الدولة المدنية:
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
يقول العَلمانيون نريد دولة مدنية.. ويردد بعض الإسلاميين أنهم أيضا يريدون الدولة المدنية وأنهم دعاتهم!
وبعض معاني "المدنية" يأمر بها الإسلام، وبعضها يضبطها بضوابطه ويحيطها بشرائطه، وبعضها الثالث يَكفر بها، ويُكَفِّر من يقول بها.
الدولة المدنية: بمعنى المتحضرة، المتطورة، بل يريدها الإسلامُ متفوقة في كل مظاهر التقدم والرقي والرفاهية، بل إذا كانت ضعيفة وهي قادرة على التَّقَوِّي، أو متأخرة وهي قادرة على التقدم، أو فقيرة وهي قادرة على الاستغناء.. إذا كانت كذلك فهي ناقصة الإسلام، أقل تَحَبُّبًا لله-تعالى-، لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-:«المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[صحيح مسلم: (2664)]. ذات مرة أعلن سيد قطب-رحمه الله- أنه بصدد إصدار كتاب بعنوان:(نحو مجتمع إسلامي متحضِّر)، لكنه تراجع عن هذا العنوان، ليصير بعنوان:(نحو مجتمع إسلامي)، فاستنكر عليه وتساءل مالك بن نبي-رحمه الله- لماذا نزعتَ كلمة (متحضر)؟!
فأجاب سيد قطب-رحمه الله-: إن هذا الكاتب ما زال يُفكر كما كنت أفكر من قبل.. وأنا الآن أفكر بغير ذلك، فإن المجتمع المسلم أصله أن يكون متحضرا، ولا يحتاج إلى إضافة تكميل!
"يقول سيد-رحمه الله-:(المجتمع الإسلامي " - بصفته تلك - هو وحده " المجتمع المتحضر "، والمجتمعات الجاهلية - بكل صورها المتعددة - مجتمعات متخلفة! ولا بد من إيضاح لهذه الحقيقة الكبيرة .
لقد كنت قد أعلنتُ مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان : " نحو مجتمع إسلامي متحضر " . . ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كلمة " متحضر " مكتفياً بأن يكون عنوان البحث - كما هو موضوعه - " نحو مجتمع إسلامي " . .
ولفت هذا التعديلُ نظرَ كاتب جزائري ( يكتبه بالفرنسية ) ففسره على أنه ناشئ من "عملية دفاع نفسية داخلية عن الإسلام" وأسف لأن هذه العملية - غير الواقعية - تحرمني مواجهة " المشكلة " على حقيقتها !
أنا أعذر هذا الكاتب . . لقد كنت مثله من قبل . . كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن . . عندما فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع لأول مرة ! . . وكانت المشكلة عندي - كما هي عنده اليوم - هي مشكلة : " تعريف الحضارة ." !
لم أكن قد تخلصت بعد من ضغط الرواسب الثقافية في تكويني العقلي والنفسي ، وهي رواسب آتية من مصادر أجنبية . . غريبة على حسي الإسلامي . . وعلى الرغم من اتجاهي الإسلامي الواضح في ذلك الحين ، إلا أن هذه الرواسب كانت تغبش تصوري وتطمسه .
كان تصور " الحضارة " - كما هو الفكر الأوربي - يخايل لي ، ويغبش تصوري ، ويحرمني الرؤية الواضحة الأصلية ..
ثم انجلت الصورة . . " المجتمع المسلم " هو " المجتمع المتحضر " . فكلمة " المتحضر " إذن لغو ، لا يضيف شيئاً جديداً . . على العكس تنقل هذه الكلمة إلى حس القارئ تلك الظلال الأجنبية الغربية التي كانت تغبش تصوري ، وتحرمني الرؤية الواضحة الأصلية !
الاختلاف إذن هو على " تعريف الحضارة " . . ولا بد من إيضاح إذن لهذه الحقيقة !).
ونحن نعتذر عن كل من يظن أن مذهبا قد فاق الإسلام تحضرا، لأنه ربما يفهم الإسلام شعائر تعبدية أو أخلاق اجتماعية أو حدود جزائية فقط.. وعليه أن يوسع فهمه للإسلام، بل إيمانه به وبشموله..
