الصبر وإن كان شاقًّا كريهًا على النفوس، فتحصيله ممكن، والمعاصي حفر الجحيم، ولا بد دون الوقوع فيها من الصبر بالله ولله، وأكبر معين على الصبر هو تقوية باعث الدين، فمع زيادة الإيمان تقوى نفس المؤمن ضد نزغات الشيطان؛ فإنه يكون بأمور:
الأول: إجلال الله تبارك وتعالى أن يُعصى وهو يرى ويسمع، ومن قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة.
الثاني: مشهد محبته سبحانه، فيترك معصيته محبة له، فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الترك ترك المحبين، كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين، فبين ترك المحب وطاعته وترك من يخاف العذاب وطاعته بَونٌ بعيد.
الثالث: مشهد النعمة والإحسان، فإن الكريم لا يقابل بالإساءة ممن أحسن إليه، وإنما يفعل هذا لئام الناس، فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته؛ حياءً منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلًا إليه، ومخالفاته ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه، فمَلَكٌ ينزل بهذا، ومَلَكٌ يعرج بذاك، فأقبِح بها من مقابلة!
الرابع: مشهد الغضب والانتقام، فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضِب، وإذا غضِب لم يقم لغضبه شيء، فضلًا عن هذا العبد الضعيف.
الخامس: مشهد الفوات، وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة، وما يحدث له بها من كل اسم مذموم عقلًا وشرعًا وعرفًا، ويزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعًا وعقلًا وعرفًا.
ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان، الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافًا مضاعفة، فكيف أن يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبِعتها؟!
تذهب الشهوة وتبقى الشِّقْوة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))؛ [متفق عليه]، وقال بعض التابعين: "يُنزع عنه الإيمان كما يُنزع القميص، فإن تاب لبِسه".
السادس: مشهد القهر والظَّفَر، فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة عند من ذاق ذلك أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين، وأحلى موقعًا وأتم فرحة، وأما عاقبته، فأحمدُ عاقبة، وهو كعاقبة شرب الدواء النافع الذي أزال داء الجسد، وأعاده إلى صحته واعتداله.
السابع: مشهد العِوَض، وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها، وليوازن بين العِوض والمعوَّض، فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه.
الثامن: مشهد المعية، وهو نوعان: معية عامة، ومعية خاصة.
فالعامة اطلاع الرب عليه وكونه بعينه لا تخفى عليه حاله، والمقصود هنا المعية الخاصة؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وقوله: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنياه وآخرته من قضاء وطَرِه، ونَيل شهوته على التمام من أول عمره إلى آخره، فكيف يُؤثِر عليها لذةً منغصة منكدة في مدة يسيرة من العمر، إنما هي كأحلام نائم أو كظل زائل؟!
التاسع: مشهد المعاجلة، وهو أن يخاف أن يُغافِصَه الأجَلُ، فيأخذه الله على غِرَّةٍ، فيُحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة، فيا لها من حسرة ما أمرَّها وما أصعبها! لكن ما يعرفها إلا من جربها.
العاشر: مشهد البلاء والعافية، فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها.
فأهل البلاء هم أهل المعصية وإن عُوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرِضت أبدانهم.
الحادي عشر: أن يعوِّد باعث الدين ودواعيه مصارعةَ داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلًا قليلًا، حتى يدرك لذة الظفر فتقوى حينئذٍ همته، فإن من ذاق لذة شيء قويَت همته في تحصيله، والاعتياد لممارسة الأعمال الشاقة تزيد القُوى التي تصدر عنها تلك الأعمال.
الثاني عشر: كفُّ الباطل عن حديث النفس، وإذا مرت به الخواطر نفاها ولا يؤويها ويساكنها، فإنها تصير أمانيَّ، وهي رؤوس أموال المفاليس.
