أقسام التوحيد :
ومما صنعه بعض علماء السنة المتأخرين مما يدخل في باب التعليم والتقريب، وتقسيم التوحيد إلى قسمين: العلم والعمل،
فالتوحيد العلمي معناه تعلم أسماء الله وصفاته ومعاني الإيمان به، وتصديق ذلك بالقلب، وأما توحيد العمل فهو أن يعمل المسلم بمقتضى هذا التصديق فلا يعبد إلا الله ولا يرجو إلا هو، ولا يجب حب عبادة إلا له، ولا يسجد إلا له، لا يحاكم إلا إليه.. الخ
وهذا التقسيم ليس خاصاً بالتوحيد لأن كل أعمال الدين لا بد فيه من العلم والعمل
فالصوم لا يكون إلا باعتقاد فرضيته، وتصور تشريعه تصوراً صحيحاً ثم القيام به على النحو الذي أمر العبد به وأن يكون ذلك لله وحده لأنه عبادة خاصة به سبحانه وتعالى وهكذا سائر العبادات.
وتقسيم التوحيد إلى قسمين إنما هو نوع من التعليم حتى يعلم العبد أنه لا يكفي في التوحيد العلم دون العمل ولا العمل دون العلم.
وجاء من أهل العلم من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام باعتبار موضوعاته الكبرى
فجعل الربوبية قسماً، وعنى بالربوبية بعض معاني الرب من الخلق والتدبير والتصرف والملك، والقهر والغلبة، وجعل الألوهية قسماً وعنى بها المعبود، وجعل جميع أسمائه وصفاته قسماً وسماه توحيد الأسماء والصفات، وسمى كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة توحيداً، وأنه لا يكون موحداً على الحقيقة إلا من أقر بها جميعها.. وأقر بأن الله وحده دون ما سواه هو خالقه وخالق الكون كله، وأنه مالك الملك، والمتصرف فيه وحده، وأقر بأن الله وحده هو إله الناس وإله العالمين والخلق أجمعين، وأنه لا معبود بحق غيره، وأن كل إله غيره باطل، وأن جميع أصناف العبادة لا تصرف إلا له، ومن صرف شيئاً لغيره فهو مشرك، وكذلك جعل توحيد الأسماء والصفات قسماً وهو الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله، وأن صفاته على النحو الذي يليق به.
مقاصد من قسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام :
وكان من مقاصد هذا التقسيم الثلاثي لمعاني التوحيد، وقضية الإيمان بالله، تعليم الناس أنه لا يكون مؤمنا إلا من جمع هذه الأقسام الثلاثة، وأن من آمن ببعض صفات الله وكفر ببعضها فهو كافر، فمن آمن بالله خالقاً ورازقاً ومالكاً، ولم يؤمن به إلهاً ولكنه جحد بعض ما وصف به نفسه كالاستواء، والنزول إلى سماء الدنيا، ورؤية المؤمنين له في الآخرة، أو نفي كلامه، أو رحمته أو غضبه، فهو كافر لأنه جحد بعض ما وصف به نفسه سبحانه وتعالى.
لماذا دعت الحاجة إلى هذا التقسيم الثلاثي :
وهذا التقسيم الثلاثي لم ينص عليه أحد في القرون الثلاثة الأولى فإن التوحيد ومسائل الإيمان بالله كانت معلومة من كتاب الله وسنة رسوله بل كان من ضرورات الدين العلم بأن العبد لا يكون موحداً حقاً إلا إذا آمن بالله رباً وإلهاً وخالقاً ورازقاً وملكاً، وآمن بكل ما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما دعت الحاجة إلى هذا لتيسير فهم التوحيد، والتعريف بجميع جوانبه فإن تقسيم الأمر المجمل إلى أقسام يسهل فهمه وحفظه.
