وأما إحراق المصاحف فقد قدم حذيفة بن اليمان على عثمان رضي الله عنه وأخبره أن الناس قد افترقوا في القرآن، واختلفوا اختلافا شديدا، حتى إنه يخشى عليهم من الكفر بالقرآن، فطلب من عثمان رضي الله عنه أن يجمع الناس على قراءة واحدة، وأن يجمع القرآن مرة ثانية، فأمر عثمان رضي الله عنه بجمع القرآن مرة ثانية([1])، وأمر بإحراق ما خالفه، والمصاحف التي أحرقها عثمان فيها أشياء من منسوخ التلاوة، وقد أبقاه بعض الصحابة، وفيها ترتيب السور على غير الترتيب الذي في العرضة الأخيرة التي عرضها جبريل على النبي صلي الله عليه وسلم، وفي بعض المصاحف تفسيرات لبعض الصحابة، لذلك أمر عثمان بإحراق تلك المصاحف، وكتب المصحف الوحيد وفيه القراءات، ولم يلغ القراءات الثابتة عن النبي صلي الله عليه وسلم، فهذه منقبة لعثمان وإن جعلها المغرضون من مساوئه ومثالبه رضي الله عنه وأرضاه.
وأما ضرب ابن مسعود رضي الله عنه حتى فتق أمعاءه، وضرب عمار بن ياسر رضي الله عنه حتى كسر أضلاعه، فهذا كذب وافتراء؛ ولو فتق أمعاء ابن مسعود ما عاش، فما فتق أمعاء ابن مسعود ولا كسر أضلاع عمار رضي الله عنهم جميعا.
وأما الزيادة في الحمى([2]) فالنبي صلي الله عليه وسلم كان له حمى، وقال: إنما الحمى حمى الله ورسوله([3]). وقد وضع عمر حمى لإبل الصدقة، وضع لهم أرضا خاصة لا يرعى فيها إلا إبل الصدقة، حتى تسمن ويستفيد منها الناس، فلما جاء عثمان رضي الله عنه وكثرت الصدقات، وسع هذا الحمى فنقموا عليه ذلك حتى قيل له: أرأيت ما حميت من الحمى، آلله أذن لك أم على الله تفتري؟ فقال عثمان رضي الله عنه: إن عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصدقة، فلما وليت زادت إبل الصدقة فزدت في الحمى ([4]).
وأما الإتمام في السفر فقد صلى عثمان رضي الله عنه صدرا من خلافته في السفر ركعتين ثم أتم في السفر، وهذه مسألة فقهية اجتهادية اجتهد فيها عثمان رضي الله عنه ولا شيء عليه، فهل هذا الأمر يبيح دم عثمان؟ وأكثر أهل العلم على أن القصر في الصلاة مستحب، ولما أتمت عائشة رضي الله عنها في السفر قالوا لعروة: ماذا أرادت عائشة؟ قال: تأولت كما تأول عثمان رضي الله عنه أجمعين([5]).
وأما احتجاجهم بأن عثمان لم يحضر بدرا، وفر يوم أحد، وغاب عن بيعة الرضوان، فالرد على هذا ورد في صحيح البخاري عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر فقال: من القوم؟ قالوا: قريش، قال: من الشيخ فيكم؟ قالوا: عبد الله بن عمر، فجاء لعبد الله بن عمر، فقال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه، هل تعلم أن عثمان فر يوم أحد؟ قال: نعم. فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر؟ قال: نعم. قال: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان؟ قال: نعم. فقال المصري: الله أكبر، يعني ظهر الحق الذي يريده. فقال عبد الله بن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد، فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له كما قال تبارك وتعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) آل عمران:١٥٥..
وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله صلي الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعثه الرسول صلي الله عليه وسلم، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فقال ابن عمر: اذهب بها الآن معك ([6]).
