المسلم الحق
تأليف ضياء الدين القدسي
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله r .
أما بعد :
فمنذ أن خلق الله آدم u بارز إبليس لعنه الله العداء لآدم وبنيه ، وقطع على نفسه عهداً لإغواء بني آدم إلا عباد الله المخلصين .
فبدأت بهذا العهد معركة الحق والباطل بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان ، ومارس الشيطان ما أمكنه من أساليب لإغواء بني آدم وتزيين الباطل لهم ، فأضل منهم جبلاً كثيراً .
وقد عهد الله لبني آدم ألا يعبدوا الشيطان فهو عدوهم المبين ، وأرسل لهم رسله مبشرين ومنذرين لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
فتوالى وتعاقب رسل الله وليس لهم إلا همّ واحد هو تعبيد الناس لله وحده لا شريك له ، فحمل المصطفون الأخيار مشعل التوحيد داعين أقوامهم إلى عبادة الله ما لهم من إله غيره ، حتى دان إلى خير البرية وسيد ولد آدم "محمد بن عبد الله " ، فكان r ختاماً لقافلة الرسل التي أضاءت للبشرية طريقها إلى الله ، فأكمل الله عز وجل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا .
وما كان رسول الله r إلا بشراً فمات وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ولكن لم تنته المعركة بين الشيطان وبني آدم ، وهي معركة طويلة وصعبة يتلون فيها الباطل بـما يزينه لبني آدم ، فيتبعه أولياء الشيطان ويجانبه أولياء الرحمن .
وفي زمننا هذا اتبع الشيطان وأعوانه طريقاً آخر لهدم الإسلام ، فإنهم لم يحاولوا هدم الإسلام بأن محوا كلمة الإسلام من الوجود وإنما حرفوا معاني الكلمات الإسلامية بحيث لا تضرهم ولا تضر حكمهم .
لهذا السبب فإن مشكلة الناس اليوم وفتنـتهم هي : عدم معرفتهم الإيـمان والإسلام الحقيقي الذي يريده الله منهم وعدم معرفتهم الكفر الذي طلب الله منهم الابتعاد عنه ، لذلك أصبحوا لا يفرقون بين الكافر والمسلم ، ولا يعرفون من هو الكافر الحقيقي والمسلم الحقيقي حسب تعريف ربهم ، وأصبح الحاكم على الناس ليس كتاب الله وسنة رسوله وإنما هو آراء الناس وقناعاتهم وبقدر معلوماتهم عن الإسلام الذي أراد لهم الطاغوت أن يعرفوها ، والتي لا تشكل خطراً عليه .
هل كل من ادعى أنه مسلم في حكم الله مسلم ؟
هل كل من ادعى أنه يعبد الله يقبل الله منه عبادته ؟
لقد وجد في كل عصر من تاريخ نوح u إلى يومنا هذا أناس كثيرون يدعون أنهم على الحق ، ويدعون أنهم يعبدون الله وأنهم مؤمنون ، ولكن الله لم يقبل إيمانهم الذي ادعوه ، ولا عبادتهم التي فعلوها ، لأنها لم تكن كما يريد ، وحكم عليهم بالكفر والضلال مع ادعائهم الإيمان والعبادة ، وأرسل إليهم رسلاً يـبينون لهم الإيمان الذي يريده والعبادة التي يقبلها ، ويبينون لهم أن مجرد ادعائهم الإيمان وعبادة الله لا يفيدهم شيئاً عند الله ما لم تكن حسب ما يريده هو ويرسل به رسله .
واعلم أن قيمة الإنسان عند الله ليست بكثرة عبادته التي لا دليل له من الله عليها وإنما بكثرة العبادة التي يرضاها وأمر بها .
كم من إنسان كثير العبادة ولكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وعبادته التي يفعلها ليست عند الله بشيء ، لأنه لم يفعلها كما يريد الله ، ولم يقم بها كما أمر الله وأرسل به رسوله .
فاليهود في زمن رسول الله r كانوا كثيري العبادة لله، ويدعون أنهم موحدين وأنهم على الحق وأنهم شعب الله المختار ، وكذلك النصارى كانوا كثيري العبادة لله ويدعون التوحيد والإيمان والإسلام ، لكن الله I لم يقبل منهم توحيدهم ولا إيمانهم ولا عبادتهم ، وحكم عليهم بالكفر والضلال والشرك .
