يتساءل البعض ويقول:
كيف تكون مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، ثم نقر بأن العبد مخيرٌ في أفعاله إن كانت أفعال العبد لن تخرج عن مشيئة الله ولا حيلة للعبد في تغيير المشيئة؟
إن للإنسان مشيئةً ولكنها في نفس الوقت مشيئة تابعة لإرادة الله تعالى، ولا يستلزم من وجود مشيئتين مرتبطتين أن تكون إحداهما مُلغية للأخرى، وأن تكون الإرادة إرادة شكلية.
وحتى تتضح العلاقة لنضرب مثالًا:
لنفرض أن أمًّا أمرت ابنها أن يجلب لها كوبًا من الماء، فالولد عندما يحضر الكوب لأمه هو يفعل هذا بإرادته – وبالتأكيد الأم أرادت ذلك أيضًا- فهل كانت إرادة الولد خاضعة لإرادة الأم؟ بالتدقيق نجدها بالفعل تابعة لإرادة الأم؛ لأن الولد لو لم يأتِ بهذا الطلب فإن الأم ستؤثر عليه بأحد المؤثرات، فقد تعاقبه بالضرب أو التوبيخ أو حتى نظرة بالعين؛ فتجبر الولد على إحضاره لها بطريقة أو بأخرى، إذًا هو فعل ذلك بإرادته ولكن إرادته تابعة لإرادة الأم.
أو لنفرض أن رجلًا طلب من ابنه أن يشتري له شيئًا من السوق، الابن يلتزم بالأوامر ويذهب للسوق بإرادته ومحض اختياره، ووالده أعطاه تفويضًا ليفعل ما يشاء في اختيار هذا الشيء، ولكن إرادة هذا الابن متعلقة بإرادة والده، فما زال هناك سلطة وتأثير يشعر بها هذا الابن داخليًّا، فإذا لم يشترِ هذا الشيء ولم ينفذ أوامر والده فسيُعاقبه بطريقة أو بأخرى.
وعندما نتحدث عن العلاقة بين إرادة الله سبحانه تعالى، وإرادة العبد الذي هو الإنسان، فلا بد أن نعرف أن هناك فرقًا كبيرًا بين الذات الإلهية والذات البشرية المخلوقة، بين الخالق والمخلوق، والإعجاز في أن هذه العلاقة بين الإرادتين هي العلاقة الوحيدة بين إرادتين بينهما علاقة ولا يشعر فيها الطرف الثاني بقيد على إرادته الحقيقية التي وهبها الله له.
أما كيف يحدث ذلك، فهذا ما لا نستطيع إدراكه؛ لأن صفات الله من سمعه وبصره وإحاطته لمخلوقاته وجميع صفاته سبحانه وتعالى مستعصية على فهم الإنسان، وكيفيتها غير معلومة وغير مفهومة، فكذلك لماذا نستغرب أن تكون علاقة بين إرادة الله سبحانه وتعالى وإرادة الإنسان وهي غير مؤثرة عليها؟ فمن كمال صفات الخالق أن الله سبحانه وتعالى هو السيد الوحيد الذي له إرادة فوق إرادة العبد ولا يشعر العبد بقيد في إرادته.
إذًا حتى نعرف الإجابة الصحيحة نحتاج إلى أن نصيغ السؤال بشكل صحيح بحيث نوجهه لأمور نستطيع إدراكها وفهم المقصود منها.
هذا السؤال الغرض منه الخوف من وقوع الظلم على العبد، وهل العبد مُحاسَبٌ على ما هو مجبور عليه ابتداءً ولا حيلة له في تغييره؟ أليس كذلك؟
إذًا الصياغة الصحيحة للسؤال:
هل العبد مجبور على أفعاله التي شاءها الله تعالى له؟أوهل يجبر الله تعالى عبده على أفعاله ثم يحاسبه عليها؟
وهذا هو ما يهمنا نحن العباد، فكل ما يعنينا هو ضمان العدل، وألا نُحاسَب إلا وفق أعمالنا التي اخترناها بمحض إرادتنا، أما ما يخص مشيئة الله تعالى مثل كيفيتها، وماهيتها، وسببها، فهذا مما ليس من شأننا نحن العباد، كما أنه لا سبيل لنا للإحاطة بالعلم بما يخص المشيئة الإلهية؛ ولذلك نتحدَّث فيما نقدر على فهمه، ونستطيع البحث عنه، والعلم به وفي نفس الوقت فيه الإجابة عن سؤالنا.
