الفقه والقرآن
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا فأضاء للبشرية حنادث الظلماء وأحيا موات النفوس وأوضح المنهج والسبيل، والصلاة والسلام على المصطفي المختار الذي دعى الناس إلى صراط العزيز الحميد ففتح الله به قلوبًا غلفًا وبصر به أعين عميًا وأسمع به أذانًا صمًا، ولم يقبضه إليه حتى أكمل له الدين وأتم به النعمة ومضى صلى الله عليه وسلم إلى ربه بعد أن تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وأصلى وأسلم على آله الأطهار وصحبه الأبرار الذين حفظ الله بهم هذا الدين فقد تحملوا الأمانة وأدوها لم يضيعوا منها شيئا ولم يكتموا منها أمرا ورضي الله عن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين الذين فقهوا الكتاب والسنة وأقوال الصحابة الكرام وجاهدوا في سبيل حفظ الدين ونشره. ثم أما بعد،
- فنشرع في تدارس موضوع تاريخ الفقه الإسلامي أو تاريخ التشريع الإسلامي، وهي دراسة لفضيلة الدكتور/ عمر الأشقر حفظه الله تعالى.
- وهذا الكتاب في الفقه وأدواره التي مر بها يعطي القارئ تصورا حسنا إن شاء الله تعالى عن المسار الذي سلكه الفقه في تاريخه منذ نشأته عندما أنزل الله تعالى دينه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا، والمطلع على تاريخ هذا العلم يزداد به بصيرة ويتسع أفقه ويعلم ما طرأ عليه في مختلف العصور.
- ونبدأ أولًا بتعريف الفقه في اللغة و الاصطلاح،
مدار الفقه في لغة العرب على الفهم، ومادة الفقه تستعمل في الفهم، قال تعالى {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27-28] أي يفهموه، وعندما بعث الله شعيبا عليه السلام قال له قومه: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرً*ا مِّمَّا تَقُولُ} [هود:91] أي لا نفهمه. وتقول العرب أوتي فلانا فقها في الدين، أي فهما له، وقال الله تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] أي ليكونوا علماء به، ودعى رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» يعني فهمه تأويله ومعناه، فاستجاب الله تعالى دعائه وكان ابن عباس من أعلم الناس في زمانه بكتاب الله تعالى فهو الحبر البحر، وهو ترجمان القرآن.
- وتقول العرب: أوتي فلانا فقها في الدين، أي فهما له.
- قال ابن سيدة: "فقه عني بالكسر أي فهم، ويقال فقه عني ما بينته له إذا فهمه".
- وقال الأزهري: "قال لي رجلا من كلاب وهو يصف لي شيئا فلما فرغ من كلامه قال، أفقهت؟ أي أفهمت".
- ورجل فقيه عالم، وكل عالم بشيء فهو فيه فقيه، وفقيه العرب أي عالم العرب.
- وهذا التعريف كما جاء بلسان العرب يتضح منه أن العرب تفسر الفقه بالعلم كما تفسره بالفهم، فالفقه علم وفهم.
- يقول الفيروز الأبادي "الفقه بالكسر العلم بالشيء والفهم له".
- بعض الأصوليين رأى أن الفقه مغاير للعلم، وقالوا أن الفقه هو جودة الذهن أي أن الفقه يعبر عن ملكة الذهن أي أن الفقه يعبر عن الملكة والإمكانيات العقلية والذهنية ونحو ذلك، فهو جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب وإن لم يكن متصفا به، والعلم عبارة عن صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعاني الكلية أصولا لا يتطرق إلىه احتمال نقيضه.
- والحقيقة، أنه لا ينبغي أن يُعترض على تفسير الفقه بالعلم، بعد أن ثبت عن العرب تفسيره بذلك، والعرب تقول للعلم فقها لأنه عن الفهم يكون، فالإنسان لا يمكن أن يفقه إلا إذا فهم على مذهب العرب في تسمية الشيء بما كان سببا له، فالفهم يكون سببا في حصول العلم وهناك ارتباط فيما بين معنى العلم والفهم في الفقه من حيث اللغة.
- وتفسير الفقه بالفهم يدلنا على تعلق الفقه بالمعاني لا بالذوات، فتقول فقهت الكلام أي فهمته، لكن لا تقول فقهت الرجل بل تقول عرفت الرجل.