وأما أنه لم يقتل عبيد الله بن عمر قصاصا لقتله للهرمزان، فالمشهور في كتب التاريخ أنه بعدما قتل أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفسه، لما ألقوا العباءة عليه([7])، فلما أصبح الناس قام عبيد الله بن عمر رضي الله عنه فقتل رجلا يقال له الهرمزان([8])، وكان مجوسيا فأسلم فلما قيل له؟ قال: كان مع أبي لؤلؤة المجوسي قبل مقتل عمر بثلاثة أيام وبينهما الخنجر الذي قتل به عمر، فظن أن الهرمزان مشارك لأبي لؤلؤة في هذه الجريمة فذهب إليه وقتله([9]).
وروى ابن سعد بسند صحيح عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال حين قتل عمر: قد مررت على أبي لؤلؤة قاتل عمر ومعه جفينة والهرمزان وهم نُجي، أي يتناجون فلما بغتهم ثاروا، أي قاموا فسقط من بينهم خنجر له رأسان ونصابه وسطه، فانظروا ما الخنجر الذي قتل به عمر، فوجدوه الخنجر الذي نعت عبد الرحمن بن أبي بكر، فانطلق عبيد الله بن عمر رضي الله عنه فلما خرج إليه أي الهرمزان قال: انطلق معي حتى ننظر إلى فرس لي، وتأخر عنه حتى إذا مضى بين يديه علاه بالسيف، قال عبيد الله: فلما وجد حر السيف قال: لا إله إلا الله، قال عبيد الله: ودعوت جفينة وكان نصرانيا من نصارى الحيرة، فلما علوته بالسيف صلب بين عينيه.
ثم انطلق عبيد الله فقتل ابنة لأبي لؤلؤة صغيرة تدعي الإسلام، وأراد عبيد الله ألا يدع سبيا بالمدينة إلا قتله، فاجتمع المهاجرون الأولون عليه فنهوه وتوعدوه، فقال: والله لأقتلنهم وغيرهم، وعرض ببعض المهاجرين فلم يزل عمرو بن العاص به حتى دفع إليه السيف، فلما دفع إليه السيف أتاه سعد بن أبي وقاص فأخذ كل واحد منهما برأس صاحبه يتناصيان حتى حجز بينهما، ثم أقبل عثمان قبل أن يبايع له في تلك الليالي حتى واقع عبيد الله فتناصيا وأظلمت الأرض يوم قتل عبيد الله جفينة والهرمزان وابنة أبي لؤلؤة على الناس، ثم حجز بينه وبين عثمان، فلما استخلف عثمان دعا المهاجرين والأنصار، فقال: أشيروا علي في قتل هذا الرجل الذي فتق في الدين، فاجتمع المهاجرون على كلمة واحدة يشايعون عثمان على قتله.
وكان جل الناس الأعظم مع عبيد الله يقولون لجفينة والهرمزان أبعدهما الله، لعلكم تريدون أن تتبعوا عمر ابنه؟ فكثر في ذلك اللغط والاختلاف، ثم قال عمرو بن العاص لعثمان: يا أمير المؤمنين، إن هذا الأمر قد كان قبل أن يكون لك على الناس سلطان فأعرض عنهم، وتفرق الناس عن خطبة عمرو، وانتهى إليه عثمان وودي الرجلان والجارية ([10]).
وهنا ثلاثة توجيهات لعدم قتل عثمان لعبيد الله الهرمزان([11]):
الأول: أن الهرمزان تمالأ مع أبي لؤلؤة على قتل عمر كما رآهما عبد الرحمن بن أبي بكر، وبهذا يكون مستحقا للقتل كما قال عمر: لو تمالأ أهل صنعاء على قتل رجل لقتلتهم به([12])، فهنا يكون دم الهرمزان مباحا؛ لأنه شارك في قتل عمر.
الثاني: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يقتل أسامة بن زيد رضي الله عنه لما تأول في عهده، وذلك أنه في إحدى المعارك رأى رجلا من المشركين قد قتل من المسلمين الكثير، فذهب إليه فلما رآه المشرك فر منه ثم اختبأ خلف شجرة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله فقتله أسامة، فلما بلغ النبي صلي الله عليه وسلم هذا الأمر استدعى أسامة فقال: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله، قال: إنما قالها تعوذا يعني خائفا من السيف، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: هلا شققت عن قلبه يقول: فما زال يرددها علي قتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! حتى تمنيت أني لم أسلم إلا الآن([13]). فالنبي صلي الله عليه وسلم لم يقم الحد على أسامة؛ لأنه كان متأولا، فكذلك الحال بالنسبة لعثمان رضي الله عنهلم يقم الحد على عبيد الله بن عمر، لأنه كان متأولا.