والمقصود:أن هذا النوع من المدنية يأمر به الإسلام، كما سبق في حديث المؤمن القوي، وكما قال تعالى:: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..)[الأنفال] الآية، وغير ذلك...
الدولة المدنية، التي تقابل الدولة العسكرية، فالمدنية هي التي يرأسها رجل مدني شعبي غير عسكري ولا متعسكر، وهذا النوع من الدولة لا يرفضه الإسلام لذاته ولا يقبله لذاته، وإنما يجعل شروطا لقائد الأمة وحاكم الدولة، فمن توفَّرت فيه الشروط ونال أكثرها كان أولى الناس بها، ولا يضر أن يكون عسكريا أو غير عسكري. وخاصة أن في صد الإسلام لم يكن التفريق الواقعي ظاهرا بين (المدني) و(العسكري). فقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- القائد الأعلى للشعب القوات المسلحة، وكان عمر- رضي الله عنه- القائد الأعلى للشعب و القوات المسلحة..
ولم أكتب الواو في الأولى، لأن الشعب كان هو القوات المسلحة، فجعلتها وصفا لها، بينما في عهد عمر بدأ تجنيد الجند وعسكرة العسكر، وذلك عطفتُها، فجعلتها قسيمة لها..
والجديد في هذه العصور قلة الدِّين، ولذلك إذا قويت السواعد وامتلأت الأيدي بالأسلحة، وانساقت قطيع الجند وراء قائدها، وحالهم تغنت به الشعراء قبلا:
(لا يسألون أخاهم حين يندبهم * * * في النائبات على ما قال برهانا)
(وهل أنا إلى من غزية إن غوت *** غويت، وإن ترشد غزية أرشد)
وليست عنهم الطاعة في المعروف، وإنما في العسكرية!!! ظنُّوها تربية على الجندية، ولكنها تربية على العبودية، غير أنها عبودية لغير الله- والعياذ بالله-.
لذلك يقتلون الأبرياء في طاعة القائد!! كحال من قال الله فيهم: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)) [النساء].
لمثل هذا السبب كان لا بد للإسلاميين أن يعدِّلوا من هذا الشرط، ويجعلوا كفة توازن لهذه القوة، فيحرصوا أن يُضيقوا من عسكرة الدولة، تجنبا لها الأمر واحتياطا له.
ومن هذا الباب يُنظر لمدنية الحاكم بعين الاعتبار، لأنها تحقق له أمرين، أحدهما له، والآخر عليه، وكلاهما للأمة:
الأول: أن كونه مدنيا أنه جاء باختيار الشعب ورضاه، لا بتعيين العسكر أو تسلطه أو تغلبه أو انقلابه من وراء الجدر الحديديه من دبابات وطائرات وكُتل بشرية تُسمى الجيش! وقد يوصف بالجيش العظيم!!.
الثاني: أن كونه مدنيا أنه جاء باختيار الشعب وتوكيله، ولصاحب التوكيل أن يسترده إذا اقتضى الأمر. وهذا بدوره يجعل الحاكم يحاذر غضب الناس –إن لم يكن تقيا- فحتى لو لم يعمل لمرضاة الله، ويضع فيه الوازع الديني ، فإنه رغبة في الشعب أو رهبة منه يعتدل، خوفا من أن يعتزل. ثم كونه شعبيا وابن الشعب فإنه يأوي إليه من تهديد العسكر، ليكون الشعب قوة تحمي حق الرئيس وما يدعو إليه الرئيس من حق.
وإنما نجد الشعوب تنفر من حكم العسكر لما أذاقهم العسكر من قهر واستعباد، كما ذكرنا من قبلُ.
الدولة المدنية: التي تقابل الدولة الدينية، أي الدولة اللادينية، وهي عندنا ليست غير العلمانية، وهي في الإسلام كفرٌ بالإسلام! يكفر بها الإسلام، ويُكَفِّر من يقول بها-بعد بيان المحجة وإقامة الحجة-.