- ولا فرق عند العرب في كون المعنى المراد فهمه واضحا أو خفيا فكله يدخل في دائرة الفقه -وخالف في ذلك أبو إسحاق المروزي فذهب إلى أن الفقه يدخل في فهم الأمور الخفية دون الواضحة الجلية- والصحيح أن الفقه هو مطلق الفهم نقلا عن العرب سواء فيما دق أو فيما جل فهو يتناول فهم الأمور الواضحة والخفية على حد سواء، ويؤكد هذا أن القرآن الكريم استعمل كلمة الفقه لمجرد الفهم فقال تعالى في شأن الكفار: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}، وقال ذو القرنيين بأنه: {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} فهذا يدل على استعمال كلمة الفقه لمجرد الفهم بغض النظر هل هو فهم دقائق الأمور الواضحة أو الخفية.
- والفقه من حيث الاصطلاح،
فهناك اصطلاح أهل الصدر الأول للإسلام، وهناك الفقه في اصطلاح المتأخرين.
- فالفقه عند العرب كما ذكرنا هو الفهم والعلم لا يفرقون في هذا بين كلام وكلام أو بين علم وعلم، وكل من علم علما فهو فقيها في ذلك العلم، والذي أحاط بعلوم كثيرة فذلك هو فقيه العرب وعالمهم.
وبعد مجيء الإسلام غلب اسم الفقه على علم كل الدين لسيادته وفضله وشرفه على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريا وغلب العود على المندل.
ولذلك ففي الدعاء عن معاوية رضي الله عنه مرفوعا: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» والدين هنا الذي كان يستعمل في صدر الإسلام شاملا لكل الدين كما جاء في بعض الأحاديث "أنه لا يفقه دين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه" فالفقه في الصدر الأول يشمل كل الدين.
وكان علم الدين في ذلك الوقت -الصدر الأول للإسلام- يتمثل في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «نضر الله أمرءا -وهو دعاء بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن فيكون معنى الحديث جمله الله وزينه- سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه» والتأمل في هذا الحديث يدلنا على أن الفقيه هو صاحب البصيرة في دينه الذي خلص إلى معاني النصوص واستطاع أن يخلص إلى الأحكام والعبر والفوائد التي تحويها النصوص يدلنا على هذا قوله صلى الله عليه وسلم فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه أي أقدر منه على التعرف على مراد الله وأحكامه وتشريعاته، وقوله ورب حامل فقه ليس بفقيه أي ليس عنده القدرة على استخلاص الأحكام والعلم الذي تضمنته النصوص.
- وقد كان الفقهاء من الصحابة والتابعين معروفين بارزين، ففي الحديث الذي يرويه البخاري عن أنس أبن مالك رضي الله عنه في شأن الأموال التي غنمها المسلمون من قبيلة هوازن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وزعها على رجال من قريش فعتب رجال من الأنصار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا كلاما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم فدعى الرسول الأنصار وقال لهم: «ما كان حديث بلغني عنكم؟» فقال له فقهاؤهم -ومعناها أنهم كانوا معروفين وبارزين- أما ذوو آرائنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، الكبار والفقهاء والعلماء منا لم يقولوا شيئا.
- وأراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يخطب في موسم الحج في أمر مهم فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإني أرى أن تمهل حتى تقدم المدينة (فإنها دار الهجرة والسنة والسلامة) وتخلص لأهل الفقه (وأشراف الناس وذوي رأيهم)، أي إذا تكلمت هنا في موسم الحج فهو يجمع العلماء والجهلاء والغوغاء والرعاع ونحوهم والذين لا فقه لهم ولا علم لهم فيمكن أن تكون منك كلمة يسيئون فهمها يطيرون بها في أفاق الدنيا فكل يعود إلى بلده وينقل عن عمر الكلام الذي أساء فهمه فيحدث فتن أو نحو ذلك فتمهل حتى تقدم المدينة وتخلص إلى أهل الفقه بها وتتكلم مع من يفهم عنك كلامك بطريقة صحيحة وهذا الحديث في البخاري أيضًا.