ومتى ساكن الخواطر صارت أماني، ثم تقوى فتصير همومًا، ثم تقوى فتصير إرادات، ثم تقوى فتصير عزمًا يقترن به المراد؛ فدَفْعُ الخاطر الأول أسهل وأيسر من دفع أثر المقدور بعد وقوعه وترك معاودته.
الثالث عشر: قطع العلائق والأسباب التي تدعوه إلى موافقة الهوى، وليس المراد ألَّا يكون له هوى، بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه، ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى، فإن ذلك يدفع عنه شر استعماله في معاصيه.
فإن كل شيء من الإنسان يستعمله لله، فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان، وما لا يستعمله لله استعمله لنفسه وهواه ولا بد، فالعلم إن لم يكن لله كان للنفس والهوى، والعمل إن لم يكن لله كان للرياء والنفاق، والمال إن لم يُنفَق في طاعة الله أُنفق في طاعة الشيطان والهوى، والجاه إن لم يستعمله لله استعمله صاحبه في هواه وحظوظه، والقوة إن لم يستعملها في أمر الله استعملته في معصيته.
فمن عوَّد نفسه العمل لله، لم يكن عليه أشق من العمل لغيره، ومن عوَّد نفسه العمل لهواه وحظه، لم يكن عليه أشق من الإخلاص والعمل لله، وهذا في جميع أبواب الأعمال، فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره وكذا بالعكس.
الرابع عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده إلى التفكر فيها، وهي آياته المتلوَّة وآياته المجلوَّة، فإذا استولى ذلك على قلبه دفع عنه محاضرة الشيطان ومحادثته ووسواسه.
وما أعظم غَبْنَ من أمكنه ألَّا يزال محاضرًا للرحمن وكتابه ورسوله والصحابة، فرغِب عن ذلك إلى محاضرة الشيطان من الإنس والجن! فلا غبن بعد هذا الغبن، والله المستعان.
الخامس عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها، فلا يرضى لنفسه أن يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخسَّ ما فيها وأقله نفعًا إلا ساقط الهمة، دنيء المروءة، ميت القلب، فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده، وتبين له عدم نفعه له، فكيف إذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد يُعذَّب به ويناله بسببه غاية الألم؟! بل إذا تزود ما ينفعه، وترك ما هو أنفع منه له، كان ذلك حسرة عليه وغبنًا.
السادس عشر: تعرضُه إلى مَنِ القلوب بين أصبعيه وأزِمةُ الأمور بيديه، وانتهاء كل شيء إليه على الدوام، فلعله أن يصادف أوقات النفحات، كما في الأثر المعروف: ((إن لله في أيام دهره نفحات، فتعرضوا لنفحاته، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم))؛ [رواه الطبراني عن أنس مرفوعًا، وحسنه الألباني].
ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من الساعات التي لا يُسأل اللهُ فيها شيئًا إلا أعطاه!
ولا يستوحش من ظاهر الحال، فإن الله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله، كما ليس كمثله شيء في صفاته، فإنه ما حرمه إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليُحييه، وما أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل حال.
فالرب تعالى ينعم على عبده بابتلائه، ويعطيه بحرمانه، ويُصحُّه بسقمه، فلا يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلًا، إلا إذا كانت تغضبه عليه وتبعده منه.
السابع عشر: أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين، ومحنته بين الجاذبين: جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين، وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين، فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعِد درجة حتى ينتهي إلى حيث يليق به من المحل الأعلى، وكلما انقاد إلى الجاذب الأسفل نزل درجة حتى ينتهي إلى موضعه من سجين.
ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل؛ فلينظر أين روحه في هذا العالم؟
اللهم ارحمنا برحمتك، وألهمنا الصبر الجميل، واجعلنا من الصابرين إله الحق، بارك الله لي ولكم...
