بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه:
دائما ما أردد أن جهودنا الدعوية التي بذل فيها الغالي والنفيس – للأسف الشديد – لم تنتج لنا ما كنا نحلم به في جيل الصحوة، فلم نر فقيهاً بمعنى الكلمة، ولم نجد المجتهد الذي يتعامل مع الواقع المتغير بمنهجية سلفية محضة، وليس هذا على سبيل التجوز أو الادعاء، وإلا فقد صدق من قال: "علمنا طالب علم عند السلف، وطالب العلم عندنا عامي عندهم"
إننا بحاجة ماسة لوجود هذا الفقيه المنشود الذي تربى على الأخذ بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، الذي يستطيع التعامل مع واقعنا المعاصر، وأنت تدري حجم الأزمات الفقهية الطاحنة التي يمر بها المسلمون في هذا الزمان، فكلما خرج علينا أهل العلوم التجريبية بنظرية أو اكتشاف ما، وبدا أنه يتعارض مع نصوص الوحي الرباني من جانب، تجد صراعاً مريراً بين الطائفتين، ولك أن تتذكر مثلاً المشكلات الطبية التي مازالت تحظى بجدل فقهي كبير في هذا العصر؛
كقضية "نقل الأعضاء"، وقضية "الختان للإناث"، وقضية "الاستنساخ"، ولك أن تنظر إلى الصراع الذي يدور كل عام بين الفلكيين وعلماء الدين حول رؤية هلال رمضان، أضف إلى هذا القضايا الاقتصادية؛ كالتعامل مع البنوك وشركات التأمين بكل صورة، والتعامل مع "بورصة" الأوراق النقدية..
وغير هذا من القضايا التي تلحظ دائما فيها افتقاد الأمة للفقيه الذي يجمع بين الحسنيين، أعني قراءة النص وقراءة الواقع بفهم سلفي صحيح.
وقد حثنا الله – تبارك وتعالى – على التفقه في دينه، وجعله من فروض الكفايات، فالأمة كلها تأثم إذا لم يوجد فيها هذا النمط المنشود من الفقهاء.
قال تعالى {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿١٢٢﴾}سورة التوبة
وقال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" [أحمد وصححه الألباني]
فمحض منة من الله – تبارك وتعالى – أن يرزق العبد تلك الملكة الفقهية، ولكن تعالوا لنتساءل: ما السبيل إذا؟ وما هو المطلوب من هذا الفقيه المنشود وسط هذه التحديات؟ وبادئ ذي بدء...
ما هي حقيقة الفقه؟
الفقه الحقيقي هو امتلاك القدرة على ما يسمى في المصطلح الفقهي بــ "تحقيق المناط"، أو القدرة على تجريد النص من قيد الزمان والمكان، والاجتهاد في تنزيله على واقع الناس، ومعالجته لمشكلاتهم.
فليس الفقه في حفظ كتاب أو سرعة استذكار مسألة مع العجز – مثلا – عن إيجاد وتوليد مثال الأقدمين، والذي مازلت تراه في كتاب تقرأه, وكأن الفقه صار محصوراً في بعض المسائل القديمة، وإنما نعني بالفقه الإدراك العميق لمقصود الشرع، والإلمام بالواقع عن طريق معرفة الأسباب، ومعرفة السنن الربانية والكونية، واستيعاب حقائق الماضي في ظل مواجهة واقعية، فليس بفقيه من عاش بمعزل عن الناس،، ولم يبصر ما يعانونه، ولم يدرك الملابسات والتفاصيل التي تحيط بكل منهم.