- وفي مسند الأمام أحمد عن الزهري قال أخبرني رجلا من الأنصار من أهل الفقه أي كانت هناك طبقة معروفة ومميزة من أهل الفقه وأهل العلم.
- وقال يحيي بن سعيد الأنصاري وكان قد أدرك كبار التابعين بالمدينة كسعيد بن المسيب ولحق قليلا من صغار الصحابة كأنس بن مالك رضي الله عنه فقال ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون في كل ثنتين من النهار وهذا رواه البخاري أيضًا.
- وقال الزهري إذا ولغ الكلب في إناء ليس له وضوء غيره يتوضأ به، وقال سفيان الثوري هذا الفقه بعينه يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}.
وهذا ماء، وبالطبع بغض النظر عن صحة هذا الكلام من عدمه لكن الشاهد أن سفيان قال هذا الفقه بعينه أي يشير إلى فقه الزهري والذي كان مذهبه أنه إذا ولغ الكلب في إناء وليس له ماء غير هذا الماء فإنه يتوضأ به، ووافقه سفيان لأن فقه الزهري أنه أعمل ظاهر النص والذي قال فلم تجدوا ماءا وهذا المتوضأ قد وجد ماءا فلا يجوز له أن يتيمم، وطبعا هذا الاستدلال فيه نظر، لأن الماء النجس كالماء المعدوم، والمقصود بالنص فلم تجدوا ماءا طهورا يصلح أن تتوضئوا به أي ماء طاهر صالح للوضوء، ومذهب عامة وجماهير العلماء -عدا الأمام مالك- أن الماء ينجس بذلك.
- وكلمة الفقهاء كانت تتردد وعلى ألسنة الصحابة والتابعين وأتباع التابعين دالة على أصحاب البصيرة النافذة في دين الله الذين فهموا عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وقد كانت سمات الفقهاء واضحة وعلاماتهم بارزة، وقد دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من صفاتهم في أحاديث كثيرة فقال صلى الله عليه وسلم: «من فقه الرجل رفقه في معيشته» وقال صلى الله عليه وسلم: «من فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم الله أعلم» صحيح مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «من فقه الرجل إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته» رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه» - أي علامة على فقهه.
- وهذا الذي أوردناه من إطلاق اسم الفقهاء على العلماء بالدين الإسلامي من أصحاب البصيرة في دينهم يرد على العلامة أبن خلدون الذي ذهب إلى أن الاسم الذي كان يُطلق على أهل الفتية والفقه من الصحابة هو اسم القراء.
ومما يؤكد ما ذهبنا إليه وينفي ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون أن ابن مسعود رضي الله عنه جعل اسم القراء مغايرا لاسم الفقهاء، فقد روى مالك في موطئه أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال لإنسان "إنك في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه -فغاير بذلك بين الفقهاء وبين القراء- تُحفظ فيه حدود الله وتُضيع حروفه، قليل من يسأل كثير من يُعطي، يطيلون فيه الصلاة ويُقصرون الخطبة، يبدون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه، تُحفظ فيه حروف القرآن وتُضيع حدوده، كثير من يسأل قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون فيه الصلاة، يبدون أهوائهم قبل أعمالهم".
فهذا كله يؤكد أن الفقيه من الصحابة هو الذي خصه الله تبارك وتعالى بنوع من الفهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن مجرد الحفظ لا يجعل صاحبه فقيها.
- وكان الفقه في الصدر الأول فقها شاملا للدين كله غير مختص بجانب منه، وكان الفقيه عندهم يُعنى بالأصول قبل الفروع، ويُعنى بأعمال القلوب قبل أعمال الأبدان، ولذلك سمي الإمام أبي حنيفة ورقات في العقيدة باسم الفقه الأكبر أي أنه أكبر بالنسبة إلى فقه الفروع الذي هو أصغر بالنسبة إليه. فالفقه كان يشمل في ذلك العهد علم العقيدة وأحكام الفروع والأخلاق، وممن نص على هذا صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود فقال: "اسم الفقه في العصر الأول كان مطلقا على علم الآخرة ومعرفة دقائق النفوس والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا، ولست أقول أن الفقه لم يكن متناولا أولا الفتاوى والأحكام الظاهرة بل هي جزء منه، لكن الفقه كان يشمل كل الدين".
