الدرس الخامس: القواعد الكلية الكبرى
تحدثنا في الدرس الأول من هذه السلسلة عن القواعد الفقهية من حيث نشأتها ومصادرها وأقسامها، وفي الدرس الثاني تناولنا القاعدة الكبرى الأولى (قاعدة الأمور بمقاصدها). ثم تناولنا في الدرس الثالث القاعدة الكبرى الثانية (قاعدة اليقين لا يزول بالشك) ، وفي الدرس الرابع تحدثنا عن القاعدة الكبرى الثالثة (قاعدة المشقة تجلب التيسير)، وفي هذا الدرس سوف نتحدث عن القاعدة الكبرى الرابعة وهي:
4- القاعدة الكبرى الرابعة: لا ضرر ولا ضرار
عبّر أكثر من كتب في القواعد عن هذه القاعدة بقولهم "الضرر يزال"، وجعلوا ما عبرنا به - وهو الحديث - دليلاً على القاعدة وأصلا لها.
ولكن التعبير بصيغة الحديث على القاعدة أعم وأشمل - حيث يشمل الضرر ابتداء ومقابلة - وأيضاً يعطي ذلك القاعدة قوة ، إذ يجعلها دليلاً شرعياً صالحاً لبناء الأحكام عليه باعتبار أنها نص نبوي كريم.
1- أصل القاعدة وهو دليلها:
هذه القاعدة نص حديث نبوي كريم في رتبة الحسن أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه الحاكم في المستدرك والبيهقي والدارقطني وابن ماجة من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت.
2- معنى الحديث:
الضُّرُّ: ضد النفع، وهو الهزال وسوء الحال، قال تعالى: (قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) والضرر: النقصان، تقول: دخل عليه ضرر في ماله، أي: نَقْصٌ.
والضرر فعل الواحد، والضِّرار فعل الاثنين،
وقيل: الضرر ما تضر به صاحبك وتنتفع به أنت، والضِّرار، أن تضره من غير أن تنتفع.
والضرورة شدة الحاجة، والاضطرار: الاحتياج إلى الشيء.
وقيل: الضرر: إلحاق مفسدة بالغير مطلقاً، والضرار: مقابلة الضرر بالضرر، أو إلحاق مفسدة بالغير على جهة المقابلة.
وفسر بعضهم الحديث: بأن لا يضر الرجل أخاه ابتداء ولا جزاء.
3- معنى القاعدة:
صدرت القاعدة بما يدل على العموم فكانت نكره في سياق النفي فتعم، فتكون عامة في دفع كل ضرر.
وهذه القاعدة من أهم قواعد الشرع، وفيها من الفقه ما لا يحصى، وهي قريبة الصلة بالقاعدة السابقة (المشقة تجلب التيسير)، فعددٌ من فروع هذه القاعدة هي فروع لقاعدة (المشقة تجلب التيسير)، لأن المشقة ضرر، والقاعدة هنا تقول: لا ضرر، فحصل بين بعض فروعهما تجاذب.
وهذه القاعدة مبنية على قاعدة: (جلب المصلحة ودرء المفسدة)، والذي هو من أجَلِّ ما يميز هذه الشريعة الإسلامية، وَجَعَلَها صالحة لكل زمان ومكان، فهي تفيد أنه لا ضرر يقع على الشخص، كما أنه لا يقع منه ضرر على أحد، والمعنى، أن الشريعة كما تمنع حصول الضرر عليه، فهي تمنع حصول الضرر منه، فتحقق المصلحة للجميع، وبصورة أوضح أن من وقع عليه ضرر نرفعه ونقول لا ضرر عليك، فإن أراد أن يسيء لمن أضر به، قلنا: ولا ضرار، ومثاله: ما لو أتلف شخص ماله، فلا يتلف هو ماله لأن الضرر لا يزال بالضرر، فنقول لا ضرر عليك فتجب لك عليه القيمة، ولا ضرار عليه بأن تتلف ماله، أو تزيد على أخذ حقك.