وقد قال الله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } [الأنعام: 38]،
فالدين يشمل كل جوانب الحياة، ولعل هذا من أخطر ما يعاني منه المسلمون الآن، أعني إدراك هذه الحقيقة والتعامل من منطلقها في دراسة كل مشكلاتهم، لأنه بسبب تيارات "الغزو الفكري" تعرضت الأمة لزعزعة هذا الأصيل في تعاملها مع الواقع، فلم يعد الدين هو صاحب الكلمة الأولى، ولم يعد له الفصل في جميع المسائل، ومع تقاعس الفقهاء عن اللحاق بمستجدات عصرهم ظهرت هذه الإشكالية، وصار في الناس من يقسم الدين إلى قشور ولباب، فافتقدنا أول الأصول وقاعدة الارتكاز؛ أعني:
"شمولية الدين"
إن غياب الرؤية الإسلامية أو الفقه الشامل عن أي موقع وعدم امتداده له يعني وجود الفراغ الذي يسمح بوجود"الآخر" ليصنع عند حدود "التشريعات"،بل نحن في أمس الحاجة الآن إلى علم أصول فقه: "تربوي" و"اجتماعي" و"سياسي" و"اقتصادي" و"معرفي" بشكل عام؛ ليغطي جميع شعب المعرفة وجوانب الحياة، ولا يقتصر على الجانب التشريعي فقط.
ولعل من قبيل الملاحظة نفسها أن الأصوليين عندما تكلموا في شروط المجتهد، ومنها إلمامه بكتاب الله عز وجل، تباينت وجهات نظرهم في هذا الجانب، فحصر بعضهم هذا الإدراك في نطاق آيات الإحكام، وهذا ما يمثل "الوقوف عند الجانب التشريعي فحسب"، بينما كانت النظرة الأوفق للصواب تدعو لضرورة إلمامه التام بجميع آيات الذكر الحكيم. لماذا؟
لأن آيات القرآن كلها آيات أحكام، فمنها أحكام تربوية وأخلاقية، ومنها أحكام اجتماعية، ومنها أحكام سياسية, وهكذا.. فحصر الفقه في جانب دون آخر يبعدنا عما ننشده في فقيهنا المعاصر، فإن هذا كان موجوداً في سلفنا، وآراؤهم تشهد بهذا، لكن يوم غاب عنا هذا الفهم الشمولي اختزلت نصوص الشرع لتنأى عن الواقع، وهذا لم يكن ليحدث في أمة شهدت حضارة ضخمة امتدت عبر مئات السنين، واتسعت لبيئات مختلفة وأجناس متباينة.
انظر مثلا لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] بين الفهم التشريعي والفهم الشمولي؛
فإن الأصوليين استدلوا بأن هذه الآية واضحة في مخاطبة أهل الإيمان للاسترشاد بسنن الله في الكون، وأخذ العبرة والعظة من حال الأمم السابقة. إنها أصل فيما يمكن تسميته بالفقه السياسي أو الاجتماعي.
كذا قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴿١٢٢﴾}سورة التوبة
فالفقه هنا لا يقتصر على "الفقه التشريعي"، وإنما هو أعم من ذلك، ولعل من أدلة ذلك؛ التعبير بـ "النفرة" التي تتناسب مع دخول الميدان ودراسة الواقع.
وقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم المأثور لعبد الله بن عباس – رضي الله عنهما:
"اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل"
وأنت تلحظ أن المقصود ليس هو الفقه التشريعي الذي يشمل أبواب العبادات والمعاملات والجنايات ونحوها، وإنما الفقه الذي يشمل فقه السنن الربانية والفهم عن الله –تبارك تعالى– فقه الحياة بشتى صورها، وليس المقصود بـ "التأويل" التفسير والبيان كما اعتدنا فهمه، بل التأويل يعني البصر بالعواقب والنتائج والمآلات.
إنه إدراك للسنن الفاعلة في الحياة وتحولاتها الاجتماعية وقانونها الرباني.
فهذا ما نعنيه بالفقه، أعني "الفقه الحضاري"، الفقه الذي يغطي جوانب الحياة، الفقه الذي يتماشى مع شمولية الدين وصلاحيته لكل زمان ومكان، "فقه السنة" بمعناها العام الذي يعني الطريقة المطردة والقانون الناظم، أي فقه تقويم الحاضر بقيم الدين في ضوء كل الظروف المحيطة.
وفي ضوء هذا المعنى نحتاج إلى بيان المقصود بــ "الملكة الفقهية" كمقدمة لمعرفة طرق تكوينها واكتسابها.
الملكة الفقهية:
الملكة في معناها اللغوي تدور حول الدلالة على القوة والرسوخ, ومعناها في اصطلاح أهل العلم ليس بمنأى عن ذلك؛ فقالوا: هي "صفة راسخة في النفس"، وهذه الصفة تعين الإنسان على سرعة البديهة في فهم الموضوع.