الثامن عشر: أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة، وتنقيته من الدَّغَلِ شرط لكمال الزرع، فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف غيث الرحمة محلًّا قابلًا ينزل فيه، وإن فرغه حتى أصابه غيث الرحمة ولكنه لم ينقِّه من الدغل لم يكن الزرع زرعًا كاملًا، بل ربما غلب الدغل على الزرع فكان الحكم له.
وهذا كالذي يصلح أرضه ويهيئها لقبول الزرع، ويُودع فيها البذور وينتظر نزول الغيث، فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من إرادة السوء وخواطره، وبذر فيه بذر الذكر والفكر والمحبة والإخلاص، وعرَّضه لمهاب رياح الرحمة، وانتظر نزول غيث الرحمة في أوانه، كان جديرًا بحصول الغلة.
وكما يقوى الرجاء لنزول الغيث في وقته، كذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة والأحوال الشريفة.
ولا سيما إذا اجتمعت الهمم، وتساعدت القلوب، وعظم الجمع؛ كجمع عرفة، وجمع الاستسقاء، وجمع أهل الجمعة؛ فإن اجتماع الهمم والأنفاس أسبابٌ نصبها الله تعالى مقتضيةً لحصول الخير ونزول الرحمة، كما نصب سائر الأسباب مقتضيةً إلى مسبباتها، بل هذه الأسباب في حصول الرحمة أقوى من الأسباب الحسية في حصول مسبباتها، ولكن العبد بجهله يغلب عليه الشاهد على الغائب، والحس على العقل، ولظلمه يؤثر ما يحكم به هذا ويقتضيه على ما يحكم به الآخر ويقتضيه.
ولو فرغ العبد المحل وهيأه وأصلحه لرأى العجائب، فإن فضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد، فلو زال ذلك المانع لسارع إليه الفضل من كل صوب، فتأمل حال نهر عظيم يسقي كل أرض يمر عليها، فحصل بينه وبين بعض الأرض المُعطشة المُجدبة سدٌّ كثيف، فصاحبها يشكو الجَدْبَ والنهر إلى جانب أرضه!
التاسع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعزٍّ لا ذل معه، وأمنٍ لا خوف فيه، وغَنَاء لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه.
وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء، والعز الذي يقارنه الذل ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف وبعده الخوف، وكذلك الغناء واللذة والفرح والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضده لأنه يتعقبه ضده، وهو سريع الزوال.
فغلط أكثر الخلق في هذا المقام؛ إذ طلبوا النعيم والبقاء، والعز والملك والجاه في غير محله؛ ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك، والذي ظفر به إنما هو متاع قليل والزوال قريب، فإنه سريع الزوال عنه.
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم إنما جاؤوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير، فمن أجابهم حصل له ألذُّ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيبَ من عيش الملوك فمَن دونهم، فإن الزهد في الدنيا مُلْكٌ حاضر، والشيطان يحسُد المؤمن عليه أعظم حسد، فيحرص كل الحرص على ألَّا يصل إليه.
فإن العبد إذا مَلَكَ شهوته وغضبه فانقادا معه لداعي الدين فهو المَلِكُ حقًّا؛ لأن صاحب هذا المُلْك حُر، والملك المنقاد لشهوته وغضبه عبدُ شهوته وغضبه، فهو مُسخر مملوك في زي مالك، يقوده زمام الشهوة والغضب كما يُقاد البعير.
فالمغرور المخدوع يقطع نظره على الملك الظاهر الذي صورته مُلْكٌ وباطنه رِقٌّ، وعلى الشهوة التي أولها لذة وآخرها حسرة.
والبصير الموفق يعير نظره من الأوائل إلى الأواخر، ومن المبادئ إلى العواقب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العشرون: ألَّا يغترَّ العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا كافٍ في حصول المقصود، بل لا بد أن يضيف إليه بذل الجهد في استعماله، واستفراغ الوسع والطاقة فيه، ومَلاكُ ذلك الخروج عن العوائد، فإنها أعداء الكمال والفلاح، فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدًا، ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظانِّ الفتنة والبعد عنها ما أمكنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سمع بالدجال، فلْيَنْأَ عنه))؛ [رواه أبو داود]، فما استُعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه.