- ويقول ابن عابدين الحنفي "المراد بالفقهاء العالمون بأحكام الله تبارك وتعالى اعتقادا وعملا، لأن تسمية علم الفروع فقها حادثة" -أي أمرا حديثا أو اصطلاح متأخرين-، ويؤيده قول الحسن البصري "إنما الفقيه هو المعرض عن الدنيا الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع، الكاف عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم".
- وقال بعض السلف، الفقيه هو من يخشى الله، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى: {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَ*هْبَةً فِي صُدُورِ*هِم مِّنَ اللَّـهِ} وعللها تبارك وتعالى بقوله: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ}، فنفي عنهم الفقه لما نفي عنهم الخشية.
إذا هذا فيما يتعلق بالفقه في الصدر الأول.
- أما الفقه في اصطلاح المتأخرين،
فمعناه علم القانون الإسلامي، خاصة المتأخرين بعد الصدر الأول، أي العلم بالأحكام الشرعية العملية.
- يقول صدر الشريعة، بعد الصدر الأول اختص علم الفقه باستنباط الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية، بطريق العموم والشمول أو بطريق الاستتباع، فتصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل.
- وقد عرف الآمدي الفقه بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وعزاه الآمدي للإمام الشافعي.
- وعرفه الإمام تاج الدين السبكي بأنه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
- وتعريفات الفقهاء للفقه متقاربة.
- وتعريف الفقه في غاية الدقة والأهمية، إذ أنه يظهر وجهة نظر علماء المسلمين الخاصة لعلم الحقوق،
وفيما يلي إيضاح عناصر هذا التعريف للفقه:
- أولًا: الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية، أي أنه علم، فهو ذو موضوع خاص ومواضع خاصة، وعلى هذا الأساس تدارس الفقهاء في كتبهم وأبحاثهم وفتاويهم، فالفقه ليس فنًا كما أدعى بعض العلماء وإنما هو علم.
- ثانيًا: هو العلم بالأحكام الشرعية، وهي الأحكام المتلقاة بطريق السمع والمأخوذة من الشرع، وهي أحكام متلقاة بالأدلة النقلية، دون الأدلة العقلية المأخوذة من العقل ومثالها أن الواحد نص الاثنين، ودون الأحكام الحسية وهي التي تدرك وتأخذ بالحس والجوارح ومثالها أن النار محرقة، ودون الأحكام الوضعية أو التي تأخذ من الوضع أو الاصطلاح اللغوي كالعلم بأن الفاعل مرفوع وبأن المفعول به منصوب، فهذه كلها أحكام، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية دون غيرها من أحكام.
- والحكم الشرعي، هو القاعدة التي نص عليها الشارع في مسألة من المسائل، وهذا الحكم قد يكون فيه تكليف معين فيسمى حكم شرعي تكليفي ومثاله التكليف بالصلاة، وقد لا يتضمن تكليف بأمر ما وإنما يضع أمور أخرى فيسمي الحكم الشرعي الوضعي ومثاله أن وجوب صيام رمضان مرتبط برؤية الشهر والهلال.
فأداء الدين واجب، والقتل محرم، فهذان مثالان لحكم شرعي تكليفي لأن فيه تكليف بفعل -أداء الدين- أو فيه تكليف بالامتناع عن فعل -القتل-.
ومثال الحكم الشرعي الوضعي (ليس فيه تكليف)، أن الشرع نص على بطلان عقد المجنون، فهذا الحكم وضع كنتيجة لعقد المجنون بدون أي تكليف فالمجنون لا يكلف ورفع عنه التكليف.
- والبحث في أنواع الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية مفصل في علم أصول الفقه.
- ثالثًا: كلمة الأحكام الشرعية العملية، تعني أن الفقه يتعلق بالأعمال العملية الناتجة من أفعال الناس في عباداتهم ومعاملاتهم اليومية.
ويقابل الأحكام العملية، الأحكام الاعتقادية، وهي التي تتعلق بالقلوب لا بأعمال الأبدان، فالعقائد تتعلق بالقلوب أما الأحكام العملية فهي تتعلق بالجوارح والأبدان، وكلمة العملية الواردة بتعريف الفقه هي احتراز من الأحكام العقائدية أي أن الفقه لا يشمل الأحكام العقائدية.