وهذه الصفة هبة من عند الله، ومن هذا قول الإمام مالك: "ليس الفقه بكثرة المسائل، ولكن الفقه نور يؤتيه الله من يشاء من خلقه". وهذه الصفة تنمو بالاكتساب عن طريق الإحاطة بمبادئ العلوم والإلمام بقواعدها، وهي تبدأ ضعيفة ثم تقوى بالرعاية والتدرج، ولذلك فإن حصول هذه الملكة يحتاج إلى نوع من الدربة والتدرج في التلقين والتعليم.
وعلى هذا، فإن صاحب الملكة الفقهية من يكون الفقه له سجية، وعنده قوة يقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها. وهذه الملكة لها أنواع:
فمنها: الفقه, وهو غريزة لا تتعلق بالاكتساب, وتورث صاحبها شدة الفهم لمقاصد الكلام.
ومنها: القدرة على استحضار الحكم الشرعي العملي في مظنته الفقهية.
ومنها: القدرة على استنباط هذا الحكم الشرعي عن طريق التضلع بالعلوم الشرعية وعلوم اللغة مما هو ضروري للاجتهاد.
ومنها: القدرة على تخريج الفروع على الأصول والترجيح بين الآراء.
وقد يعبر عن هذه الملكة بــ"البصيرة" أو"الحكمة" أو"الاجتهاد"، وبينهم من التداخل والتباين ما بينهم, والفقيه المطلوب – والذي نرجوه – هو الذي تجتمع له كل هذه الأنواع من الملكات, لأنه بحاجة إلى مجموعها.
ففقه النفس يعينه على القيام بأمر الله تعالى في نفسه وأهله ومن حولهم, وفي فتاويه للناس, فإنه يعلم بحاله حالَهم, فتكون فتاويه ونصائحه موفقة لا ملفقة.
وملكة القدرة على الاستنباط, لأن نصوص الشرع تنحصر والنوازل لا تنحصر, فأحكام الدين تؤخذ بالاستنباط من الأدلة, وهذا هو الفقه الحقيقي.
إن القضية ليست حفظ النصوص واستحضارها, ولكن تنزيل هذه الأحكام بفقه النفس وملكة الاستنباط في استخراج الحكم الذي يرضي الله ورسوله؛ فقد قالوا: "إن الفقيه هو الذي أحاط علماً بالشريعة, فيستخرج الحكم من مجموعها".
وأيضاً, ملكة الترجيح بين الآراء ملكة خطيرة, فهولا يتعصب لمذهب ولا لشخص، ولا يحكمه الهوى, فلا يتابع أحداً في كل أقواله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلذلك هو مجتهد حقيقة, وهذا المجتهد له ملكة حقيقية, تبين له الصحيح من المزيف من الأقوال, كالصيرفي الماهر, فهوحين ينظر في أقوال الناس يعرف مآخذ العلماء, وتتبين له مشاربهم, فيتوجه الأمر لديه بالترجيح الصحيح بينهم.
وقد مر بنا مراراً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ"الراوي: إبراهيم بن عبدالرحمن العذري المحدث:الإمام أحمد - المصدر: تاريخ دمشق - الصفحة أو الرقم: 7/39
خلاصة حكم المحدث: صحيح
كيف تكوّن هذه الملكة؟
لتكوين الملكة الفقهية شروط هي:
أولاً: الاستعداد العقلي, والقلبي, والشخصي للمتفقه:
فأما استعداده العقلي: فينبغي أن يكون المتفقه ذكياً, قوي المدارك, يعرف مقتضى الكلام ومعناه, عنده ملكة جيدة في الحفظ والاستذكار, ولذلك كانوا يبدأون بحفظ القرآن لصقل هذه الملكة عند طالب العلم, وليعتاد ذلك منذ الصغر وتقدير مقوماته الإدراكية, فضلاً عن النور الذي يبعثه القرآن في صدره.
وأما استعداده القلبي والخلقي: فأعني أن يكون المتفقه صافي النفس من أدران الدنيا وشوائبها, مخلصاً طلب الحق والمعرفة, عدلاً يجتنب المعاصي ويلتزم بالطاعات, متحلياً بصفات المروءة.
