السؤال:
ما هو فقه الموازنات , وما موقف الإسلام منه ؟
الجواب :
الحمد لله
فقه الموازنات يقصد به الفقه الذي يتعلق بالمصالح والمفاسد , وطرق الترجيح بين المصالح عند التعارض والتزاحم , وكذا الترجيح بين المفاسد إذا تعين فعل بعضها .
وقد عَرَّفه كثير من المعاصرين بتعريفات متقاربة , منها ما ذكره الدكتور عبد الله الكمالي بأنه "المفاضلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة والمتزاحمة لتقديم أو تأخير الأوْلى بالتقديم أو التأخير" انتهى من " تأصيل فقه الموازنات " ، عبد الله الكمالي (ص 49) .
وقد جاء في نصوص القرآن الكريم ما يشهد لهذا النوع من الفقه بالاعتبار , فمن ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا . وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا )
الكهف / 79 – 81،
فالخضر عليه السلام بما علَّمه الله من علم وحكمة أقدَم على مفسدة خرق السفينة ليدفع مفسدة ضياعها بالكلية على يد الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة غصبا , وأقدم على مفسدة قتل الغلام ليدفع مفسدة إرهاق أبويه طغيانا وكفرا , وكانت هذه الصورة الأخيرة جائزة في حقه غير جائزة في شرعنا .
وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (2 / 58) : " ولو اطلع موسى على ما في خرق السفينة من المصلحة ، وعلى ما في قتل الغلام من المصلحة، وعلى ما في ترك السفينة من مفسدة غصبها، وعلى ما في إبقاء الغلام من كفر أبويه وطغيانهما ، لما أنكر عليه ولساعده في ذلك وصوب رأيه ، لما في ذلك من القربة إلى الله - عز وجل -، ولو وقع مثل ذلك في زماننا هذا لكان حكمه كذلك ، وله أمثلة كثيرة : منها: أن تكون السفينة ليتيم يخاف عليها الوصي أن تغصب ، وعلم الوصي أنه لو خرقها لزهد الغاصب عن غصبها، فإنه يلزمه خرقها حفظا للأكثر بتفويت الأقل ، فإن حفظ الكثير الخطير بتفويت القليل الحقير من أحسن التصرفات وقد قال تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) [الأنعام: 152] " انتهى .
وفي السنة المطهرة ما يدل على ذلك أيضا , ومن ذلك:
أولا: أخرج البخاري (1586) ، ومسلم (1333) عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : ( يَا عَائِشَةُ ، لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ ، بَابًا شَرْقِيًّا ، وَبَابًا غَرْبِيًّا ، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ ) .
فهذا دليل على تقديم أولى المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين .
وفي ذلك يقول النووي رحمه الله تعالى عند شرحه لهذا الحديث : "فِيهِ دَلِيلٌ لِتَقْدِيمِ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ جَمِيعِهَا " انتهى من " شرح النووي على مسلم" (9 / 90).
وفي " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 448): " وَفِيهِ تَرْكُ مَا هُوَ صَوَابٌ خَوْفَ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ أَشَدَّ، وَاسْتِئْلَافُ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَاجْتِنَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ مَا يَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى إِنْكَارِهِ ، وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّدُ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا ، وَتَأَلُّفَ قُلُوبِهِمْ بِمَا لَا يُتْرَكُ فِيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ ، كَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ ، وَجَلْبِ الْمَصْلَحَةِ ، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِرَفْعِ الْمَفْسَدَة " انتهى .
ثانيا:
ما أخرجه البخاري (220) ، ومسلم (284) : " أن أَعْرَابِيا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) .
قال النووي في شرحه على مسلم (3 / 191): " وَفِيهِ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَخَفِّهِمَا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (دَعُوهُ) قَالَ الْعَلَمَاءُ: كَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (دَعُوهُ) لِمَصْلَحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ بَوْلَهُ تَضَرَّرَ وَأَصْلُ التَّنْجِيسِ قَدْ حَصَلَ فَكَانَ احْتِمَالُ زِيَادَتِهِ أَوْلَى مِنْ إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِهِ . وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ التَّنْجِيسَ قَدْ حَصَلَ فِي جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَوْ أَقَامُوهُ فِي أَثْنَاءِ بَوْلِهِ لَتَنَجَّسَتْ ثِيَابُهُ وَبَدَنُهُ وَمَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ من المسجد" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري " (1 / 324) : " لَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ لِمَ نَهَيْتُمُ الْأَعْرَابِيَّ ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ، وَهُوَ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا ، وَتَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَرْكِ أَيْسَرِهِمَا " انتهى .
وقال الإمام بدر الدين العيني في " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " (3 / 127): " فيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فإن البول فيه مفسدة ، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها ، فدفع أعظمهما بأيسر المفسدتين ، وتنزيه المسجد عنه مصلحة وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما" انتهى.