وحتى نستطيع الإجابة عن هذا السؤال نلقي الضوء سريعًا على الإيمان بالقضاء والقدر ومراتبه، فعندما نسمع أو نقرأ عن هذه المراتب دون فهم لها، قد نقع في كثير من الشبهات، فهيَّا بنا نحاول الوصول للشبهات فيها، ونحاول الإجابة عنها خطوة خطوة.
ولنبدأ بالفرق بين القضاء والقدر:
في الواقع اختلف العلماء في تعريفهما، وسنأخذ الرأي الذي يقول: إن القدر وهو وضع معالم الشيء وحدوده، والقضاء هو إحكام الشيء وتنفيذه.
ويمكننا أن نمثل للفرق بينهما بأن القدر يشبه ما يفعله المهندس الذي يرسم المنشأة ليتصور معالمها، فيكون هذا من باب التقدير، ثم إذا قضى أن ينفذ هذا التصور وذلك التقدير كان هذا من باب القضاء، ولله المثل الأعلى.
والقدر له مكونات يتكون منها كي يحدث ذلك القدر، وهي ما يعرف بمراتب القدر، ويمكننا أن نتصور القدر على الشكل التالي:
المرتبة الأولى: العلم:
فقد علم الله بعلمه الأزلي ما الناس عاملون، وعلم مقادير جميع الخلائق قبل أن يخلقهم.
فالله العليم وحده يعلم ما حصل للخلائق منذ بدء الخلق، ولا أحد سواه يعلم، والله وحده يعلم ما يكون الآن وما سيكون في المستقبل على التحديد والتفصيل، والله وحده يعلم بالأمور التي لم تقع لو وقعت كيف سيكون شأنها، والإيمان بعلم الله هو مقتضى الفطرة والعقل السليم.
والله ليس عليمًا فقط؛ بل هو العليم الخبير، لو أن إنسانًا برع في صناعة الأجهزة الذكية كالحواسيب حتى ذاع صيته وذاع صيت شركته وأبهر العالم بإتقانه؛ لا شك أننا لن نطلق عليه اسم العالم فحسب؛ بل هو خبير بما يمكن أن تقوم به تلك الأجهزة، ولله المثل الأعلى.
فالله سبحانه لم يخلق العالم من العدم فحسب؛ وإنما أتقن كل مصنوع على أكمل وجه، وهذا هو دليل الإتقان المستلزم لعلم الله الأزلي بل ولخبرته بأفعال مخلوقاته كما قال عن نفسه ﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88].
إذًا نحن متفقون على أن الخالق عليم خبير بخلقه وأحوالهم وأفعالهم، فهل لهذا العلم المسبق دخل في التأثير على فعل العباد؟
المعلم قد يضع أسئلة الاختبار وفيها مسألة صعبة، يعرف مسبقًا بخبرته بمستوى تلاميذه، من منهم له القدرة على حلها، ومن لا يستطيع، فهل معنى هذا أن علمه بحال طلابه كان له تأثير على إجابتهم؟
لو ذهب رجل ليزور صديقه فوجده قد جلس بين أولاده الثلاثة، فأعطى الرجل لكل ولد من أولاده دينارًا، ثم صرفهم، وأعطى كل ولد حريته في ديناره، ثم أقبل على صاحبه، وقال له: أنا أعلم ماذا سيصنع كل واحد بديناره، فقال له: وماذا سيصنعون؟ فقال: أما الأول: فإنه سيدَّخِره كله، ولن ينفق منه فَلْسًا واحدًا؛ فهو محبٌّ للمال، حريص عليه، ولا تأسره شهوته، ولا تجره معدته. أما الثاني: فلن يُبْقِ من ديناره فَلْسًا واحدًا، وسينفق الدينار كله على الثياب؛ فهو مأسور بحب الثياب، مسحور بها، لا يملك نفسه أمام النفيس منها. أما الثالث، فهو متلاف للمال، لا يشتهي شيئًا إلا اشتراه، فسينفق ماله كله على شيء واحد، وهو نوع من أنواع الحلوى اسمه كذا. ثم جاء الأولاد بعد فترة قصيرة فسألهم أبوهم عما صنعوا بأموالهم، فكانت المفاجأة أمام صديقه بأن كل ولد صنع ما حكى أبوه، وكأنه كان ينفذ خطة مدروسة، أو تمثيلية مرسومة.