وقد كان سلفنا الصالح يختبرون المتعلم أولاً, فإن وجدوا فيه خلقاً رديئاً منعوه لئلا يكون آلة فساد, وإن وجدوه مهذباً علّموه, ولا يطلقونه قبل الاستكمال خوفاً على فساد دينه ودين غيره.
أما استعداده الشخصي: فإن تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى كبير همة وجد ومثابرة وصبر على ذل التعلم, فالمتفقه لا يترك لحظة دون تعلم واستكثار من ميراث النبوة, وتعاهده بالحفظ والمذاكرة المستمرة.
قالوا: "العلم ما ثبت الخواطر, لا ما حوته الدفاتر".
ثانياً: المعلم الحاذق القدوة:
لا شك أن وجود المعلم المربي من أركان هذا البناء, فنحن في حاجة إلى شيخ متقن لعمله, متمكن فيه, ملم بآفات النفوس، ويحسن تهذيبها, وفي ظل افتقاد الأمة لهذا الرجل القدوة تظل الإشكالية مطروحة.
ومن هنا: علينا إيجاد هذه النماذج في الأمة, والبحث عنها, والاستكثار منها, وتأهيل القائمين على العملية التعليمية وفق منهج علمي صحيح ليكثر سواد هؤلاء المعلمين.
فمن شرطه:
1- أن يكون معروفاً بالديانة والستر والصيانة، وإلا فإن أخطر وبال على طالب العلم أن يتلقى تعليمه من أهل المعاصي والفسوق, فيشب الفتى متلطخاً بما رباه عليه أستاذه بحاله قبل مقاله.
قال محمد بن سيرين:" إنما هذا العلم دين, فانظروا عمن تأخذون دينكم ".
2- أن يكون بصيراً بطريقة التلقين والتعليم بحسب مرحلة الطالب وقدرته, ماهراً في عرض المادة العلمية, لديه القدرة على الإيضاح بوسائل شتى, عاملاً على صقل مواهب تلاميذه.
ثالثاً: اتباع منهج علمي أصيل:
من المقومات الأساسية للملكة الفقهية وجود منهج دراسي أصيل يتلقاه المتفقه في مراحل دراسته, ويتمثل في العلوم الأساسية التي ينبغي له أن يدرسها وهي:
1- معرفة القرآن وعلومه:
فالقرآن أقوى شيء في تكوين الملكة الفقهية وبناء الأخلاق والنفوس.
قال الشاطبي – رحمه الله -:" إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة, وعمدة الملة, وينبوع الحكمة, وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه, ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه, وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه, لأنه معلوم من دين الأمة, وإذا كان ذلك، لزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة, وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها أن يتخذه سميره وأنيسه, وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي, نظراً وعملاً, لا اقتصاراً على أحدهما, فيوشك أن يفوز بالبغية, وأن يظفر بالطلبة, ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول.
فالقرآن الكريم لا يخلق بكثرة النظر, وكلما نظر الإنسان فيه ازداد علماً وفقهاً، فعلى المتفقه أن يحفظ القرآن الكريم أولاً وقبل أي شيء آخر، ويتقن تلاوته, فيعلم بعلم التجويد, ولا يتعجل ويرمي إلى دراسة الفقه وعلومه قبل أن يكون أتم حفظ القرآن الكريم.
ثم ينهل من معين علومه قسطا، فيعرف الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، والقراءات القرآنية..
2- معرفة السنة وعلومها:
فيبدأ بحفظ بعض المتون المختصرة كـ "الأربعين النووية" ونحوها ليتسع محصوله من السنة شيئاً فشيئاً بعد ذلك.
ويلم بعلوم الحديث, فيعرف "أسباب ورود الحديث"، و"الناسخ المنسوخ", و"الجرح والتعديل", يلم من ذلك بطرف.