ولم يستخدم الفقهاء الأوائل مصطلح (فقه الموازنات) وإنما تحدثوا عن مضمونه ومحتواه عند حديثهم عن تعارض المصالح وتزاحمها , وكذا المفاسد .
ومثال ذلك قول العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (1 / 5): " ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل ، وذلك معظم الشرائع ؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ، ودرء المفاسد المحضة ، عن نفس الإنسان وعن غيره : محمود حسن ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها : محمود حسن ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها : محمود حسن ، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة : محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن " انتهى.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (20 / 57) :
" فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا ، فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا : لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا , وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ : تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا ، إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا : لمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ , وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكَ وَاجِبٍ ، وَسُمِّيَ هَذَا فِعْل مُحَرَّمٍ ، بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ : لَمْ يَضُرَّ، وَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا تَرْكُ الْوَاجِبِ لِعُذْرِ ، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ ؛ أَوْ لِدَفْعِ مَا هُوَ أحرم"
انتهى .
وجاء في " الفروق" للقرافي (3 / 22) : " إنَّ شَأْنَ الشَّرَائِعِ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِإِيقَاعِ أَدْنَاهَا ، وَتَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا" انتهى.
وجاء في " المنثور في القواعد الفقهية " (1 / 348): " وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ : أَنْ تُدْرَأَ أَعْظَمُ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا" انتهى.
والخلاصة : أن فقه الموازنات يعتمد على تقديم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى , ومصلحة العامة على مصلحة الخاصة , ومصلحة الكثرة على مصلحة القلة , ويعتمد أيضا تقديم الضروريات على الحاجيات , وتقديم الحاجيات على التحسينيات , وهكذا أبدا: تقديم الأهم على المهم , والراجح على المرجوح .
والله أعلم.
ما هو فقه الموازنات , وما موقف الإسلام منه ؟
الجواب :
الحمد لله
فقه الموازنات يقصد به الفقه الذي يتعلق بالمصالح والمفاسد , وطرق الترجيح بين المصالح عند التعارض والتزاحم , وكذا الترجيح بين المفاسد إذا تعين فعل بعضها .
وقد عَرَّفه كثير من المعاصرين بتعريفات متقاربة , منها ما ذكره الدكتور عبد الله الكمالي بأنه "المفاضلة بين المصالح والمفاسد المتعارضة والمتزاحمة لتقديم أو تأخير الأوْلى بالتقديم أو التأخير" انتهى من " تأصيل فقه الموازنات " ، عبد الله الكمالي (ص 49) .
وقد جاء في نصوص القرآن الكريم ما يشهد لهذا النوع من الفقه بالاعتبار , فمن ذلك قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا . وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا )
الكهف / 79 – 81،
فالخضر عليه السلام بما علَّمه الله من علم وحكمة أقدَم على مفسدة خرق السفينة ليدفع مفسدة ضياعها بالكلية على يد الملك الظالم الذي يأخذ كل سفينة غصبا , وأقدم على مفسدة قتل الغلام ليدفع مفسدة إرهاق أبويه طغيانا وكفرا , وكانت هذه الصورة الأخيرة جائزة في حقه غير جائزة في شرعنا .
وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (2 / 58) : " ولو اطلع موسى على ما في خرق السفينة من المصلحة ، وعلى ما في قتل الغلام من المصلحة، وعلى ما في ترك السفينة من مفسدة غصبها، وعلى ما في إبقاء الغلام من كفر أبويه وطغيانهما ، لما أنكر عليه ولساعده في ذلك وصوب رأيه ، لما في ذلك من القربة إلى الله - عز وجل -، ولو وقع مثل ذلك في زماننا هذا لكان حكمه كذلك ، وله أمثلة كثيرة : منها: أن تكون السفينة ليتيم يخاف عليها الوصي أن تغصب ، وعلم الوصي أنه لو خرقها لزهد الغاصب عن غصبها، فإنه يلزمه خرقها حفظا للأكثر بتفويت الأقل ، فإن حفظ الكثير الخطير بتفويت القليل الحقير من أحسن التصرفات وقد قال تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) [الأنعام: 152] " انتهى .
وفي السنة المطهرة ما يدل على ذلك أيضا , ومن ذلك:
أولا: أخرج البخاري (1586) ، ومسلم (1333) عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا : ( يَا عَائِشَةُ ، لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ ، بَابًا شَرْقِيًّا ، وَبَابًا غَرْبِيًّا ، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ ) .
فهذا دليل على تقديم أولى المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين .
وفي ذلك يقول النووي رحمه الله تعالى عند شرحه لهذا الحديث : "فِيهِ دَلِيلٌ لِتَقْدِيمِ أَهَمِّ الْمَصَالِحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ جَمِيعِهَا " انتهى من " شرح النووي على مسلم" (9 / 90).