فقال عز من قائل :- ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [[المائدة:68].
كذلك فإن المشركين في زمن رسول الله r كانوا يؤمنون بوجود إله لهذا الكون ، خلقهم وخلق هذا الكون ، وأن هذا الإله هو المتصرف بالكون والرازق لهم ، الذي يميتهم ويحييهم ومع ذلك فإن الله I كفّرهم وحكم عليهم بالكفر والشرك ، وإذا بقوا وماتوا على ذلك فسوف يكون مصيرهم النار خالدين فيها أبداً .
فاسمع قول الله I عن هؤلاء المشركين وما كانوا يعتقدون .
قال الله تعالى :-] قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ! سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ! سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُــونَ ! سـَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسـْحَرُونَ ! بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [[المؤمنون: 84-90].
إن الله I لا يقبل إيماناً ولا إسلاماً ولا عبادة إلا إذا كانت كما يريد وكما أمر ، وكانت خالصة لوجهه وحده.
والآن لنتساءل : إذا فعل الإنسان عبادة وكانت نيته خالصة لله ، هل يقبل الله منه هذه العبادة الخالصة إذا فعلها على غير ما يريده الله ؟
وكذلك إذا آمن إنسان بالله بنية خالصة ولكن كان إيمانه على غير ما أمر الله هل يقبل الله إيمان هذا الإنسان؟
بدون شك سيكون الجواب الصحيح أنه لا يقبل الله إيماناً ولا عملاً إلا إذا كان خالصاً له وكان على الشكل الذي يريده هو وحده .
فالله I يقول : ] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [[لقمان: 22].
إذا كان الأمر كذلك فما هو الإيمان الذي يرضاه الله وأمرنا به ؟
وما هو الإسلام الذي يرضاه الله وأمرنا به ؟
وما هي العبادة التي يرضاها الله ويقبلها ؟
كل هذه الأمور من أين نستطيع أن نعرفها ، وأين بينها الله لنا ، ومن الذي نتبعه في هذه الأمور حتى نلقى الله ونحن مسلمين ومؤمنين بحق ؟
لا شك أن هذه الأمور كلها بينها الله لنا البيان الواضح المبين الذي لا لبس فيه ولا غموض ولا تعقيد بحيث يفهمه كل مكلف ولا يعذر لعدم فهمه عاقل ، وأمرنا في هذه المسائل والأمور أن لا نتبع غيره حتى ننال رضاه وجنته .
فقال عز من قائل :-) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ([الأعراف: 3].
ويقول الله جل وعلا أيضاً :- ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [[الأحزاب: 36].
ويقول أيضاً : ] وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [[الشورى: 1]
وقال رسول الله r : ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ) ([1]) .
وقال رسول الله r : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) ([2]) .
وقال رسول الله r : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ([3]).
إذا كان الإيمان والإسلام الذي يريده الله لنا والعبادة التي يقبلها منا هي ما بيّنه لنا في كتابه وسنة رسوله r ، وما عدا ذلك فهو مردود وباطل مهما ادعى صاحبه إخلاص النية لله وحده ، وما دام الأمر كذلك :
فما هو الإيمان ، وما هو الإسلام حسب القرآن والسنة؟
ومن هو الكافر ، ومن هو المؤمن ، ومن هو المشرك حسب القرآن والسنة ؟
وما هي العبادة التي يقبلها الله وأمر بها ، وبينها في كتابه وسنة رسوله r ؟
هذه الأمور هي موضوع رسالتنا هذه ، وهي التي نريد أن نبينها للناس حتى يتبينوا أين هم من كتاب الله وسنة رسوله ، وأين هم من دين الله القويم .
فمن كان إيمانه وإسلامه حسب الكتاب والسنة فقد نجا ، ومن كان إيمانه حسب أهواءه وأهواء الناس وأراد اتباع الحق فليعد إلى كتاب الله وسنة رسوله فما زال للعودة زمان ، والله يقبل التوبة ما دامت في الجسد روح لم تغرغر ، والله هو التواب الرحيم.
وكذلك أردت أن أبين ذلك ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيّ عن بينة .
ولنبدأ بحثنا في تعريف الإسلام .