تنبيه:
وثم مسألة مهمة في هذا وجب التنبيه عليها, وهي أن الصحوة لما قامت وبيّنت أهدافها في لزوم رجوع الأمة إلى المعين الصافي من الكتاب والسنة, واكب ذلك اهتمام عظيم بعلوم السنة بفضل مجدد العصر – عليه رحمات الله – الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني, وكثر الباحثون في هذا المجال بفضل الله تعالى, ولكن مع ظهور الفهارس العلمية – ناهيك عن التقنيات الحديثة الآن – دخل هذا المضمار من ليس أهلاً له، والشيخ – رحمه الله – شنّ عليهم حملات متتابعة, وتشهد بذلك مقدمات مصنفاته الأخيرة، لكن اختلط الحابل بالنابل، وصار ديدن البعض لا يخرج من فلك "مصطلح الحديث" و"تحقيق وتخريج الأحاديث" تحت الزعم بأنه نشر للسنة، والواقع يكذب ذلك، ومن ثم لابد من ترشيد طلاب العلم في هذا الجانب؛ فلا يكون جل اهتمامه في علم واحد, ويترك حفظ القرآن، وتعلم أبواب الفقه، والإلمام بالأصول، وإتقان اللغة, ولعل هذا من واجبات (الجيل الثاني) الذي لم تبدُ بعد معالمه منذ رحل العلامة الشيخ الألباني – رحمه الله.
وعلى طالب العلم أن يبدأ في التعرف على كتب السنة وطرق مصنفيها ليعرف كيفية استخراج الحديث من هذه الكتب, وفي ظل وجود الحاسب الآلي وغيره من التقنيات الحديثة، فإني لا أنصح بالتعامل مع هذه الوسائل إلا بعد أن يكتسب طالب العلم مهارة التخريج من الكتب, وهذا ليس من قبيل التعسير, بل هذا من محض التجربة, نعم نحن لا نقلل من هذه التقنيات وأنها وسيلة بحثية جيدة, لكن لا يبدأ بها طالب العلم, وإلا فإنها ستهدم ملكة البحث والتنقيب عنده, والتي لها من المزايا ما لا يدركه إلا من جرّب ذلك.
فاجمع بين الأمرين؛ تدرب جيداً مع الكتب, ثم استخدم هذه التقنيات بعد أن ترسخ قدمك, فسوف تجد من المنفعة ما لا يعرفه إلا خبير بهذا الشأن.
وينبغي أن تمتد صلتك بالمتون إلى الشروح والانتفاع بما فيها من علم غزير، وعادة سوف تكون هذه المراجع بغيتك في فترة لاحقة، ولكن في البداية استأنس بها, ثم عندما تستكمل أدواتك سوف يعظم قدر هذه الكتب عندك بعد ذلك.
3- معرفة علوم اللغة:
ينبغي للمتفقه أن يلم بعلوم اللغة من نحووصرف وبلاغة وأدب ليتمكن من فهم نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية حق الفهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة الله -:" إن تعلم اللغة العربية من الدين, وإنه فرض واجب لفهم مقاصد الكتاب والسنة, وهما لا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية, وما لم يتم الواجب إلا به فهوواجب ".
أما الشاطبي – رحمه الله – فيقول: "الشريعة عربية, وإذا كانت عربية فلا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم لأنهما سيان في النمط ما عدا وجوه الإعجاز, فإذا فرضنا مبتدئاً في فهم العربية فهومبتدئ في فهم الشريعة، أومتوسطاً فهومتوسط في فهم الشريعة، والمتوسط لم يبلغ درجة النهاية, فإن انتهى إلى درجة الغاية في العربية كان كذلك في الشريعة، فكان فهمه فيها حجة كما كان فهم الصحابة وغيرهم – من الفصحاء الذين فهموا القرآن – حجة, فمن لم يبلغ شأوهم فقد نقصه من فهم الشريعة بمقدار التقصير عنهم, وكل من قصر فهمه لم يعد حجة, ولا كان قوله فيها مقبولاً, فلابد من أن يبلغ في العربية مبلغ الأئمة فيها كالخليل وسيبويه والأخفش والجرمي والمازني ومن سواهم"
فالشاطبي – رحمه الله – جعل مدار علوم الاجتهاد على أمرين:
1- الإلمام بعلوم اللغة.
2- البصر بمقاصد الشريعة.
ولكنه يرى أنه ينبغي أن يستفرغ المتفقه الوسع في تحصيليهما حتى يصل في اللغة مثلاً – كما يقول هو– إلى درجة الخليل وسيبويه والأخفش ونحوهم من فحول علماء اللغة.