فكيف عرف هذا الوالد ما سيصنعه أبناؤه، أليس من خلال معايشته معهم، وخبرته بهم، ومعرفته التامة بميولهم وأهوائهم وآمالهم وآلامهم؟ أيقال: إن هذا الأب أجبر أولاده على ما صنعوا؟ بالطبع لا. ولله المثل الأعلى، علم ما سيصنع كل عبد في دنياه قبل أن يخلق بمقتضى علمه المحيط، فكان قضاؤه وقدره سبق علم، وليس سبق جبر.
إذًا ما كتب في اللوح المحفوظ من باب علم الله سبحانه وتعالى بما سنختار فعله ونفعله، وليس معناه أننا نعمل العمل الصالح أو المعصية؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى كتبها علينا.
هذا عن علم الله تعالى بما سيحدث، ولكن ماذا عن المكتوب في اللوح المحفوظ؟
المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: الكتابة:
حيث كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
وصور هذه الكتابة متعددة، وليست في اللوح المحفوظ فقط، منها على سبيل المثال:
• كتابة الملك لأقدار الجنين وهو في بطن أمه: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكًا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورِزْقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم ينفخُ فيه الروح).
وشقاوته وسعادته المذكورة في الحديث يراد بها ما يتعلق بأمر الآخرة، مع ضرورة الإدراك واليقين التام بأن هذه النهاية المكتوبة عليه لا تؤثر في اختياراته وقراراته؛ لأنه لا يعلم مصيره؛ أي: إن اختياراته وقراراته هي التي حددت مصيره، بمعنى أدق، هو من يحدد إن كان صاحب نهاية سعيدة أم نهاية شقية، والله سبحانه وتعالى بعلمه الواسع يخبر الملك بما سيترتب على اختيارات هذا الإنسان.
• ومنها الكتابة اليومية لأقدار الخلائق: يقول تعالى في سورة الرحمن: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29].
• ومنها الكتابة السنوية في ليلة القدر: يقول الله تعالى في سورة القدر: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4].
وهذه كلها كتابات مستقبلية.
• هناك أيضًا كتابة الملكين عن اليمين والشمال: وهي كتابة تتعلق بما حدث في الماضي أو وقت وقوع الفعل.
فعل يمكن أن يتغير المكتوب؟
هل يمكن أن يزداد عمر الإنسان المكتوب مثلًا أو ألَّا يحدث القدر المكتوب على الإنسان؟
الكتابة نوعان: نوع لا يتبدَّل ولا يتغيَّر وهو ما في اللوح المحفوظ، ونوع يتغير ويتبدل وهو ما بأيدي الملائكة، وما يستقر أمره أخيرًا عندهم هو الذي قد كتب في اللوح المحفوظ، وهو أحد معاني قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39].
ومن هنا يمكننا فهم ما جاء في السنة الصحيحة من كون صلة الرحم تزيد في الأجل أو تُبسط في الرزق؛ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، أو ما جاء في أن الدعاء يرد القضاء (لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلا الدُّعاء)؛ رواه ابن ماجه.
فيكون مكتوب في صُحُف الملائكة أن فلانًا سيمرض، فيدعو بدعاء، فيعافيه الله ولا يمرض، أو يكون فيها أن عمره ستون سنة، فيَصِل رَحِمَه، فيزيد عمره إلى سبعين سنة.
فهذا تغيير لما في صُحُف الملائكة، وهو ممكن لا مانع منه، وليس هذا تغييرًا لما في اللوح المحفوظ، ولا تغييرًا لما في علم الله، فقد علم الله تعالى أنه سيدعو بالدعاء فيُعافى، أو أنه سيَصِل رَحِمَه فيزيد عمره. وهذان -يعني: ما في اللوح المحفوظ، وما في علم الله- لا تغيير لما فيهما.
المرتبة الثالثة: المشيئة أو الإرادة:
أراد الله سبحانه إنفاذ هذا القدر بعدله وحكمته وقدرته.
