إن السعيد لمن جُنب الفتن ....
كتبه/ أحمد يحيى الشيخ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كتب الله -عز وجل- على العباد أنواعًا من الفتن، وقدَّر لهم أشتاتًا من البلاء؛ ليتبين الصادق من الكاذب، وليعلم المحق من المبطل، وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين.
فمنذ أن انكسر باب الفتنة بمقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، والفتن تطل برأسها الفينة بعد الفينة، والناس إثر ذلك بين ناج مُسلَّم ومخدوش مُكْلَم، ومُكردَس في الفتنة.
والسعيد منهم من جنـَّبه الله الفتنة، ومن ابتلاه بها فصبر. والشقي من وقع فيها أو لحقه شيء من عبابها.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ) (متفق عليه).
وإن من أعظم الفتن التي قلَّ من يسلم منها وقوع البأس بين المسلمين وبعضهم البعض، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أعوذ بوجهك)، (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) قال: (أعوذ بوجهك)، (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) قال: (هَذَا أَهْوَنُ أَوْ هَذَا أَيْسَرُ) (رواه البخاري).
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا) (رواه مسلم).
فوقوع البأس والاختلاف والتصادم والاقتتال بين بعض طوائف المسلمين -ممن لهم ذكر حسن بين الناس- مما كتبه الله قدرًا وكونًا، لكن يستشري أمره على يد أقوام زُين له سوء أعمالهم فرأوه حسنـًا، فيحبون لون الدم، ويتشفون لمشهد القتل، فلا يهدأ بالهم حتى تشتعل الفتنة وتضطرم نيرانها، فيأخذون بنصيبهم من رمادها، وتجرهم بأذيالها، فلا تتركهم حتى ترمي بهم على شفا حفرة من النار.
وعند اشتداد الفتنة وفي خضم المنازعات والخصومات والمعارك الطاحنة لا تكاد تعرف محقًا من مبطل، وصادقًا من كاذب، فأغلب الأخبار المتناقلة في ظروف الفتنة يحوطها الكذب والتلفيق من بعض المتنازعين من الطائفتين، فلا تكاد تجد خبرًا عند طائفة إلا وتجد ما يناقضه عند الأخرى، فإما أن يميل الرجل إلى إحدى الطائفتين وإما أن يرد كلا الخبرين، فالناس بين مؤثر لهوى طائفة على حساب الأخرى، أو ساكت ليس له في المشاركة في الفتنة عير ولا نفير، وأما المصلحون فقد تكبدوا عناء هذه المهمة التي لا تؤتي ثمارها عادة إلا بعد أن تأكل الفتنة ما شاء الله أن تأكل من: أنفس وأعراض وأموال.
والواقعون في الفتنة ممن آثروا الركون إلى أحد طرفيها يعيشون سكرًا أشبه بسكر الخمور، فلا يقبلون إلا ما وافق أهوائهم، ولا يسعد إلا من صبر على ما يجد وتمنى أن تذهب الفتنة وإن كان على حساب نفسه كما كان من أمر عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
روى أبو داود عن المقداد بن الأسود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ وَلَمَنِ ابْتُلِىَ فَصَبَرَ فَوَاهًا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنها ستكون هنَات وأمور مُشبَّّهات، فعليك بالتؤدة، فتكون تابعًا في الخير خير من أن تكون رأسًا في الشر".
وقال حذيفة -رضي الله عنه-: "إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيلُ الدمنَ، إنها مشبهة مقبلة، وتُبين مدبرة، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسروا سيوفكم، وقطعوا أوتاركم".
قال شمر: "معناه أن الفتنة إذا أقبلت شبهت على القوم، وأرتهم أنهم على الحق حتى يدخلوا فيها، ويركبوا منها ما لا يحل، فإذا أدبرت وانقضت بان أمرها، فعلم من دخل فيها أنه كان على الخطأ" لسان العرب: 13/503.
ولذلك وجدنا من يستحل الدماء والأموال لأجل شبهات واهية ظنًا منه أنه على الحق، وما استمع لنصح الناصحين، حتى تبين له سقوطه في الفتنة، فرجع عما أقدم عليه من قبل، ولكن بعدما أكلت فتنته ما لا يحل لها من أنفس معصومة وأموال محرمة.
وأكثر هؤلاء الواقعين هم ممن لهم السيادة والرأي، كما قال حذيفة -رضي الله عنه-: "إن الفتنة وكلت بثلاث: النحرير الذي لا يرتفع له شيء إلا قمعه بالسيف، وبالخطيب الذي يدعو إليها، وبالسيد؛ فأما هذان فتبطحهما لوجوههما، وأما السيد فتبحثه حتى تبلو ما عنده".
ومقصده أن أسرع الناس إليها المتهور الأهوج الذي يفكر بسيفه لا بعقله، وخطيب الفتنة الذي يسعى فيها بلسانه، وأما السيد فالفتنة امتحان له؛ لأنه متبوع.
وسئل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: أي أهل هذا الزمان شر؟ فقال: كل خطيب مِسقَع، وكل راكب مُوضِع.
قال الشيخ محمد إسماعيل -حفظه الله-: "الخطيب المِسقع والمِصقع: البليغ، ومن لا يرتج في كلامه ولا يتتعتع، والراكب المُوضِع: المسرع فيها. وإنما قال ابن مسعود -رضي الله عنه- ذلك لأن الأول محرض على الفتنة بلسانه، والآخر بسنانه، فاجتمع الشران؛ شر القول وشر العمل" اهـ.
ولذلك فهؤلاء أول من يبوء بإثم من وقع في الفتنة جهلاً منه، وإنما كانوا هم قدوته في التيه، فتاه لتيههم، وضل لضلالهم، وقد كان سيد القراء مسلم بن يسار أخرج في فتنة ابن الأشعث مكرهًا، فوقف بين الصفين ولم يشارك في القتال، فلما انجلت الفتنة ندم على موقفه ذلك، فعن أبي قلابة -رحمه الله- قال: "لما انجلت فتنة ابن الأشعث كنا في مجلس ومعنا مسلم بن يسار، فقال مسلم: الحمد لله الذي أنجاني من هذه الفتنة، فوالله ما رميت فيها بسهم، ولا طعنت فيها برمح، ولا ضربت فيها بسيف. قال أبو قلابة: فقلت له: فما ظنك يا مسلم بجاهل نظر إليك فقال: والله ما قام مسلم بن يسار سيد القراء هذا المقام إلا وهو يراه عليه حقا؛ فقاتل حتى قتل؟! قال: فبكى، حتى تمنيت أني لم أكن قلت شيئًا".
تعليق