إن مسألة تهنئة النصارى بأعيادهم مسألة تحتاج إلى وقفة؛ فهناك خلاف كبير بين العلماء في جواز تهنئة النصارى بأعيادهم من عدمها، ومرجع هذا الخلاف هو وجود مسألتين متعارضتين في الظاهر أدَّيتا إلى هذا الخلاف؛ أما المسألة الأولى: فهي أن الإسلام قد أمر بالبرِّ مع النصارى طالما أنهم غير محاربين، والأدلة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8]. والبر: الإحسان، والقسط: العدل.
فالإسلام إذن يضع قاعدة لتعامل المسلمين مع النصارى، وهي العدل أولاً -وهو أن يُعطيهم حقوقهم كاملة غير منقوصة-، ويزيد على ذلك -الإحسان- وهو أن تعطيهم فوق حقوقهم رفقًا بهم.
وقد أجاز الإسلام الأكل من طعام أهل الكتاب، كما أجاز الزواج من نسائهم: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْـمُحْصَنَاتُ مِنَ الْـمُؤْمِنَاتِ وَالْـمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. ومع ما يستلزمه الزواج من المودة والرحمة والحب بين الزوجين، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، وما يستتبعه -أيضًا- من التواصل مع أهل الزوجة الذين يصيرون أصهارًا وأجدادًا وجداتٍ وأخوالاً وخالاتٍ للأبناء، وهذه الصلات تستلزم التواد والتراحم.
كل ما مضى يجعل من غير المعقول أن يتجاهل المسلم مناسبات الذِّمِّي وأعياده، وخاصة إذا كان جارًا أو زميلاً في العمل، فضلاً عن أن يكون صهرًا أو ذا رَحِم(1).
وأمَّا المسألة الثانية العكسيَّة: فهي أن مسألة تهنئة النصارى بأعيادهم تُعطي الانطباع بالموافقة على كفرهم وعقائدهم الباطلة؛ فمن ثَمَّ صارت التهنئة مؤدية إلى حرج شرعي.
ومن هنا فبعض الفقهاء نظر إلى المسألة الأولى فجوَّز التهنئة مطلقًا(2)، وبعضهم نظر إلى المسألة الثانية فحرَّم التهنئة مطلقًا(3).
وتوسَّط البعض في المسألة -وهو ما أراه مناسبًا- حيث أجاز التهنئة بشرط ألاَّ يُوجد بها مخالفة شرعية، وأجازوا تقديم هديَّة بشرط أن تكون حلالاً، فلا يُقَدِّم له زجاجة من الخمر -مثلاً- أو صورًا عارية؛ بحجة أنه ليس مسلمًا.. فالمسلم لا ينبغي أن يشترك في تقديم شيء محرَّم في ديننا، وإذا ذهب إليه في بيته أو في كنيسته فلا يحلُّ له أن يجلس تحت الأشياء المخالفة لديننا؛ كالتماثيل أو الصلبان، أو الاختلاط بالنساء العاريات، وغير ذلك من ضروب المحرمات التي تقترن بمواضع وأماكن غير المسلمين(4).
ونرى أنه يمكننا إضافة لهذا الرأي أن نُفَرِّق بين الأعياد الدينية المختلفة؛ فما كان منها ذا سببٍ يخالف العقيدة الإسلامية، مثل عيد القيامة، فنقول بعدم جواز التهنئة به؛ لأن المقصود به أن المسيح عليه السلام صُلِب -كما يزعمون- ثم قام من قبره بعد ثلاثة أيام، وهذا يُخالف العقيدة الإسلامية والنصَّ القرآني، الذي يُجزم "بأن المسيح عليه السلام لم يُقتَل ولم يُصلَب؛ {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]".
وأمَّا ما كان لسببٍ لا يخالف العقيدة الإسلامية فنقول بجواز التهنئة به؛ لأنها تحقق الفائدة دون الوقوع في حرج شرعي. والله أعلم.
المصدر: كتاب (مستقبل النصارى في الدولة الإسلامية).
(1) يوسف القرضاوي: في فقه الأقليات المسلمة، ص146-150.
(2) من فتاوى المجلس الأوربي للإفتاء بتاريخ 27/8/2009م (السؤال: ما حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؟)، وأجاز التهنئة من باب حق الجوار الأستاذ الدكتور محمد السيد دسوقي (أستاذ الشريعة بجامعة قطر)، وأجازها من قبيل المجاملة وحسن العشرة فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله- فقال: إن تهنئة الشخص المسلم لمعارفه النصارى بعيد ميلاد المسيح -عليه الصلاة والسلام- هي في نظري من قبيل المجاملة لهم والمحاسنة في معاشرتهم.
(3) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1/441، وفتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن المعاصرين الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى،
وغيرهم.
(4) وهو رأي الدكتور يوسف القرضاوي بتاريخ 30/12/2007م، ورأي الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر.
(1) يوسف القرضاوي: في فقه الأقليات المسلمة، ص146-150.
(2) من فتاوى المجلس الأوربي للإفتاء بتاريخ 27/8/2009م (السؤال: ما حكم تهنئة غير المسلمين بأعيادهم؟)، وأجاز التهنئة من باب حق الجوار الأستاذ الدكتور محمد السيد دسوقي (أستاذ الشريعة بجامعة قطر)، وأجازها من قبيل المجاملة وحسن العشرة فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله- فقال: إن تهنئة الشخص المسلم لمعارفه النصارى بعيد ميلاد المسيح -عليه الصلاة والسلام- هي في نظري من قبيل المجاملة لهم والمحاسنة في معاشرتهم.
(3) ابن القيم: أحكام أهل الذمة 1/441، وفتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ومن المعاصرين الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى،
وغيرهم.
(4) وهو رأي الدكتور يوسف القرضاوي بتاريخ 30/12/2007م، ورأي الدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر.
هل يهنئ المسلم النصارى بأعيادهم ومناسباتهم ؟
تعليق