الإسلام :- هو الخضوع لله والاستسلام له وحده وعبوديته وحده لا شريك له ، ولا تكون العبادة لله وحده إلا بالإيمان بكل ما جاء في كتابه العزيز وسنة نبيه r الصحيحة ، والعمل بهما ابتغاء مرضاة الله وحده ، واجتناب ما ينقض ذلك و يخرج صاحبه من الملة .
إذن فالمعنى الكلي العام للإسلام :- هو الخضوع والانقياد التام لله ظاهراً وباطناً .
يقول الله تعالى :- ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [[آل عمران: 31-32].
إن الله I بيّن لنا في كتابه الكريم ما هو الإسلام الذي يرضاه .
فقال عز من قائل :- ] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [[البقرة: 256].
إن معنى العروة الوثقى في هذه الآية هو الإسلام ، الإسلام الذي أمر به الله ورضي عنه .
إن هذه الآية تبين لنا أن الإنسان لا يستطيع أن يستمسك بالعروة الوثقى التي هي الإسلام بمجرد الإيمان فقط ، فلا بد أن يكون إيمانه هذا مشتملاً على إنكاره ورده للطاغوت بجميع أشكاله وألوانه ، وإذا لم يفعل ذلك وآمن بالله بدون أن يكفر بالطاغوت فإن إيمانه هذا لا ينفعه ولا يقبله الله منه ، وليس له قيمة في ميزان الله يوم القيامة .
إذاً فبدون الكفر بالطاغوت حسب هذه الآية الكريمة لا يمكن أن يكون هناك إسلام ولا إيمان يقبله الله تعالى .
فإن الله I وضع شرطين للإسلام الصحيح هما: "الكفر بالطاغوت والإيمان بالله " ، فإذا تخلف شرط واحد فلا إيمان ولا إسلام صحيح مقبول .
ولنبدأ الآن في شرح هذين الشرطين :
الشرط الأول :- الكفر بالطاغوت:
إن مما لا شك فيه أن الذي لا يعرف الطاغوت بجميع أشكاله وألوانه لا يملك إنكاره ولا الكفر به ، مهما ادعى ذلك ، فإن ادعاءه هذا هو ادعاء من أنكر شيئاً وهو لا يعرفه فليس هذا هو الإنكار المطلوب في هذه الآية الكريمة ، وكذلك الذي لا يعرف الإيمان لا يملك الإيمان به فادعاءه الإيمان ادعاء باطل مردود .
يقول الله عز وجل :- ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا[[النساء:60] .
إن الله I يخبرنا في هذه الآية الكريمة أن هناك أقوام يدعون أنهم آمنوا بالقرآن وبما أنزل على الأنبياء قبل رسول الله r ، ومع ادعائهم ذلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت .
إن الله I ينكر عليهم ادعائهم الإيمان ، لأنه لا إيمان صحيح ولا مقبول مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت فلا يجتمع في قلب واحد إيمان صحيح وإرادة التحاكم إلى الطاغوت ، ولو أنهم آمنوا حق الإيمان كما يزعمون لما أرادوا التحاكم إلى الطاغوت ، لأن الله I قد أمرهم أن يكفروا به ، بقوله تعالى :- ] وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ[ وبين لهم أن الشيطان عليه اللعنة يريد أن يضلهم ويخدعهم ويجعلهم يعتقدون أن ادعائهم الإيمان بما أنزل الله على رسله مع إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت يبقيهم على هذا الدين ويجعل ادعاءهم الإيمان مقبولاً عند الله :- ]وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا[ .
وفي آية أخرى يقول جلّ وعلا :- ] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ[[الزمر: 17].
في هذه الآية بشّر الله عباداً له بالجنة ووصف لنا هؤلاء المبشّرين بالجنّة أن من صفاتهم أنهم اجتنبوا عبادة الطاغوت وأخلصوا عبادتهم كلها إلى الله I فاستحقوا بذلك البشرى بالجنّة ورضاء الله عزّ وجل ، وبذلك يبيّن الله I لنا في هذه الآية أن الذين يستحقون رضوان الله والبشرى بالجنّة ، هم الذين يجتنبون في حياتهم عبادة الطاغوت بكل أنواعه وأشكاله وصوره ، ويخلصون عبادتهم إلى الله وحده لا شريك له .
وفي هذه الآية الكريمة أيضاً يبين الله لنا بشكل واضح أن من شروط الإيمان الصحيح الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى ودخول الجنّة ، اجتناب عبادة الطاغوت.
