. والله أعلم.
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله محمَّدٍ وعلى آله وصحبه.
إعداد
محمد رجب عبد المنعم
قرأت على
سماحة الشَّيخ / عبد الرَّحمن عبد الخالق -حفظه الله-
فقد انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة (الصَّلاة على الكرسي) في أكثر المساجد، مع قدرة الكثير من المصلِّين على الصَّلاة قائمًا.
لذا قمت بجمع آراء بعض العلماء بشأن أحكام الصَّلاة على الكرسي في الصَّلاة المكتوبة وقرأتها على فضيلة الشَّيخ/ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه الله- وأسأل الله -تعالى- أن ينفع بها ويهدينا إلى سواء السَّبيل.
حكم الصَّلاة قاعدًا
عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: كانت بي بواسير فسألت النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» [رواه البخاري 1117].
قال ابن قدامه المقدسي في المغني: "أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام، له أن يصلِّي جالسًا".
قال النَّووي في المجموع: "أجمعت الأمَّة على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعدًا ولا إعادة عليه، قال أصحابنا: ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام؛ لأنَّه معذورٌ، وقد ثبت في صحيح البخاري أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «إذا مرض العبد، أو سافر، كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا» [رواه البخاري 2996].
قال الشَّوكاني في نيل الأوطار: "وحديث عمران يدلُّ على أنَّه يجوز لمن حصل له عذر لا يستطيع معه القيام أن يصلِّي قاعدًا ولمن حصل له عذر لا يستطيع معه القعود أن يصلِّي على جنبه".
حكم من صلَّى الفريضة جالسًا وهو قادرٌ على القيام
قال ابن قدامه المقدسي: "ومن قدر على القيام وعجز عنِ الرُّكوع أوِ السُّجود لم يسقط عنه القيام، ويصلِّي قائمًا فيؤمئ بالرُّكوع ثمَّ يجلس فيؤمئ بالسُّجود، وبهذا قال الشَّافعي لقوله -تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «صلِّ قائمًا» [رواه البخاري 1117]؛ ولأنَّ القيام ركنٌ لمن قدر عليه فلزمه الإتيان به كالقراءة، والعجز عن غيره لا يقتضي سقوطه كما لو عجز عن القراءة. انتهى
فتاوى أهل العالم المعاصرين حول حكم الصَّلاة على الكرسي
ولو أجد أثناء بحثي أنَّ أحدًا من أهل العلم الأقدمين والسَّلف السَّابقين قد أجاز صلاة غير القادر على الكرسي، وإنَّما جاء في كلام المفتيين المحدثين وإليك الفتاوى الَّتي صدرت حديثًا بهذا الشَّأن:
قال الشَّيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "الواجب على من صلَّى جالسًا على الأرض أو على الكرسي أن يجعل سجوده اخفض من ركوعه والسُّنَّة له أن يجعل يديه على ركبتيه في حال الركوع أمَّا في السُّجود فالواجب أن يجعلهما على الأرض إن استطاع، فإن لم يستطع جعلهما على ركبتيه، لما ثبت عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- أنَّه قال «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين، والرُّكبتين، وأطراف القدمين، ولا نكفت الثِّياب والشَّعر» [ متفقٌ عليه].
ومن عجز عن ذلك وصلَّى على كرسي فلا حرج في ذلك قول الله -سبحانه وتعالى-: {فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغابن: 16]، وقول النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» [رواه البخاري 7288]" انتهى.
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "المصلِّي على كرسي إذا كان يترك الجلوس أوِ السُّجود مع القدرة عليه فصلاته باطلةٌ لتركه ركن من أركان الصَّلاة".