وفي " شرح الزرقاني على الموطأ " (2 / 448): " وَفِيهِ تَرْكُ مَا هُوَ صَوَابٌ خَوْفَ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ أَشَدَّ، وَاسْتِئْلَافُ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ ، وَاجْتِنَابُ وَلِيِّ الْأَمْرِ مَا يَتَسَارَعُ النَّاسُ إِلَى إِنْكَارِهِ ، وَمَا يُخْشَى مِنْهُ تَوَلُّدُ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا ، وَتَأَلُّفَ قُلُوبِهِمْ بِمَا لَا يُتْرَكُ فِيهِ أَمْرٌ وَاجِبٌ ، كَمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ ، وَجَلْبِ الْمَصْلَحَةِ ، وَأَنَّهُمَا إِذَا تَعَارَضَا بُدِئَ بِرَفْعِ الْمَفْسَدَة " انتهى .
ثانيا:
ما أخرجه البخاري (220) ، ومسلم (284) : " أن أَعْرَابِيا بَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
( دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ) .
قال النووي في شرحه على مسلم (3 / 191): " وَفِيهِ دَفْعُ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَخَفِّهِمَا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (دَعُوهُ) قَالَ الْعَلَمَاءُ: كَانَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (دَعُوهُ) لِمَصْلَحَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ عَلَيْهِ بَوْلَهُ تَضَرَّرَ وَأَصْلُ التَّنْجِيسِ قَدْ حَصَلَ فَكَانَ احْتِمَالُ زِيَادَتِهِ أَوْلَى مِنْ إِيقَاعِ الضَّرَرِ بِهِ . وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ التَّنْجِيسَ قَدْ حَصَلَ فِي جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَوْ أَقَامُوهُ فِي أَثْنَاءِ بَوْلِهِ لَتَنَجَّسَتْ ثِيَابُهُ وَبَدَنُهُ وَمَوَاضِعُ كَثِيرَةٌ من المسجد" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري " (1 / 324) : " لَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ لِمَ نَهَيْتُمُ الْأَعْرَابِيَّ ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ، وَهُوَ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا ، وَتَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَرْكِ أَيْسَرِهِمَا " انتهى .
وقال الإمام بدر الدين العيني في " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " (3 / 127): " فيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فإن البول فيه مفسدة ، وقطعه على البائل مفسدة أعظم منها ، فدفع أعظمهما بأيسر المفسدتين ، وتنزيه المسجد عنه مصلحة وترك البائل إلى الفراغ مصلحة أعظم منها، فحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما" انتهى.
ولم يستخدم الفقهاء الأوائل مصطلح (فقه الموازنات) وإنما تحدثوا عن مضمونه ومحتواه عند حديثهم عن تعارض المصالح وتزاحمها , وكذا المفاسد .
ومثال ذلك قول العز بن عبد السلام في " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (1 / 5): " ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل ، وذلك معظم الشرائع ؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ، ودرء المفاسد المحضة ، عن نفس الإنسان وعن غيره : محمود حسن ، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها : محمود حسن ، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها : محمود حسن ، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة : محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن " انتهى.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " (20 / 57) :
" فإذا ازْدَحَمَ وَاجِبَانِ لَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا ، فَقُدِّمَ أَوْكَدُهُمَا : لَمْ يَكُنْ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَاجِبًا , وَلَمْ يَكُنْ تَارِكُهُ لِأَجْلِ فِعْلِ الْأَوْكَدِ : تَارِكَ وَاجِبٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَ مُحَرَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ أَعْظَمِهِمَا ، إلَّا بِفِعْلِ أَدْنَاهُمَا : لمْ يَكُنْ فِعْلُ الْأَدْنَى فِي هَذِهِ الْحَالِ مُحَرَّمًا فِي الْحَقِيقَةِ , وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَرْكَ وَاجِبٍ ، وَسُمِّيَ هَذَا فِعْل مُحَرَّمٍ ، بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ : لَمْ يَضُرَّ، وَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا تَرْكُ الْوَاجِبِ لِعُذْرِ ، وَفِعْلُ الْمُحَرَّمِ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ ؛ أَوْ لِدَفْعِ مَا هُوَ أحرم"
انتهى .
وجاء في " الفروق" للقرافي (3 / 22) : " إنَّ شَأْنَ الشَّرَائِعِ دَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِإِيقَاعِ أَدْنَاهَا ، وَتَفْوِيتُ الْمَصْلَحَةِ الدُّنْيَا بِدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْعُلْيَا" انتهى.
وجاء في " المنثور في القواعد الفقهية " (1 / 348): " وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: مِنْ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ : أَنْ تُدْرَأَ أَعْظَمُ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِاحْتِمَالِ أَيْسَرِهِمَا" انتهى.
والخلاصة : أن فقه الموازنات يعتمد على تقديم المصلحة الكبرى على المصلحة الصغرى , ومصلحة العامة على مصلحة الخاصة , ومصلحة الكثرة على مصلحة القلة , ويعتمد أيضا تقديم الضروريات على الحاجيات , وتقديم الحاجيات على التحسينيات , وهكذا أبدا: تقديم الأهم على المهم , والراجح على المرجوح .
والله أعلم.
تعليق