وفي آية أخرى يبيّن الله لنا أن جميع الرسل جاءوا لدعوة الناس إلى شيئين أساسيين هما :- " عبادة الله وحده ، واجتناب عبادة الطواغيت بجميع أشكالها وألوانها وأنواعها " ، وأن هذين الشيئين يشكلان الأساس الرئيسي لدعوة الرسل جميعهم .
فيقول عز من قائل : ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [[النحل: 36].
تبيّن لنا هذه الآية الكريمة أن جميع الرسل بدون استثناء بَيَّنوا وبشكل واضح أن الله لا يقبل عبادة عابد إلا إذا عبده بما شرع على لسان رسله صلوات الله عليهم جميعاً وأخلص العبادة له وحده ، واجتنب عبادة الطواغيت بجميع أشكالها وأنواعها في كل كبيرة وصغيرة .
بعد ذكر هذه الآيات البينات التي تبيّن وجوب إنكار الطواغيت وأن هذا هو ركن أساسي من أركان التوحيد ، يتوجب علينا أن نعرف ما هو الطاغوت التي لا تصلح عبادة ولا إيمان لنا إلا إذا أنكرنا هذا الطاغوت بجميع أشكاله وألوانه وأنواعه.
الطاغوت :- كل ما صرف العبد وصدّه عن عبادة الله وإخلاص الدين والطاعة لله ولرسوله ، سواء في ذلك الشيطان من الجنّ والشيطان من الإنس والأشجار والأحجار وغيرها ، ويدخل في ذلك بلا شك الحكم بالقوانين الأجنبية والعدول عن الإسلام وشرائعه ، وغيرها من كل ما وضعه الإنسان ليحكم في الدماء والأموال والفروج وليبطل بها شرائع الله من إقامة الحدود ، وتحريم الربا والزنا والخمر ، ونحو ذلك مما أخذت هذه القوانين تحلّلها وتحميها بنفوذها ومنفّذيها ، والقوانين نفسها طواغيت وواضعوها ومروّجوها طواغيت ،
تأليف ضياء الدين القدسي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله r .
أما بعد :
فمنذ أن خلق الله آدم u بارز إبليس لعنه الله العداء لآدم وبنيه ، وقطع على نفسه عهداً لإغواء بني آدم إلا عباد الله المخلصين .
فبدأت بهذا العهد معركة الحق والباطل بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان ، ومارس الشيطان ما أمكنه من أساليب لإغواء بني آدم وتزيين الباطل لهم ، فأضل منهم جبلاً كثيراً .
وقد عهد الله لبني آدم ألا يعبدوا الشيطان فهو عدوهم المبين ، وأرسل لهم رسله مبشرين ومنذرين لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .
فتوالى وتعاقب رسل الله وليس لهم إلا همّ واحد هو تعبيد الناس لله وحده لا شريك له ، فحمل المصطفون الأخيار مشعل التوحيد داعين أقوامهم إلى عبادة الله ما لهم من إله غيره ، حتى دان إلى خير البرية وسيد ولد آدم "محمد بن عبد الله " ، فكان r ختاماً لقافلة الرسل التي أضاءت للبشرية طريقها إلى الله ، فأكمل الله عز وجل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا .
وما كان رسول الله r إلا بشراً فمات وترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ولكن لم تنته المعركة بين الشيطان وبني آدم ، وهي معركة طويلة وصعبة يتلون فيها الباطل بـما يزينه لبني آدم ، فيتبعه أولياء الشيطان ويجانبه أولياء الرحمن .
وفي زمننا هذا اتبع الشيطان وأعوانه طريقاً آخر لهدم الإسلام ، فإنهم لم يحاولوا هدم الإسلام بأن محوا كلمة الإسلام من الوجود وإنما حرفوا معاني الكلمات الإسلامية بحيث لا تضرهم ولا تضر حكمهم .
لهذا السبب فإن مشكلة الناس اليوم وفتنـتهم هي : عدم معرفتهم الإيـمان والإسلام الحقيقي الذي يريده الله منهم وعدم معرفتهم الكفر الذي طلب الله منهم الابتعاد عنه ، لذلك أصبحوا لا يفرقون بين الكافر والمسلم ، ولا يعرفون من هو الكافر الحقيقي والمسلم الحقيقي حسب تعريف ربهم ، وأصبح الحاكم على الناس ليس كتاب الله وسنة رسوله وإنما هو آراء الناس وقناعاتهم وبقدر معلوماتهم عن الإسلام الذي أراد لهم الطاغوت أن يعرفوها ، والتي لا تشكل خطراً عليه .