وإن كان في هذا نوع تجوز، إلا أنه يفيدنا هنا خطورة دور اللغة وصلتها الوثيقة بالعلوم الشرعية.
وعلى كل حال، ينبغي لطالب العلم أن يبدأ بدراسة متن من متون النحو كـ "الآجرومية" ثم يثني بكتاب كـ "قطر الندى" أو"شذور الذهب" لابن هشام, ثم يترقى إلى شروح ألفية ابن مالك كـ "شرح ابن عقيل" أو"الأشموني" و"حاشية الصبان" عليها, إلى أن يصل لدراسة "مغني اللبيب" لابن هشام أيضاً, وهو مهم ولا ينبغي أن يهمل.
وفي الصرف يحفظ "الشافية" ويلمّ بشروحها.
وفي البيان يبدأ بالكتب اليسيرة كـ "البلاغة الواضحة"، ثم ينتقل للمتون كـ "تلخيص المفتاح" للخطيب القزويني, ومن أخطر ما كتب في هذا الفن كتب عبد القاهر الجرحاني, ولا سيما "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة".
4-دراسة الفروع الفقهية:
وهي دراسة الفقه بمعناه التشريعي, ومعرفة الأحكام الشرعية العلمية من أدلتها التفصيلية في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أو القياس وغيرها من الأدلة الشرعية.
والمتفقه ينبغي أن يحفظ مختصراً في الفقه على مذهب من المذاهب, يتلقاه على شيخ حاذق, ثم بعد ذلك يبدأ في التوسع مرحلياً, وقد رتب أهل العلم الكتب التي يبدأ بها طالب العلم, ثم بماذا يثني في مرحلة التوسط، ثم ماذا يقرأ في مرحلة الاستقصاء والانتهاء, وهكذا.
فمثلاً في الفقه الحنبلي ألف ابن قدامة – رحمه الله – "عمدة الأحكام" للمبتدئ, ثم "المقنع" لمن هو أعلى منه. ثم "الكافي", ثم في النهاية "المغني", وهكذا.
وينبغي على طالب العلم ألا يتعدى مرحلة دون أن يصل إلى رسوخ القدم فيها, ولا عليه أن يتعرض للفقه المقارن في البداية, فإنه مدعاة لتشويش ذهنه بالخلافيات, فتدبر ذلك، فكم زلت أقدام بسبب عدم سماع النصيحة في ذلك, وإلى الله المشتكى.
5-الإلمام بعلم أصول الفقه والقواعد الفقهية:
وهذا أهم العلوم للفقيه, وهو الآلة التي يتوصل بها للاجتهاد, وهذه الدراسة تكون بعد أن يلم طالب العلم بمختصر من المختصرات الفقهية, وبعد أن يلم بطرف من العلوم اللغوية إذ عليهما يستند.
"واعلم أن هذا الفن طويل عميق, لا تحصل البضاعة منه إلا في مدة متطاولة"
وقد أدخل المتأخرون فيه من الكلاميات والجدليات ما جعله يعسر على كثير من شداة هذا الفن, ولكن ثمة جهوداً تبذل الآن لتنحية مثل هذه الكلاميات عن صلب العلم, وهناك بعض الكتب الجيدة في هذا الباب.
والفائدة التي تعود على المتفقه من تعلمه الأصول أن ينمي ملكته، فتبدأ في حصر المتفرقات وضبطها, وتربى عنده ملكة الاستنباط, وتبصره بطريقة التعامل مع النصوص لاستخراج الحكم الفقهي.
6- معرفة مقاصد الشريعة الإسلامية:
ونعني بها: المعاني الملحوظة في الأحكام الشرعية، ومن المعلوم أن المتفقه لا يدرك ذلك إلا بعد أن يغوص في العلوم الشرعية حتى يبدأ فهم سنن الله الكونية والدينية, ويستصحب ذلك، فيعينه على الترجيح بين الأدلة المتعارضة والجمع بينها, ورد المتشابه إلى المحكم, وقراءة الواقع وتدبّره وفق أصول صحيحة, وكم من مسائل فقهية لا يمكنك أن تنتهي فيها إلى رأي جازم دونما استصحاب هذه المقاصد الشرعية.