وإرادة الله نوعان:
النوع الأول: الإرادة الكونية:
وتتعلق بكل ما يشاء الله تعالى فعله وإحداثه، سواء أحبَّه أو لم يرضه من الكفر والمعاصي؛ مثل جريان الأنهار، ونزول المطر، وإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وعصيان العاصي؛ إذًا هي تتضمن كل ما يشاء في هذا الكون من خير أو شر، وهو بإرداة الله سواء أحَبَّه أو كرهه. ولا بد أن تقع هذه الإرادة الكونية.
النوع الثاني: الإرادة الشرعية:
هي إرادة الله تعالى المتضمنة للمحبة والرضا، فهي تتعلق بكل ما يأمر الله تعالى به عباده ممَّا يحبُّه ويرضاه؛ إذًا هي تتضمن كل ما يحبه الله أن يحدث من العبادات، وهذه الإرادة قد تقع وقد لا تقع، قد يطيع العبد أوامر الله وقد يعصيه، فإذا أطاعه فقد حقَّق الإرادة الشرعية.
المرتبة الرابعة: الخلق:
خلق للكائنات إرادة بها يفعلون أفعالهم، وفي الوقت ذاته خلق أفعال العباد التي فعلوها بإرادتهم؛ لأن هذه الأفعال مما يحدث في ملكه، وكل ما يحدث في ملكه مخلوق.
فقد خلق الله أفعال العباد، الحركات والسكنات، واليقظة والنوم، والأصوات وغيرها، فكل ذلك خلقه الله جل وعلا، حتى وضعك يدك على خدك خلقها الله جل وعلا، والضحك فعل من أفعال العبد، والبكاء فعل من أفعال العبد، والله جل وعلا هو الذي أضحكك وهو الذي أبكاك.
هذه هي مراتب القدر الأربعة باختصار، ولا بد أننا توقفنا كثيرًا عند مرتبة الكتابة، فهي التي تثير في عقولنا الكثير من التساؤلات.
هذه التساؤلات تثار في عقولنا عندما نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كتابة أقدار الجنين في رحم أمه كاملًا: (إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكًا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم يُنفخُ فيه الروح، فإنَّ الرجلَ منكم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتى لا يكونَ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ، فيدخلُ النارَ. وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، فيدخلُ الجنةَ).
حديث عظيم قد يتوهم البعض منه أن ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ له دخل في اختيارات الإنسان، وأن التقدير بكونه من أهل النار أو الجنة يؤثر في مصير الإنسان، لكن في الواقع نصوص الآيات والأحاديث يوضح بعضُها بعضًا، وإذا أردنا أن نصل لرؤية حول مسألة ما فلا بد أن نقرأ ونفهم ونجمع بين النصوص الواردة في هذه المسألة كلها، ولا يكفي أخذ الحكم من نصٍّ واحدٍ.
وهذه الصورة الموجودة في الحديث يُفسِّرها ويُوضِّحها حديث آخر رواه سهل بن سعد الساعدي نجد فيه: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ النَّارِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ)؛ فالظاهر للناس غير الباطن الذي يعلمه الله سبحانه.
ولنقرأ الحديث الذي رواه البخاري ومسلم كاملًا، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِن الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا، فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
قد يكون أمام الناس يصلي ولكنه يصلي رياء، قد يكون أمام الناس يُعَلِّم الناس الشرع لا لله؛ وإنما ليُقال له عالم، يجاهد لا لله؛ وإنما ليُقال عنه شجاع وهكذا.
قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 163: "وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملًا صالحًا مقبولًا للجنة قد أحَبَّه الله ورضيه لم يبطله عليه. وقوله: (لم يبق بينه وبينها إلا ذراع) يشكل على هذا التأويل، فيُقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه... والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض".
وقال ابن رجب رحمه الله: وقوله: (فيما يبدو للناس) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطَّلِع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.
وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة.
وأما من يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة، إخلاصًا وإيمانًا، فالله تعالى أعدل وأكرم وأرحم من أن يخذله في نهاية عمره.
بل هذا أهل للتوفيق والتسديد والتثبيت، كما قال تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90]، وقال: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171].