- رابعًا: من أدلتها التفصيلية، علم الفقه مكتسب من أدلة الأحكام التفصيلية، ومعنى ذلك أن الأحكام لا تعد من علم الفقه إلا إذا كانت مستندة إلى مصادر الشرع المعلومة ومنها الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
- والفقيه هو الذي يسند كل حكم من أحكام الشرع إلى دليله، فالقانون الإسلامي أو الفقه الإسلامي ليس قانونا وضعيا من صنع الدولة بل هو حكم ديني مبني ومستند إلى مصادر دينية معينة.
- والتعريف يجعل الفقه قاصرا على الأحكام التي تؤخذ من طريق النظر في الأدلة، أما الأحكام التي يتلقاها المقلدون من غير نظر فإنها لا تدخل في مفهوم الفقه، فالفقه هو حكم مكتسب من أدلة تفصيلية ليس من بينها التقليد.
والتقليد هو، الأخذ بقول الغير دون معرفة دليله الشرعي، والتقليد مذموم وبالإجماع، فالمقلد ليس من أهل العلم ولا يجوز نسبته إلى أهل العلم.
- خامسًا: المراد بالأدلة التفصيلية، وهي أحاد الأدلة من الكتاب والسنة، مثل قول الله تبارك وتعالى: {حُرِّ*مَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ*} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحل الذهب والحرير على الإناث من أمتي وحرم على ذكورها». فالأدلة التفصيلية هي أحاد الأدلة، دليل دليل سواء من الكتاب أو من السنة. وكلمة التفصيلية يقابلها كلمة الإجمالية.
- فالأدلة التفصيلية يقابلها الأدلة الإجمالية، وهي محل نظر من علماء أصول الفقه والذين يناقشون هذه الأدلة الإجمالية وحجيتها والتفاصيل الخاصة والمتعلقة بها، أما علماء الفقه فإنهم يناقشون أحاد الأدلة التفصيلية، دليل دليل، ففي كل مسألة يقول القرآن 1، 2، 3، وتقول السنة 1، 2، 3، وهكذا.
- ويناقش علماء أصول الفقه الأدلة الإجمالية وهي نوعان، نوع متفق عليه وهي أربعة (قرآن، سنة، إجماع، قياس) ونوع ثان أدلة مختلف فيها (الاستحسان، الاستصحاب، سد الذرائع، المصلحة المرسلة، العرف، قول الصحابي، الاجتهاد، وهكذا) وإن كان بعضها نوع واحد لكن تختلف المسميات، كما يبحثون في جنس الأدلة بالكتاب والسنة كقولهم مثلا الأمر يفيد الوجوب ما لم يصرفه صارف إلى الندب، والنهي يفيد التحريم ما لم يصرفه صارف إلى الكراهة.
- أما الفقه فيدخل فيه الأحكام العملية المعلومة من الدين بالضرورة ويشمل الأحكام القطعية والأحكام الظنية.
فالأحكام القطعية، هي التي تعلم من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة وحرمة الخمر.
والأحكام المظنونة، مثل لمس المرأة هل ينقض الوضوء أم لا، هل الواجب مسح الرأس كلها في الوضوء أم بعضها، ونحو ذلك، فهذا كله يدخل في مسمى الفقه.
- خالف بعض العلماء ومنهم الرازي، فذهبوا إلى أن الأحكام القطعية المجمع عليها لا تدخل في علم الفقه ويدخل فيه الأحكام الظنية فقط.
- كما ذهب البعض ومنهم ابن الهمام، إلى قصر الفقه على الأحكام القطعية دون الظنية.
- ويرد على كل الفريقين، صنيع الفقهاء على اختلاف مذاهبهم في كتبهم، حيث يوردون فيها الأحكام القطعية والأحكام المظنونة.
ثم إن الأحكام القطعية والظنية ليس أمرا منضبطا للمسلمين كلهم، فبعض العلماء تتوارد عليه الأدلة حتى يجزم بحكم ما، وآخر لا يكون عنده هذا العلم، هذا في العلماء وغيرهم أشد تباينا منهم.