ولعل أول من ذكر هذا التقسيم بالتفصيل والتعريف هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله،
وذلك لانتصابه رحمه الله للرد على جميع المخالفين في التوحيد من أهل الكلام والفلسفة، ومن أهل التصوف ووحدة الوجود، ومن القدرية -نفاة القدر- والجبرية، ومن الذين وقعوا في شرك الألوهية فإن كل فريق من هؤلاء أقر بنوع من التوحيد وكذب بالآخر، وكثير منهم تصور التوحيد الذي ينادي به على وجه مغلوط، فانتصب شيخ الإسلام رحمه الله لتفصيل هذا الأمر وإعطائه حدوده وضوابطه ومما قرره في ذلك قوله:
"وبهذا وغيره يعرف ما وقع الغلط في مسمى التوحيد فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر: غايتهم أن يجعلوا التوحيد (ثلاثة أنواع).
فيقولون: هو واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له.
وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهم (توحيد الأفعال) وهو خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب!! وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله، حتى قد يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولاً: لم يكونوا يخالفونه في هذا، بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضاً، وهم مع هذا مشركون.
فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك، ولكن غاية ما يقال: إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقاً لغير الله كالقدرية وغيرهم، ولكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم، وإن قالوا أنهم خلقوا أفعالهم.
وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم، الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور، هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة، لا يقولون إنها غنية عن الخالق مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للصانع، كالقول الذي أظهره فرعون.
والكلام الآن مع المشركين بالله، المقرين بوجوده، فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون بل يقرون به مع أنهم مشركون، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام.
وكذلك (النوع الثاني) وهو قولهم: لا شبيه له في صفاته فإنه ليس في الأمم من أثبت قديماً مماثلاً في ذاته سواء قال أنه يشاركه أو قال: إنه لا فعل له، بل من شبه به شيئاً من مخلوقاته فإنما يشبهه به بعض الأمور.
وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه، فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم.
وعلم أيضاً بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك كاتفاقهما في مسمى الوجود، والقيام بالنفس، والذات ونحو ذلك فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض، وأنه لابد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك.
ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد فصار من قال: إن لله علماً أو قدرة، أو أنه يرى في الآخرة، أو أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون: أنه مشبه ليس بموحد.
وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة، نفوا أسماءه الحسنى، وقالوا من قال إن الله عليم قدير، عزيز حكيم، فهو مشبه ليس بموحد.
وزاد عليهم غلاة الغلاة قالوا: لا يوصف بالنفي ولا الإثبات لأن في كل منهما تشبيهاً له، وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه، فإنهم شبهوه بالممتنعات، والمعدومات، والجمادات فراراً من تشبيههم بزعمهم له بالأحياء.
ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت على حد ما يثبت لمخلوق أصلاً، وأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات، فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات، لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك، فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيداً، ويجعلون مقابل ذلك التشبيه ويسمون أنفسهم الموحدين.
وكذلك (النوع الثالث) وهو قولهم: واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له
، أو لا بعض له لفظ مجمل، فإن الله سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فيمتنع عليه أن يفترق، أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء، لكنهم يدرجون في هذا لفظ نفي علوه على عرشه، ومباينته لخلقه، وامتيازه عنهم، ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله، ويجعلون ذلك من التوحيد.
فقد تبين أن ما يسمونه توحيداً: فيه ما هو حق، وفيه ما هو باطل، ولو كان جميع حقاً، فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن، وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لا بد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله.
وليس المراد (بالإله) هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو.
فإن المشركين كانوا يقرون هذا الاسم وهم مشركون كما تقدم بيانه، بل الإله الحق هو الذي يستحق بأن يعبد فهو إله بمعنى مألوه، لا إله بمعنى آله، والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له، والإشراك أن يجعل مع الله إلهاً آخر.
وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار أهل الإثبات للقدر المنسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية، وأن الله رب كل شيء، ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون.
وكذلك طوائف من أهل التصوف، والمنتسبين إلى المعرفة، والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيء، ومليكه وخالقه، لا سيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفني من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها.
ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلماً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله، أو من سادات الأولياء.
وطائفة من أهل التصوف والمعرفة، يقرون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات العالم، المباين لمخلوقاته، وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات، فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شر من حال كثير من المشركين.