هبة حلمي الجابري
شبكة الالوكة
كيف تكون مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى، ثم نقر بأن العبد مخيرٌ في أفعاله إن كانت أفعال العبد لن تخرج عن مشيئة الله ولا حيلة للعبد في تغيير المشيئة؟
إن للإنسان مشيئةً ولكنها في نفس الوقت مشيئة تابعة لإرادة الله تعالى، ولا يستلزم من وجود مشيئتين مرتبطتين أن تكون إحداهما مُلغية للأخرى، وأن تكون الإرادة إرادة شكلية.
وحتى تتضح العلاقة لنضرب مثالًا:
لنفرض أن أمًّا أمرت ابنها أن يجلب لها كوبًا من الماء، فالولد عندما يحضر الكوب لأمه هو يفعل هذا بإرادته – وبالتأكيد الأم أرادت ذلك أيضًا- فهل كانت إرادة الولد خاضعة لإرادة الأم؟ بالتدقيق نجدها بالفعل تابعة لإرادة الأم؛ لأن الولد لو لم يأتِ بهذا الطلب فإن الأم ستؤثر عليه بأحد المؤثرات، فقد تعاقبه بالضرب أو التوبيخ أو حتى نظرة بالعين؛ فتجبر الولد على إحضاره لها بطريقة أو بأخرى، إذًا هو فعل ذلك بإرادته ولكن إرادته تابعة لإرادة الأم.
أو لنفرض أن رجلًا طلب من ابنه أن يشتري له شيئًا من السوق، الابن يلتزم بالأوامر ويذهب للسوق بإرادته ومحض اختياره، ووالده أعطاه تفويضًا ليفعل ما يشاء في اختيار هذا الشيء، ولكن إرادة هذا الابن متعلقة بإرادة والده، فما زال هناك سلطة وتأثير يشعر بها هذا الابن داخليًّا، فإذا لم يشترِ هذا الشيء ولم ينفذ أوامر والده فسيُعاقبه بطريقة أو بأخرى.
وعندما نتحدث عن العلاقة بين إرادة الله سبحانه تعالى، وإرادة العبد الذي هو الإنسان، فلا بد أن نعرف أن هناك فرقًا كبيرًا بين الذات الإلهية والذات البشرية المخلوقة، بين الخالق والمخلوق، والإعجاز في أن هذه العلاقة بين الإرادتين هي العلاقة الوحيدة بين إرادتين بينهما علاقة ولا يشعر فيها الطرف الثاني بقيد على إرادته الحقيقية التي وهبها الله له.
أما كيف يحدث ذلك، فهذا ما لا نستطيع إدراكه؛ لأن صفات الله من سمعه وبصره وإحاطته لمخلوقاته وجميع صفاته سبحانه وتعالى مستعصية على فهم الإنسان، وكيفيتها غير معلومة وغير مفهومة، فكذلك لماذا نستغرب أن تكون علاقة بين إرادة الله سبحانه وتعالى وإرادة الإنسان وهي غير مؤثرة عليها؟ فمن كمال صفات الخالق أن الله سبحانه وتعالى هو السيد الوحيد الذي له إرادة فوق إرادة العبد ولا يشعر العبد بقيد في إرادته.
إذًا حتى نعرف الإجابة الصحيحة نحتاج إلى أن نصيغ السؤال بشكل صحيح بحيث نوجهه لأمور نستطيع إدراكها وفهم المقصود منها.
هذا السؤال الغرض منه الخوف من وقوع الظلم على العبد، وهل العبد مُحاسَبٌ على ما هو مجبور عليه ابتداءً ولا حيلة له في تغييره؟ أليس كذلك؟
إذًا الصياغة الصحيحة للسؤال:
هل العبد مجبور على أفعاله التي شاءها الله تعالى له؟أوهل يجبر الله تعالى عبده على أفعاله ثم يحاسبه عليها؟
وهذا هو ما يهمنا نحن العباد، فكل ما يعنينا هو ضمان العدل، وألا نُحاسَب إلا وفق أعمالنا التي اخترناها بمحض إرادتنا، أما ما يخص مشيئة الله تعالى مثل كيفيتها، وماهيتها، وسببها، فهذا مما ليس من شأننا نحن العباد، كما أنه لا سبيل لنا للإحاطة بالعلم بما يخص المشيئة الإلهية؛ ولذلك نتحدَّث فيما نقدر على فهمه، ونستطيع البحث عنه، والعلم به وفي نفس الوقت فيه الإجابة عن سؤالنا.
