السؤال:
هل صحيح أن الشيخ الألباني ضعف بعض الأحاديث الموجودة في صحيح البخاري ؟
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الباحث المنصف في الانتقادات الموجهة إلى الصحيحين لا بد أن يفرق فيها بين نوعين من النقد:
النوع الأول :
النقد الذي لم يُبْنَ على منهجية علمية منضبطة ، ولم يسلك مسالك النقد العلمية المقبولة لدى المحدثين ، وإنما راح يتخبط خبط عشواء ، حتى تتجارى به الأهواء ، فيستنكر ما يخالف عقله ورأيه ، ولا يرعى حرمةً للقواعد المنهجية التي بني عليها البخاري ومسلم كتابيهما ، فمثل هذا النوع من النقد يرفض ولا يقبل ، ويواجه بالبحث العلمي والأدلة المنهجية القوية التي تَرُدُّ الناقد إلى صوابه ، وتبين له بطلان مسالكه ، وأن القضية ليست عصمةً تُدَّعى للبخاري ومسلم ، فأهل السنة لا يعتقدون العصمة لغير الأنبياء ، ولكنها مسألة فساد في مناهج البحث ، واضطراب في عقلية النقد ، كالذي يرفض كل حديث لا تثبته التجربة العملية ، ويرد كل حديث يتعلق بالغيبيات ، أو يخالف في ذهنه ما اعتاد عليه من المشاهدات ، أو يضعف كل حديث يرويه أبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، ونحو ذلك من المسالك الفاسدة .
وهذا النوع دائما ما يرافقه الحط من قدر الصحيحين ، والتشنيع عليهما ، ومحاولة إسقاطهما من تراث الأمة المقبول ، بل وعدهما " جناية " على التاريخ الإسلامي ، ووسمهما بالتعدي والفساد ، وهذه الأوصاف كلها امتلأت بها كتب معاصرة لطوائف من الرافضة وأتباعهم وكثير من المتعالمين الذين ينتسبون إلى الحداثة والتنوير والعقلانية ، ومن أمثلة الكتب المصنفة في هذا النوع : " أضواء على السنة المحمدية " لأبي رية ، وكتب المهندس جواد عفانة ، وكتاب " نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث " لإسماعيل الكردي ، وكتاب " الأضواء القرآنية في اكتساح الأحاديث الإسرائيلية وتطهير البخاري منها " صالح أبو بكر ، ورسالة " جناية البخاري إنقاذ الدين من إمام المحدثين " لزكريا أوزون ، ودراسة بعنوان " أضواء على الصحيحين " لمحمد صادق النجمي وغيرها كثير .
وأما علماء الإسلام الأوائل والأواخر ، السابقون واللاحقون من المحدثين والأصوليين والفقهاء والمفسرين ، فكلهم بريء من هذه المسالك ، بعيد عنها ، محارب لمن حمل رايتها وتولى كبرها .
النوع الثاني :
النقد المنهجي المبني على أدلة وبراهين معتبرة لدى علماء الإسلام ، ومناسبة لدراسة السنة النبوية كأحد فروع علم التاريخ ، لتجمع بين النظرين الإسنادي والمتني ، ولا تصادر قواعد المحدثين لحساب تخبطات الأهواء ، كما لا تستعمل لغة التشكيك والتهويل في منزلة الصحيحين في الأمة ، بل تعرف لهما قدرهما ، وتحفظ لهما ذكرهما ، وتحني لهما الهامات اعترافا بالجهد المبذول فيهما .
وهذا المسلك سلكه كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين ، كأبي زرعة (ت264هـ)، وأبي داود (275هـ)، وأبي حاتم (ت277هـ)، والترمذي (279هـ)، والنسائي (303هـ)، والدارقطني (385هـ)، والبيهقي (458هـ)، وابن تيمية (ت728هـ)، وابن حجر (ت852هـ)، كلهم تجد في نقداتهم ما ينال نزرا من أحاديث الصحيحين ، قبل تخريجها فيهما أبو بعد ذلك ، في مباحثة علمية منصفة ومنهجية ، بل إن بعض أحاديث " صحيح مسلم " لا يقبلها البخاري نفسه ، وبعض أحاديث " صحيح البخاري " لا يسلم بها الإمام مسلم نفسه .