فإن دولة الإسلام دولة دينية، بل قامت من أجل إقامة الدين وسياسة الدنيا به. وهي دينية بمعنى أنها تنطلق من الدين وتحكم به على منهج الإسلام، لا على منهج الكنيسة! فليس لدعاته ولا لعلمائه ولا لحكامه قداسة، ولا مسحة من ألوهية، ولا هم يحكمون أو ينطقون باسم الإله، ولا أحد منهم يعطي صكوك الغفران. بل هم وسائر الناس سواء، كلهم عبيد لله، محكومون بشرعه، يخضعون للمراقبة والمحاسبة.
وهنا ينبغي أن نكشف مغالطة حول مفهوم الدولة الدينية، حيث إنه يوجد معنى مرفوض للدولة الدينية، لا مجال لإلصاقه بعقيدة الإسلام وشريعته، ويوجد معنىً مقبول للدولة الدينية لا مجال للمساومة فيه، أو تجريد الإسلام منه، مع مغالطات أخرى في هذا المجال.
أما المعنى المرفوض للدولة الدينية، فهي الدولة الكهنوتية؛ ذلك المعنى الكنسي الذي شاع في قرون أوروبا الشديدة الظلامية، والذي كان معناه الحقيقي تألّه البشر وتَقدُّسهم، والذي تحوَّلوا فيه من واسطة تبليغ الدين للناس وتنفيذه في الحياة، إلى واسطة تُعْبَد مع الله أو مِن دونِهِ، وتُشرِّع باسم الإله، بل بدلاً من الله-سبحانه-؛ فهذا مرفوض جملةً وتفصيلاً، وليس في الإسلام هذا النوع من الدولة، ولا يوجد داعية إسلاميٌّ يعرف ما يقول يدعو إلى مثل هذه الدولة، ومن فعل ذلك أو إدَّعاه أو أقرَّه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. وللأسف يقع بعض المسلمين تحت الضغط فيقولون ليس في الإسلام دولة دينية، وفي أذهانهم هذا المعنى الباطل المنحرف للدولة المسمَّاة بالدينية، والدين بريءٌ منها، وإنما هي دولة كهنوتية، بل دولة ضد الدين الصحيح.
وأما المعنى الصحيح للدولة الدينية فهي الدولة التي تُسيِّرُ أمورها وفق دين الله-سبحانه-، الذي أنزله ليحكم بين الناس بالحق والعدل، لا يختص في ذلك رسول عن رسول، ولا أمة عن أمة، بل لكل الأمم والرسل: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) [المائدة]، فكل النبيين(عليهم الصلاة والسلام) جاءوا ليُحَكِّموا الدين في الأمم، ومنهم الرسول الخاتم(صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)) [النساء]، ) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)( [الجاثية]، وآيات كثيرة في تحيكم الشريعة والحكم بها واتِّباعها، وبهذا المعنى تكون الدولة الإسلامية دولة دينية، لكنها ليست ثيوقراطية، والفرق بينهما كالفرق بين النور والظُّلْمة؛ فلا خوف على الناس ولا هم يحزنون إذا علاهم قانون الله –سبحانه-، وأرشدهم هُداهُ، ورسم طريقَهم رسُلُه الكرام( عليهم الصلاة والسلام)، أم يخاف هؤلاء المواطَنيون العلمانيون أن يظلمهم الله –سبحانه- ورسوله(صلى الله عليه وسلم) أو أن يحيف عليهم، أو يحابي عليهم ويهضم حقوقهم؟! أم يشُكُّون في عدلهِ وعلمه وحكمتهِ، أَو يظنون جهله-سبحانه( أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) [النور].
القوانين المدنية
ويتبع هذا قولهم القوانين المدنية، ويقولون نريد القوانين المدنية، وهذه أيضا لها إطلاقان: القوانين المدنية بمعنى ما يقابل الجزائية، فقوانين الأسرة والعقارات والمعملات ونحو ذلك يسمونها مدنية، ولها جناح خاص في المحاكم بالقضايا المدنية، ويقابلها الجزائية مثل القوانين العقابية على الجنح والمخالفات والاعتداء..
وإطلاق آخر على القوانين غير الدينية، يعني غير قوانين الشريعة، وهذا تأخذ الكلام السابق عن الدولة اللادينية..
والله أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل، ناصرٌ دينه، ومظهره على الدين كلِّه، ولو كره الكافرون والمشركون.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
يقول العَلمانيون نريد دولة مدنية.. ويردد بعض الإسلاميين أنهم أيضا يريدون الدولة المدنية وأنهم دعاتهم!