هل كل من ادعى أنه مسلم في حكم الله مسلم ؟
هل كل من ادعى أنه يعبد الله يقبل الله منه عبادته ؟
لقد وجد في كل عصر من تاريخ نوح u إلى يومنا هذا أناس كثيرون يدعون أنهم على الحق ، ويدعون أنهم يعبدون الله وأنهم مؤمنون ، ولكن الله لم يقبل إيمانهم الذي ادعوه ، ولا عبادتهم التي فعلوها ، لأنها لم تكن كما يريد ، وحكم عليهم بالكفر والضلال مع ادعائهم الإيمان والعبادة ، وأرسل إليهم رسلاً يـبينون لهم الإيمان الذي يريده والعبادة التي يقبلها ، ويبينون لهم أن مجرد ادعائهم الإيمان وعبادة الله لا يفيدهم شيئاً عند الله ما لم تكن حسب ما يريده هو ويرسل به رسله .
واعلم أن قيمة الإنسان عند الله ليست بكثرة عبادته التي لا دليل له من الله عليها وإنما بكثرة العبادة التي يرضاها وأمر بها .
كم من إنسان كثير العبادة ولكنه لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وعبادته التي يفعلها ليست عند الله بشيء ، لأنه لم يفعلها كما يريد الله ، ولم يقم بها كما أمر الله وأرسل به رسوله .
فاليهود في زمن رسول الله r كانوا كثيري العبادة لله، ويدعون أنهم موحدين وأنهم على الحق وأنهم شعب الله المختار ، وكذلك النصارى كانوا كثيري العبادة لله ويدعون التوحيد والإيمان والإسلام ، لكن الله I لم يقبل منهم توحيدهم ولا إيمانهم ولا عبادتهم ، وحكم عليهم بالكفر والضلال والشرك .
فقال عز من قائل :- ] قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [[المائدة:68].
كذلك فإن المشركين في زمن رسول الله r كانوا يؤمنون بوجود إله لهذا الكون ، خلقهم وخلق هذا الكون ، وأن هذا الإله هو المتصرف بالكون والرازق لهم ، الذي يميتهم ويحييهم ومع ذلك فإن الله I كفّرهم وحكم عليهم بالكفر والشرك ، وإذا بقوا وماتوا على ذلك فسوف يكون مصيرهم النار خالدين فيها أبداً .
فاسمع قول الله I عن هؤلاء المشركين وما كانوا يعتقدون .
قال الله تعالى :-] قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ! سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ . قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ! سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ . قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُــونَ ! سـَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسـْحَرُونَ ! بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [[المؤمنون: 84-90].
إن الله I لا يقبل إيماناً ولا إسلاماً ولا عبادة إلا إذا كانت كما يريد وكما أمر ، وكانت خالصة لوجهه وحده.
والآن لنتساءل : إذا فعل الإنسان عبادة وكانت نيته خالصة لله ، هل يقبل الله منه هذه العبادة الخالصة إذا فعلها على غير ما يريده الله ؟
وكذلك إذا آمن إنسان بالله بنية خالصة ولكن كان إيمانه على غير ما أمر الله هل يقبل الله إيمان هذا الإنسان؟
بدون شك سيكون الجواب الصحيح أنه لا يقبل الله إيماناً ولا عملاً إلا إذا كان خالصاً له وكان على الشكل الذي يريده هو وحده .
فالله I يقول : ] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [[لقمان: 22].
إذا كان الأمر كذلك فما هو الإيمان الذي يرضاه الله وأمرنا به ؟
وما هو الإسلام الذي يرضاه الله وأمرنا به ؟
وما هي العبادة التي يرضاها الله ويقبلها ؟
كل هذه الأمور من أين نستطيع أن نعرفها ، وأين بينها الله لنا ، ومن الذي نتبعه في هذه الأمور حتى نلقى الله ونحن مسلمين ومؤمنين بحق ؟
لا شك أن هذه الأمور كلها بينها الله لنا البيان الواضح المبين الذي لا لبس فيه ولا غموض ولا تعقيد بحيث يفهمه كل مكلف ولا يعذر لعدم فهمه عاقل ، وأمرنا في هذه المسائل والأمور أن لا نتبع غيره حتى ننال رضاه وجنته .
