شرح نصي لكتاب الفتوى الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية
الشرح للشيخ عبدالرحيم السلمي حفظه الله
في هذا الموضوع سنقوم بنقل الشرح النصي للكتاب
وسأحاول تلخيص الفقرات حتى تصل الفائدة للجميع
دون أي تأثير على فحوى الشرح بإذن الله
وهذا الموضوع لمن يرغب في دراسة العقيدة
وانطلاقاً من قول الحبيب صلى الله عليه وسلم (( الدين النصيحة ))
أنصح الجميع بقراءة الموضوع ولو بشكل جزئي لأن فيه الفائدة العظيمة
والله ولي التوفيق..
تمهيد للشيخ شارح الكتاب
وقع اختيارنا على هذا الكتاب المهم الذي هو الفتوى الحموية الكبرى وهي معتقد مختصر اشتمل على
مجموعة من أبواب العقيدة في الأسماء والصفات، وفي الإيمان، وفي القدر، وفي اليوم الآخر، وفي
الغيبيات، وفي النبوات وفي الصحابة.. ونحو ذلك من الأبواب العظيمة من أبواب الاعتقاد.
وهذا الكتاب -الفتوى الحموية- يعتبر في سلم التعلم في الدرجة الثانية قبل دراسة شرح العقيدة الطحاوية
التي هي من أكبر كتب الاعتقاد تفصيلاً، وليست هي أكبرها، فيوجد كتب أكبر منها، لكن هي من أكبر
الكتب التي تدرس دراسة مفصلة في مجال الاعتقاد.
الكتب تسمى إما باسم السائل، أو باسم البقعة والمدينة التي جاء منها السؤال، أو باسم الكاتب
في بعض الأحيان.
فمثلاً: كتاب العقيدة الواسطية سمي بذلك نسبة إلى القاضي الذي جاء من واسط من العراق وطلب من
ابن تيمية رحمه الله أن يكتب له ملخصاً في الاعتقاد، فاعتذر في بداية الأمر وقال: الناس كتبوا رسائل في
الاعتقاد كثيرة، فقال: لا أريد أن أقرأ أو أحفظ إلا ما تكتبه أنت، فكتب له الرسالة المشهورة التي هي
العقيدة الواسطية.
وهذه الرسالة التي هي الفتوى الحموية الكبرى هي عبارة عن جواب كتبه شيخ الإسلام رحمه الله لسؤال قدم
إليه من حماه، وهي مدينة مشهورة في بلاد الشام وفي شمال سوريا بشكل محدد.
والعقيدة الطحاوية هي نسبة إلى أبي جعفر الطحاوي رحمه الله، العالم الحنفي المشهور، وهكذا مثلاً
كتاب التسعينية، سمي بسبب أنه رد على الأشاعرة في موضوع الكلام النفسي من تسعين وجهاً تقريباً
وهكذا بقية الرسائل التي لـابن تيمية رحمه الله مثل: الكليلانية، ومثل: شرح العقيدة الأصفهانية، وغيرها
من كتبه رحمه الله، فإنها كانت تسمى في بعض الأحيان باسم البقعة التي جاء منها السؤال، أو باسم
السائل، أو باسم المردود عليه، أو نحو ذلك من الأسماء المتعددة.
فهذا إذاً هو سبب تسمية هذا الكتاب بالفتوى الحموية الكبرى، وسبب تسميتها بالكبرى هو أن ابن
تيمية رحمه الله كتب في بداية الأمر هذه الرسالة مختصرة، ولما حصلت لـشيخ الإسلام الفتنة التي
سنتعرض للكلام عليها -بإذن الله- أضاف بعد ذلك مجموعة من النقول عن السلف رضوان الله عليهم
ومجموعة من النقول عن الأشاعرة والصوفية في موضوع الصفات، فسميت كبرى؛ لأنه انتشر عند الناس
نسختان: نسخة بدون هذه النصوص، ونسخة بهذه النصوص، فسميت الأولى التي بدون هذه النصوص
الصغرى، وسميت هذه الموجودة بالنصوص الكبرى، هذا ما أفاده الشيخ عبد الرزاق حمزة رحمه الله في
تحقيقه لهذا الكتاب، وكان رحمه الله تعالى من أوائل من أظهر هذا الكتاب.