وبعض معاني "المدنية" يأمر بها الإسلام، وبعضها يضبطها بضوابطه ويحيطها بشرائطه، وبعضها الثالث يَكفر بها، ويُكَفِّر من يقول بها.
الدولة المدنية: بمعنى المتحضرة، المتطورة، بل يريدها الإسلامُ متفوقة في كل مظاهر التقدم والرقي والرفاهية، بل إذا كانت ضعيفة وهي قادرة على التَّقَوِّي، أو متأخرة وهي قادرة على التقدم، أو فقيرة وهي قادرة على الاستغناء.. إذا كانت كذلك فهي ناقصة الإسلام، أقل تَحَبُّبًا لله-تعالى-، لأن النبي-صلى الله عليه وسلم-:«المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»[صحيح مسلم: (2664)]. ذات مرة أعلن سيد قطب-رحمه الله- أنه بصدد إصدار كتاب بعنوان:(نحو مجتمع إسلامي متحضِّر)، لكنه تراجع عن هذا العنوان، ليصير بعنوان:(نحو مجتمع إسلامي)، فاستنكر عليه وتساءل مالك بن نبي-رحمه الله- لماذا نزعتَ كلمة (متحضر)؟!
فأجاب سيد قطب-رحمه الله-: إن هذا الكاتب ما زال يُفكر كما كنت أفكر من قبل.. وأنا الآن أفكر بغير ذلك، فإن المجتمع المسلم أصله أن يكون متحضرا، ولا يحتاج إلى إضافة تكميل!
"يقول سيد-رحمه الله-:(المجتمع الإسلامي " - بصفته تلك - هو وحده " المجتمع المتحضر "، والمجتمعات الجاهلية - بكل صورها المتعددة - مجتمعات متخلفة! ولا بد من إيضاح لهذه الحقيقة الكبيرة .
لقد كنت قد أعلنتُ مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان : " نحو مجتمع إسلامي متحضر " . . ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كلمة " متحضر " مكتفياً بأن يكون عنوان البحث - كما هو موضوعه - " نحو مجتمع إسلامي " . .
ولفت هذا التعديلُ نظرَ كاتب جزائري ( يكتبه بالفرنسية ) ففسره على أنه ناشئ من "عملية دفاع نفسية داخلية عن الإسلام" وأسف لأن هذه العملية - غير الواقعية - تحرمني مواجهة " المشكلة " على حقيقتها !
أنا أعذر هذا الكاتب . . لقد كنت مثله من قبل . . كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن . . عندما فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع لأول مرة ! . . وكانت المشكلة عندي - كما هي عنده اليوم - هي مشكلة : " تعريف الحضارة ." !
لم أكن قد تخلصت بعد من ضغط الرواسب الثقافية في تكويني العقلي والنفسي ، وهي رواسب آتية من مصادر أجنبية . . غريبة على حسي الإسلامي . . وعلى الرغم من اتجاهي الإسلامي الواضح في ذلك الحين ، إلا أن هذه الرواسب كانت تغبش تصوري وتطمسه .
كان تصور " الحضارة " - كما هو الفكر الأوربي - يخايل لي ، ويغبش تصوري ، ويحرمني الرؤية الواضحة الأصلية ..
ثم انجلت الصورة . . " المجتمع المسلم " هو " المجتمع المتحضر " . فكلمة " المتحضر " إذن لغو ، لا يضيف شيئاً جديداً . . على العكس تنقل هذه الكلمة إلى حس القارئ تلك الظلال الأجنبية الغربية التي كانت تغبش تصوري ، وتحرمني الرؤية الواضحة الأصلية !
الاختلاف إذن هو على " تعريف الحضارة " . . ولا بد من إيضاح إذن لهذه الحقيقة !).
ونحن نعتذر عن كل من يظن أن مذهبا قد فاق الإسلام تحضرا، لأنه ربما يفهم الإسلام شعائر تعبدية أو أخلاق اجتماعية أو حدود جزائية فقط.. وعليه أن يوسع فهمه للإسلام، بل إيمانه به وبشموله..