وحتى نستطيع الإجابة عن هذا السؤال نلقي الضوء سريعًا على الإيمان بالقضاء والقدر ومراتبه، فعندما نسمع أو نقرأ عن هذه المراتب دون فهم لها، قد نقع في كثير من الشبهات، فهيَّا بنا نحاول الوصول للشبهات فيها، ونحاول الإجابة عنها خطوة خطوة.
ولنبدأ بالفرق بين القضاء والقدر:
في الواقع اختلف العلماء في تعريفهما، وسنأخذ الرأي الذي يقول: إن القدر وهو وضع معالم الشيء وحدوده، والقضاء هو إحكام الشيء وتنفيذه.
ويمكننا أن نمثل للفرق بينهما بأن القدر يشبه ما يفعله المهندس الذي يرسم المنشأة ليتصور معالمها، فيكون هذا من باب التقدير، ثم إذا قضى أن ينفذ هذا التصور وذلك التقدير كان هذا من باب القضاء، ولله المثل الأعلى.
والقدر له مكونات يتكون منها كي يحدث ذلك القدر، وهي ما يعرف بمراتب القدر، ويمكننا أن نتصور القدر على الشكل التالي:
المرتبة الأولى: العلم:
فقد علم الله بعلمه الأزلي ما الناس عاملون، وعلم مقادير جميع الخلائق قبل أن يخلقهم.
فالله العليم وحده يعلم ما حصل للخلائق منذ بدء الخلق، ولا أحد سواه يعلم، والله وحده يعلم ما يكون الآن وما سيكون في المستقبل على التحديد والتفصيل، والله وحده يعلم بالأمور التي لم تقع لو وقعت كيف سيكون شأنها، والإيمان بعلم الله هو مقتضى الفطرة والعقل السليم.
والله ليس عليمًا فقط؛ بل هو العليم الخبير، لو أن إنسانًا برع في صناعة الأجهزة الذكية كالحواسيب حتى ذاع صيته وذاع صيت شركته وأبهر العالم بإتقانه؛ لا شك أننا لن نطلق عليه اسم العالم فحسب؛ بل هو خبير بما يمكن أن تقوم به تلك الأجهزة، ولله المثل الأعلى.
فالله سبحانه لم يخلق العالم من العدم فحسب؛ وإنما أتقن كل مصنوع على أكمل وجه، وهذا هو دليل الإتقان المستلزم لعلم الله الأزلي بل ولخبرته بأفعال مخلوقاته كما قال عن نفسه ﴿ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النمل: 88].
إذًا نحن متفقون على أن الخالق عليم خبير بخلقه وأحوالهم وأفعالهم، فهل لهذا العلم المسبق دخل في التأثير على فعل العباد؟
المعلم قد يضع أسئلة الاختبار وفيها مسألة صعبة، يعرف مسبقًا بخبرته بمستوى تلاميذه، من منهم له القدرة على حلها، ومن لا يستطيع، فهل معنى هذا أن علمه بحال طلابه كان له تأثير على إجابتهم؟
لو ذهب رجل ليزور صديقه فوجده قد جلس بين أولاده الثلاثة، فأعطى الرجل لكل ولد من أولاده دينارًا، ثم صرفهم، وأعطى كل ولد حريته في ديناره، ثم أقبل على صاحبه، وقال له: أنا أعلم ماذا سيصنع كل واحد بديناره، فقال له: وماذا سيصنعون؟ فقال: أما الأول: فإنه سيدَّخِره كله، ولن ينفق منه فَلْسًا واحدًا؛ فهو محبٌّ للمال، حريص عليه، ولا تأسره شهوته، ولا تجره معدته. أما الثاني: فلن يُبْقِ من ديناره فَلْسًا واحدًا، وسينفق الدينار كله على الثياب؛ فهو مأسور بحب الثياب، مسحور بها، لا يملك نفسه أمام النفيس منها. أما الثالث، فهو متلاف للمال، لا يشتهي شيئًا إلا اشتراه، فسينفق ماله كله على شيء واحد، وهو نوع من أنواع الحلوى اسمه كذا. ثم جاء الأولاد بعد فترة قصيرة فسألهم أبوهم عما صنعوا بأموالهم، فكانت المفاجأة أمام صديقه بأن كل ولد صنع ما حكى أبوه، وكأنه كان ينفذ خطة مدروسة، أو تمثيلية مرسومة.