ونحن لسنا في صدد المحاكمة بين الشيخين البخاري ومسلم وبين كل من انتقد بعض ما فيهما من المحدثين والعلماء ، فذلك ميدان فسيح خاض فيه الكثير من العلماء ، وصنفت فيه المؤلفات الكبيرة والعظيمة ، من أوسعها " هدي الساري " للحافظ ابن حجر رحمه الله ، ولكن المقصود هنا التفريق بين منهج هؤلاء الذي لا ينبغي أن ينكر ولا أن يصادر بدعوى تحقق الإجماع على صحة كل ما في الصحيحين ، ومنهج أولئك الذين يسعون إلى هدم منزلة الكتابين والوضع من شأنهما لدى الناس .
وقد تميزت مدرسة المحدثين المنضبطة عن غيرها من المدارس التي وجهت بعض الانتقادات إلى الصحيحين بالسمات الآتية :
" السمة الأولى : سلامة الدافع وعدم الانحياز : أعني بذلك سلامة الدافع نحو النقد ، وأنه ليس محل شك وريبة .
السمة الثانية : اتباع القواعد الحديثية .
السمة الثالثة : المحافظة على مضمون النص لاعتبارات أخرى ، إما لأن النقد موجه أصلا لبعض الأسانيد دون المتون ، وإما لجريان العمل على مضمون الحديث ، تحت أبواب : قبول المرسل ، ومنح حكم الرفع للموقوف ، وقبول حديث مجهول الحال ، ونحو ذلك ، في حين أنك تجد أبرز سمات النقد المعاصر لأحاديث الصحيحين التنكر لمتن الحديث ، والاستهزاء بمضمونه ، والطعن في كل من يصدقه ، وتصنيفه في دائرة الخرافة التي يجب السعي في تطهير الدين منها .
السمة الرابعة: تقدير الخلاف ، وقبول الاحتمال ، من خلال تلطيف العبارة ، واستعمال الكلمات المناسبة ، كقول : وهذا أشبه ، وهذا أصح.. ونحو ذلك .
السمة الخامسة : قلة الانتقاد ، لأن انضباط العملية النقدية يضيق الباب أمام الناقد ، فلا يجرؤ على النقد إلا بما ظهر برهانه ، وثبتت أدلته ، ولذلك كانت الأحاديث المنتقدة – التي تصفو بعد استبعاد الأنواع المذكورة في بداية البحث – قليلة جدا ، وقد وصفها الحافظ ابن الصلاح بأنها "أحرف يسيرة "، في حين أنها عند المدرسة المعاصرة المضطربة بالمئات ، حتى اضطرت بعضهم إلى فصلها في كتاب خاص بعنوان : " ضعيف صحيح البخاري " " انتهى باختصار نقلا عن بحث بعنوان : " المنهجية المنضبطة لدى النقاد المتقدمين في تعليل بعض أحاديث الصحيحين " (ص/17-20)، بحث مقدم لمؤتمر "الانتصار للصحيحين " في الجامعة الأردنية .
ثانيا :
من تأمل في هذه السمات الخمسة ، وتأمل الفرق بين المدرستين ، ثم قرأ بإنصاف مباحث الشيخ الألباني رحمه الله في انتقاده لبعض أحاديث الصحيحين أدرك أن الشيخ رحمه الله سار وفق المنهجية المنضبطة ، متابعا مَن سبقه مِن المحدثين في نقد بعض روايات الصحيحين ، وأن ذلك النوع من النقد ليس طعنا في السنة ، وليس مخالفا لإجماع العلماء ، بل هو امتداد لجهود سابقة معروفة في مناقشة الصحيحين ، ولكن ضمن أصول الحوار والنقد المتبعة ، وملتزما بجميع السمات السابقة التي من أهمها ، اتباع القواعد الحديثية ، والمحافظة على هيبة الصحيحين في قلوب الناس ، وذلك لا يعني عدم وقوع الخطأ في بعض أحكام الشيخ رحمه الله على أحاديث الصحيحين ، ولكنه خطأ في الجزئيات وليس في الكليات ، فمثله يغتفر كما اغتفر لكثير من النقاد والمحدثين .