قال د.أحمد ذياب شويدح -رابطة علماء فلسطين-: "اتفق الفقهاء على أنَّ القيام ركنٌ في صلاة الفرض للقادر عليه؛ لقوله -تعالى-: {وَقُومُوا لِلَّـهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقد أخرج البخاري حديثًا لعمران بن حصين لما أصابه البواسير، وبناءً على ذلك فإنَّ كان الجالس على الكرسي قادرًا على القيام دون مشقَّةٍ كثيرةٍ لم تصح صلاته لفوات ركنٍ منها وينبغي عليه أن يحاول القيام ولو أثناء قراءة الفاتحة فقط، ومن كان قادرًا على أن يصلِّي على الأرض فالأولى أن يصلِّي على الكرسي؛ لأنَّه قد يفوته عمل السُّجود وهو قادر عليه فلا تصح صلاته، ومن لا يستطيع الرُّكوع كمصاب القدم أو القدمين ويجلس أرضًا أو على كرسي فلا يجوز له ترك السُّجود وهو قادر عليه فكل ركنِ له أحواله الخاصَّة به فقد يستطيع المريض القيام ولا يستطيع الرُّكوع، وقد يستطيع الرُّكوع ولا يستطيع السُّجود، أو لا يستطيع الرُّكوع ويستطيع السُّجود فلابد أن يؤدي ما يستطيعه من تلك الأركان وإلا لم تصح صلاته لفوات ركنٍ منها.
أمَّا في صلاة النَّافلة فيجوز الجلوس فيها لعذرٍ أو لغير عذرٍ؛ لقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «من صلَّى قائمًا فهو أفضل، ومن صلَّى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلَّى نائمًا فله نصف أجر القاعد» [رواه البخاري 1116].
قال المجلس الإسلام للإفتاء ببيت المقدس: "إنِ استطاع أن يبدأ قائمًا وجب عليه القيام، فإن استطاع الرُّكوع وجب عليه قائمًا ويجلس على الكرسي للسُّجود، فإن لم يستطع يجلس عند الرُّكوع والسُّجود ويكون سجوده أخفض من ركوعه، وإذا عجز عن الوقوف أو القعود على الأرض جلس على الكرسي وأومأ بالرُّكوع فإنِ استطاع السُّجود سجد فإن لم يستطع السُّجود أومأ، وإذا كان يستطيع الجلوس على الأرض وصلَّى على الكرسي لا تصح صلاته؛ لمخالفته لحديث وفعل الرَّسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في صلاته على الأرض قاعدًا".
كيفية وضع الكرسي في الصَّفِّ
ذكر العلماء -رحمهم الله- أنَّ العبرة فيمن صلَّى جالسًا مساواة الصَّفَّ بمقعدته، فلا يتقدَّم أو يتأخَّر عنِ الصَّفِّ بها؛ لأنَّها الموضع الَّذي يستقر عليه البدن.
جاء في الموسوعة الفقهيَّة: يتشرط لصحة الاقتداء (أي اقتداء المأموم بالإمام) ألا يتقدم المقتدي إمامه في الموقف عن جمهور الفقهاء (الحنفيَّة والشَّافعية والحنابلة) والاعتبار في التَّقدُّم أو عدمه للقائم بالعقب وهو مؤخر القدم لا الكعب فلو تساويا في العقب وتقدمت أصابع المأموم لطول قدمه لا يضر والعبرة بالتَّقدُّم بالآلية للقاعدين وبالجنب للمضجعين.
وقد سئل فضيلة الشَّيخ بن عثيمين -رحمه الله-: الَّذي يصلِّي على الكرسي في المسجد هل يجعل أرجل الكرسي الخلفيَّة بمحاذاة أرجل المصلِّين أم يجعل أرجله الأماميَّة بمحاذاة أرجل المصلِّين ؟ فأجاب -رحمه الله-: "يجعل أرجل الكرسي الخلفيَّة بمحاذاة أرجل المصلِّين".
سئل الشَّيخ -رحمه الله-: لكن لو قام سيكون متقدمًا على الصَّفِّ فأجاب -رحمه الله-: "هو ليس بقائمٍ (فيجعل) عجيزته موازية لأرجل المصلِّين".