فكيف عرف هذا الوالد ما سيصنعه أبناؤه، أليس من خلال معايشته معهم، وخبرته بهم، ومعرفته التامة بميولهم وأهوائهم وآمالهم وآلامهم؟ أيقال: إن هذا الأب أجبر أولاده على ما صنعوا؟ بالطبع لا. ولله المثل الأعلى، علم ما سيصنع كل عبد في دنياه قبل أن يخلق بمقتضى علمه المحيط، فكان قضاؤه وقدره سبق علم، وليس سبق جبر.
إذًا ما كتب في اللوح المحفوظ من باب علم الله سبحانه وتعالى بما سنختار فعله ونفعله، وليس معناه أننا نعمل العمل الصالح أو المعصية؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى كتبها علينا.
هذا عن علم الله تعالى بما سيحدث، ولكن ماذا عن المكتوب في اللوح المحفوظ؟
المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: الكتابة:
حيث كتب الله تعالى في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
وصور هذه الكتابة متعددة، وليست في اللوح المحفوظ فقط، منها على سبيل المثال:
• كتابة الملك لأقدار الجنين وهو في بطن أمه: يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكًا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورِزْقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم ينفخُ فيه الروح).
وشقاوته وسعادته المذكورة في الحديث يراد بها ما يتعلق بأمر الآخرة، مع ضرورة الإدراك واليقين التام بأن هذه النهاية المكتوبة عليه لا تؤثر في اختياراته وقراراته؛ لأنه لا يعلم مصيره؛ أي: إن اختياراته وقراراته هي التي حددت مصيره، بمعنى أدق، هو من يحدد إن كان صاحب نهاية سعيدة أم نهاية شقية، والله سبحانه وتعالى بعلمه الواسع يخبر الملك بما سيترتب على اختيارات هذا الإنسان.
• ومنها الكتابة اليومية لأقدار الخلائق: يقول تعالى في سورة الرحمن: ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ [الرحمن: 29].
• ومنها الكتابة السنوية في ليلة القدر: يقول الله تعالى في سورة القدر: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4].
وهذه كلها كتابات مستقبلية.
• هناك أيضًا كتابة الملكين عن اليمين والشمال: وهي كتابة تتعلق بما حدث في الماضي أو وقت وقوع الفعل.
فعل يمكن أن يتغير المكتوب؟
هل يمكن أن يزداد عمر الإنسان المكتوب مثلًا أو ألَّا يحدث القدر المكتوب على الإنسان؟
الكتابة نوعان: نوع لا يتبدَّل ولا يتغيَّر وهو ما في اللوح المحفوظ، ونوع يتغير ويتبدل وهو ما بأيدي الملائكة، وما يستقر أمره أخيرًا عندهم هو الذي قد كتب في اللوح المحفوظ، وهو أحد معاني قوله تعالى: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39].
ومن هنا يمكننا فهم ما جاء في السنة الصحيحة من كون صلة الرحم تزيد في الأجل أو تُبسط في الرزق؛ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)، أو ما جاء في أن الدعاء يرد القضاء (لا يَرُدُّ القَضَاءَ إلا الدُّعاء)؛ رواه ابن ماجه.
فيكون مكتوب في صُحُف الملائكة أن فلانًا سيمرض، فيدعو بدعاء، فيعافيه الله ولا يمرض، أو يكون فيها أن عمره ستون سنة، فيَصِل رَحِمَه، فيزيد عمره إلى سبعين سنة.
فهذا تغيير لما في صُحُف الملائكة، وهو ممكن لا مانع منه، وليس هذا تغييرًا لما في اللوح المحفوظ، ولا تغييرًا لما في علم الله، فقد علم الله تعالى أنه سيدعو بالدعاء فيُعافى، أو أنه سيَصِل رَحِمَه فيزيد عمره. وهذان -يعني: ما في اللوح المحفوظ، وما في علم الله- لا تغيير لما فيهما.
المرتبة الثالثة: المشيئة أو الإرادة:
أراد الله سبحانه إنفاذ هذا القدر بعدله وحكمته وقدرته.