وها هنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق، وهي: أن يُظهر له في مظان الشر بعض شيء من الخير، ويدعوه إلى تحصيله، فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة، والله أعلم.
اللهم صلِّ على محمد...
إبراهيم الدميجي
شبكة الالوكة
الأول: إجلال الله تبارك وتعالى أن يُعصى وهو يرى ويسمع، ومن قام بقلبه مشهد إجلاله لم يطاوعه قلبه لذلك البتة.
الثاني: مشهد محبته سبحانه، فيترك معصيته محبة له، فإن المحب لمن يحب مطيع، وأفضل الترك ترك المحبين، كما أن أفضل الطاعة طاعة المحبين، فبين ترك المحب وطاعته وترك من يخاف العذاب وطاعته بَونٌ بعيد.
الثالث: مشهد النعمة والإحسان، فإن الكريم لا يقابل بالإساءة ممن أحسن إليه، وإنما يفعل هذا لئام الناس، فليمنعه مشهد إحسان الله تعالى ونعمته عن معصيته؛ حياءً منه أن يكون خير الله وإنعامه نازلًا إليه، ومخالفاته ومعاصيه وقبائحه صاعدة إلى ربه، فمَلَكٌ ينزل بهذا، ومَلَكٌ يعرج بذاك، فأقبِح بها من مقابلة!
الرابع: مشهد الغضب والانتقام، فإن الرب تعالى إذا تمادى العبد في معصيته غضِب، وإذا غضِب لم يقم لغضبه شيء، فضلًا عن هذا العبد الضعيف.
الخامس: مشهد الفوات، وهو ما يفوته بالمعصية من خير الدنيا والآخرة، وما يحدث له بها من كل اسم مذموم عقلًا وشرعًا وعرفًا، ويزول عنه من الأسماء الممدوحة شرعًا وعقلًا وعرفًا.
ويكفي في هذا المشهد مشهد فوات الإيمان، الذي أدنى مثقال ذرة منه خير من الدنيا وما فيها أضعافًا مضاعفة، فكيف أن يبيعه بشهوة تذهب لذاتها وتبقى تبِعتها؟!
تذهب الشهوة وتبقى الشِّقْوة؛ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن))؛ [متفق عليه]، وقال بعض التابعين: "يُنزع عنه الإيمان كما يُنزع القميص، فإن تاب لبِسه".
السادس: مشهد القهر والظَّفَر، فإن قهر الشهوة والظفر بالشيطان له حلاوة ومسرة وفرحة عند من ذاق ذلك أعظم من الظفر بعدوه من الآدميين، وأحلى موقعًا وأتم فرحة، وأما عاقبته، فأحمدُ عاقبة، وهو كعاقبة شرب الدواء النافع الذي أزال داء الجسد، وأعاده إلى صحته واعتداله.
السابع: مشهد العِوَض، وهو ما وعد الله سبحانه من تعويض من ترك المحارم لأجله ونهى نفسه عن هواها، وليوازن بين العِوض والمعوَّض، فأيهما كان أولى بالإيثار اختاره وارتضاه لنفسه.
الثامن: مشهد المعية، وهو نوعان: معية عامة، ومعية خاصة.
فالعامة اطلاع الرب عليه وكونه بعينه لا تخفى عليه حاله، والمقصود هنا المعية الخاصة؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وقوله: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
فهذه المعية الخاصة خير وأنفع في دنياه وآخرته من قضاء وطَرِه، ونَيل شهوته على التمام من أول عمره إلى آخره، فكيف يُؤثِر عليها لذةً منغصة منكدة في مدة يسيرة من العمر، إنما هي كأحلام نائم أو كظل زائل؟!