قال د. أحمد ذياب شويدح -رابطة علماء فلسطين-: "وإذا عجز المصلِّي عنِ القيام فصلَّى جالسًا كانت استقامة الصَّفِّ في حقِّه بالمناكب لا بالأقدام ولا عبرة لأجل الكرسي حتَّى لا يضيق على يقف في الصَّفِّ الثَّاني، ولأنَّ هذا مقام المصلِّي جالسًا على الأرض بين الصُّفوف والأجدر أن يأخذ أطراف الصُّفوف لا منتصفها فهو أيسر له وأقوم للصَّف من الخلل".
المكان الصَّحيح في الصَّلاة لمن يجلس على الكرسي
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "إنَّ المصلِّي على الكرسي لم نعثر ما يدلُّ على ارتباطه بمكانٍ معينٍ في الصَّفِّ، وبالتَّالي فله الصَّلاة في أي مكانٍ فيه، ولكن ينبغي أن يحرص على الانسجام في الصَّفِّ وألا يؤدي وجوده إلى حدوث فرجه إلى جواره في الصَّفِّ أو عدم تسويته".
قال المجلس الإسلامي للإفتاء -بيت المقدس-: "إذا صلَّى في جماعةٍ صلَّى في الصُّفوف المتأخِّرة على يسارها ولا يقطع الصُّفوف وخاصَّة الصَّف الأوَّل".
صلاة الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مرضه
عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في مرضه الَّذي مات فيه: «مروا أبا بكر أن يصلِّي بالنَّاس» وصلَّى النَّبي خلفه قاعدًا [رواه البخاري 713].
عن أنس بن مالك قال: "كان آخر صلاة صلاها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وعليه برد متوشحًا به وهو قاعد" [مسند أحمد].
قال المجلس الإسلامي للافتاء -بيت المقدس-: "لم ينقل عن الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- صلاته في مرضه على كرسي أو سريرٍ أو دكةٍ، وكانت هذه كلّها موجودة في زمن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا يمنعه الحياء أو الكبر من الصَّلاة قاعدًا على الأرض وهو قادرٌ، ويصلِّي على كرسي إيماءً؛ لأنَّ صلاته تكون باطلةٌ".
الصَّلاة على كرسي أفضل أمِ الصَّلاة على الأرض
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "فالقيام في الصَّلاة المفروضة ركنٌ من أركانها لا تجزئ بدونه، ولا ينتقل المصلِّي إلى الصَّلاة جالسًا إلا بعد عجزة عن القيام ففي صحيح البخاري عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: كانت بي بواسير فسألت النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الصَّلاة، فقال: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» [رواه البخاري 1117].، فإذا تحقق العجز عن القيام جاز له أن يصلِّي جالسًا لكن جلوسه هذا لا يبرر تركه للسُّجود؛ لأنَّ السجود ركنٌ من أركان الصَّلاة لا تجزئ بدونه، وبالتَّالي فلا تجزئ صلاته على كرسي إذا ترتب عليها تركه للسُّجود، وأمَّا النافلة فيجوز للقادر على القيام أن يصلِّيها جالسًا وله نصف أجر القائم، ولكن عليه أن يسجد على الأرض إذا أمكن ذلك مع التَّنبيه على أنَّ المصلِّي جالسًا له هيئتان مفصلتان فصَّلهما الإمام النَّووي في المجموع قائلًا: "وأمَّا القعود الَّذي هو بدل القيام وفي موضعه ففي الأفضل منه قولان ووجهان: أصحُّ القولين وهو أصحُّ الجميع يقعد مفترشًا وهو رواية المزني وغيره، وبه قال أبو حنيفة وزفر (والثَّاني) متربعًا وهو رواية البويطي وغيره، وبه قال مالك والثَّوري والليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وذكر المصنف دليلها وأحد الوجهين متوركًا حكاه إمام الحرمين والغزالي في البسيط وغيرهما؛ لأنَّه أعون للمصلِّي والثَّاني: يقعد ناصبًا ركبته اليمنى جالسًا على اليسرى وهو مشهور عند الخراسانين واختاره القاضي حسين لأنَّه أبلغ في الأدب".