فقال عز من قائل :-) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ([الأعراف: 3].
ويقول الله جل وعلا أيضاً :- ] وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [[الأحزاب: 36].
ويقول أيضاً : ] وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [[الشورى: 1]
وقال رسول الله r : ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي ) ([1]) .
وقال رسول الله r : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) ([2]) .
وقال رسول الله r : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ([3]).
إذا كان الإيمان والإسلام الذي يريده الله لنا والعبادة التي يقبلها منا هي ما بيّنه لنا في كتابه وسنة رسوله r ، وما عدا ذلك فهو مردود وباطل مهما ادعى صاحبه إخلاص النية لله وحده ، وما دام الأمر كذلك :
فما هو الإيمان ، وما هو الإسلام حسب القرآن والسنة؟
ومن هو الكافر ، ومن هو المؤمن ، ومن هو المشرك حسب القرآن والسنة ؟
وما هي العبادة التي يقبلها الله وأمر بها ، وبينها في كتابه وسنة رسوله r ؟
هذه الأمور هي موضوع رسالتنا هذه ، وهي التي نريد أن نبينها للناس حتى يتبينوا أين هم من كتاب الله وسنة رسوله ، وأين هم من دين الله القويم .
فمن كان إيمانه وإسلامه حسب الكتاب والسنة فقد نجا ، ومن كان إيمانه حسب أهواءه وأهواء الناس وأراد اتباع الحق فليعد إلى كتاب الله وسنة رسوله فما زال للعودة زمان ، والله يقبل التوبة ما دامت في الجسد روح لم تغرغر ، والله هو التواب الرحيم.
وكذلك أردت أن أبين ذلك ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيّ عن بينة .
ولنبدأ بحثنا في تعريف الإسلام .
الإسلام :- هو الخضوع لله والاستسلام له وحده وعبوديته وحده لا شريك له ، ولا تكون العبادة لله وحده إلا بالإيمان بكل ما جاء في كتابه العزيز وسنة نبيه r الصحيحة ، والعمل بهما ابتغاء مرضاة الله وحده ، واجتناب ما ينقض ذلك و يخرج صاحبه من الملة .
إذن فالمعنى الكلي العام للإسلام :- هو الخضوع والانقياد التام لله ظاهراً وباطناً .
يقول الله تعالى :- ] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [[آل عمران: 31-32].
إن الله I بيّن لنا في كتابه الكريم ما هو الإسلام الذي يرضاه .
فقال عز من قائل :- ] لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [[البقرة: 256].
إن معنى العروة الوثقى في هذه الآية هو الإسلام ، الإسلام الذي أمر به الله ورضي عنه .
إن هذه الآية تبين لنا أن الإنسان لا يستطيع أن يستمسك بالعروة الوثقى التي هي الإسلام بمجرد الإيمان فقط ، فلا بد أن يكون إيمانه هذا مشتملاً على إنكاره ورده للطاغوت بجميع أشكاله وألوانه ، وإذا لم يفعل ذلك وآمن بالله بدون أن يكفر بالطاغوت فإن إيمانه هذا لا ينفعه ولا يقبله الله منه ، وليس له قيمة في ميزان الله يوم القيامة .
إذاً فبدون الكفر بالطاغوت حسب هذه الآية الكريمة لا يمكن أن يكون هناك إسلام ولا إيمان يقبله الله تعالى .
فإن الله I وضع شرطين للإسلام الصحيح هما: "الكفر بالطاغوت والإيمان بالله " ، فإذا تخلف شرط واحد فلا إيمان ولا إسلام صحيح مقبول .
ولنبدأ الآن في شرح هذين الشرطين :
الشرط الأول :- الكفر بالطاغوت:
إن مما لا شك فيه أن الذي لا يعرف الطاغوت بجميع أشكاله وألوانه لا يملك إنكاره ولا الكفر به ، مهما ادعى ذلك ، فإن ادعاءه هذا هو ادعاء من أنكر شيئاً وهو لا يعرفه فليس هذا هو الإنكار المطلوب في هذه الآية الكريمة ، وكذلك الذي لا يعرف الإيمان لا يملك الإيمان به فادعاءه الإيمان ادعاء باطل مردود .