وكان جهم ينفي الصفات ويقول بالجبر، فهذا تحقيق قول جهم، لكنه إذا أثبت الأمر والنهي، والثواب والعقاب، فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهماً ومن اتبعه يقول بالإرجاء، فيضعف الأمر والنهي، والثواب والعقاب عنده.
والنجارية والضرارية وغيرهم يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضاً في نفي الصفات.
والكلابية الأشعرية، خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية، وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع.
وأما في باب القدر، ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة.
والكلابية هم أتباع أبي محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب، الذي سلك الأشعري خطته.
وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي ونحوهما خير من الأشعرية في هذا وهذا فلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل.
والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر، لم يسبقهم إليه أحد، حيث جعلوا الإيمان قول اللسان، وإن كان مع عدم تصديق القلب، فيجعلون المنافق مؤمناً، لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم، وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة.
وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات، ويقاربون قول جهم، لكنهم ينفون القدر، فهم وإن عظموا الأمر والنهي والوعد والوعيد ورغبوا فيه فهم يكذبون بالقدر، ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب، والإقرار بالأمر والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد.
ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج: الحرورية، وإنما يظهر من البدع أولاً ما كان أخفى، وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة.
فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي شر من القدرية المعتزلة ونحوهم، أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين، الذين قالوا {لَوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} ﴿الأنعام: ١٤٨﴾ والمشركون شر من المجوس.
فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أهل الإيمان من أهل الكفر، وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. انتهى (مجموع الفتاوى 97-105)
قلت: انتصاب شيخ الإسلام للرد على هذه الفرق ومخالفتها للدين الحق هو الذي حتم تقسيم التوحيد على هذا النحو الذي قسمه ليبين للمخالفين أن ما أقروا به من التوحيد والإيمان لا يكفي للعبد ليكون موحداً.
موقع توحيد الحكم من الإيمان بالله :
لا يكون الإنسان مؤمناً بالله حقاً وصدقاً إلا إذا اعتقد أن الله هو الحكم وأن له وحده الحكم في كل شيء، وأنه لا يشرك في حكمه أحداً، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي له الأمر وحده والحكم وحده، وأنه ليس لغيره شيء من الأمر كما قال تعالى لرسوله وهو أكرم الخلق عليه { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } ﴿آل عمران: ١٢٨﴾ وأنه سبحانه وتعالى كما أنه الخالق وحده فهو الآمر وحده {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} ﴿الأعراف: ٥٤﴾ وأنه سبحانه وتعالى رب العالمين وسيدهم والحاكم فيهم سبحانه، كوناً وقدراً وتصريفاً، والحاكم فيهم كذلك سبحانه وتعالى منهجاً وصراطاً وتشريعاً.
والقرآن كله في هذا المعنى فالقرآن كله بيان من الله لعباده أنه رب العالمين، وملك الناس وإلههم وأنه هو الذي يأمرهم وينهاهم ويشرع لهم، ويهديهم سبل السلام..
وأن الدين ما شرعه، والحق ما أحقه، والباطل ما أبطله، والحسن ما حسنه، والقبيح ما قبحه، وأن الجميع تحت قهره ومشيئته، وأنه ليس لأحد أن يترك حكمه، ويخالف أمره، وأن كل من خالف أمره عذب وأنه لا طاعة لأحد إلا في طاعته، وأن كل من أمر بغير أمره فإن طاعته باطلة، وأمره مردود، وأن من نازعه التشريع فأحل غير ما أحل، وحرم غير ما حرم، وقضى بغير قضائه، وأمر بما يخالف أمره، ونهى عما أمر به فطاغوت، وأن رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يأمرون إلا بأمره، ولا ينهون إلا عن نهيه، وأنه ليس معهم من الأمر شيء.
الحكم والسيادة والأمر هي أخص معاني الربوبية:
قال في لسان العرب: الرب هو الله عز وجل فهو رب كل شيء ومليكه وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، فهو رب الأرباب ومالك الملوك والأملاك، ولا يقال الرب في غير الله تعالى إلا بالإضافة.