نوعيَّة الكرسي الَّذي يستخدمه المصلي للصلاة عليه في المسجد
ممَّا ينبغي التَّنبيه عليه على من يصلِّي على الكرسي في المسجد أن يختار كرسي لا يشغل ولا يأخذ حيزًا أو مكانًا أكثر من جسمه في الصَّلاةٍ ولا كرسيًّا كبيرًا.
الصَّلاة خلف إمامٍ مقعدٍ على كرسي
قال الشَّيخ بن عثيمين -رحمه الله-: "صلِّ مع هذا المقعد الَّذي يصلِّي جالسًا؛ لأنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «إنَّما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا صلَّى قائما فصلُّوا قيامًا، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربَّنا ولك الحمد، وإذا صلَّى قائمًا فصلُّوا قيامًا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون» [رواه البخاري 689 ومسلم 411]"، وذكر الشَّيخ بن عثيمين -رحمه الله-: "أنَّه لا دليل على أنَّه لا يصح أن يأتم القادر على القيام بالعاجز عنه".
حكم الصَّلاة على الكراسي في آخر المسجد بمسافاتٍ كبيرةٍ عن صفوف المصلِّين
الأدلة المرغِّبة في الصَّفِّ الأوَّل لم تفرق بين القائم والقاعد فالمسلمون جميعًا مأمورون بالمنافسة في الصَّف الأوَّل وليس لأحدٍ أن يمنع من أراد الخير من فعله، ولكن إذا كان قعود صاحب الكرسي في الصَّفِّ يحدث فرجةً أو خللًا فيه فتوقي ذلك أحسن ويمكن أن يصلِّي عن يمين الصف وشماله بحيث لا تحدث فرجه في الصَّفِّ.
وأقول أنَّ الأحاديث الواردة بتسوية الصُّفوف واتصالها وتقاربها لم تفرق بين القائم والقاعد وقد حدَّد العلماء أين يصفُّ الَّذي يصلِّي على كرسي (كما سبق) وهذه الأحاديث الواردة بتسوية الصُّفوف:
عنِ النُّعمان بن بشير قال: قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» [رواه البخاري 717 ومسلم 436].
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: أنَّه قدم المدينة فقيل له: ما أنكرت منا منذ عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟ قال: "ما أنكرت شيئًا إلا أنَّكم لا تقيمون الصُّفوف".
عن أنس أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «سووا صفوفكم، فإنَّ تسوية الصُّفوف من إقامة الصَّلاة» [رواه البخاري 723].
ولقوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإنِّي أراكم من وراء ظهري» [رواه البخاري 719]، وقال أنس وهو راوي الحديث: "وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه".
عن أنس أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «راصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق» [رواه النَّسائي 814 وصحَّحه الألباني].
قال السّندي -رحمه الله-: "قوله «راصوا صفوفكم» بانضمام بعضكم إلى بعض على السَّواء، «وقاربوا بينها» أي: اجعلوا ما بين صفَّين من الفصل قليلًا، بحيث يقرب بعض الصُّفوف إلى بعضٍ".
وقال المناوي -رحمه الله-: "«وقاربوا بينها» بحيث لا يسع بين كلِّ صفين صف آخر حتَّى لا يقدر الشَّيطان أن يمرَّ بين أيديكم".
عن أنس أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: «أتموا الصَّفَّ الأوَّل ثمَّ الَّذي يليه..» [رواه النَّسائي 817 وصحَّحه الألباني].