وننقل هنا من كلام الشيخ رحمه الله ما يدل على التزامه بالمنهجية المنضبطة ، حيث يقول :
" لا بد لي من كلمة حق أبديها أداء للأمانة العلمية ، وتبرئة للذمة ، وهي أن الباحث الفقيه لا يسعه إلا أن يعترف بحقيقة علمية ، عبر عنها الإمام الشافعي رحمه الله فيما روي عنه من قوله : أبى الله أن يتم إلا كتابه ، لذلك أنكر العلماء بعض الكلمات وقعت خطأ من أحد الرواة في بعض الأحاديث الصحيحة ، فلا بأس من التذكير ببعضها على سبيل المثال :
قوله في حديث الأبرص والأقرع والأعمى الآتي برقم (1471): (بدا لله) مكان الرواية الصحيحة (أراد الله)، فإن نسبة البداء لله تعالى لا يجوز، كيف لا وهي من عقائد اليهود عليهم لعائن الله.
قوله : ( المدهن )، مكان ( القائم ) في قوله صلى الله عليه وسلم : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها ) الحديث (1143)، كما سيأتي بيانه هناك .
قوله في حديث الطاعون (1475) : ( فلا تخرجوا إلا فرارا منه ) فقول الراوي ( إلا ) خطأ واضح .
زيادة أحدهم في الحديث (984) : ( البيعان بالخيار .... يختار ثلاث مرار ) فقد نفى الحافظ (4/327، 334) ثبوتها .
قوله (ص176) في حديث (1160) للعبد المملوك الصالح : ( والذي نفسي بيده ، لولا الجهاد... الخ ) فإنه مدرج في الحديث ، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو من كلام أبي هريرة ، فهو كحديثه المتقدم في المجلد الأول برقم (90) ، حيث زاد الراوي في آخره: ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ) ، فإنه مدرج أيضا .
ونحو ذلك ما تقدم في المجلد الأول (28-جزاء الصيد/21- باب) : ( أن رجلا قال : إن أختي نذرت أن تحج ) ، وأنها رواية شاذة عند الحافظ ابن حجر ، والمحفوظ : ( أن امرأة قالت : إن أمي نذرت...الحديث) فراجعه هناك .
ونحو ذلك الحديث الآتي برقم (1209) ، فقد أعله الإسماعيلي بالانقطاع ، وأقره الحافظ مع بعض الإشكالات على المتن ذكرها في " فتحه "، فليراجعه من شاء .
ومثله الحديث المتقدم (28- جزاء الصيد/11-باب) عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم ) ، فإن الأصح أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال .
ومن هذا القبيل الحديث الآتي برقم (1050) ( قال الله : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة )، فإن في سنده راويا مختلفا فيها ، والمتقرر أنه سيء الحفظ ، والبخاري نفسه أشار إلى أن رواية من روى عنه هذا الحديث لا تصح ، فراجع كلامه هناك فيما يأتي ، لتكون على بصيرة من دينك وحديث نبيك .
