محبة العبد لله -تعالى-
اعلم أنَّ المحبة يدَّعيها كل أحد، فما أسهل الدَّعوى وأعزَّ المعنى، فلا ينبغي أن يغترَّ الإنسان بتلبيس الشيطان، وخداع النفس إذا ادعت محبة الله –تعالى-، ما لم يمتحنها بالعلامات، ويطالبها بالبراهين، فمن العلامات حب لقاء الله –تعالى- في الجنة، فإنَّه لا يُتَصور أن يحب القلب محبوبًا إلا ويحب لقاءه ومشاهدته، وهذا لا ينافي كراهة الموت، فإن المؤمن يكره الموت، ولقاء الله بعد الموت.
ومن السلف من أحب الموت، ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته، أو لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا، أو لأنَّه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب.
ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة، فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله –تعالى-، وهذا كمحب يصله الخبر بقدوم حبيبه عليه، فيحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره، ويعدل له أسبابه، فيلقاه كما يهواه، فارغ القلب عن الشواغل، خفيف الظهر عن العوائق، فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة، وعلامة هذا: الدؤوب في العمل، واستغراق الهمِّ في الاستعداد.
ومنها أن يكون مؤثرًا ما أحبه الله –تعالى- على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيجتنب اتباع الهوى، ويعرض عن دِعَة الكسل، ولا يزال مواظبًا على طاعة الله –تعالى- متقربًا إليه بالنوافل.
ومن أحب الله؛ فلا يعصيه، إلا أن العصيان لا ينافي أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، فكم من إنسان يحب الصحة ويأكل ما يضره، وسببه أن المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بحق المحبة، ويدل على ذلك حديث نعيمان أنَّه كانيؤتى به إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم فيحده[1]
إلى أن أتى به يومًا، فحده، فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا تلعنه، فإنَّه يحب الله ورسوله)، فلم تخرجه المعصية عن المحبة، وإنما تخرجه عن كمال المحبة.
ومن العلامات أن يكون مستهترًا بذكر الله –تعالى-، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فإن من أحب شيئًا؛ أكثر من ذكره بالضرورة، ومن ذكر ما يتعلقبه.
فعلامة حب الله –تعالى- حب ذكره، وحب القرآن الذي هو كلامه، وحب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال الله -تعالى-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
وقال بعض السلف: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة، فكنت أدمن قراءة القرآن، ثم لحقني فترة فانقطعت، فرأيت في المنام قائلا يقول:
إن كنت تزعـم حبي ** فلم هجرت كتابــي
أما تدبرت مـا فيــ ** ـه من لطيف عتابي
ومنها أن يكون أنسه بالخلوة، ومناجاة الله –تعالى-، وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجد، ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، فان أقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعم بمناجاته.
فإذًا علامة المحبة، كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعيم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كل ما ينقض عليه الخلوة.
ومتى غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحب والأنس قلبه، حتى لا يفهم أمور الدنيا، ما لم تتكرر على سمعه مرارًا، مثل العاشق الولهان.
ومنها أن يتأسف على ما يفوته من ذكر الله –تعالى-، ويتنعَّم بالطاعة، لايستثقلها، ويسقط عنه تعبها.
ومنها أن يكون شفيقًا على جميع عباد الله، رحيما بهم، شديدًا على أعدائه، كما قال تعالى: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح : 29]، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصرفه عن الغضب له صارف، فهذه علامات المحبة، فمن اجتمعت فيه؛ فقد تمَّت محبته، وصفا في الآخرة شرابه. ومن امتزج بحبه حب غير الله، تنعَّم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين، كما قال –عزَّ وجل:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} إلى قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [ المطففين: 22-28]، فقُوبِل الخالص بالصرف، والمشوب بالمشوب. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8،7].
المرجع: مختصر منهاج القاصدين
للإمام: أحمد بن قدامة المقدسي -رحمه الله-
اعلم أنَّ المحبة يدَّعيها كل أحد، فما أسهل الدَّعوى وأعزَّ المعنى، فلا ينبغي أن يغترَّ الإنسان بتلبيس الشيطان، وخداع النفس إذا ادعت محبة الله –تعالى-، ما لم يمتحنها بالعلامات، ويطالبها بالبراهين، فمن العلامات حب لقاء الله –تعالى- في الجنة، فإنَّه لا يُتَصور أن يحب القلب محبوبًا إلا ويحب لقاءه ومشاهدته، وهذا لا ينافي كراهة الموت، فإن المؤمن يكره الموت، ولقاء الله بعد الموت.