وسئل الشَّيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ما حكم الصَّلاة الَّتي نصليها في فناء المسجد؟ علمًا بأنَّ الفناء في المسجد تابعٌ له؟
فأجاب: الصَّلاة في فناء المسجد إذا كان جميع المصلِّين صلُّوا فيه فلا أشكال في جوازها، وأما إذا كان المصلُّون يصلون في داخل المسقوف وهؤلاء صاروا في خارج فيقال: خالفتم السُّنَّة، لأنَّ السُّنَّة أن تتقارب الصُّفوف بعضها من بعضٍ، وأن لا يصلُّوا في مكان والإمام يصلِّي في مكانٍ آخرٍ، لكن صلاتهم على كلِّ تقديرٍ صحيحةٌ (فتاوى نور على الدَّرب).
وقال الشَّيخ ابن عثيمين -رحمه الله-: ومن تسوية الصُّفوف: التَّقارب فيما بينها وبين الإمام لأنَّهم جماعةٌ، والجماعة مأخوذة من الاجتماع: ولا اجتماع كامل مع التَّباعد فكلَّما قربت الصُّفوف بعضها إلى بعضٍ، وقربت إلى الإمام كان أفضل وأجمل ونحن نرى في بعض المساجد أنَّ بين الإمام وبين الصَّفِّ الأوَّل ما يتسع لصفٍّ أو صفِّين أي أنَّ الإمام يتقدَّم كثيرًا وهذا فيما أظنُّ صادر عن الجهل فالسُّنَّة للإمام أن يكون قريبًا من المأمومين، وللمأمومين أن يكونوا قريبين من الإمام وأن يكون كلّ صفِّ قريبًا من الصَّفِّ الآخر. (وحد القرب أن يكون بينهما مقدار ما يسع للسجود وزيادة يسيرة) (الشَّرح الممتع).
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "فتسوية الصُّفوف تكون بإلصاق المنكب بالمنكب والكعب بالكعب ففي صحيح البخاري: باب إلزاق المنكب بالمنكب والقدم بالقدم في الصَّفِّ، وقال النَّعمان بن بشير: "رأيت الرَّجل منَّا يلزق كعبه بكعب صاحبه"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "واستدل بحديث النَّعمان هذا على أنَّ المراد بالكعب في آية الوضوء العظم النَّاتئ من جانبي الرَّجل وهو عند ملتقى السَّاق والقدم وهو الَّذي يمكن أن يلزق بالَّذي جنبه خلافًا لمن ذهب أن المراد بالكعب مؤخر القدم وهو قول شاذ ينسب إلى بعضٍ الحنفيَّة ولم يثبته محققوهم وأثبته بعضهم في مسألة الحجِّ لا الوضوء".
قال مركز الفتوى -إسلام ويب-: "مكان صلاة الجالس واسع فله أن يصلِّي وراء الإمام مباشرةً أو في طرف الصَّفِّ أو في أيِّ جهةٍ منه، فالأمر في ذلك واسع فالشَّخص الَّذي يصلِّي بعيدًا على كرسي عليه أن يسعى جهده حتَّى يتصل بالصَّفِّ ولا يصلِّي بعيدًا عنه لما في ذلك من تقطيع الصُّفوف فقد قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ومن وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله» [رواه أبو داود 666 والنَّسائي 818 وصحَّحه الألباني].
وبناءً على ذلك: مادام مكان صلاة الجالس واسع ولا يوجد دليلٌ أو نص لمكان جلوسه وله أن يجلس في أيِّ مكانٍ خلال الصَّفِّ أو في طرفي الصَّفِّ بشرط تسوية الصُّفوف، ووضع الكراسي في نهاية المسجد ووجود فراغ بين الصُّفوف يعتبر مخالفة ٌلأحاديث الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفتاوى العلماء لما فيها من انقطاع الصُّفوف وعدم تراصها ومساواتها وعدم الخلل.
فالأولى أن يقوموا في الصُّفوف إلا أن يخافوا أذية المصلين فالأجدر أطراف الصُّفوف. والله أعلم.
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله محمَّدٍ وعلى آله وصحبه.
إعداد
محمد رجب عبد المنعم
قرأت على
سماحة الشَّيخ / عبد الرَّحمن عبد الخالق -حفظه الله-
تعليق