- خلاصة القول بأن الفقه يشمل الأحكام القطعية -المعلومة من الدين بالضرورة- كما يشمل أيضا الأحكام الظنية ولا يقتصر على أحدهما.
- ويعقد البعض مقارنة فيما بين الشريعة وبين الفقه،
فيقول التعريف الاصطلاحي للتشريع عند أهل الصدر الأول مطابق للتعريف الاصطلاحي للفقه عندهم. إذ كل منهما كان يشمل ويتناول الدين كله، ففي الصدر الأول كلمة التشريع وكلمة الفقه مترادفتان يعبر بهما عن كل الدين، عقيدة وأحكام وأخلاق وآداب ومعاملات إلى آخره.
فكلاهما كان يتناول الدين كله بعقائده وأحكامه وأدابه، وهو يطابق في مدلوله الاصطلاحي عند المتأخرين إذ كل منهما يطلق على الأحكام العملية، فالتشريع عند المتأخرين يطلق على الأحكام العملية، والفقه عند المتأخرين أيضا يطلق على الأحكام العملية.
إلا أن بينهما فرقا لا ينبغي أن يهمل، ذلك أن الشريعة هي الدين المنزل من عند الله، والفقه هو فهمنا لتلك الشريعة. فإذا أصبنا الحق في فهمنا كان الفقه موافقا للشريعة من هذه الحيثية، وإذا أخطأنا في فهمنا الحق المنزل لم يكن هذا الفهم من الشريعة ولم يخرج عن كونه فقها، إذ الفقه من ضمنه الاجتهاد بصوره المختلفة.
فمن ضمن الفقه الاجتهاد بصوره المختلفة، فالقياس فيه نوع من الاجتهاد، والمصالح المرسلة، وهكذا.
فدائما ينسب الخطأ لما كان بشريا، لذلك فمن الخطأ ما يردده البعض بمقولة (نحن ندعو إلى الإسلام الصحيح) فهذا من الخطأ، فيفهم من هذا القول أن الإسلام نوعان، إسلام صحيح، وإسلام غير صحيح أو خطأ، فالإسلام من حيث أنه دين الله لا يطرأ عليه مثل هذه التعبيرات، لكن يمكن القول نحن ندعو إلى الفهم الصحيح للإسلام، فالخطأ يرد على الفهم البشري أما دين الله فبالقطع دين محفوظ وكامل وصحيح كله، ولا يدخل عليه أي خطأ.
- إذن يمكن أن نرد الفروق بين الفقه بمعناه الاصطلاحي عند المتأخرين وبين الشريعة بمعناها الاصطلاحي العام في نقاط محددة،
1- الشريعة دائرة والفقه دائرة، وهناك جزء مشترك بينهما، فيجتمع الفقه والشريعة في الأحكام التي أصاب المجتهد فيها حكم الله، فهي من الفقه وأيضا من الشريعة. ويختلف الفقه عن الشريعة في الأحكام التي أخطأ فيها المجتهد فهذه تعد من الفقه ولكنها لا تعتبر من الشريعة. كما يختلف الفقه عن الشريعة في الأحكام الاعتقادية والأخلاقية وقصص الأمم الماضية فهذه كلها خاصة بالشريعة وحدها دون الفقه.
2- أيضا كلمة الفقه كلمة واسعة لها معاني واسعة جدا، لأنها تنبني على الأدلة التفصيلية وهي كما ذكرنا نوعان من الأدلة، أدلة متفق عليها، وأخرى خلافية مختلف فيها، لكن كما بينا فالفقه عند الإطلاق أوسع من فقه الكتاب أو فقه السنة.
إذن فالفارق بين الفقه وبين الشريعة فيما يلي:-
1- الشريعة تُختص بالجوانب والأحكام الاعتقادية والأخلاقية وأخبار الأمم الماضية، والفقه يُختص بالأحكام التي أخطأ فيها المجتهدين حكم الله، والجزء المشترك بينهما هو الأحكام التي وافق فيها المجتهد حكم الله فهذه من الشريعة وأيضا هي من الفقه.
2- أن الشريعة كاملة بخلاف الفقه، وتتناول القواعد والأصول العامة، ومن هذه القواعد والأصول نستمد الأحكام التي لم ينص على حكمها في أمور حياتنا، أما الفقه فهو آراء المجتهدين من علماء الأمة.