وتفيد القاعدة أيضاً، أن من أراد الإضرار بغيره، إما بإيقاع الضرر عليه مباشرة، أو من حيث منع وصول النفع إليه من غير ضرر يقع عليه أنه ممنوع منه.
4 - أدلة القاعدة:
1- القاعدة هي نص حديث نبوي صحيح ونصه: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار، من ضارَّ ضاره الله ومن شاقَّ شاق الله عليه) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.
2- ما حكم به صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار حيث كانت لرجل شجر في بستانه وفيه أهله، فكان يتأذى بدخول صاحب الشجر عليه، فطلب منه أن يبيعها فأبى، أو يناقله فأبى، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فَطَلَبَ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيعَهُ فَأَبَى فَطَلَبَ إليه أَنْ يُنَاقِلَهُ فَأَبَى قال فَهبْهُ له وَلَكَ كَذَا وَكَذَا- أَمْراً رغَّبه فيه- فَأَبَى فقال أنت مُضَارٌّ!! ثم قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْأَنْصَارِيِّ: (اذْهَبْ فَاقْلَعْ نَخْلَهُ).
ووجه الدلالة من الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أراد نفي الضرر ببيعه أو مناقلته أو هبته.
3- قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يمنعْ جارٌ جارَه أن يغرز خشبه في جداره)؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وإنما الضرر على الجار بعدم وضع الخشب على جداره.
4- ما جاء أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له من العُريض فأراد أن يمر به في أرض لمحمد بن مسلمة فأبى محمد، فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله فقال محمد بن مسلمة: لا، فقال عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك؟ فقال محمد بن مسلمة: لا، فقال عمر رضي الله عنه: (والله ليمرن به ولو على بطنك).
والحقيقة أن الشريعة برمتها وفي مسائل غير محصورة ذكرت ما يدل على رفع الضرر، وعدم المضارة، وهي أكثر من أن تحصر، سواء نُص فيها على رفع الضرر أو يفهم هذا من خلال الحكم.ومن المصرح فيها بلفظ نفي الضرر على سبيل المثال: قوله تعالى: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) وقوله (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) وقوله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا). ومن غير ما صرح فيها بذلك، النهي عن قتل الناس، والتعدي عليهم، وأخذ حقوقهم، والاستطالة في أعراضهم إلى غير ذلك مما هو معلوم ضرورة، وكذلك الأمر بدفع الضرر بقتل القاتل، ورجم الزاني، وقطع يد السارق.
كما ينبني على هذه القاعدة كثير من أبواب الفقه: كالرد بالعيب، وجميع أنواع الخيارات والحجر بسائر أنواعه والشفعة، والقصاص والحدود والكارات، وضمان المتلفات، والجبر على قسمة المشترك إذا اتحد الجنس، ونصب الأئمة والقضاة، ودفع الصائل، وقتال المشركين والبغاة.
5- فروع القاعدة:
1- منع الاحتكار، إذا أضر بالناس وكان من ضرورياتهم، كالطعام ونحوه.
2- النهي عن بيع الغرر، (ومنه النهي عن بيع الثمار قبل صلاحها، وبيع السمك في الماء، وبيع الحمل...)، لأن فيه ضرر والقاعدة تقول: لا ضرر.
3- حرمة التصدق بمال يحتاجه هو، أو من تلزمه نفقته.
4- لو باع شيئاً مما يسرع إليه الفساد كالفواكه مثلاً _وغاب المشتري قبل نقد الثمن وقبض المبيع وخيف فساده - فللبائع أن يفسخ البيع ويبيع من غيره دفعاً للضرر.
5- لو انتهت مدة إجارة الأرض الزراعية قبل أن يستحصد الزرع ، تبقى في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد ؛ منعاً لضرر المستأجر بقلع الزرع قبل أوانه.
تعليق