التاسع: مشهد المعاجلة، وهو أن يخاف أن يُغافِصَه الأجَلُ، فيأخذه الله على غِرَّةٍ، فيُحال بينه وبين ما يشتهي من لذات الآخرة، فيا لها من حسرة ما أمرَّها وما أصعبها! لكن ما يعرفها إلا من جربها.
العاشر: مشهد البلاء والعافية، فإن البلاء في الحقيقة ليس إلا الذنوب وعواقبها، والعافية المطلقة هي الطاعات وعواقبها.
فأهل البلاء هم أهل المعصية وإن عُوفيت أبدانهم، وأهل العافية هم أهل الطاعة وإن مرِضت أبدانهم.
الحادي عشر: أن يعوِّد باعث الدين ودواعيه مصارعةَ داعي الهوى ومقاومته على التدريج قليلًا قليلًا، حتى يدرك لذة الظفر فتقوى حينئذٍ همته، فإن من ذاق لذة شيء قويَت همته في تحصيله، والاعتياد لممارسة الأعمال الشاقة تزيد القُوى التي تصدر عنها تلك الأعمال.
الثاني عشر: كفُّ الباطل عن حديث النفس، وإذا مرت به الخواطر نفاها ولا يؤويها ويساكنها، فإنها تصير أمانيَّ، وهي رؤوس أموال المفاليس.
ومتى ساكن الخواطر صارت أماني، ثم تقوى فتصير همومًا، ثم تقوى فتصير إرادات، ثم تقوى فتصير عزمًا يقترن به المراد؛ فدَفْعُ الخاطر الأول أسهل وأيسر من دفع أثر المقدور بعد وقوعه وترك معاودته.
الثالث عشر: قطع العلائق والأسباب التي تدعوه إلى موافقة الهوى، وليس المراد ألَّا يكون له هوى، بل المراد أن يصرف هواه إلى ما ينفعه، ويستعمله في تنفيذ مراد الرب تعالى، فإن ذلك يدفع عنه شر استعماله في معاصيه.
فإن كل شيء من الإنسان يستعمله لله، فإن الله يقيه شر استعماله لنفسه وللشيطان، وما لا يستعمله لله استعمله لنفسه وهواه ولا بد، فالعلم إن لم يكن لله كان للنفس والهوى، والعمل إن لم يكن لله كان للرياء والنفاق، والمال إن لم يُنفَق في طاعة الله أُنفق في طاعة الشيطان والهوى، والجاه إن لم يستعمله لله استعمله صاحبه في هواه وحظوظه، والقوة إن لم يستعملها في أمر الله استعملته في معصيته.
فمن عوَّد نفسه العمل لله، لم يكن عليه أشق من العمل لغيره، ومن عوَّد نفسه العمل لهواه وحظه، لم يكن عليه أشق من الإخلاص والعمل لله، وهذا في جميع أبواب الأعمال، فليس شيء أشق على المنفق لله من الإنفاق لغيره وكذا بالعكس.
الرابع عشر: صرف الفكر إلى عجائب آيات الله التي ندب عباده إلى التفكر فيها، وهي آياته المتلوَّة وآياته المجلوَّة، فإذا استولى ذلك على قلبه دفع عنه محاضرة الشيطان ومحادثته ووسواسه.
وما أعظم غَبْنَ من أمكنه ألَّا يزال محاضرًا للرحمن وكتابه ورسوله والصحابة، فرغِب عن ذلك إلى محاضرة الشيطان من الإنس والجن! فلا غبن بعد هذا الغبن، والله المستعان.
الخامس عشر: التفكر في الدنيا وسرعة زوالها وقرب انقضائها، فلا يرضى لنفسه أن يتزود منها إلى دار بقائه وخلوده أخسَّ ما فيها وأقله نفعًا إلا ساقط الهمة، دنيء المروءة، ميت القلب، فإن حسرته تشتد إذا عاين حقيقة ما تزوده، وتبين له عدم نفعه له، فكيف إذا كان ترك تزود ما ينفعه إلى زاد يُعذَّب به ويناله بسببه غاية الألم؟! بل إذا تزود ما ينفعه، وترك ما هو أنفع منه له، كان ذلك حسرة عليه وغبنًا.