ومن السلف من أحب الموت، ومنهم من كرهه، إما لضعف محبته، أو لكونها مشوبة بحب شيء من الدنيا، أو لأنَّه يرى ذنوبه فيحب أن يبقى ليتوب.
ومنهم من يرى نفسه في ابتداء مقام المحبة، فيكره عجلة الموت قبل أن يستعد للقاء الله –تعالى-، وهذا كمحب يصله الخبر بقدوم حبيبه عليه، فيحب أن يتأخر قدومه ساعة ليهيئ له داره، ويعدل له أسبابه، فيلقاه كما يهواه، فارغ القلب عن الشواغل، خفيف الظهر عن العوائق، فالكراهة بهذا السبب لا تنافي كمال المحبة، وعلامة هذا: الدؤوب في العمل، واستغراق الهمِّ في الاستعداد.
ومنها أن يكون مؤثرًا ما أحبه الله –تعالى- على ما يحبه في ظاهره وباطنه، فيجتنب اتباع الهوى، ويعرض عن دِعَة الكسل، ولا يزال مواظبًا على طاعة الله –تعالى- متقربًا إليه بالنوافل.
ومن أحب الله؛ فلا يعصيه، إلا أن العصيان لا ينافي أصل المحبة، إنما يضاد كمالها، فكم من إنسان يحب الصحة ويأكل ما يضره، وسببه أن المعرفة قد تضعف، والشهوة قد تغلب، فيعجز عن القيام بحق المحبة، ويدل على ذلك حديث نعيمان أنَّه كانيؤتى به إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم فيحده[1]
إلى أن أتى به يومًا، فحده، فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (لا تلعنه، فإنَّه يحب الله ورسوله)، فلم تخرجه المعصية عن المحبة، وإنما تخرجه عن كمال المحبة.
ومن العلامات أن يكون مستهترًا بذكر الله –تعالى-، لا يفتر عنه لسانه، ولا يخلو عنه قلبه، فإن من أحب شيئًا؛ أكثر من ذكره بالضرورة، ومن ذكر ما يتعلقبه.
فعلامة حب الله –تعالى- حب ذكره، وحب القرآن الذي هو كلامه، وحب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
قال الله -تعالى-: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31].
وقال بعض السلف: كنت قد وجدت حلاوة المناجاة، فكنت أدمن قراءة القرآن، ثم لحقني فترة فانقطعت، فرأيت في المنام قائلا يقول:
إن كنت تزعـم حبي ** فلم هجرت كتابــي
أما تدبرت مـا فيــ ** ـه من لطيف عتابي
ومنها أن يكون أنسه بالخلوة، ومناجاة الله –تعالى-، وتلاوة كتابه، فيواظب على التهجد، ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، فان أقل درجات الحب التلذذ بالخلوة بالحبيب، والتنعم بمناجاته.
فإذًا علامة المحبة، كمال الأنس بمناجاة المحبوب، وكمال التنعيم بالخلوة، وكمال الاستيحاش من كل ما ينقض عليه الخلوة.
ومتى غلب الحب والأنس صارت الخلوة والمناجاة قرة عين تدفع جميع الهموم، بل يستغرق الحب والأنس قلبه، حتى لا يفهم أمور الدنيا، ما لم تتكرر على سمعه مرارًا، مثل العاشق الولهان.
ومنها أن يتأسف على ما يفوته من ذكر الله –تعالى-، ويتنعَّم بالطاعة، لايستثقلها، ويسقط عنه تعبها.
ومنها أن يكون شفيقًا على جميع عباد الله، رحيما بهم، شديدًا على أعدائه، كما قال تعالى: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح : 29]، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصرفه عن الغضب له صارف، فهذه علامات المحبة، فمن اجتمعت فيه؛ فقد تمَّت محبته، وصفا في الآخرة شرابه. ومن امتزج بحبه حب غير الله، تنعَّم في الآخرة بقدر حبه، فيمزج شرابه بشيء من شراب المقربين، كما قال –عزَّ وجل:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} إلى قوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ* تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [ المطففين: 22-28]، فقُوبِل الخالص بالصرف، والمشوب بالمشوب. {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8،7].
المرجع: مختصر منهاج القاصدين
للإمام: أحمد بن قدامة المقدسي -رحمه الله-
تعليق