ويقال رببت القوم: سدتهم كنت فوقهم، والعرب تقول: لأن يربني فلان خير من أن يربني فلان يعني أن يكون رباً فوقي، وسيداً يملكني، وروى هذا عن صفوان بن أمية أنه قال يوم حنين عند الجولة التي كانت من المسلمين فقال أبو سفيان: غلبت والله هوازن. فأجابه صفوان وقال: بفيك الكِثْكِثْ؛ لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
وفي حديث ابن عباس مع ابن الزبير رضي الله عنه: [لأن يربني ابن عمي أحب إلي من أن يربني غيرهم].
أي يكونون علي أمراء وسادة متقدمين -يعني بني أمية- فإنهم إلى ابن عباس في النسب أقرب من ابن الزبير. (لسان العرب – مادة رب)
وقال في اللسان أيضاً قال ابن الأنباري: "الرب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: يكون الرب المالك، ويكون الرب السيد المطاع، قال تعالى: {فَيَسْقِي رَ*بَّهُ خَمْرًا ۖ}(٤١سورة يوسف) أي سيده، ويكون الرب المصلح رب الشيء إذا أصلحه" أ.هـ
قلت: وهذه المعاني الثلاث التي يشتمل عليها اسم الرب حق في الله وعلا فهو مالك الخلق والناس وملكهم وسيدهم وهو مصلح أمورهم ومتولي شئونهم سبحانه وتعالى.
وقد جاء اسم الرب في القرآن في نحو ألف موضع مرة مضافاً إلى العالمين، فهو رب كل العوالم سبحانه وتعالى، ومراراً مضافاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم {ربك} وهو في أكثر مواضع القرآن ومضافاً ومرة إلى الناس {ربكم} وإلى المتكلمين {ربنا} و {ربي} وإلى الغائب {ربها} و{ربهم}.
فإذا كان معنى الرب السيد المطاع فإن من اتخذ لنفسه سيداً يطيعه في معصية الله فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى وعد غيره.. سواء كانت هذه الطاعة في الصغير أو الكبير في القليل أو الكثير فالشرك بالله كله شرك، ولا يقبله الله سبحانه وتعالى،
ومن أجل ذلك وصف الله النصارى بالشرك فقال: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} ﴿التوبة: ٣١﴾, وهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان إلا بطاعتهم لهم فيما لم يشرعه الله سبحانه وتعالى.
وقال جل وعلا لمن تشكك في تحريم الميتة: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّـهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ﴿الأنعام: ١٢١﴾.
توحيد الألوهية والعبادة داخل في توحيد الأمر :
ولا شك أن توحيد الألوهية والعبادة داخل في توحيد الأمر، فإن الله سبحانه وتعالى أمرنا ألا نعبد إلا هو. كما قال جل وعلا: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }﴿الإسراء: ٢٣﴾ ، وقضى هنا بمعنى أمر وحكم..
وقال تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} ﴿يوسف: ٤٠﴾، وكل ما أمر الله به من عبادة له فهي داخلة في باب أمره جل وعلا..
وإذا أمرنا سبحانه وتعالى أن نصرف شيئاً مما جعله عباده له وحده لغيره وجب علينا أن نطيع أمره في ذلك لأن الأصل هو طاعة أمره جل وعلا كما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وهو مخلوق فسجدوا طاعة لأمر ربهم سبحانه، علماً أن السجود فرد من أفراد عبادته وحده لا شريك له،وكما أمرنا سبحانه بتقبيل الحجر الأسود مع أنه حجر لا ينفع ولا يضر، وتقبيلنا له إنما هو امتثال لأمر الله تبارك وتعالى، وكما شرع لمن قبلنا السجود لذوي المكانة والمنزلة كالوالدين، والمنعم المتفضل من البشر كما سجد يعقوب وأبناؤه ليوسف -عليهم السلام- اعترافاً وفضلاً. قال تعالى: { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}﴿يوسف: ١٠٠﴾
ولما أمرنا سبحانه وتعالى بطاعة غيره كالوالدين، والزوج وأولي الأمر فإنه جعل هذه الطاعة فيما يطاع فيه الله فقط، وأما إذا كانت في معصية الله فلا سمع ولا طاعة كما قال صلى الله عليه وسلم: [لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق] الراوي: عمران بن الحصين المحدث:الدارقطني - المصدر: تاريخ بغداد - الصفحة أو الرقم: 3/362
خلاصة حكم المحدث: هو الصواب
.