ومن البديهي أن نقول: إن الإمام الشاطبي هو فارس هذا الميدان، وقد سطّر من بعده الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي بعض الدراسات القيمة أيضاً, ولكن ما ينبغي التنبيه إليه أن إحاطة المتفقه بهذه المقاصد على الوجه المرجو لا تكون إلا بعد رسوخ قدمه في العلوم الشرعية – كما تقدم بيانه –، فانتبه.
7- فهم الواقع المعاصر:
لابد للمتفقه أن يكون ملماً بواقعه المعاصر, مدركاً للتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحدث في زمانه, ولا يجوز له بحال من الأحوال تجاهلها, لأنه حينئذ لن يكون محيطاً بفقه الواقعة, فيصعب عليه أن ينزل النص على هذا الواقع الذي يجهله, وهنا تزل أقدام وتدحض أفهام.
والله المستعان أن يظهر في الأمة من يعوضنا من ذهب من علمائنا الأفذاذ, والذين استقامت عندهم الرؤيتان, وأن ينبت من جيل "الصحوة" علماء في شتى المجالات, حتى تتبين الأمور في ظل هذه الغيوم التي يفرزها "الغزو الثقافي" و"الحملات العلمانية" الداعية إلى فصل الدين عن الحياة, وتقديم العقل على النقل, ومواجهة أهل الدين بالتقدم التقني الغربي, وأنه كان من نتاج العلمانية في أوروبا يوم فصلوا الدين عن الدولة, إلى غير ذلك من هذه المهاترات التي تحتاج إلى فرسان في كل ميدان, يذبون عن دين الله, ويقيمون الحجة على الناس, فانتبه أيها المتفقه، فلست بمعزل عن عصرك وإقليمك.
كيف يمكن تنمية هذه الملكة؟
إذا كان تكوين الملكة الفقهية يحتاج إلى أركان ثلاثة: المتفقه والمعلم والمنهج, فإن تنمية هذه الملكة - لِتحصل على أتم وجه- تحتاج إلى الممارسة العلمية، ووضع المتفقه أمام مشكلات عصره، ومحاولة تقويم طريقته في علاج تلك المشكلات.
فبعد أن مر بفترة من التأهيل النظري نحتاج إلى وضعه في مواجهة الواقع, كأن نربي عنده ملكة الاجتهاد الجزئي:
1- بتكليفه ببحث مسألة من المسائل: ودراستها دراسة متأنية, وهنا نقف على مدى إمكانياته, ولا يتم ذلك قبل التأهيل- أعيد ذلك وأكرر لأننا نعاني في هذا الزمان من قلة الصبر, واستعجال قطف الثمار قبل نضوجها-
2- من الأمور التي تنمي الملكة أيضاً: تعويده الموازنة بين المصالح والمفاسد؛ فيعرف المصلحة الشرعية المعتبرة ومتى يقدمها, ومتى يدرأ المفسدة قبل جلب المصلحة, وهذه تطبيقات فقهية لازمة, وله أن يستأنس بكتاب "قواعد الأحكام في مصالح الآنام" للعز بن عبد السلام, فإنه من أفضل ما سطّر في هذا الباب، وأيضاً يستفيد في هذا الجانب النظري من كتاب "ضوابط المصلحة" للبوطي.
3- كذلك تعويده طرق الجمع بين الأدلة التي تبدومختلفة عند الوهلة الأولى, ومن أفضل ما يستعين به في ذلك كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة.
4- كذلك تعويده الحوار الفقهي وقراءة المناظرات الفقهية التي تقوي الملكة عنده, ولكن يحذر هنا من التعصب أوالجدل البيزنطي الممقوت, بل يناقش بدليل, لا ينتصر لمذهب إلا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم, ولا ينتقص من مخالف, بل يقول دائماً: "قولي صواب يحتمل الخطأ, وقول مخالفي خطأ يحتمل الصواب".
5- ومما يقوي الملكة عنده الرحلة إلى العلماء, والاستكثار منهم, فكلما زاد شيوخه اتسع علمه.