3- الفرق الثالث أن الشريعة عامة بخلاف الفقه، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْ*سَلْنَاكَ إِلَّا رَ*حْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} هذا العموم ملموس من واقع الشريعة ومقاصدها ونصوصها التي تخاطب البشر كافة.
4- الفرق الرابع أن الشريعة ملزمة للبشرية كافة، فكل إنسان إذا توافرت فيه شروط التكليف ملزم بكل ما جاءت به من عقيدة وعبادة وخلق وسلوك ونحو ذلك، بخلاف الفقه الناتج من آراء المجتهدين، فرأي أي مجتهد لا يلزم مجتهد آخر، بل لا يلزم مقلده، والشريعة تلزم الجميع، ومن قواعد الأصول أن العامية لا مذهب لها أي أنه غير ملزم باعتناق مذهب معين دائما بل هو على مذهب من يُفتيه.
5- من الفروق أيضا، ثبات أحكام الشريعة وخلودها..
والفقه والذي هو استنباط المجتهد قد يعالج مشكلات المجتمع في زمان ومكان يمكن أن لا يصلح في زمان ومكان آخر، بخلاف الشريعة الشاملة زمانا ومكانا، فالشريعة مرنة لكن أحكامها غير متغيرة.
- أحكام الشريعة صواب كلها لا خطأ فيها، وفهم الفقهاء قد يخطأ أحيانا.
- ثم نتعرض لأقسام ومحتويات الفقه الإسلامي،
قسم الفقهاء موضوعات الفقه إلى قسمين وهما، قسم العبادات، وقسم المعاملات.
ومن أهم المباحث التي أدرجها الفقهاء في قسم العبادات، الطهارة ويبحث فيها المياه والغسل والتيمم والحيض والنفاس، والصلاة، والزكاة، والصيام، والجنائز، والحج والعمرة، والمساجد وفضل الصلاة فيها، الأيمان والنذور، الجهاد، الأطعمة، الأشربة، الصيد، الذبائح، ونحو ذلك.
ومن أهم المباحث التي أدرجها الفقهاء في قسم المعاملات، الزواج، الطلاق، العتاق، البيوع، العقوبات (الحدود- القصاص- التعزير) الرهن، المساقأة والمزارعة، القرض، الإجارة، الحوالة، الشفعة، العارية، الوديعة، الغصب، اللقيطة، الكفالة، الجعالة، الشركات، القضاء، الأوقاف، الهبة، الوصية، الفرائض، الحجر.
- ومن الفقهاء من قسم الفقه إلى ثلاثة أقسام، كابن عابدين الحنفي، فقسمه إلى عبادات ومعاملات وعقوبات. وقسم العبادات إلى خمسة أقسام (الصلاة- الصوم- الزكاة- الحج - الجهاد) وقسم المعاملات إلى خمسة أقسام (المعاوضات المالية ويريد بها الوديعة والعارية ونحو ذلك- الزواج وما يتعلق به- المخاصمات ويريد بها الدعوي والقضاء ونحو ذلك- التركات) وقسم العقوبات إلى خمسة أقسام (القصاص- حد السرقة- حد الزنا- حد القذف- عقوبة الردة لتارك الإسلام).
- أما أصحاب الشافعي فقسموا الفقه إلى أربعة أقسام فقالوا الأحكام الشرعية إما أن تتعلق بأمر من أمور الآخرة وهي العبادات، أو بأمر من أمور الدنيا وهي أما أن تتعلق ببقاء الشخص وهي المعاملات، أو ببقاء النوع وهي المناكحات، أو باعتبار المدينة وهي العقوبات.
- وابن جزي المالكي قسم الفقه في كتابه قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية إلى قسمي العبادات والمعاملات، وضمن كل قسم عشرة كتب على مائة باب.
- ونناقش الفرق بين العبادات والمعاملات،
عموم الفقهاء قسموا الأحكام الشرعية إلى عبادات ومعاملات، وقد لاحظوا فروقا عدة جعلتهم يذهبون هذا المذهب،
1- اختلاف المقصود الأصلي لكل من العبادات والمعاملات، إذا كان الغرض من الأحكام الشرعية هو التقرب إلى الله وشكره وابتغاء الثواب في الآخرة، فهذا قسم العبادات، مثل الصلاة والصوم والزكاة والحج.