ذكرت هذه النماذج من الأمثلة ، ليكون القراء على بصيرة من دينهم ، وبينة من أحاديث نبيهم ، متأكدين من صحة الأثر السابق " أبى الله أن يتم إلا كتابه "، ولكي لا يغتروا أيضا بما يكتبه بعض المشاغبين علينا من جهلة المقلدين والمذهبيين ، الذين يهرفون بما لا يعرفون ، ويقولون ما لا يعلمون ، ويتجاهلون ما يعرفون ... وفي مقابل هؤلاء بعض الناس ممن لهم مشاركة في بعض العلوم ، أو في الدعوة إلى الإسلام – ولو بمفهومهم الخاص – يتجرؤون على رد ما لا يعجبهم من الأحاديث الصحيحة وتضعيفها ولو كانت مما تلقته الأمة بالقبول ، لا اعتمادا منهم على أصول هذا العلم الشريف ، وقواعده المعروفة عند المحدثين ، أو لشبهة عرضت لهم في بعض رواتها ، فإنهم لا علم لهم بذلك ، ولا يقيمون لأهل المعرفة به والاختصاص وزنا ، وإنما ينطلقون في ذلك من أهوائهم ، أو من ثقافاتهم البعيدة عن الإيمان الصحيح ، القائم على الكتاب والسنة الصحيحة ، تقليدا منهم للمستشرقين أعداء الدين ، ومن تشبه بهم في ذلك من المستغربين أمثال أبي رية المصري ، وعز الدين بليق اللبناني .... وغيرهم ممن ابتليت بهم الأمة في العصر الحاضر بإنكار الأحاديث الصحيحة بأهوائهم ، وبلبلوا أفكار بعض المسلمين بشبهاتهم .
والله تعالى هو المستعان والمسؤول أن يحفظ السنة من أيدي الجاهلين والعابثين بها ، والجاعلين تبعا للأهواء ، وأن يعرفنا بقدر جهود سلف أئمتنا في خدمتها ، الذين وضعوا لنا أصولا وقواعد لمعرفة صحيحها من سقيمها ، من التزمها كان على المحجبة البيضاء ، ومن حاد عنها ، ضل ضلالا بعيدا " انتهى باختصار من "مقدمة مختصر صحيح البخاري " (2/5-9)
ويقول أيضا رحمه الله :
" جهل بعض الناشئين الذي يتعصبون لـ " صحيح البخاري "، وكذا لـ " صحيح مسلم " تعصبا أعمى ، ويقطعون بأن كل ما فيهما صحيح ! ويقابل هؤلاء بعض الكتاب الذين لا يقيمون لـ " الصحيحين " وزنا ، فيردون من أحاديثهما ما لا يوافق عقولهم وأهواءهم ، مثل (السقاف) ... وغيرهم . وقد رددت على هؤلاء وهؤلاء في غير ما موضع " انتهى من " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (رقم/2540) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" الإمام البخاري والإمام مسلم قد قاما بواجب تنقية هذه الأحاديث التي أودعوها في الصحيحين من مئات الألوف من الأحاديث ، هذا جهد عظيم جداً جداً . . ولذلك فليس من العلم ، وليس من الحكمة في شيء أن أتوجه أنا إلى نقد الصحيحين وأدع الأحاديث الموجودة في السنن الأربعة وغيرها ، غير معروف صحيحها من ضعيفها . لكن في أثناء البحث العلمي تمر معي بعض الأحاديث في الصحيحين أو في أحدهما ، فينكشف لي أن هناك بعض الأحاديث الضعيفة! لكن من كان في ريب مما أحكم أنا على بعض الأحاديث فليعد إلى " فتح الباري" فسيجد هناك أشياء كثيرة وكثيرة جداً ينتقدها الحافظ أحمد ابن حجر العسقلاني " انتهى من " فتاوى الشيخ الألباني " (ص/526) جمع عكاشة الطيبي .
والحاصل أن الشيخ الألباني رحمه الله قد ضعف بعض الأحاديث الثابتة في الصحيحين ، ونحن لا نوافقه على بعض أحكامه فيها ، ولكن منطلقه النقدي العام كان سليما متسقا مع مناهج المحدثين السابقين الذين سجلوا بعض الملاحظات على أحاديث الصحيحين ، ولم يكن يوما ساعيا في كسر هيبة الصحيحين من قلوب الناس ، ولا مبالغا في دعاوى الرد والتضعيف .
وللمزيد يرجى النظر في الفتوى رقم: (119516) .
والله أعلم .
تعليق