يقول الله عز وجل :- ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا[[النساء:60] .
إن الله I يخبرنا في هذه الآية الكريمة أن هناك أقوام يدعون أنهم آمنوا بالقرآن وبما أنزل على الأنبياء قبل رسول الله r ، ومع ادعائهم ذلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت .
إن الله I ينكر عليهم ادعائهم الإيمان ، لأنه لا إيمان صحيح ولا مقبول مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت فلا يجتمع في قلب واحد إيمان صحيح وإرادة التحاكم إلى الطاغوت ، ولو أنهم آمنوا حق الإيمان كما يزعمون لما أرادوا التحاكم إلى الطاغوت ، لأن الله I قد أمرهم أن يكفروا به ، بقوله تعالى :- ] وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ[ وبين لهم أن الشيطان عليه اللعنة يريد أن يضلهم ويخدعهم ويجعلهم يعتقدون أن ادعائهم الإيمان بما أنزل الله على رسله مع إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت يبقيهم على هذا الدين ويجعل ادعاءهم الإيمان مقبولاً عند الله :- ]وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا[ .
وفي آية أخرى يقول جلّ وعلا :- ] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ[[الزمر: 17].
في هذه الآية بشّر الله عباداً له بالجنة ووصف لنا هؤلاء المبشّرين بالجنّة أن من صفاتهم أنهم اجتنبوا عبادة الطاغوت وأخلصوا عبادتهم كلها إلى الله I فاستحقوا بذلك البشرى بالجنّة ورضاء الله عزّ وجل ، وبذلك يبيّن الله I لنا في هذه الآية أن الذين يستحقون رضوان الله والبشرى بالجنّة ، هم الذين يجتنبون في حياتهم عبادة الطاغوت بكل أنواعه وأشكاله وصوره ، ويخلصون عبادتهم إلى الله وحده لا شريك له .
وفي هذه الآية الكريمة أيضاً يبين الله لنا بشكل واضح أن من شروط الإيمان الصحيح الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى ودخول الجنّة ، اجتناب عبادة الطاغوت.
وفي آية أخرى يبيّن الله لنا أن جميع الرسل جاءوا لدعوة الناس إلى شيئين أساسيين هما :- " عبادة الله وحده ، واجتناب عبادة الطواغيت بجميع أشكالها وألوانها وأنواعها " ، وأن هذين الشيئين يشكلان الأساس الرئيسي لدعوة الرسل جميعهم .
فيقول عز من قائل : ] وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [[النحل: 36].
تبيّن لنا هذه الآية الكريمة أن جميع الرسل بدون استثناء بَيَّنوا وبشكل واضح أن الله لا يقبل عبادة عابد إلا إذا عبده بما شرع على لسان رسله صلوات الله عليهم جميعاً وأخلص العبادة له وحده ، واجتنب عبادة الطواغيت بجميع أشكالها وأنواعها في كل كبيرة وصغيرة .
بعد ذكر هذه الآيات البينات التي تبيّن وجوب إنكار الطواغيت وأن هذا هو ركن أساسي من أركان التوحيد ، يتوجب علينا أن نعرف ما هو الطاغوت التي لا تصلح عبادة ولا إيمان لنا إلا إذا أنكرنا هذا الطاغوت بجميع أشكاله وألوانه وأنواعه.
الطاغوت :- كل ما صرف العبد وصدّه عن عبادة الله وإخلاص الدين والطاعة لله ولرسوله ، سواء في ذلك الشيطان من الجنّ والشيطان من الإنس والأشجار والأحجار وغيرها ، ويدخل في ذلك بلا شك الحكم بالقوانين الأجنبية والعدول عن الإسلام وشرائعه ، وغيرها من كل ما وضعه الإنسان ليحكم في الدماء والأموال والفروج وليبطل بها شرائع الله من إقامة الحدود ، وتحريم الربا والزنا والخمر ، ونحو ذلك مما أخذت هذه القوانين تحلّلها وتحميها بنفوذها ومنفّذيها ، والقوانين نفسها طواغيت وواضعوها ومروّجوها طواغيت ،
([1]) موطأ مالك .
([2]) رواه مسلم .
([3]) رواه البخاري ومسلم .
</I></B></I>
تعليق