وإذا كان المقصود منه تحقيق مصلحة دنيوية أو تنظيم علاقة بين فردين أو بين جماعتين فإنهم يضعون هذا النوع في قسم المعاملات.
2- لاحظ الفقهاء أن الأصل في العبادات أنها غير معقولة المعنى -أمور تعبدية- جاءت بها النصوص آمرة أو ناهية، ولا يعلم حقيقتها إلا الله تبارك وتعالى، وكل ما نعرفه من حكمها وعللها مما ورد به النص أو عُرف بالاستنباط لا أثر له في قياس ولا إباحة ولا إلغاء.
فالأمور التعبدية حتى ولو وقفنا على بعض حكمها أو عللها لكن هذا لا يعني أنه يجوز القياس فيها، فلا قياس في العبادات.
ولا أدل على أنها مقصورة على التعبد مما نراه في أمور كثيرة يعجز العقل عن إدراكها، وإن أدركها فإنما يكون على وجه الإجمال لا التفصيل، كعدد ركعات الصلاة مثلا، فهناك أشياء كثيرة تكون علتها غير معروفة أو معروفة بصورة مجملة.
أما العبادات فالأصل فيها أنها معقولة المعني، يدرك العقل كثيرا من أسرارها، ولذلك نرى العقلاء في زمن الفترات (الزمن بين نبيين سابق ولاحق) استعملوا عقولهم في تشريعها فأصابوا في الكثير منها، ولما جاء الإسلام أقر بما كانوا يتعاملون به أمورا غير قليلة، يرشدنا إلى ذلك أسلوب التشريع فيها فهو لم يعمد إلى التفاصيل بل جاء بالأصول الكلية والقواعد العامة ثم أكثر من التعليل، ففي المعاملات التعليل كثيرا جدا ليكون ذلك عونا للفقهاء على التطبيق مهما تغير الزمان واختلفت البيئات، أما العبادات فهي على العكس من ذلك، فالقرآن جاء بها إجمالا والرسول صلى الله عليه وسلم بينها أكمل بيان، ولا يستطيع أحد أن يزيد عليها شيئا.
وفي العبادات هناك العبادات التوقيفية لا يزاد عليها ولا ينقص منها، فالعبادات يجب إداركها على وجه التفصيل من حيث الوقت والعدد والكيفية، فهي لابد أن تكون قائمة على دليل شرعي نقف عنده لا نزيد ولا ننقص منه وإلا كنا مُبتدعين.
فالعبادة الصحيحة يجب أن توافق جميع تفاصيلها ما جاءت به الأدلة، أما المعاملة فانه لا يتبع فيها التفاصيل وإنما لابد أن تخضع للقواعد العامة، فهناك قواعد عامة في المعاملات مثل العدل، وعدم الظلم، ونحو ذلك، فشرط المعاملة الصحيحة أن تندرج تحت أصل كلي من أصول الشريعة وتحقق هذا الأصل.
3- يُشترط في التكليف بالعبادات العلم بأنه مأمور بها من الله تبارك وتعالى، إذ لابد للمكلف من نية التقرب بالعبادة إلى الله، وهذه النية لا تكون إلا بعد معرفة أن العبادة المتقرب بها إليه سبحانه هي أمر منه جل وعلا، واما المعاملات فلا يشترط في صحة فعلها نية التقرب، فهي صحيحة ولو لم ينو التقرب إلى الله تعالى، لكن لا يُثاب في الآخرة عليها إلا بنية التقرب، مثال رد الأمانة، وقضاء الديون، والإنفاق على الزوجة، فإذا نوى بها التقرب إلى الله يكتب له بها صدقة، ولكن متي فعل شيئا منها خشية عقوبة السلطان ففعله صحيح دون النية ولا يلزمه الحق في الآخرة بدعوى أن قضائه للدين في الدنيا غير صحيح لعدم نية التقرب، ففعله صحيح والمطالبة به ساقطة على كل حال، ولكن لا أجر إلا بنية التقرب.
م.طريق الإسلام
تعليق