والمقصود:أن هذا النوع من المدنية يأمر به الإسلام، كما سبق في حديث المؤمن القوي، وكما قال تعالى:: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..)[الأنفال] الآية، وغير ذلك...
الدولة المدنية، التي تقابل الدولة العسكرية، فالمدنية هي التي يرأسها رجل مدني شعبي غير عسكري ولا متعسكر، وهذا النوع من الدولة لا يرفضه الإسلام لذاته ولا يقبله لذاته، وإنما يجعل شروطا لقائد الأمة وحاكم الدولة، فمن توفَّرت فيه الشروط ونال أكثرها كان أولى الناس بها، ولا يضر أن يكون عسكريا أو غير عسكري. وخاصة أن في صد الإسلام لم يكن التفريق الواقعي ظاهرا بين (المدني) و(العسكري). فقد كان النبي-صلى الله عليه وسلم- القائد الأعلى للشعب القوات المسلحة، وكان عمر- رضي الله عنه- القائد الأعلى للشعب و القوات المسلحة..
ولم أكتب الواو في الأولى، لأن الشعب كان هو القوات المسلحة، فجعلتها وصفا لها، بينما في عهد عمر بدأ تجنيد الجند وعسكرة العسكر، وذلك عطفتُها، فجعلتها قسيمة لها..
والجديد في هذه العصور قلة الدِّين، ولذلك إذا قويت السواعد وامتلأت الأيدي بالأسلحة، وانساقت قطيع الجند وراء قائدها، وحالهم تغنت به الشعراء قبلا:
(لا يسألون أخاهم حين يندبهم * * * في النائبات على ما قال برهانا)
(وهل أنا إلى من غزية إن غوت *** غويت، وإن ترشد غزية أرشد)
وليست عنهم الطاعة في المعروف، وإنما في العسكرية!!! ظنُّوها تربية على الجندية، ولكنها تربية على العبودية، غير أنها عبودية لغير الله- والعياذ بالله-.
لذلك يقتلون الأبرياء في طاعة القائد!! كحال من قال الله فيهم: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)) [النساء].
لمثل هذا السبب كان لا بد للإسلاميين أن يعدِّلوا من هذا الشرط، ويجعلوا كفة توازن لهذه القوة، فيحرصوا أن يُضيقوا من عسكرة الدولة، تجنبا لها الأمر واحتياطا له.
ومن هذا الباب يُنظر لمدنية الحاكم بعين الاعتبار، لأنها تحقق له أمرين، أحدهما له، والآخر عليه، وكلاهما للأمة:
الأول: أن كونه مدنيا أنه جاء باختيار الشعب ورضاه، لا بتعيين العسكر أو تسلطه أو تغلبه أو انقلابه من وراء الجدر الحديديه من دبابات وطائرات وكُتل بشرية تُسمى الجيش! وقد يوصف بالجيش العظيم!!.
الثاني: أن كونه مدنيا أنه جاء باختيار الشعب وتوكيله، ولصاحب التوكيل أن يسترده إذا اقتضى الأمر. وهذا بدوره يجعل الحاكم يحاذر غضب الناس –إن لم يكن تقيا- فحتى لو لم يعمل لمرضاة الله، ويضع فيه الوازع الديني ، فإنه رغبة في الشعب أو رهبة منه يعتدل، خوفا من أن يعتزل. ثم كونه شعبيا وابن الشعب فإنه يأوي إليه من تهديد العسكر، ليكون الشعب قوة تحمي حق الرئيس وما يدعو إليه الرئيس من حق.
وإنما نجد الشعوب تنفر من حكم العسكر لما أذاقهم العسكر من قهر واستعباد، كما ذكرنا من قبلُ.
الدولة المدنية: التي تقابل الدولة الدينية، أي الدولة اللادينية، وهي عندنا ليست غير العلمانية، وهي في الإسلام كفرٌ بالإسلام! يكفر بها الإسلام، ويُكَفِّر من يقول بها-بعد بيان المحجة وإقامة الحجة-.