السادس عشر: تعرضُه إلى مَنِ القلوب بين أصبعيه وأزِمةُ الأمور بيديه، وانتهاء كل شيء إليه على الدوام، فلعله أن يصادف أوقات النفحات، كما في الأثر المعروف: ((إن لله في أيام دهره نفحات، فتعرضوا لنفحاته، واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم))؛ [رواه الطبراني عن أنس مرفوعًا، وحسنه الألباني].
ولعله في كثرة تعرضه أن يصادف ساعة من الساعات التي لا يُسأل اللهُ فيها شيئًا إلا أعطاه!
ولا يستوحش من ظاهر الحال، فإن الله سبحانه يعامل عبده معاملة من ليس كمثله شيء في أفعاله، كما ليس كمثله شيء في صفاته، فإنه ما حرمه إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليُحييه، وما أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل حال.
فالرب تعالى ينعم على عبده بابتلائه، ويعطيه بحرمانه، ويُصحُّه بسقمه، فلا يستوحش عبده من حالة تسوؤه أصلًا، إلا إذا كانت تغضبه عليه وتبعده منه.
السابع عشر: أن يعلم العبد بأن فيه جاذبين متضادين، ومحنته بين الجاذبين: جاذب يجذبه إلى الرفيق الأعلى من أهل عليين، وجاذب يجذبه إلى أسفل سافلين، فكلما انقاد مع الجاذب الأعلى صعِد درجة حتى ينتهي إلى حيث يليق به من المحل الأعلى، وكلما انقاد إلى الجاذب الأسفل نزل درجة حتى ينتهي إلى موضعه من سجين.
ومتى أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى أو الأسفل؛ فلينظر أين روحه في هذا العالم؟
اللهم ارحمنا برحمتك، وألهمنا الصبر الجميل، واجعلنا من الصابرين إله الحق، بارك الله لي ولكم...
الثامن عشر: أن يعلم العبد أن تفريغ المحل شرط لنزول غيث الرحمة، وتنقيته من الدَّغَلِ شرط لكمال الزرع، فمتى لم يفرغ المحل لم يصادف غيث الرحمة محلًّا قابلًا ينزل فيه، وإن فرغه حتى أصابه غيث الرحمة ولكنه لم ينقِّه من الدغل لم يكن الزرع زرعًا كاملًا، بل ربما غلب الدغل على الزرع فكان الحكم له.
وهذا كالذي يصلح أرضه ويهيئها لقبول الزرع، ويُودع فيها البذور وينتظر نزول الغيث، فإذا طهر العبد قلبه وفرغه من إرادة السوء وخواطره، وبذر فيه بذر الذكر والفكر والمحبة والإخلاص، وعرَّضه لمهاب رياح الرحمة، وانتظر نزول غيث الرحمة في أوانه، كان جديرًا بحصول الغلة.
وكما يقوى الرجاء لنزول الغيث في وقته، كذلك يقوى الرجاء لإصابة نفحات الرحمن جل جلاله في الأوقات الفاضلة والأحوال الشريفة.
ولا سيما إذا اجتمعت الهمم، وتساعدت القلوب، وعظم الجمع؛ كجمع عرفة، وجمع الاستسقاء، وجمع أهل الجمعة؛ فإن اجتماع الهمم والأنفاس أسبابٌ نصبها الله تعالى مقتضيةً لحصول الخير ونزول الرحمة، كما نصب سائر الأسباب مقتضيةً إلى مسبباتها، بل هذه الأسباب في حصول الرحمة أقوى من الأسباب الحسية في حصول مسبباتها، ولكن العبد بجهله يغلب عليه الشاهد على الغائب، والحس على العقل، ولظلمه يؤثر ما يحكم به هذا ويقتضيه على ما يحكم به الآخر ويقتضيه.