وإرادة الله نوعان:
النوع الأول: الإرادة الكونية:
وتتعلق بكل ما يشاء الله تعالى فعله وإحداثه، سواء أحبَّه أو لم يرضه من الكفر والمعاصي؛ مثل جريان الأنهار، ونزول المطر، وإيمان المؤمن، وكفر الكافر، وعصيان العاصي؛ إذًا هي تتضمن كل ما يشاء في هذا الكون من خير أو شر، وهو بإرداة الله سواء أحَبَّه أو كرهه. ولا بد أن تقع هذه الإرادة الكونية.
النوع الثاني: الإرادة الشرعية:
هي إرادة الله تعالى المتضمنة للمحبة والرضا، فهي تتعلق بكل ما يأمر الله تعالى به عباده ممَّا يحبُّه ويرضاه؛ إذًا هي تتضمن كل ما يحبه الله أن يحدث من العبادات، وهذه الإرادة قد تقع وقد لا تقع، قد يطيع العبد أوامر الله وقد يعصيه، فإذا أطاعه فقد حقَّق الإرادة الشرعية.
المرتبة الرابعة: الخلق:
خلق للكائنات إرادة بها يفعلون أفعالهم، وفي الوقت ذاته خلق أفعال العباد التي فعلوها بإرادتهم؛ لأن هذه الأفعال مما يحدث في ملكه، وكل ما يحدث في ملكه مخلوق.
فقد خلق الله أفعال العباد، الحركات والسكنات، واليقظة والنوم، والأصوات وغيرها، فكل ذلك خلقه الله جل وعلا، حتى وضعك يدك على خدك خلقها الله جل وعلا، والضحك فعل من أفعال العبد، والبكاء فعل من أفعال العبد، والله جل وعلا هو الذي أضحكك وهو الذي أبكاك.
هذه هي مراتب القدر الأربعة باختصار، ولا بد أننا توقفنا كثيرًا عند مرتبة الكتابة، فهي التي تثير في عقولنا الكثير من التساؤلات.
هذه التساؤلات تثار في عقولنا عندما نقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كتابة أقدار الجنين في رحم أمه كاملًا: (إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكًا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ؛ ثم يُنفخُ فيه الروح، فإنَّ الرجلَ منكم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتى لا يكونَ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ، فيدخلُ النارَ. وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، فيدخلُ الجنةَ).
حديث عظيم قد يتوهم البعض منه أن ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ له دخل في اختيارات الإنسان، وأن التقدير بكونه من أهل النار أو الجنة يؤثر في مصير الإنسان، لكن في الواقع نصوص الآيات والأحاديث يوضح بعضُها بعضًا، وإذا أردنا أن نصل لرؤية حول مسألة ما فلا بد أن نقرأ ونفهم ونجمع بين النصوص الواردة في هذه المسألة كلها، ولا يكفي أخذ الحكم من نصٍّ واحدٍ.
وهذه الصورة الموجودة في الحديث يُفسِّرها ويُوضِّحها حديث آخر رواه سهل بن سعد الساعدي نجد فيه: (إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ النَّارِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ وهو مِن أهلِ الجَنَّةِ)؛ فالظاهر للناس غير الباطن الذي يعلمه الله سبحانه.
ولنقرأ الحديث الذي رواه البخاري ومسلم كاملًا، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِن الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا، فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِن الْقَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ، حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).
قد يكون أمام الناس يصلي ولكنه يصلي رياء، قد يكون أمام الناس يُعَلِّم الناس الشرع لا لله؛ وإنما ليُقال له عالم، يجاهد لا لله؛ وإنما ليُقال عنه شجاع وهكذا.
قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 163: "وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، ولو كان عملًا صالحًا مقبولًا للجنة قد أحَبَّه الله ورضيه لم يبطله عليه. وقوله: (لم يبق بينه وبينها إلا ذراع) يشكل على هذا التأويل، فيُقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها، وعملت عملها، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه... والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض".
وقال ابن رجب رحمه الله: وقوله: (فيما يبدو للناس) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطَّلِع عليها الناس؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت.
وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة.
وأما من يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة، إخلاصًا وإيمانًا، فالله تعالى أعدل وأكرم وأرحم من أن يخذله في نهاية عمره.
بل هذا أهل للتوفيق والتسديد والتثبيت، كما قال تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال: ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 90]، وقال: ﴿ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 171].
هبة حلمي الجابري
شبكة الالوكة