وهذا يدل على أن توحيد الله في اتباع أمره وحده دون سواه هو أشمل أنواع التوحيد، وأن معاني التوحيد وأقسامه راجعة إلى هذا النوع.
وتوحيد الله في أمره وحكمه هو معنى الإسلام الذي جعله الله هو الدين الذي ارتضاه لعباده ولا يرضى من عباده غيره قال تعالى: {نَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ}﴿آل عمران: ١٩﴾ أي الاستسلام والطاعة والخضوع فالدين الذي ارتضاه لعباده جميعاً أن يمتثلوا أمره وحده، ويذلوا له وحده، ولا شك أن السجود والركوع، والنذر والصوم، والطواف، والسعي، وسائر ما أمرنا الله به من أجل تعظيمه وتذكر خشيته وذكره، وكل ذلك داخل في معنى طاعة أمره، فعبادة الله وحده بصرف جميع أنواع القربات إليه إنما هي من طاعة أمره جل وعلا، فهي داخلة في توحيد الأمر.
وكما جعل الله سبحانه وتعالى صرف شيء من أنواع القربات والعبادات التي جعلها خاصة به شركاً جعل الله طاعة غيره في شيء واحد شركاً كذلك فالشرك في العبادة كالشرك في الطاعة سواء بسواء قال تعالى: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} ﴿الكهف: ٢٦﴾ بلا النافية في قراءة، وبلا الناهية في القراءة الأخرى. قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ﴿الكهف: ١١٠﴾ فالشرك في الحكم كالشرك في العبادة سواءً بسواء ولذلك فاصل الله المسلمين في مكة في أمر طاعته وحده لا شريك له وذلك في قضية أكل الميتة حيث حصل لبعضهم شبهة في أن الله هو الذي قضى بالموت علي الشاة التي تموت حتف أنفها فكيف تحرم؟ ولا تحل إلا بأن يذبحها الإنسان بيده؟ فقال تعالى مفاصلاً لهم بين أن يطيعوه استسلاماً لأمره أو يطيعوا غيره فيشركوا. قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّـهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ﴿الأنعام: ١٢١﴾
فهذا نص صريح واضح أن الرضا بطاعة غير الله فيما يعصى به الله سبحانه شرك، وهذا في القليل والكثير.
ولا شك أن توحيد الله بكل معانيه وأقسامه هو قضية واحدة، فإن الله تسعاً وتسعين اسماً من كفر باسم واحد فهو كافر، وصفاته جل وعلا أكثر من أن تحصر ومعاني صفاته وأسمائه يجب الإيمان بها على النحو الذي أخبرنا الله بها، ولا يحيط علما بالله إلا الله جل وعلا {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} ﴿طه: ١١٠﴾ ومن كفر بصفة واحدة فقال مثلاً لم يستوي على عرشه، ولا يتكلم، ولا يراه أهل الإيمان في الآخرة فهو كافر لأنه جحد صفة ثابتة في الكتاب والسنة لله جل وعلا.
ولا شك أن جحد أمره وحكمه من أعظم الكفر بل هو أعظم الكفر، ولا شك أنه من قال إن لله شريكاً في الأمر: الكوني القدري أو الحكمي التشريعي فهو كافر بالله مشرك به.
وتقسيم معاني توحيده إلى اثنين علمي خبري، وقصدي طلبي أو ثلاثة ربوبية، وألوهية، وأسماء وصفات، إنما عمل تعليمي إرشادي اصطلاحي لم يأت هذا التقسيم بهذه القسمة الثنائية أو الثلاثية في الكتاب والسنة ولا في أقوال الصحابة والتابعين، وإنما هذا التقسيم مستفاد من معاني أسمائه وصفاته وتوحيده سبحانه وتعالى، ولا شك أن توحيده في الأمر هو من معاني توحيده في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته بل غاية الدين كله امتثال أمره، واجتناب نهيه، والتسليم له وحده سبحانه وتعالى
تعليق