الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد،
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأناأول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله لي إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ،ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلاأنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لايصرف سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك،أنا بك واليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، استغفركوأتوب إليك).
قوله صلى الله عليه وسلم (استغفرك وأتوب إليك) ختم به هذا الدعاء العظيم الذي هو من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم الباهرة، والذي بلا شك يعجز الناس أن يأتوا بمثله أبدا فكيف بالقرآن العظيم وهو أكثر إعجازا فهو كلام الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) يونس38 (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) البقرة24، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثل كلام الله أبدا، ولأجل أن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكلماته تضمنت معاني القرآن صارت كذلك من أدلة نبوته عليه الصلاة والسلام، وصارت معجزة يعرف كل من يتأملها ويتدبرها أنها لا تصدر أبدا إلا من النبي عليه الصلاة والسلام.
قد تضمن هذا الدعاء أنواعا من الخير ومعاني الإيمان، وجدد الإيمان في القلب، ولم يبق إلا إزالة المعوقات ومحو العقبات ومباعدة الأسباب التي تحول بين القلب وبين الله وهي الذنوب والمعاصي، وذلك بطلب المغفرة وهي الستر مع الوقاية من أثر الذنب، يقال "مِغفر" لأنه يقي الوجه، و"غفر" بمعنى ستر ووقى الشر، فالمغفرة ستر الذنوب حتى لا يفضح بها العبد مع الوقاية من شرها بعدم العقوبة.
والتوبة هي الإنابة والرجوع إلى الله والعمل بطاعته والندم على معصيته، فالندم توبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مع العزم على عدم العودة إلى المعصية والإقلاع عنها بالفعل وصحبة أهل الصلاح في طاعتهم بالقلب والبدن، وإن عجز بالبدن فبالقلب، فإن صحبة أهل الصلاح من علامات التوبة النصوح، ومن فقه أهل العلم والإيمان أن يأمروا التائب بذلك كما قال العالم الذي سأله الرجل الذي قتل مائة نفس (إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة، قال: نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها قوما يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء) فمن فقه أهل العلم والإيمان أن التائب إلى الله عز وجل لابد أن يبدل المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، وأن يصحب أهل الصلاح في طاعتهم وذلك لأن الإنسان يتأثر بقربه من المطيعين العابدين إذا عبد الله معهم، ويكون ذلك معينا له على الطاعة، قال الله عز وجل لخير خلقه صلى الله عليه وسلم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) الكهف28، فإذا كانت صحبة الصالحين الأدنى حالا احتاج إليها الإنسان الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو السبب في هدايتهم وفي معرفتهم بربهم وطلبهم لوجهه، ومع ذلك أُمر أن يصبر نفسه معهم لأن صحبة الصالحين سبب لزيادة الإيمان حتى ولو كانوا أقل حالا منك، وهذا نوح عليه السلام يأبى أن يطرد المستضعفين المؤمنين ويقول (وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)هود30، ولذلك فإن من الضروري لك أيها التائب أن تبحث عن أصدقاء صالحين يعبدون الله فتعبد الله معهم، اقترب منهم ولا ترجع إلى أرض السوء التي كنت فيها، وإياك أن ترجع إلى أصدقاء السوء وأصحاب السوء وأماكن السوء التي كنت تعمل فيها بمعاصي الله، فإخوانك يعينونك على الطاعة ويذكرونك إذا نسيت وينصحونك إذا أخطأت فلابد أن تكون معهم فإذا قلت حينها استغفرك وأتوب إليك كنت صادقا في ذلك و تبدلت السيئات بالحسنات.
قد لا يجد الإنسان في محلته أهل صلاح، فليهاجر وليبحث عن قرية صالحة، وإن عجز أو حبس أو منع فلم يصل فالقلب يكفي إن عجز عن ذلك بالبدن، فصحبة الصالحين بالقلب لا تحتاج إلى زمان ولا إلى مكان، لذلك تستطيع أن تصحب الأنبياء بقلبك وتستطيع أن تصحب الصالحين وذلك إذا قرأت القرآن مع التدبر لسيرتهم ومعرفة صفاتهم، وكذلك دراسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم فتكون صحبة بالقلب، فإن الأرواح جنود مجندة يقترب بعضها من بعض ويبتعد بعضها عن بعض عبر الزمان والمكان ودون حواجز الموت والحياة كما قال عز وجل عن إبراهيم ونوح قال عز وجل عن نوح (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ) الصافات83، فمع أن بين نوح وإبراهيم مسافة - الله عز وجل أعلم بها- صار من شيعته أي من أهل طريقته ومنهجه وملته رغم تباعد الزمان، ولذلك فإن صحبة أهل الصلاح بالقلب و بالبدن ما استطعت لذلك سبيلا علامة توبة صادقة.
وفي قوله تبارك وتعالى (فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفرقان70، وجهان:
الأول أنهم يتركون العمل بالسيئات ويعملون بالحسنات،
والثاني أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، لأن كل سيئة تاب منها فقد محي الذنب وبقيت عبودية التوبة فصارت حسنة توضع في ميزانه، ثم الله يتكرم على من شاء فيجعل مكان كل كبيرة من الكبائر وكل صغيرة من الصغائر حسنات لمن أراد أن يغفر له تفضلا من عنده عز وجل، فاللهم اغفر لنا وتب علينا انك أنت التواب الرحيم.
إذا استحضر العبد هذه المعاني استعد قلبه أعظم استعداد للدخول في فاتحة الكتاب بعد الاستعاذة من الشيطان الرجيم فينهل من كنوزها ويناجي ربه بها، فهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) الحجر87، وقال عليه الصلاة والسلام لأبي سعيد بن المعلى عندما قال له (لأعلمنك أعظم سورة في كتاب الله فقال هي فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
و يكفي أن الفاتحة سميت القرآن العظيم لأن معاني القرآن موجودة في الفاتحة، لذلك فالفاتحة هي الكنز الأعظم ولذلك تكرارها في الصلاة في كل ركعة ضرورة من الضرورات وحاجة الإنسان إليها حاجة ماسة.
نسأل الله أن ينفعنا بالقرآن العظيم وبسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل قرة عيوننا في الصلاة، وأن يرزقنا لذة النظر إلى وجهه، والشوق إلى لقاءه في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
تعليق