آفات الملكة الفقهية:
وحذار ثم حذار من معوقات تشل هذه الملكة, فتنقض غزلك من بعد قوة أنكاثاً, وهي تنقسم إلى:
· آفات خلقية ونفسية.
· وآفات منهجية.
فأما الآفات الخلقية والنفسية, فمن ذلك:
أولاً: الكبر والعجب:
فإنه داء يصيب كل متعلم لم يخلص وجهه لله من بادئ أمره, وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الكبر من بطر الحق وغمط الناس"الراوي: أبو هريرة المحدث:الألباني - المصدر: صحيح الأدب المفرد - الصفحة أو الرقم: 433
خلاصة حكم المحدث: صحيح, ولا يزول ذلك إلا إذا عرف المرء حقارة نفسه, ولعله يحتاج هنا إلى المربي ليقوّم اعوجاجه, ومن ثم قولنا بالصبر على ذل التعلم لأنه أكثر شيء فائدة للمتعلم لوكان يدري.
فلتحذر من رؤية النفس, كأن تناظر للغلبة لا لمعرفة الحق, وكتحصيل علوم تتجمل بها في المحافل والتعالي على الأقران, ونحوه مما يضيع العلم ويثير الأحقاد.
ثانياً: الغرور:
وهوأن تسكن النفس إلى ما يوافق هواها وتميل إليه بطبعها.
والمغرور يتحدث عن نفسه دائماً, بل ربما يظهر نفسه بإلحاق التهم بأقرانه, والغرور يحجب طالب العلم عن الزيادة في الطلب, فيظن أنه قد انتهى إلى ما لن يصل إليه غيره, ويمنعه من سماع النصيحة.
والمغرور يثير حوله من العداوات ما لم يتلف قلبه, فاللهم إنا نعوذ بك من الغرور وأهله.
ثالثاً: الحسد:
الذي هو تمني زوال النعمة عن الغير, وهو خلق ذميم, يفسد الجنان، ويردي الإيمان.
والحسد يدب بين خلان الدنيا الذين يطمعون في حطامها الزائل, أما أهل الآخرة فبمعزل عن ذلك.
والحسود – عادة – لا يسود, وينشغل بحاسده عن العلم فتضعف ملكته, وتسخطه يزيله عن العلم, وينفر الناس منه.
فإياك والحسد؛ فإنه يحلق الدين كما يحلق الموسي الشعر.
وأما المعوقات المنهجية, فمنها:
أولاً: الغفلة عن النصوص الشرعية الثابتة, والتفسير الخاطئ للنص الشرعي:
وعادة ما يكون ذلك بسبب ما حذرتك منه من التصدر قبل التأهل, والتزبب قبل التحصرم.
ثانياً: التقليد والتعصب والجمود:
وكل منها يؤدي إلى الآخر, والتقليد هو اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل, معتقدا الحقيقة فيه من غير نظر وتأمل في الدليل, أي أنه يتبع قول غيره بدون حجة أو دليل.
والتعصب مذموم, والجمود يشلّ ملكات الإنسان, ويجعله في بوتقة لا يتجاوزها، فتضعف قدراته.
ثالثاً: الالتزام بحرفية النصوص, وعدم النظر إلى مقاصد الشريعة:
ولذلك، فإن الفقه الظاهري عاداه أهل العلم، ورأوا فيه انحرافاً عن الجادة, رغم أن الناظر في كتاب كـ "المحلى" لابن حزم لا يرى سوى نصوص من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وقول صحابي أو تابعي, وهذا كله جيد, لكن للأسف عدم الأخذ بأصول منهج السلف في الاستدلال جعله يخرج علينا بأقوال شاذة معروفة.
رابعاً: الغلو:
والغلو يعني الانحراف عن الجادة, فالدين دين سمح لا إفراط فيه ولا تفريط, وكم من آراء شذت بسبب موقف متشدد وقفه أحد أهل العلم فهجره العلماء, كما فعل نجم الدين الطوفي الذي قدم المصلحة المرسلة على النص الشرعي, وشهر بذلك بعض الرويبضة في هذا العصر حتى يتسنى لهم تبرير الواقع ومداهنة من يريدون.
فيا أيها المتفقه!
هل لنا أن ننشد فيك بغيتنا غداً؟
أسأل الله أن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين.
تعليق