فإن دولة الإسلام دولة دينية، بل قامت من أجل إقامة الدين وسياسة الدنيا به. وهي دينية بمعنى أنها تنطلق من الدين وتحكم به على منهج الإسلام، لا على منهج الكنيسة! فليس لدعاته ولا لعلمائه ولا لحكامه قداسة، ولا مسحة من ألوهية، ولا هم يحكمون أو ينطقون باسم الإله، ولا أحد منهم يعطي صكوك الغفران. بل هم وسائر الناس سواء، كلهم عبيد لله، محكومون بشرعه، يخضعون للمراقبة والمحاسبة.
وهنا ينبغي أن نكشف مغالطة حول مفهوم الدولة الدينية، حيث إنه يوجد معنى مرفوض للدولة الدينية، لا مجال لإلصاقه بعقيدة الإسلام وشريعته، ويوجد معنىً مقبول للدولة الدينية لا مجال للمساومة فيه، أو تجريد الإسلام منه، مع مغالطات أخرى في هذا المجال.
أما المعنى المرفوض للدولة الدينية، فهي الدولة الكهنوتية؛ ذلك المعنى الكنسي الذي شاع في قرون أوروبا الشديدة الظلامية، والذي كان معناه الحقيقي تألّه البشر وتَقدُّسهم، والذي تحوَّلوا فيه من واسطة تبليغ الدين للناس وتنفيذه في الحياة، إلى واسطة تُعْبَد مع الله أو مِن دونِهِ، وتُشرِّع باسم الإله، بل بدلاً من الله-سبحانه-؛ فهذا مرفوض جملةً وتفصيلاً، وليس في الإسلام هذا النوع من الدولة، ولا يوجد داعية إسلاميٌّ يعرف ما يقول يدعو إلى مثل هذه الدولة، ومن فعل ذلك أو إدَّعاه أو أقرَّه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. وللأسف يقع بعض المسلمين تحت الضغط فيقولون ليس في الإسلام دولة دينية، وفي أذهانهم هذا المعنى الباطل المنحرف للدولة المسمَّاة بالدينية، والدين بريءٌ منها، وإنما هي دولة كهنوتية، بل دولة ضد الدين الصحيح.
وأما المعنى الصحيح للدولة الدينية فهي الدولة التي تُسيِّرُ أمورها وفق دين الله-سبحانه-، الذي أنزله ليحكم بين الناس بالحق والعدل، لا يختص في ذلك رسول عن رسول، ولا أمة عن أمة، بل لكل الأمم والرسل: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) [المائدة]، فكل النبيين(عليهم الصلاة والسلام) جاءوا ليُحَكِّموا الدين في الأمم، ومنهم الرسول الخاتم(صلى الله عليه وسلم): ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)) [النساء]، ) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)( [الجاثية]، وآيات كثيرة في تحيكم الشريعة والحكم بها واتِّباعها، وبهذا المعنى تكون الدولة الإسلامية دولة دينية، لكنها ليست ثيوقراطية، والفرق بينهما كالفرق بين النور والظُّلْمة؛ فلا خوف على الناس ولا هم يحزنون إذا علاهم قانون الله –سبحانه-، وأرشدهم هُداهُ، ورسم طريقَهم رسُلُه الكرام( عليهم الصلاة والسلام)، أم يخاف هؤلاء المواطَنيون العلمانيون أن يظلمهم الله –سبحانه- ورسوله(صلى الله عليه وسلم) أو أن يحيف عليهم، أو يحابي عليهم ويهضم حقوقهم؟! أم يشُكُّون في عدلهِ وعلمه وحكمتهِ، أَو يظنون جهله-سبحانه( أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)) [النور].
القوانين المدنية
ويتبع هذا قولهم القوانين المدنية، ويقولون نريد القوانين المدنية، وهذه أيضا لها إطلاقان: القوانين المدنية بمعنى ما يقابل الجزائية، فقوانين الأسرة والعقارات والمعملات ونحو ذلك يسمونها مدنية، ولها جناح خاص في المحاكم بالقضايا المدنية، ويقابلها الجزائية مثل القوانين العقابية على الجنح والمخالفات والاعتداء..
وإطلاق آخر على القوانين غير الدينية، يعني غير قوانين الشريعة، وهذا تأخذ الكلام السابق عن الدولة اللادينية..
والله أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل، ناصرٌ دينه، ومظهره على الدين كلِّه، ولو كره الكافرون والمشركون.
تعليق