الثالث: أن الهرمزان لم يكن له ولي، والمقتول الذي لا ولي له وليه السلطان فتنازل عن القتل، وقيل: إن له ولدا يقال له: القماذبان، وأنه تنازل عن دم عبيد الله بن عمر رضي الله عنه([14]).
هذه هي المآخذ على عثمان رضي الله عنه، كلها إما أمور مكذوبة، وإما محاسن وفضائل، وإما اجتهادات مقبولة، ولو رآها غيره أخطاء له فهي لعثمان أمور مغفورة لأنه أحد العشرة المبشرين بالجنة.
----------------------------
(1)البخاري في فضائل القرآن، باب جمع القرآن 4/1908 (4702).
(1)الحِمى هو موضع الكلأ والعشب يحميه الإمام فلا يرعى فيه أحد ولا يقربه أحد.
(2)البخارى في المساقاة، باب لا حمى إلا لله ولرسوله صلى الله عليه و سلم 2/835 (2241) بلفظ لا حمى إلا لله ولرسوله'.
(3)أخرجه أحمد في فضائل الصحابة 1/470 (765) نشر مؤسسة الرسالة بيروت 1403هـ، 1983م، الطبعة الأولى، تحقيق د. وصي الله محمد عباس.
(4)البخاري في أبواب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة 1/369 (1040).
(1)رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان 3/1352 (3495).ومعنى لبعثه مكانه أي لبعثه النبي صلى الله عليه وسلم بدل عثمان، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله لأهل مكة حتى يبين لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليؤدي عمرته، وحدثت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة ولم يكن حاضرا وإنما ذهب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فبيعة الرضوان ما تمت إلا انتقاما لعثمان لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل، فبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أصحابه على الانتقام لعثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه إن كان قد صح قتله.
(1)رواه البخاري في فضائل الصحابة، باب قصة البيعة 3/1353 (3497).
(2)الهرمزان قائد فارسي مشهور، كان ميمنة رستم في القادسية ثم هرب بعد هلاك رستم، ثم ملك خورستان، وقاتل المسلمين ولما رأى عجزه طلب الصلح فأجيب إليه، ولكنه غدر وقتل مجزأة بن ثور، والبراء بن مالك، فقاتله المسلمون وأسروه وساقوه إلى عمر بن الخطاب، فأسلم فأسكنه أمير المؤمنين المدينة. انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/307، 2/389، 2/466 نشر دار الكتب العلمية بيروت 1415هـ، الطبعة الثانية، تحقيق عبد الله القاضي.
(3)انظر سنن البيهقي الكبرى 8/61 (15862) نشر مكتبة دار الباز مكة المكرمة 1414هـ 1994م، تحقيق محمد عبد القادر عطا، وتاريخ دمشق لابن عساكر 38/62 نشر دار الفكر بيروت 1995م، تحقيق : محب الدين أبي سعيد عمر بن غرامة العمري، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 5/54 نشر دار الجيل بيروت 1412هـ 1992م، الطبعة الأولى، تحقيق : علي محمد البجاوي.
(1)الطبقات الكبرى لابن سعد 3/355 وما بعدها، نشر دار صادر بيروت.
(1)انظر كتاب حقبة من التاريخ لفضيلة الشيخ عثمان الخميس حفظه الله تعالى، الباب الأول، المبحث الخامس، بتصرف مناسب لطلبة العلم.
(2)البخاري في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل 6/2526.
(3)الحديث بهذا اللفظ مجموع من عدة روايات عند البخاري ومسلم والطبراني وغيرهم، انظر البخاري في الديات، باب قول الله تعالى ومن أحياها 6/2519 (6478)، ومسلم، في الإيمان، باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله 1/96 (96).
(1)قصة تنازل القماذبان عن قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان في تاريخ الطبري 2/590 ولكنها من طريق سيف بن عمر الكذاب.
تعليق