ولو فرغ العبد المحل وهيأه وأصلحه لرأى العجائب، فإن فضل الله لا يرده إلا المانع الذي في العبد، فلو زال ذلك المانع لسارع إليه الفضل من كل صوب، فتأمل حال نهر عظيم يسقي كل أرض يمر عليها، فحصل بينه وبين بعض الأرض المُعطشة المُجدبة سدٌّ كثيف، فصاحبها يشكو الجَدْبَ والنهر إلى جانب أرضه!
التاسع عشر: أن يعلم العبد أن الله سبحانه خلقه لبقاء لا فناء له، ولعزٍّ لا ذل معه، وأمنٍ لا خوف فيه، وغَنَاء لا فقر معه، ولذة لا ألم معها، وكمال لا نقص فيه.
وامتحنه في هذه الدار بالبقاء الذي يسرع إليه الفناء، والعز الذي يقارنه الذل ويعقبه الذل، والأمن الذي معه الخوف وبعده الخوف، وكذلك الغناء واللذة والفرح والسرور والنعيم الذي هنا مشوب بضده لأنه يتعقبه ضده، وهو سريع الزوال.
فغلط أكثر الخلق في هذا المقام؛ إذ طلبوا النعيم والبقاء، والعز والملك والجاه في غير محله؛ ففاتهم في محله، وأكثرهم لم يظفر بما طلبه من ذلك، والذي ظفر به إنما هو متاع قليل والزوال قريب، فإنه سريع الزوال عنه.
والرسل صلوات الله وسلامه عليهم إنما جاؤوا بالدعوة إلى النعيم المقيم والملك الكبير، فمن أجابهم حصل له ألذُّ ما في الدنيا وأطيبه، فكان عيشه فيها أطيبَ من عيش الملوك فمَن دونهم، فإن الزهد في الدنيا مُلْكٌ حاضر، والشيطان يحسُد المؤمن عليه أعظم حسد، فيحرص كل الحرص على ألَّا يصل إليه.
فإن العبد إذا مَلَكَ شهوته وغضبه فانقادا معه لداعي الدين فهو المَلِكُ حقًّا؛ لأن صاحب هذا المُلْك حُر، والملك المنقاد لشهوته وغضبه عبدُ شهوته وغضبه، فهو مُسخر مملوك في زي مالك، يقوده زمام الشهوة والغضب كما يُقاد البعير.
فالمغرور المخدوع يقطع نظره على الملك الظاهر الذي صورته مُلْكٌ وباطنه رِقٌّ، وعلى الشهوة التي أولها لذة وآخرها حسرة.
والبصير الموفق يعير نظره من الأوائل إلى الأواخر، ومن المبادئ إلى العواقب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
العشرون: ألَّا يغترَّ العبد باعتقاده أن مجرد العلم بما ذكرنا كافٍ في حصول المقصود، بل لا بد أن يضيف إليه بذل الجهد في استعماله، واستفراغ الوسع والطاقة فيه، ومَلاكُ ذلك الخروج عن العوائد، فإنها أعداء الكمال والفلاح، فلا أفلح من استمر مع عوائده أبدًا، ويستعين على الخروج عن العوائد بالهرب عن مظانِّ الفتنة والبعد عنها ما أمكنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من سمع بالدجال، فلْيَنْأَ عنه))؛ [رواه أبو داود]، فما استُعين على التخلص من الشر بمثل البعد عن أسبابه ومظانه.
وها هنا لطيفة للشيطان لا يتخلص منها إلا حاذق، وهي: أن يُظهر له في مظان الشر بعض شيء من الخير، ويدعوه إلى تحصيله، فإذا قرب منه ألقاه في الشبكة، والله أعلم.
اللهم صلِّ على محمد...
إبراهيم الدميجي
شبكة الالوكة