أما تاريخ تأليفها فقد أشار إليه المحقق بأنها كانت في سنة ستمائة وثمانية وتسعين هجرية، ورد أنه جاء
إلى شيخ الإسلام رحمه الله سؤال من حماه يسأل فيه صاحبه عن آيات الصفات، ويسأل عن أحاديث
الصفات، وينص على صفة العلو بشكل خاص، فرد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه الرسالة الموجودة
والتي انتشرت في الناس انتشاراً كبيراً بعد ذلك.
وشيخ الإسلام رحمه الله ولد في سنة ستمائة وواحد وستين فيكون عمر ابن تيمية رحمه الله عندما كتب
هذه الرسالة سبعة وثلاثين سنة، يعني: دون الأربعين.
ذكر ما جرى لشيخ الإسلام من فتنة بسبب تأليفه الحموية
وهذه الرسالة جرت بسبب تأليفها فتنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ وذلك بسبب نقده
لمناهج المتكلمين ورده عليهم، وبيانه لاضطرابهم وتناقضهم، وشكهم وحيرتهم وضلال منهجهم، فقد
رد رحمه الله عليهم رداً قوياً ونقدهم نقداً قوياً بكل طوائفهم، سواء أصحاب مذهب التفويض أو مذهب
التأويل الذي يجتمع فيه المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، ومن وافقهم من الصوفية والشيعة وغيرهم.
فرد عليهم رداً قوياً، ونقدهم نقداً قوياً حاراً، فغضب عليه الذين كانوا يعظمون مناهج المتكلمين في
تلك الفترة، وقد ذكر تلميذه ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في كتابه العقود الدرية في ترجمة شيخ
الإسلام ابن تيمية رحمه الله ملخصاً لهذه الفتنة التي وقعت، وقد نقلها المحقق في بداية
دراسته لهذا الكتاب.
يقول الشيخ ابن عبد الهادي رحمه الله في كلامه عن المحنة: إنه -يعني: شيخ الإسلام رحمه الله-
كتب جواباً سئل عنه من حماة في الصفات، فذكر فيه مذهب السلف، ورجحه على مذهب المتكلمين
وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين، واجتمع بـسيف الدين جاغان في ذلك في حال نيابته بدمشق
وكان شيخ الإسلام رحمه الله مشتغلاً بإنكار المنكر عملياً، فكان ينكر على السحرة والكهنة والمشعوذين
عملياً، وكان أيضاً ينكر أمر المنجمين عملياً، فاجتمع بأمير دمشق النائب للدولة في تلك الفترة، وقد
كانت الدولة في تلك الفترة هي دولة المماليك التي كانت موجودة في بلاد الشام، وفي مصر، وكانت
عاصمتها مصر، وذلك بعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدي الأيوبيين، وبعد سقوط الدولة الأيوبية على
أيدي المماليك، صارت بلاد الشام تابعة لمصر، وصار في بلاد الشام نائب يتبع الحكومة المركزية
الموجودة في مصر، فـشيخ الإسلام رحمه الله عندما أنكر أمر المنجمين اجتمع بأمير دمشق ونائبها وهو
سيف الدين جاغان ، فقام نائب السلطنة -كما يقول ابن عبد الهادي رحمه الله- وامتثل أمره وقبل قوله
والتمس منه كثرة الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيق لبعض المشتغلين بالعلم والقضاء مع ما كان
عندهم قبل ذلك من كراهية للشيخ، وتألمهم لظهوره وذكره الحسن، فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا
مساغاً إلى الكلام فيه؛ لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه، وجودة
أجوبته وفتاويه، فعمدوا إلى الكلام في العقيدة؛ لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن
على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه، وعملوا عليه أوراقاً في رده، ثم
سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحداً واحداً، وأغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب
الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم حاشاه عن ذلك، وأنه قد أوعز ذلك المذهب إلى أصحابه، وأن العوام
قد فسدت عقائدهم بذلك، وسعوا في ذلك سعياً شديداً.
ثم ذكر ابن عبد الهادي رحمه الله أن جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية وافقهم يومئذ على ذلك
ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية، وطلب حضور ابن تيمية رحمه الله، وأرسل إليه فلم يحضر
وأرسل إليه ابن تيمية في الجواب: إن العقائد ليس أمرها إليك، يعني: إلى القاضي، وإن السلطان إنما
ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي، يعني: إذا كنت تعتبر أن
هذا منكراً فإن هذا ليس من تخصصك، وليس داخلاً في ولايتك، فوصلت إليه هذه الرسالة، فأغروا
خاطره، وشوشوا قلبه، وقالوا: لم يحضر، ورد عليك، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة؛ لأن
القاضي في العادة والٍ، فعندما يأمر ولا يطاع أمره يشعر أن فيه نقصاً، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته
في البلدة، فنودي في بعض البلد بذلك، لكن سيف الدين جاغان الذي هو نائب السلطان الذي في مصر
انتصر للشيخ، وعاقب أولئك معاقبة شديدة جداً، وحاول القبض عليهم، وضربوا كما يذكر ذلك
ابن عبد الهادي رحمه الله.
ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جلس كعادته يوم الجمعة في الجامع، وكان درس ابن تيمية
رحمه الله بعد صلاة الجمعة، يعني: بعد أن ينتهي خطيب الجامع الأموي، وتنتهي الصلاة يجلس شيخ
الإسلام رحمه الله، ويدرس التفسير، ففسر بعد هذه الفتنة قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم:4]، وأمر بالحلم، وحث على استعماله، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اجتمع مع
القاضي الشافعي إمام الدين رحمه الله تعالى، وكان هذا القاضي حسن العقيدة، فلما اجتمع به بعض
العلماء وبحثوا معه رسالة ابن تيمية الحموية وطال النقاش حولها، وقرئت من أولها إلى آخرها، وأوضح
الشيخ بعض موارد النزاع فيها، وبعض المواضع التي حصل فيها الإشكال، وأقر الحضور بصحة هذه
الرسالة، فقال القاضي: كل من تكلم في الشيخ يعزر، ويذكر المؤرخون أن القاضي الشافعي رحمه الله
كان حسن العقيدة، ولهذا انتصر لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
هذا هو ملخص الفتنة التي وقعت كما ذكرها ابن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
في كتابه العقود الدرية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأيضاً ذكرها الحافظ ابن كثير الدمشقي
رحمه الله تعالى.
ثم إن هؤلاء لم يكتفوا بهذه الفتنة التي أرادوها لـشيخ الإسلام ، ولهذا رد على شيخ الإسلام أحد علماء
الشافعية وهو شهاب الدين أحمد بن يحيى بن إسماعيل بن طاهر بن جهبل ، وهو من علماء الشافعية
ترجم له السبكي في طبقات الشافعية، ونقل رسالته كاملة في نقد شيخ الإسلام رحمه الله، وقد ذكر
قصة ذلك المحقق في مقدمة هذا الكتاب.
كما أن هذه الرسالة التي رد بها ابن جهبل الشافعي على شيخ الإسلام رحمه الله هي مطبوعة ضمن
طبقات الشافعية في ترجمة ابن جهبل ، ثم طبعت مستقلة بعد ذلك، وقد رد عليها ابن عيسى النجدي
رحمه الله شارح القصيدة النونية التي طبعت في مجلدين كما هو معلوم، رد عليها في كتابه المسمى
(تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي )، وهو في الحقيقة ليس رداً على ابن جهبل
بالأصالة، وإنما هو رد على بعض المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، لكنه نقد
ابن جهبل في ثنايا رده على هؤلاء. هذا ما يتعلق بالفتنة والأحداث التي دارت حول هذا الكتاب.
يتبع بإذن الله ...
تعليق